المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : وراء الستار الأسود ..


عبيد خلف العنزي
06-17-2008, 01:34 AM
* الحلقة الأولى :

تبدأ الأحداث من العاصمة السعودية الرياض وفي فترة هي من أشد الفترات على الأمة العربية والإسلامية جمعاء .... وذلك بعد نهاية حرب الخليج الأولى .... التي سببها الاجتياح العراقي للكويت ...
الكل في ملل .... وحزن ... لما جره العراق على الأمة كافة من التفكك والعدوان
في هذه الفتره .. بدأ الكل يستعيد توازنه بعد سيل الصدمات وأحزان فقد الشهداء .. ومأساة البناء والعمران التي بدأتها الكويت بعد جلاء القوات العراقية الغازية ... وانهيار الصف العربي ودخول الغرب في حياتنا جراء مافعله النظام العراقي الطائش ....
كنت قد انتهيت من الدراسة الجامعية توا .... وفي يوم من أوائل أكتوبر من العام 1991 كنت قادما من عملي الجديد في أحد المستشفيات الحكومية في الرياض ...
وكالعادة كان لابد أن أمر على أصدقائي الأتراك في ذلك المطعم الصغير الذي يقع في نفس حينا ...
هناك كان العم صالح الذي يعمل في السعودية منذ العام 1980 حتى كون مطعما جميلا في قلب حينا المتواضع كون منه ثروة جيدة في بلاده ( تركيا ) وجلب أبناءه ليواصلوا العمل بعد أن تقدم في السن ...
أهلا بولدي مجد ...
هكذا كان العم صالح يحب أن يناديني دوما ... بولدي ..
فهم لم يكونوا على علاقة مع أي من السعوديين سواي ... طبعا علاقة صداقة خاصة ....
رددت في احترام وأدب :
أهلا بك يا عمي .... كيف الأحوال ؟؟
زفر في ضيق وهو يجيب :
لقد خف العمل كثيرا مع الحرب ... ولكن والحمد لله ... لقد بدأت الأمور تعود إلى حالتها السابقة تدريجيا ... ولكنني لم أعد قادرا على المواصلة ...
قلت بقلق :
لماذا يا عمي ... ؟؟
إبتسم في أبوة وأجاب :
لقد زحف بي السن يا ولدي ... ولم أعد قادرا على العمل كما في الماضي ... ثم إن ساقي قد أتعبتني مؤخرا وعلى أن أجري لها جراحة عاجلة في تركيا في الأيام القادمة ...
قلت على الفور :
لو كان هناك أي مجال أساعد فيه فأنا جاهز يا عمي ...
ربت على كتفي في حنان وقال :
لست أختبرك يا مجد ... أعلم بأنني أستطيع الاعتماد عليك ...
في هذه اللحظة وصل إبنه ساري وهو يحمل أقداح القهوة الساخنة ... وبعد عدة دقائق حضر الغداء ...
مشويات شامية مع تشكيلة من الأكلات التركية الشهية ....
وبعد تناول الشاي إلتقطت معطفي مزمعا المغادرة ليقول العم صالح محتجا :
لماذا العجلة ياع ... اليوم هو الخميس وغدا إجازة الأسبوع ...
أجبت :
أنت قلتها ياعم ... غدا إجازه وعلي قضاء بعض الوقت من أسرتي بعد أسبوع عمل شاق ...ولكن مارأيكم أن نسهر سويا عندي الليلة ... فلدي أشرطة فيديو جديدة ...
إبتسم العم صالح ورد :
حسنا ... سنأتي .. خصوصا أنني قد أحضرت شريط الفيديو الذي سجلنا عليه زفاف إبني الأكبر شاكر ...
قلت بفرح :
حقا ... سانتظركم بفارغ الصبر الليلة ... إلى اللقاء ....

عبيد خلف العنزي
06-17-2008, 01:36 AM
* الحلقة الثانية :

في الساعة الثانية عشر والنصف علت طرقات الباب ... وإذا بالعم صالح ومعه ساري ...
إتخذنا مجلسنا في غرفتيالتي خصصتها لنفسي ...
ناولني العم صالح الشريط .. وفورا دسسته في تجويف جهاز الفيديو ... وبدأ الحفل بخروج العروسين من السيارة أمام قصر العرس ... وبعد السلام على والديهما ... بدأت الرقصات ...
وجرت عيناي على المناظر الرومانسية التي كانت في ليلة عمر شاكر إبن العم صالح .... وجاءت الرقصة الشعبية المشهورة عند كل بلاد الشام ... الدبكه ...
وفجأة ... برزت هي ...
وإنخلع قلبي من عروقه لشدة ما نبض بعجل ...
إنها هي ...
هي من أبحث عنها طول عمري ...
و ...
من هذه يا عم صالح ... ؟؟؟
إنطلق السؤال من فمي كالرصاصة حتى أن العم صالح قد دخل دائرة الذهول وهو يجيبني :
إسمها سوسن ... إبنة أحد جيراننا ... ماذا هناك ؟؟؟
لم أجب بل تمتمت بشوة :
أخيرا ...
عاود العم صالح سؤالي بقلق أشد :
ما الذي دهاك يا ع ؟؟؟
إلتفت إليه وأنا أعيد المشهد بلهفة وأغمغم :
هذه هي التي حلمت بها طوال عمري يا عمي ...
زفر في إرتياح وهو يقول :
حمدا لله ... لقد خلعت قلبي يا فتى ...
ثم غمز بعينه مواصلا :
هل حقا أعجبتك يا ع ..؟؟؟
عاودت التطلع إليها هامسا :
لقد ملكت مجامع قلبي ...
عاود القول في دهشه :
ولكنك لاتعرفها ..
قلت بإصرار :
وماذا في ذلك ... الحب لمسة واحدة .. لاتحتاج إلى تفاصيل وحيثيات
قال مازحا :
عدنا إلى الفلسفة ... عموما ... دع الشريط عندك ... وأنا واثق أنك ستمل منها بعد يومين من المشاهدة المستمرة ...
وهذا ماحدث ...
ترك العم صالح الشريط عندي ...و لم أفارقه ... بقيت أراقبها ...
شقراء ... متوسطة القامة نوعا ما ... زرقاء العينين ... بشرتها بيضاء مشربة بالحمرة ... رشيقة ... في ملامحها حزن عميق وسحر لا يقاوم
تناولت قلمي ...
وبدأت أكتب ...


من أجل عينيك ...
سأترك الدنيا وما فيها ...
من أجل عينيك ...
أبيع روحي وأشريها ...
أنزع أوردتي ...
وأعقدها ورودا ...
ولعينيك أهديها ...
من أجل عينيك ...
السماء في العيون أسقيها ...
أذوب .. وأذوب ...
حكاية حب .. من ينهيها ...
قولي نعم ...
وورود الهوى بدموعي أشجيها ...
وواصلت .. إلى أن نظمت قصيدة طويلة في تلك الساحرة ...
نشرت تلك القصيدة في عدة مجلات عربية معروفه ...
ولكن لم يحدث ماقاله العم صالح من أنني سأمل من مشاهدتها ... فلقد بقي الشريط عندي شهرين كاملين ... دون أن أفتر من رؤيتها كل يوم
وتغير حالي كثيرا ...
لم أعد مرحا ... وصرت شاردا معظم الوقت ...
حتى أن المدير إستدعاني ذات يوم وسألني بقلق :
مجد ... مابك .... لقد تغيرت كثيرا في الشهرين الماضيين ... هل تمر بضائقة مالية ؟؟؟ ....
قلت بعجل :
لا ياسيدي ... أبدا ...
رد :
إذا مابك ؟؟ ... لقد فقدت مرحك وعنفوانك .. لابد من وجود سبب لهذا .. هيا تحدث وإعتبرني كوالدك ... إرتبكت وحرت فيما أقول ... إلى أن هداني الله أن أقول :
هناك بعض الظروف العائلية ...

أومأ برأسه إيجابا في تفهم ثم تناول ورقة بيضاء دون عليها بعض العبارات ثم مهرها بتوقيعه الفخم ليمدها إلي قائلا في أبوة :
هذه إجازة تبدأ من الغد ... شهر ونصف ...
أنت تستحقها .. فلقد عملت عاما كاملا دون تقصير حاول إنهاء مشاكلك وعد إلينا كسابق عهدنا بك ...
تناولت الورقة شاكرا إياه في عمق وغادرت مقر عملي في نهاية الدوام وكالعادة كان هدفي مطعم أنطاكيا الذي يملكه العم صالح وأولاده ...
لم أجد العم صالح فسألت ساري بقلق :
أين العم صالح ؟؟؟ ...
رد بهدوء :
لقد سافر البارحة متأخرا لتركيا .. بعد أن تلقى اتصالا هاتفيا من والدتي
سألت بقلق متزايد :
هل حدث مكروه ..؟؟؟؟
إبتسم وأجاب :
لا .. لم يحدث شيء والحمد لله ...... ولكنها أمور شاكر وزوجته ... كما أن فرات يريد الزواج أيضا .
تنهدت في ارتياح واتخذت مقعدي في حين بقي ساري يتأملني فقلت :
ماذا هناك ... لماذا تنظر إلي هكذا ؟؟....
قال بتردد :
لاشيء ... ولكنك شارد ومهموم في الآونة الأخيرة ...
شبكت أصابعي وقلت في إحجام نوعا ما :
هل تريد حقا أن تعرف سر همي يا ساري ...؟؟
قال بإخلاص :
طبعا يا مجد ... أنت صديقي الوحيد هنا .. ولا أريد أن أراك هكذا أبدا
أومأت برأسي وقلت :
إنها سوسن ...
سألني :
سوسن ... سوسن من ؟؟ ...
ثم هتف :
آه ... يا إلهي ... سوسن إبنة جيراننا ..
وافقته فضحك هاتفا :
يا لك من مجنون ...
قلت بعضي :
عواطفي ليست مدعاة لسخريتك ...
قمت من على المقعد فسارع بإمساك معصمي قائلا في جدية :
عفوا يا مجد ... لم أكن أتوقع جديتك في الموضوع ...
قلت بعتاب :
وهل فيمثل هذه المواضيع مزاح ...
رد بأسف حقيقي :
إعذرني أرجوك .... لم أكن أقصد جرحك ...
عاودت الجلوس صامتا ... وبعد لحظات قال في حزم :
مجد .... هل فتنتك حقا ؟؟
قلت بحزم :
نعم ...
فكر قليلا وقال :
إسمع .... قد أستطيع مساعدتك ...
قلت بلهفه :
كيف ...
واصل في إهتما م :
في الأسبوع القادم .. سيأتي شاكر وفرات بدلا مني ...
وسأعود لتركيا لعمل طارئ مدة أسبوعين على الأكثر ..
لذلك أريد منك أن تعطيني صورة ملونة لك حتى أعرضها على سوسن حين أفاتحها في موضوع إعجابك بها ... ما رأيك ... ؟؟
قلت بفرح :
هل تسألني ... طبعا موافق ...
وسأحضر لك الصورة اليوم ...
قلت ذلك وقد فارقت مقعدي وهو يهتف في عجب :
إلى أين .. ؟؟؟
رددت بسعادة :
إلى الحلاق ..
قال معترضا :
والغداء ...
أجبته :
تناوله أنت ... بالهناء والشفاء ...
هز كتفيه في .. بينما إنطلقت من فوري إلى أصدقائي علي ومحمود في محل الحلاقة وحلقت ذقني وقصصت شعري ثم عدت للمنزل وإرتديت أفخر حلة لدي مع رباط عنق خمري قاتم ... وتوجهت إلى إستديو التصوير عند صديق باكستاني يدعى طارق ...
وفي اليوم التالي كانت الصورة عند ساري الذي وضعها في جيبه قائلا :
رائع ... هكذا نكون قد بدأنا الإستعدادات .. على فكره ..
قلت بلهفه :
ماذا ...
أجاب :
الليلة أريد مجموعة من أفلام جيمس بوند .. فسأغادر غدا بإذن الله لأن فرات وشاكر سيصلان الليلة ....
ثم إسطرد في مرح :
يبدو أن حظك قوي للغاية يا عزيزي ...
ثم عانقني وهو يقول :
ثق بي يا صديقي ...
ولم أملك سوى ذلك ...

سلطان ربيع
06-17-2008, 02:07 AM
حتى الآن أكثر من رائع
وأقدر لك ذلك

بـ إنتظار
ساري

عبيد خلف العنزي
06-17-2008, 10:54 PM
حتى الآن أكثر من رائع
وأقدر لك ذلك

بـ إنتظار
ساري




الأروع تواجدك الغالي حقاً .. مودتي

عبيد خلف العنزي
06-17-2008, 10:57 PM
* الحلقة الثالثة :

بعد ثلاثة أيام من سفر ساري كنت في المطعم أثناء الظهيره ...
فإذا برنين الهاتف يرتفع ...
إلتقط شاكر السماعة ...
وبعد حديث طويل بالتركية ناداني قائلا :
ع تعال إنه ساري ... وهو يريد التحدث إليك ...
قمت بهدوء وتناولت المسماع ووضعته على أذني متمتما :
مرحبا ....
رد ساري :
هيه مجد ... لقد سارت الأمور كما يجب ...
قلت بلهفه :
حقا ....
جاوب بسعاده :
نعم ... لقد وافقت ...
شريطة أن تراك حتى تتعرف عليك .. ما رأيك.؟؟
قلت بدون تردد :
سأكون عندكم في الأسبوع القادم ...
جاوبني في دهشه :
هل أنت جاد ..؟؟؟ ....
قلت بتأكيد :
كل الجدية ... أبلغ الجميع بذلك ...
قال عندها بسعاده :
رائع ... سيتسنى لك حضور حفل زفافي إذا ...
رددت :
بالتأكيد ...
تابع هو :
حسنا سيكون كل شيء معدا لإستقبالك ... فأنت لاتعرف كم سيسعد هذا الخبر والدي يامجد ...
لاتتأخر ... إلى اللقاء في تركيا ...
أغلق الخط وشاكر يسألني بلهفه :
هل ستزورنا حقا ...
أومأت برأسي إيجابا وقلت :
نعم في الأسبوع القادم ....
ضحك في مرح وقال :
ليتك رأيت سوسن منذ زمن يا رجل ...
شاركته الضحك وفي قلبي شعور أن الآمال تقترب


* * *

بدأت الإستعدادات للسفر في نفس اليوم الذي إتصل به ساري بأن ذهبت إلى السفارة التركية كي أسأل عن التأشيرة ... فعرفت أن من يحملون جواز السفر السعودي يدخلون تركيا دون تأشيرة ... فقط ختم الدخول والخروج ...
ثم حولت عملات سعودية إلى دولار أمريكي بعد أن عرفت أنها العملة المستخدمة في تركيا بعد الليره ... وبعد ذلك فاتحت والدي في الموضوع. فإقترحا علي أن أنتظر خالي علي الذي ينوي السفر إلى سوريا لنسافر معا ... خصوصا وأنني لم أغادر المملكة من قبل ... فوافقت ...
ولكن خالي بدأ يماطل ... كل يوم ... يقول غدا حتى مرت خمسة أيام كامله دون أن تبدر منه أية بوادر للسفر ... وقد أتأخر على عائلة العم صالح لو بقي على وضعه هذا أكثر من ذلك ... لذلك قررت زيارته في منزله وبعد الجلوس وتناول الشاي قلت بحزم :
خالي هل ستسافر معي أم لا ...
إرتبك من جديتي وقال في توتر :
حسنا ... الأسبوع القادم بكل تأكيد ...
هنا قمت بضجر وأنا اقول :
تصبح على خير يا خال ..
وغادرت منزله وقلبي يعصف بالإرتياح ... فلقد عزمت أمري وإتصلت بصديقي خالد ليقلني إلى محطة الباص وهناك ومن مكتب شركة البان التركية هاتفت شقيقتي إيمان وقلت بهدوء :
أنا مسافر إلى تركيا ... بلغي الجميع تحياتي ...
ودعت خالد وإستقليت الباص بعد أن وضعت أمتعتي في قمرة الأمتعه ...
وتحرك البص نحو الشمال ...
إلى تركيا .... بلاد سوسن ....

عبيد خلف العنزي
06-17-2008, 10:58 PM
* الحلقة الرابعة :

منذ أن خرجنا من منفذ الحديثة ... ودخلنا إلى الأردن ... أحسست بالفرق ... في كل شيء ... المباني .. الناس .. وعلى الرغم من أن الأردن لاتختلف عن السعودية من حيث التكوين الجغرافي .إلآ أن الحياة بدت مختلفة .. بتحرر الناس
ولكن الإحساس بأنني فارقت بيئة إلى أخرى إنتابني ونحن ندخل سوريا
بلدي الأم ...
شعور غريب إعتراني حين قرأت تلك اللوحة التي كتب عليها :
مرحبا بكم في الجمهورية العربية السورية ...
إحساس تفجر في أعماقي ... عندما شاهدت قلب الشام في الساعة الثانية ظهرا ... زحام ... الكل إما عائد من عمله أو مدرسته ...
زحام محبب ...
يا إلهي ... كم كان المنظر جميلا ... حتى أنه كاد يدفعني إلى النزول ... وتجاهل باقي الرحلة ...
ولكن نداء القلب كان أقوى ...
وصورة سوسن غطت أمام بصري كل شيء عداها ...
ووجدت نفسي أسترخي في مقعدي وأنصت إلى أحاديث رجل مسن (( تركي )) يدعى محمد ... العم محمد ... (( طبعا هناك شيء يجب أن أوضحه للقراء وهو أنني أنادي كل من هم في عمر والدي أو أكبر بالعم)) وطوال الرحلة لم يتوقف العم محمد عن الحديث عن عمله في السعودية ... وعن إبنه المصاب بالسرطان ... والأوضاع في تركيا ..
وطبعا ... ما أدهشني فيه ... أنه على الرغم من تدني المستوى التعليمي لديه ... إلا أن الحياة قد جعلته فيلسوفا وحكيما ... ففي كل موضوع يتحدث فيه ... كان يأتي بأدلة من القرآن الكريم وأحاديث من السنة الشريفة ... مما جعلني أستغرب كونه مجرد عامل بسيط في مصنع للتسليح في الرياض ...
وخرجنا من سرمين إلى باب الهوى ... ثم إلى تركيا ...
وهنا إنبهرت تماما ...
لقد ظننت أن شاكر وساري وحتى العم صالح يبالغون في وصف تركيا ... لأنها بلدهم ...
ولكن حين عبر الباص بنا حدود تركيا بعد رحلة دامت أربعا وعشرين ساعة كاملة بفضل الله ثم بفضل قيادة نعيم المسرعة والماهرة في نفس الوقت ... أدركت أن ما كانوا يذكرونه لي ليس سوى جزء يسير وضئيل من عظمة الواقع ...
لقد كانت تركيا دون أية مبالغة جنة الله على أرضه ...
لم أرى مكانا واحدا فيه رمال منذ أن دخلنا إلى قلب الأراضي التركية ... كل شيء يرتدي وشاحا من الخضرة اليانعة التي تفتن القلوب ... وتسلب الأبصار ...
لم تفارق عيناي الأشجار والمحاصيل والثمار طوال الطريق من الحدود إلى محطة البان في أنطاكيا ...
وفي الساعة الخامسة وأربعين دقيقة مساء ... توقف الباص في المحطة ... ليعلن ختام الرحلة ..
وعبرت أذني عبارة نعيم (( السائق )) وهو يقول في مودة :
حمدا لله على السلامة يا شباب ...

عبيد خلف العنزي
06-17-2008, 10:59 PM
* الحلقة الخامسة :

نزل الركاب من الباص وودعتهم جميعا ... وخصوصا من تبادلت معهم الأحاديث أثناء الرحله
وتناولت حقيبتي ... وإتجهت إلى مكتب رحلات البان .. الشركة صاحبة الباص
وهناك طلبت من الموظف الهاتف فسارع يقدمه لي ويقول في كرم :
تفضل على الرحب والسعه ...
أدرت الأرقام وإستمعت إلى الرنين قليلا ليجاوبني بعدها صوت أعرفه جيدا من كثرة إتصالي بمنزل العم صالح من الرياض ليقول في بهدوء ونعومه :
أفندم ... ( كلمة تركية تعني سيدي(
إتسعت إبتسامتي وأنا أقول :
مرحبا يا سالي ...
عم الفرح صوتها وهي تغمغم :
أنت مجد ... أهلا يا خيي )) تعني أخي )) ... أين أنت ...
أجبتها :
في المحطة ... لقد وصلت توا ...
تلعثمت قليلا ثم واصلت :
حسنا ... أبي وأسعد قادمان إليك على الفور ...
شكرتها وشكرت الموظف كذلك وجلست على أحد مقاعد الأنتظار ... وبعد عدة دقائق دخل نعيم وهو يحمل بعض الأمتعه التي يرسلها العاملون في السعودية لذويهم ... وما إن رآني حتى قال في دهشه :
لازلت هنا يا أبو المجد
ثم إلتفت إلى الموظف هاتفا :
إتصل بالعم صالح وأخبره أن لديه ضيفا عندنا ...
إبتسمت وقلت له بإمتنان :
أشكرك ... لقد إتصلت بهم ... وهم قادمون من أجلي ...
أومأ برأسه إيجابا وهو يتمتم :
ولو يا صاحبي ... أنت على الرأس والعين ...
ثم ربت على كتفي في مودة وهو يواصل :
حمدا لله على السلامه ...
ثم غمز بعينه وهو يقول في مرح :
صدقني ... ربما لن تعود إلى تلك الديار مرة أخرى ...
جلست بعدها فترة لم أحصها .... ثم خرجت بعدها إلى الرصيف المقابل وجلست على مقعد خشبي طويل أتأمل القادمين والمغادرين والمودعين والمستقبلين ...
وفجأة قطعت أفكاري ضحكة أنثوية ... إستدرت لمصدرها ...
كان بجوار مكتب البان مكتب سفريات آخر وعلى طاولة الإستقبال وقفت فتاتان بارعتا الجمال حقا
كانتا تضحكان مع شاب طويل القامه أكرت الشعر عريض الكتفين ... ولا تسألوني عن ما حدث ... فلقد وجدت نفسي أندفع إلى داخل المكتب وأسأل عن مكان أستطيع إبتياع بعض الخرائط منه ...
فسألتني إحداهما بلطف :
السيد سعودي ...
قالتها بالتركيه التي لم أكن قد أجدتها بعد ... لذلك لم أفهم حرفا واحدا مما قالت لأنها كانت تتحدث التركية الصرفة التي يستخدمونها في أواسط تركيا ... وليست لهجة الجنوبيين التي أفهم بعض مفرداتها ...
لاحظت الفتاة جهلي بما قالت ... وأعادت السؤال بإنجليزية ركيكية ...
وهنا صرت أسدا هصورا ... فإنطلقت الإنجليزية من حلقي بلكنتها البريطانية بطلاقة وأنا أجيبها : سعودي...
وكانت هذه فاتحة الكلام ...
من أين أنت قادم ...
ما سبب الزيارة ... كم تنوي البقاء ..
وبصراحة إستمتعت بحديثهما العذب حتى لمحت سيارة من نوع الرينو الفرنسي بيضاء صغيرة الحجم ... شاهدت السائق ...
كان العم صالح ..
إستأذنت وحملت أمتعتي وإتجهت إيه وناديته .. فإلتفت إلي وعلت ملامحه الأبوية إبتسامة مضيئه وهو يهبط من السيارة ليعانقني بسعادة ..
ومن الباب المجاور ترجل شاب يافع فاره الطول وسيم كستنائي الشعر ليعانقني بدوره والعم صالح يقول في فخر :
هذا هو أصغر أبنائي .... أسعد ..
كنت قد سمعت عن أسعد وشاهدته في عرس شاكر على ذلك الشريط فقلت بخبث
نعم ... فتى الكراتيه ...
ضحكنا جميعا ... فلقد كان في شريط العرس يرقص ويقوم ببعض حركات الكراتيه ... لذلك قلت عبارتي ...
وركبنا السياره ...
وكان موقعي إلى جوار العم صالح وقبع أسعد على المقعد الخلفي والسيارة تتجه إلى حربيات .. ضيعة الشلالات ...
حيث يستقر وسطها منزل العم صالح وعائلته ...
وإلى جواره ... غير بعيد ...
منزل سوسن ...
وختمت رحلتي وأنا أسترخي مجاورا العم صالح .. ومتأملا ما حولي في غبطه

عبيد خلف العنزي
06-23-2008, 11:21 PM
* الحلقة السادسة :

إندفعت الرينو في سلاسة عبر شوارع أنطاكيا .. والعم صالح يسأل عن أحوال والدي ووالدتي وإخوتي .... وأخبار عملي في المستشفى حتى توقف أمام محل لبيع الدجاج ... نزل أسعد من السيارة وإستدار مع مؤخرتها ... ليخاطب العم صالح قائلا في إهتمام :
كم واحدة أحضر ...
لا أدري بالضبط ماقاله ... ولكن بإعتقادي أنه قد طلب منه أن يحضر أربعا أو خمسه ... على ما يبدو ...
قفزت يدي إلى محفظتي فإندفعت يد العم صالح إلي وقبضت على كفي في صرامه وهو يقول في عتاب :
عيب عليك يا ولدي ... إنك ضيفنا ...
ثم إستطرد :
لو أنها صدرت من غيرك لكان لي تصرف آخر ...
غرقت في بحر من الحرج وأنا أعيد محفظتي إلى جيب معطفي وأخفض بصري بخجل عارم ....
حتى عاد أسعد بالدجاجات للعشاء ... وعاودنا الإنطلاق والعم صالح يشرح لي عن كل ما تقع عيني عليه ويقول في آخر كل معلومة :
ولكنك ستغير رأيك في الصباح ...
( افيدكم هنا بأنني قضيت وقتا طويلا مابين دخول الاراضي التركية في الثالثة والنصف عصرا حتى توقفنا في محطة البان التركية داخل الضاحية مما استلزم غياب الشمس )
وصلنا إلى طريق زراعي تحيط به الخضرة والأشجار الباسقة التي تعانق بعضها بتناسق بديع من صنع الخالق جل وعلا ...
إخترقنا الطريق والهواء العليل يلطم وجوهنا بنعومة ...
ودخلنا في عمق حربيات وأنا أسمع خرير الماء ... وأرى الورود والأشجار ....
بدت بيوت الضيعة في غاية السكون ...والوداعة ... كطفل يرقد بحضن أمه بأمان ...
بقيت أسيرا للمنظر حتى توقفت السيارة عند منزل من ثلاثة أدوار ... يلفه الظلام جزئيا ... والأنوار تختلس النظرات من نوافذه المختلفه ....
وصوت العم صالح يقول في ترحيب :
أهلا بك في منزلك يا مجد ...
وخفق فؤادي بلهفة لا حدود لها ......

عبيد خلف العنزي
06-23-2008, 11:22 PM
* الحلقة السابعة :

ترجلنا من السيارة .. وصعدنا عتبة الدار المرتفعة ...
وهناك تملكتني الدهشة ...
فأمام باب المنزل .. وقفت خالتي أم شاكر .. وسارة زوجة شاكر .. وليلى زوجة فرات .. وسالي وغالية وسلمى بنات العم صالح ...
الكل اصطف لاستقبالي ..
يا له من مشهدٍ مؤثر .. جعل فؤادي ينتفض بسعادةٍ من عروقه ...
صافحت الكل في تقدير وإمتنان ...
وصافحني الكل بترحيب وإعزاز ..
ودخلنا المنزل وسط عبارات الترحيب والسؤال عن الأحوال والأهل والعمل والسعادة ترفرف على الكل وهم يستقبلون صديق العائلة الوحيد في الأراضي السعودية ...
واتخذنا مجلسنا فكان مقعدي في صدر المكان بجوار سيد المنزل العم صالح ...
عندها تناولت حقيبتي وأخرجت منها كيسيين الأول لصالح أبن شاكر وسارة .. والثاني لمحمد أبن فرات وليلى .. دون أن أنسى العم صالح وخالتي أم شاكر والبنات ...
وغرقت مع الجميع في الأحاديث الودية .. وكالعادة تملكت الجلسة بخفة ظلي الشهرة ...
حتى جاء العشاء ...
عندها دخل فرات .. ولم يصدق عينيه ..
لم يصدق أنني أجلس أمامه .. في منزله ...
وكذلك فعل ساري .. الذي كان سيقيم حفل زفافه بعد أسبوعين .. من وصولي ...
وطبعاً .. كان من المقرر أن أحضر الاحتفال وأظهر مهارتي في رقصتنا الشعبية الأولى " الدبكة " ...
وفي أثناء الحديث قالت سلمى في مرح :-
هل رأيت سوسن ..
إضطربت وتعلثمت .. فقد كانت قد غابت عن ذهني لروعة ذلك الاستقبال والحفاوة التي أنا فيها .
وضاعت كلماتي .. والعيون كلها ترقبني ...
وأنا أكاد اختنق بجرعة القهوة التي في حلقي ...
ولكنني وبالكاد تمالكت نفسي وقلت بهدوءٍ زائف :-
لقد وصلت تواً يا عزيزتي ...
ثم التفت إلى ساري قائلاً في سخط :-
يبدو أن نشرة الأخبار قد أذاعت الأنباء بالتفصيل ...
قلت ذلك وأنا أعض شفتي السفلى في غيظ والكل يضحك في مرح ...
وكانت ليلةً ساحرةً بكل ما تعمله المعاني ...

عبيد خلف العنزي
06-23-2008, 11:22 PM
* الحلقة الثامنة :

في نهاية السهرة قال لي العم صالح وهو يربت على كتفي في حنان :-
هيا يا ولدي .. قم لترتاح .. فلقد قطعت مسافةً طويلةً إلى هنا ...
قمت وهب أسعد ليحمل حقيبتي ونصعد معاً إلى الدور العلوي وهناك كانت سارة قد أعدت شقتها هي وشاكر لإقامتي ...
شاكر الذي تركته في المطعم .. هناك في الرياض ...
ولم أحتمل الموقف ...
فقلت للعم صالح بإصرار :-
فلتدلني على فندقٍ قريب أقيم فيه .. لا أريد أن أضايق أختي سارة ...
وهنا لكمني أسعد مازحاً في كتفي وهو يقول :-
أترك السخافة .. وهيا إلى النوم ...
أما العم صالح فلقد أمسك ذراعي في هدوء وقال :-
عيب عليك هذا الكلام .. أنت منا الآن وفينا .. ولا يمكن أن ترقد في مكان غير منزل والدك العم صالح .. ولتعلم أن هذه هي رغبة شاكر نفسه .. الذي لا يريد أن تكون شقته خاوية على عروشها ..
خلال إقامتك عندنا ...
لم أدري حقاً ماذا أقول ..
ولكنني أومأت برأسي في استسلام ...
وأسعد يقول في مرح :-
نم قدر ما تريد فنحن في عطلة ...
وغداً سأجوب بك حربيات كلها ...
ثم غمز بعينه بخبث وهو يواصل :-
وسنرى سوسن معاً .. ونتحدث معها ..
ما رأيك ...
ما رأيي .. أي كلام هذا يا رجل ...
أنت تعرض علي أجمل أمنياتي .. وتسألني عن رأيي ..
بالطبع موافق ...
هيا إلى النوم ...
ولم أنم تلك الليلة ..
فلقد كانت سوسن أمامي في كل أحلامي ...
ترقص حيناً .. وتضحك حيناً ...
وبصري متعلق بالنافدة .. التي تدخل لنا الهواء العليل البارد المرافق لضوء القمر الساطع ...
وسوسن .. تستقر شيئاً فشيئاً في جدران شراييني ...
ومن أعماقي دعوت الله أن يأتي الصبح سريعاً ...
لأراها .. فقط ...

***

ستغير رأيك في الصباح ...
وهذا ما حدث فعلاً ...
فعند شروق الشمس .. قمت من مرقدي الذي لم أغفل فيه لحظةً واحدةً وتأملت النافذة ...
وهنا ...
تألقت عيناي في ذهول ... وانبهار ...
فالنافذة التي كانت تطل على الظلام البارحة ...
تطل اليوم .. على أبدع منظر رأيته في حياتي ...
أشجار غنية بالثمار .. متشابكة الأغصان ...
وعجوز ترتدي جيبة من قماش رمادي اللون ثقيل وهي تضرب الأرض بمعولها في نشاط جم ...
وزقزقة العصافير تغمر الأجواء .. صانعة لحناً بديعاً يثير شغاف القلوب
القلوب البيضاء ...
وما هي إلا لحظات حتى كان باب الشقة يُطرق وسالي تنادي عليّ وعلى أسعد لتناول الأفطار ...
وعلى المائدة .. كان العم صالح بكرشه الضخمة والطيبة التي تفوح من ملامحه الشامية الوسيمة على الرغم من تقدمه في السن ...
وإلى جواره خالتي أم شاكر .. أو كما أناديها بوالدتي التركية .. وسالي وغالية .. وسلمى ...
جلستُ إلى جوار العم صالح .. وبعدي بلحظات أتى أسعد .. والنعاس لم يفارق جفنيه بعد .. على الرغم من أن الماء لا يزال يقطر من ذقنه نصف المحلوقة ...
وقبل أن أمد يدي مع الجميع إلى الطعام إنطلقت سالي إلى داخل المطبخ قليلاً ثم عادت وهي تحمل كأس حليبِ ساخن لتضعه أمامي متمتمة :-
تفضل يا ( خييي ( مجد ...
لمحت نظرات التعجب في عيني فقالت في مرح :-
إنه حليب طازج من بقرتنا .. لقد حلبتها اليوم .. تذوقه سيعجبك بالصحة والعافية
لم أدري إزاء كل هذا التكريم ما أقول .. سوى أن مددت يدي والتقطت الكأس وشربته والكل يتأملني في حب ...
ودون أي تكلف قلت لسالي في إمتنان :-
شكرا يا عروسه .. فرحنا الله بزفافك ...
أخجلتها عبارتي فإحمرت وجنتاها وهي تضحك في خفوت والعم صالح يقول في سعاده :-
سنزفها إلى حميد نهاية هذا الشهر بعد ساري بإذن الله ...
إتسعت عيناي فرحا وأنا أقول في إخلاص :-
كم هو محظوظ بك يا سالي .. ..
إلتقطت قطعة جبن وهي تكاد تذوب خجلا بينما غرقنا جميعا في الأحاديث والغمزات عليها ... مستمتعين بخجلها العذري الخلاب ..
ثم تطرقنا إلى الضيعة وأحوالها ... وعند ذلك قام أسعد من على مقعده قائلا في حماس :-
ما رأيك في جولة حول الضيعة على قدمينا ....
رميت ملعقتي وشوكتي وأنا أقوم بدوري قائلا :-
وهل هذه تحتاج إلى مشورة ... يا فتى الكاراتيه ...
عمت الإبتسامة الجميع وهم يوصونه خيرا بي .... ولكن العم صالح قطع كل هذا قائلا :-
هيا يا بني ... سأتمشى أنا وأنت أولا ... ثم بإمكانك أن ترافق هذا الطائش ....
إبتسمت موافقا ... وغادرنا المنزل سويا ...
وحثثنا المسير إلى قلب السهل ...
كان الكل قد بدأ يغادر داره... ونحن نشق طريقنا عبر البيوت الساكنة ... حتى وصلنا إلى ما يشبه النهر الصغير .. يعلوه جسر مرتفع ترابي التكوين ... إصطفت على جانبيه الأشجار الباسقة الخضراء ...
وهناك عند ذلك النهر المرتفع المسمى (( الحاووس )) وعلى مقعد خشبي صغير جلست أنا والعم صالح متجاورين ...
سألني العم صالح بهدوء :-
ما رأيك في بلادنا ؟؟ ...
شردت قليلا ثم أجبت :-
لم أكن أتصور هذا يا عم ... إنها بالفعل جنة الله على أرضه ...
إبتسم وكأنما كان يتوقع إجابتي هذه ... ثم قال بصوت يغمره الود :-
إسمع يا بني .. بيتي هو بيتك .. وأولادي هم إخوتك .. فأنت غالِ جداً علينا ففي السعودية لا نعرف غيرك .. ولا نعرف غير بيتك الذي كان مفتوحاً لنا دوماً .. وكنت أنت على الدوام الصديق المخلص لأولادي كلهم ولهذا لن تحتاج إلى أي شيء هنا ...
ولو احتجت تكلم وستجدنا جمعياً تحت أمرك ...
أخجلني كلامه فقلت :-
عم صالح .. ما أنا إلا ابنك .. فلذلك لا تتحدث عن تلك الأمور أبداً ..
أومأ برأسه وهو يغمغم :-
دعنا الآن نستمتع بالمشهد هنا قليلاً .. ثم نتجول معاً في أنحاء حربيات لأعرفك بالجيران والأقارب ...
وهذا ما حدث فلقد جلسنا قرابة النصف ساعة ثم أكملنا الجولة على قدمينا عائدين إلى المنزل وهو يحدثني :-
هذا منزل فلان ...
وهذا المنزل لفلان .. وهم أقاربنا ...
وعندما وصلنا إلى منزل من طابقين تحيط به مزرعة غناء قال :-
وهذا منزل سوسن ...
وتعلقت عيناي بالمنزل ..
أين هي ..
يا إلهي ...
لو تخرج الآن .. لو ...
ولم أدري بعدها فيم حدثني العم صالح .. فلقد إلتصق ذهني بصورة ذلك المنزل الصغير ...
منزل سوسن

عبيد خلف العنزي
06-23-2008, 11:23 PM
* الحلقة التاسعة :

عدت إلى المنزل مع العم صالح وجلست في الردهة ... وهناك جمعا بإنتظاري
جمع نسائي .... عجوزان .. وسيدتان ... وصبيتان (( فتاتان(( بالإضافة إلى خالتي أم شاكر وسالي وغاليه وسلمى وساره .. وليلى ... وجميعهن في شوق للقاء الضيف العربي القادم من الخليج .
ولم يكن هناك بد من المواجهة ...
وإتخذت مجلسي وسط أركان حرب حواء ...
وكأي ضيف تم سؤالي عن أحوال الأهل والبلد إلى أن قالت إحداهن في خبث :-
ما رأيك في العيش هنا والزواج ....
قلت في حماس :-
يدي على كتفك يا سيدتي ...
قالت العجوز زهية (( عرفت إسمها فيما بعد )) في مرح :-
ولكن عليك أن تتحمل أمورا شاقة ... تكاليف الزواج ... هدايا لها ولأهلها ...
رددت بدهشه :-
هل سأتزوجها هي .. أم أهلها ...
قالت العجوز الثانية (( ماري )) في إنفعال :-
لا .. ستتزوجها هي ... ولكن هذه هي تقاليدنا يا عزيزي ...
رفعت أحد حاجبي في سخط زائف وقلت :-
حسنا ... عليك أن تجدي لي واحدة مقطوعة من شجرة كما يقولون ... ليس لها أحد .. يتيمه لأتزوجها ....
أشارت العجوز ماري إلى الفتاتان اللتان تجلسان قبالتي وقالت مندفعة :-
إليك إذا هاتين ... إنهما يتيمتان ... وتنتظران حظهما ...
إتسعت عيناي وأنا أدير بصري لهما وأهتف :-
يا إلهي ... أوقعتني أيتها العجوز ...
وضحك الكل في مرح ...
جاء أسعد وقال وهو يتأمل النسوة في برود :-
أرى أنك وقعت في فخ سارة يا مجد ...
ضحكت في مرح وأنا أجيب :-
وأي فخ يا رجل ... فخ الأحاديث الطيبه ..
هز كتفيه وقال في لامبالاة :-
حسنا سأتركك الآن وأراك لاحقا ...
قفزت من مقعدي متشبثا به في لهفة وأنا أقول :-
هيه يا رجل هل صدقت ؟؟؟ ... أنقذني من براثنهن أرجوك ...
ضحكن جميعا من أسلوبي ... وودعتهن على أن أراهن جميعا في القريب العاجل
ولم أنسى أن أغمز للعجوز ماري قائلا :-
لا تنسيني يا ماري .. يجب أن تبحثي لي عن عروس عندكم ..
خرجت ثم أطللت برأسي مجددا مواصلا :-
ليس شرطا أن تكون يتيمة ... فأنا مستعد لأي تكاليف ...
ضحكن مجدد وسارة تقول في صفاء :-
يالك من طيب مرح ...
لوحت لهن مودعا وغادرت مع أسعد إلى الخارج حيث تقبع الرينو بعد أن تملق العم صالح ليحصل على المفاتيح بحجة أنه يريد أن يصحب ضيف العائلة (( الذي هو أنا )) في جولة حول أنطاكيا ..
ولقد كانت بالفعل جولة رهيبه ...
بكل المقاييس ....

عبيد خلف العنزي
06-23-2008, 11:24 PM
* الحلقة العاشرة :

عندما أزمعنا أسعد وأنا ركوب الرينو كان العم صالح يؤكد عليه أن يترك قيادته المعتادة ويحفظ أدبه معي ...
وهنا دق قلبي وأنا أسأل العم صالح عن قصده بهذا التحذير .. فقال في توتر :-
أدعو الله أن يستر علينا وعليك ...
إندفعت أقول في قلق مضاعف :-
إذا كان ولابد فلا تعطه السيارة ياعم ...
وعلى الفور دفع الوغد أسعد مرفقه في معدتي قائلا وهو يبتسم :-
لا تقلق يا أبي ... سأريحه في هذه الجولة .. وسنكتفي بالمناظر الخلابة .. وسأبتعد عن المنحدرات ..
ماذا ...
منحدرات ...يا إلهي ...
زاغت عيناي عند سماع كلمة منحدرات وتصورت للحظة أننا نهوي بالرينو المسكينة من حالق ..
حاولت الإعتراض ولكن أسعد أحاط كتفي بذراعه في قوة .. وهو يقودني إلى السيارة ... وقدماي لاتقويان على حملي ...
وركبنا ... وقد كان منظرا مضكحا للعم صالح ومن خرجت من فتيات جلسة النسوة إياها..
وأشعل المحرك ... وحرك ذراع السرعة .. خلف عجلة القيادة ...
وأنّ المحرك تحت ضغط قدمه على دواسة الوقود .. وإندفعت الرينو إلى الخلف في سرعه ...
الويل لي ...
كل هذه السرعة على الطريق الترابي ... فكيف سيفعل عندما نسير على طريق ممهد ...
دفع شريطا (( كاسيت )) إلى جهاز التسجيل ...
وإرتجت السيارة بصوت سميرة توفيق ...
أسمر وشعره ذهب ...
أي أسمر ...
يا الله ... إننا نهوي ...
تبا لك يا أسعد ...
لقد إخترق أحد المنحدرات ...
أسعد ماذا عن وعدك للعم صالح ...
هتفت بهذه العبارة في ضراعة ...
ضحك في مرح صبياني وهو يجيب :-
لا عليك يا صديقي ... ستعود الرينو سليمة إليه في آخر الأمر ...
قلت في رعب :-
وماذا عنا يا وغد ...تطلع إلي في بساطة وتحدث بإسلوبه اللآمبالي :-
سترى ...
يا إلهي ...
فعلى الرغم من أنني أهوى أحيانا كتابة القصص البوليسية وأعشق صنع الغموض .... إلا أنني وفي تلك اللحظة بالذات كرهت كل الغموض وكل الأحجيات ...
لا ... أسعد ... تمهل ..
وتصاعدت ضحكاته المرحة وهو يرى خوفي مما يفعل وأنا أمد يدي متشبثا بتابلوه السيارة الداخلي داعيا الله من كل قلبي أن يلطف بنا ...
فأنا قد أتيت إلى تركيا للسياحة ...
وليس لألقى حتفي هنا ...
ولكن يبدو أن ذلك الوغد لم يكن يريد ذلك ...
و...
يا أمي ...
إننا نهوي ثانية ... أسعد ...
أين المفر ... فأنا إلى جواره ...
وهو في كامل جنونه ...
لن أركب معك بعد اليوم يا أسعد ...
هذا لو كان هناك بعد اليوم ...
و... منحدر آخر ....
توقف بربك يا أسعد ...
ولكنه لم يفعل ...
تلوت الشهادتين ... والرينو تنزلق في منحدر آخر ...
وهو يضحك ...
وسميرة تغني ...
يا لها من جولة ...


* * *

توقفنا عند منطقة خضراء عبارة عن تلال من الصخور التي تبرز الأعشاب اليانعة من بينها في منظر من أدلة إبداع الخالق جل وعلى
ودخلنا وسرنا على قطع من الأحجار التي اصطفت وكأنها جسر طبيعي يتوسط ممرا مائيا وصل بنا إلى كهف عليه شلال وحوله خضرة ساحره ....
سبحان الله ...
أمام هذا المنظر نسيت ما عانيت من قيادة أسعد الطائشة ... وشردت أفكاري بعيدا أمام هذا المشهد الإلهي العظيم ...
فكرت بعائلة تتكون مني ومن سوسن وأربعة أطفال نربيهم على الطيبة والشموخ التي يطل من هذه الضيعة الساحرة ...
ولم أدري إلا وحسين وعلي يجلسان بقربي ...
لاأدري من أين أتيا ...
ولكن يبدو أنهما كانا بإنتظاري أنا وأسعد .. في هذا المكان ...
علي هو شقيق ليلى زوجة فرات ... تلك التي تشع طيبة وأدبا وحسين شاب صغير في مثل عمر أسعد ... السابعة عشرة تقريبا .. يعرج في ساقه اليسرى من حادث ألم به في صغره ...
كانا فتيان طيبان حقا ... ولكنهما يشتركان مع أسعد في الطيش ...
جلسا بقربي كما أسلفت وقال لي علي في مرح :-
قل لي .. هل ترغب في جولة جميلة ...
إستعدت ما حدث فقلت بعجل :-
لا ... ليس ثانية ...
إبتسما في مرح متزايد وحسين يقول في ثقة :-
لا تقلق .. أسعد لن يقود بجنون في هذه الجولة بالذات ..
وهنا إقتنعت ...
ونزلنا بالرينو إلى أسفل القرية التي يقع فيها الشلال .. وقبل منتصف الطريق توقفنا عند كشك صغير للتموين فيه عجوز مسنة مع إبنها الشاب الذي أتى إلى السيارة وهو يحمل العصائر المثلجة .. حتى أنه رفض أخذ النقود مني ...
ولكنني أصررت مرددا بمرح :-
لقد فتحت هذا الكشك لترتزق منه .. أما الضيافة فهي في منزلك حين نزورك قريبا .. إن شاء الله
إبتسم عندها وتناول النقود ..
حيينا العجوز بعدها والسيارة تنهب الطريق على مهل ..
سألت أسعد في إهتمام :-
أين الهدف ...؟؟..
علت الوجوه الثلاث إبتسامة شيطانية وعلي يردد في خبث :-
مكان سيعجبك ...
التزمت الصمت وشريط سميرة توفيق يعبر إلى جهاز التسجيل بيد أسعد ...
ومندل .. يا كريم الغربي ..
الأغاني البدوية الشامية تستهويني دوما ... خصوصا إذا رافقتها المناظر الخلابة .....
وفجأة .. كم أكره المفآجات ...
أخرج الشريط ...
هتف علي بهذه العبارة ...
و..
موسيقى ديسكو ...
تباً ..
ماذا منحدر .. لا ..
إنها مدرسة ...
ومدرسة فتيات بالتحديد ....
ولكن اليوم الاحد .. اجازة .. ( كانت رحلة مدرسية فيما يبدو )
وفتح أسعد زجاج نافذته .. وطلب مني أن أفعل المثل ففعلت ...
ورفع صوت التسجيل ..
وأخذ يتغزل بالفتيات الغضات اللواتي يرتدين المريلة الحمراء على القميص الأبيض ...
إبتسمت .. وأنا أضع نظارتي الشمسية وأتأمل الموقف في إستمتاع عجيب دون أن أشارك فيه ..
كن في غاية الجاذبية وهن يحملن كتبهن .. مجدولات الظفائر ..
هذه شقراء ... وتلك سمراء ( سوداء الشعر ) .. والبشرة البيضاء هي السمة في الجميع ...
قضينا ساعتين في الغزل ...
يا حلوه .. انظري إلينا ... نظره يا جميل ..
أين أخفيت الشمس .. في جفنيك ... ( هذه من عندي )
كل هذه العبارات رددها الثلاثة وأنا أضحك في مرح ...
ونهاية المغامرة ... هربنا من أحد أباء الفتيات حين غازل أسعد إبنته دون أن ينتبه لوجوده ...
والحق يقال أن الله لطف بنا .. فلو أمسك بنا ذلك العملاق .. لكنا في وجبة طعامه لذلك اليوم ...
عدنا إلى المنزل في وقت الغداء تماما ...
ولكن أسعد ألقى بالمفاتيح للعم صالح .. وسحبني إلى الخارج قائلا :-
هناك .. غداءٌ أفضل ...
قلت :-
ماذا تعني ...؟؟؟..
وضع يده على كتفي وهمس :-
سنذهب إلى السوق ...
السوق ... ماذا يعني بذلك ... ؟؟
ولماذا يخفض صوته هكذا ..؟؟..
لم أسأل .. ولم يلقي هو بالمزيد ...
وتبعته باستسلام بعد أن أبدلت ملابسي ..
سأرى ما في هذا السوق ... و ..
وكالعادة ... سترنا الله من شرك .. يا أسعد ...

عبيد خلف العنزي
06-26-2008, 04:50 AM
* الحلقة الحادية عشرة :

سرنا عبر دروب القرية التي تكفي بالكاد لمرور سيارة صغيرة .. حتى وصلنا إلى الحاووس وهناك كان بانتظارنا علي وحسين ...
استغربت لماذا لم يرافقاننا من منزل العم صالح ...
إلا أنني لم أتكلم ...
هبط أربعتنا الحاووس إلى الطريق العام في حربيات .. الذي إصطفت عليه المحلات والمقاهي والمطاعم وباعة الملابس .. لنستقل حافلة عمومية متوسطة ... لننطلق إلى قلب أنطاكيا ...
وبالقرب من محطة الباصات ترجلنا .. ثم انطلقنا إلى اليمين سيرا على الأقدام .. في شارع خلا من المحلات التجارية تقريبا ...
وهناك توقفنا أمام سور متوسط الارتفاع ... في داخله بنايتين متجاورتين ...
سألت في فضول :-
ماهذا المكان ..؟؟..
وهنا كشر الأبالسة عن أسنانهم في ابتسامات خبيثة وأسعد يجيب :-
الكرخانة ...
ولم أفهم ....


* * *

وصلنا الموقع .. وتوجهنا إلى غرفة صغيرة عند بوابة السور من الداخل قبع فيها حارس يرتدي زي الشرطة المحلية ..
ناولته جواز سفري فطالعه في إهتمام .. ثم إبتسم في وجهي إبتسامة واسعة .. وأعاده لي ..
دلفنا المبنى الأيسر ..
وهنا إتسعت عيناي في ذهول مطبق ...
المبنى من الداخل كان عبارة عن صفين متقابلين من الغرف .. وأمام كل غرفة غانية في غاية الجمال .. ترتدي أقل القليل من الملابس في إغراء واضح ...
والشياطين الثلاثة ( رفاقي ) يتطلعون إلى ذهولي في سعادة ..
لقد كانت الكر خانة بيت دعارة للمدينة كاملة .. بترخيص من البلدية وإذن الحكومة ...
يا إلهي ...
لم يكن هناك أي مجال للهرب ... جيش من الحسناوات أمامي ..
لم أتمالك نفسي طبعا .. وكنت في الطليعة ...
طليعة الهجوم ...
الخلاصة ... اللهم اغفر لنا ...
طيش الشباب الذي يذكيه إبليس ..
دائما نرمي أفعالنا السيئة على إبليس على الرغم من أننا نحن من يفعلها دوما
أحيانا أتعاطف مع إبليس هذا ..
بعد سبعة ساعات كاملة خرجنا .. وأنا أكاد أهوي فاقد الوعي من فرط الإعياء
عدنا إلى المنزل .. وأبدلت ملابسي بعد حمام منعش وأنا أعو الله أن لا يكون أحد من أهل القرية قد لمحنا ..
فلو حدث هذا .. لكانت كارثة بكل المقاييس ..
الضيف الذي لم يحفظ كرامة مضيفيه ...
أخزاك الله يا أسعد ...
دائما نفكر فيما نفعله .. بعد أن نفعله .. ونندم دوما ساعة لا ينفع الندم
ومر الأمر بسلام ...
ولكن الله كما تعلمنا في ديننا الحنيف .. يمهل .. ولا يهمل ...
ولقد اقتص الله مني بعدله جل وعلا عن هذه الفعلة ...
وهذا قادم في سياق القصة ...
عموما .. صارت نفسيتي متنكدة .. لفعلتي الشنعاء ...
لذلك قام أسعد بإحضار فيلم رائع للفنان دريد لحام .. كان بعنوان الحدود ... شاهدته حتى المساء... لنجتمع بعدها في الردهة ..
سألتني سارة زوجة شاكر في طيبة :-
هل تجولت في مد ينتنا اليوم ... ترى هل أعجبتك ..؟؟
إلتفت إلى أسعد في غيظ ثم عاودت النظر إليها مجيبا :-
بالطبع يا أم صالح ... من ذا الذي لا يعجبه مناظر هذه الجنة التي تعيشون فيها ...
الحق والله أنني أحسدكم .. وأتمنى من الله أن يرزقني حتى أعيش هنا طوال عمري ...
وهنا واصلت في سعادة أنثوية لطيفه :-
هل رأيت العروس ...؟؟؟..
إنعقد حاجباي وسألتها :-
أي عروس ..؟؟..
ضحكت مواصلة :-
سوسن ...
يا إلهي ...
لقد نسيتها تماما ..
تبا لك يا أسعد ..
تمتمت في توتر :-
صدقيني لقد نسيت أمرها تماما ...
ضحك الجميع والعم صالح يقول :-
لابد أنك شاهدت من هن أجمل منها ...
شاهدت ..
يالك من مسكين يا عم صالح ...
لقد شاهدت ... وعاشرت ...
إصطنعت إبتسامة بالقوة مغالبا نفسي وأنا أقول :-
لو شاهدت ملكات جمال الدنيا .. لن أتخلى عن سوسن مهما حصل .. إنها ملكة القلب وحدها .. وسيدة مجد الوحيده .. إن قبلت
ردد فرات ضاحكا :-
لقد بدأ الشعر يا قوم ...
ضحك المجلس له في مرح وأسعد يعلق :-
غدا .. سأمر به من أمام منزلها .. حتى نتحدث إليها لو سنحت الفرصة ..
نسيت ما حدث لي اليوم وهذا الكلام يصل مسمعي وعيناي تتسعان في غبطة مما جعل سالي تشير إلي هاتفة :-
إنظروا لقد أفرحه هذا الكلام ..
تعلقت الأبصار بي وعادت الضحكات ترتفع ... وأنا أذوي خجلا ...
أي خجل ...؟؟..
ليس بعد فغلتي اليوم خجل ...
سامحني يا رب ....
بعد العشاء .. سمرنا لثلاثة ساعات ..
كنت مرهقا جدا من المجهود البدني الذي بذلته اليوم .. لذلك إحتضنت الوسادة مزمعا النوم
وأي نوم ..
ولكن ..
تعالت طرقات خفيفة على باب الشقة ..
ترى من الطارق ...

عبيد خلف العنزي
06-26-2008, 04:51 AM
* الحلقة الثانية عشرة :

إنه فرات ... يقول مبتسما في لطف :-
مساء الخير يا عزيزي ...
أجبت في بساطة :-
أهلا .. ألم تذهب إلى الكازينو بعد ..
رد :-
لا الليلة عندي إستراحة من العمل ...
نظرت إلى ساعتي فإذا هي الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل
فقال بسرعة :-
هيا .. لنتعشى سويا ...
وضعت يدي على صدري مجاوبا بإضطراب :-
لقد تناولت العشاء مع العائلة ... هل نسيت ...
وضع سبابته على أنفي قائلا في مرح :-
إسمع أنا أعرفك قبل أبي وإخوتي ... وأعلم أنك تأكل كالثيران ... لذلك فقد أعدت لنا إختك ليلى ( زوجته ) طعاما دسما .. يحبه قلبك ... هيا ...
أمسك ذراعي فسارعت أقول في حرج :-
إسمع يا مجنون .. سوف أرتدي ملابسي وآتيك على الفور ...
هز رأسه في إهتمام :-
وعد ....
رفعت حاجبي في عجب مجيبا :-
طبعا ...
ولم يكن هناك مفر من قبول الدعوة الكريمة من صديق عمري فرات وزوجته ليلى .. فعدت إلى داخل الشقة وعجلت بإرتداء ملابسي ...و...
وطرقت باب شقة فرات المجاور للشقة التي أرقد فيها مع أسعد


* * *

بعد ثلاثة ساعات ووجبة دسمة أثقلت رأسي ... غادرت شقة فرات .. عائدا إلى فراشي ...
ودون تأجيلات غططت في سبات عميق ..

* * *

صحوت باكرا كالمعتاد ..
وبعد كأس الحليب الساخن من يد غاليه هذه المرة .. جلست شاردا في الشرفة والبنات ينظفن المكان .. وشريط الكاسيت ينشر صوت الفنانة الجديدة آنذاك نجوى كرم ...
كم هي رائعة هذه النجوى ..
صوتها الجبلي متناسب مع الطبيعة الساحرة التي أمامي ...
كان ذهني شاردا حتى أنني لم أنتبه إلى سلمى التي إقتربت منى ونادتني :-
أخي مجد ...
لم أجب في البداية .. مما إستلزم أن تعاود مناداتي بصوت أعلى جعلني أهتز قليلا مرددا بصوت لم يفارقه شروده :-
نعم ...
إبتسمت معلقة :-
أين ذهبت ...؟؟..
بادلتها الإبتسام مجيبا :-
في ما حولي يا سلمى ...
غمزت بعينها وقالت :-
فيما حولك ... أم في سوسن ..
تطلعت إليها في عجب وقلت في مرح :-
نساء .. كيدكن عظيم ....
ضحكت مرحة وهي تعقب :-
هيا لندخل إلى الصالة .. ونتحدث ...
تطلعت من النافذة إلى الردهة بعجل وقلت مازحا في خفوت :-
ترى هل هناك شلة من اليتيمات اليوم أيضا .....
عاودت الضحك مجيبة :-
يا لله كم أنت مرح ... لا ليس اليوم ...
أنا وأنت وسالي وغاليه وساره فقط ...
تنفست الصعداء في زيف وهي تضحك مع عبارتي التاليه :-
الحمدلله ... نجونا ....
وقمت إلى الداخل ..
فإذا بساره تدخل وفي يدها صالح الصغير إبن شاكر ... فقلت لها في لهفه :-
لو سمحت يا عزيزتي ... أعطيني هذا البطل ...
إقتربت مني على الفور وناولتني إياه ...
كان طفلا جميلا بحق ... فيه الكثير من جمال أمه ... وعيني والده
داعبته قليلا .. فلم يلبث أن بكى في براءة فقلت عاتبا :-
هل ترفض البقاء في يدي .. فليكن سأردها لك قريبا ...
أعطيته لسالي التي أخذت تغني له بصوتها العذب ...
أسرني صوتها فقلت مخاطبا إياها :-
لماذا لاتحترفين الغناء ياسالي ...؟؟؟..
دقت صدرها بكفها مرددة في إرتياع :-
يا ويلي .. لا يا خييي .. هل تريد من عمك صالح أن يحز رقبتي ...
ضحكت لتعليقها في نفس اللحظة التي دخلت فيها ساره تتبعها سلمى حاملة صينية القهوة ...
ياه ... رائحة البن تعطر الأنوف ....
قهوة طازجة ...
تناولت فنجاني ووضعته عند طاولة صغيرة عند ركبتي اليسرى وسلمى تقول في إهتمام :-
ماذا تنوي أن تفعل حينما تقابل سوسن يا مجد ...
رفعت فنجاني ورشفت منه رشفة أخرى مغمغما :-
وماذا تتوقعين أن أفعل .. سأصارحها بعواطفي .. وأعرض عليها الزواج ... هذا كل ما في الأمر ..
رددت سالي :-
عجيب ...
قلت :-
وماهو العجيب ...
هزت كتفيها وأجابت :-
إنك واضح ومباشر على عكس ما سمعنا عن العرب ...
عاودت وضع الفنجان معقبا في إهتمام :-
على الرغم من وجودي وسط بيئة عربية .. والتي كما أرى لها سيئاتها .. إلا أنني أرفض تلك الفكرة التي كونتها بعض الدول الإسلامية والصديقة عن العرب وبالذات السعوديين .. من أنهم مجرد بنوك متنقله تريد إشباع غرائزها دون أخلاق أو قيم ... والإنسان مهما كانت بيئته .. إذا تربى على يد والديه بشكل مستقيم .. سيبقى على هذا الشيء .. مهما إتخذ من المنحنيات المنحرفة في مسيرة حياته ... كما ان الله قد فطرنا على صيغة سليمه
هزت سالي رأسها برضى وساره تسألني :-
لقد سمعنا أن بارع في الدبكات الشامية ...
رددت في إستنكار :-
بارع ... لا يا سيدتي .. إنني أستاذ لا يشق له غبار ....
قالت سالي في سعاده :-
هل ترينا ...؟؟..
أشرت إلى جهاز التسجيل ..فأومأت سلمى برأسها في سرعة ونهضت إليه وأبدلت الشريط بآخر ...
وهنا خفق قلبي بقوة ....
لقد كان شريط دبكة عراقية لفنان جديد يدعى كاظم الساهر (( طبعا هو الآن ملك الغناء العربي ))
أقعدلك على الدرب قعود ...
حلوه يا ام العيون السود ...
ولم أحس بنفسي إلا وأنا في منتصف المجلس وبيدي المسبحة ألوح بها .. وقدماي تتحركان في إنسيابية مع إيقاع الأغنية ... وسط تصفيق البنات الثلاث وحماسهن ...
وبعد لحظات قامت سالي وبعدها ساره وإشتركن معي في الدبكة ودخلت خالتي أم شاكر وأخذت تصفق ...
كانت لحظة من أجمل لحظات العمر ...
لحظة سعادة صافية ... بريئة ..
مع ثلاث مثل شقيقاتي ...
وعلى صوت ساحر ...
لفنان صار اليوم ... المطرب الأول عربيا

***

جاء عصر ذلك اليوم سريعا .. فإرتديت ملابسي وخرجت إلى باحة الدار وهناك رأيت العم صالح مسترخيا على مقعد كبير يناسب بدانته المفرطة ..
حين رآني إعتدل في حماس قائلا :-
أهلا بزين الشباب .. مالذي فعلته اليوم ...
قال ذلك وهو يضحك في مرح وهو يسمع سؤالي :-
ومالذي فعلته ...
ردد في عتاب :-
على عمك يا مجد ... اليوم الصباح ...
رددت في خبث :-
آه .. الدبكة ...
ردد مثلي ساخرا :-
آه الدبكة ... نعم .. خرب الله بيتك ... كيف تكون بهذه المهارة ولا أدري عنك
هززت كتفي في بساطة مجيبا :-
أنت لم تسألني يا عم ....
قال ضاحكا :-
ياللبساطة ... أنت لم تسأل .. دائما يعجبني أسلوبك أيها الشقي ...
جاورته في الجلوس مواصلا في إهتمام :-
أين الشباب ...؟؟؟..
رد :-
الكل في الخارج .. هل تريد أن أرافقك .. قمت من على الكرسي مرددا وأنا أربت على كتفه في حنان :-
لا داعي ياعم .. إرتح أنت .. فأنا أعرف طريقي جيدا ...
تساءل بإهتمام :-
أأنت واثق ....
أعطيته إبتسامة تشع بالثقة وأنا أقرع قدمي مبتعدا عنه صوب قلب الضعية الساكن ...
وضعت كفي في جيب بنطالي وأخذت أحث المسير مرددا أحد أغاني الفنان العراقي الراحل ناظم الغزالي في صوت مسموع ...
مساء الخير يا خاله ...
إنها العجوز زهيه .. التي هتفت في ترحيب :-
تفضل .. تعال يا مجد .. فنجان قهوة يا ولدي ..
شكرا متذرعا بعجلتي لإدراك موعد مع أحد الشباب ..
و...
العم سليم ...
الحاج سليم ... العجوز الطيب ...
لم أره يوما سوى يحرث أو يتمشى في جوف حقله اليانع ..
وأخيرا الحاووس ...
جلست على ذات المقعد الخشبي الذي تجاورت على أنا والعم صالح في أول أيامي في هذه البلده الرائعه ...
بدأت أتأمل المارة في هدوء شارد ...
ولم أنعم بتأملاتي مع الأسف وذلك لأن صوتا أخذ يناديني ...
مجد ..
هيه .. أجب يا هذا ...
كان أسعد ... تطلعت أسفل التل فإذا ساري ومعه أسعد على الرينو الصغيرة
نزلت بخطوات وئيده حتى وصلت إليهما ...
قال ساري في مرح :-
هيا لنتجول ..
قلت معتذرا :-
أريد البقاء هنا .. فالجو جميل ... دعوها لوقت آخر ...
هز ساري رأسه موافقا وأسعد يهبط من السيارة ويتجه نحوي قائلا لساري في خبث :-
أنما أعرف علته .. فدعه لي ...
رفعت يدي إلى السماء في مشهد مسرحي وهتفت :-
لماذا يا ربي .. الرحمة ...
ضحكا في مرح وساري يعلق متحركا بالسيارة :-
أراكما في المنزل ... إلى اللقاء ....
قالها والسيارة تندفع به إلى قلب حربيات وأسعد يردد في لهجة شبه ساخطة :-
معلوم يا عم ساري ... كل هذه السرعة لتلحق بمنزل العروس ...
تأملته وتحركت في سكون فسار إلى جواري .. كان مرحا فلم يحتمل صمتي مما دفعه للقول :-
ما بك يا رجل ... إنك تبدو حزينا ...
رميته بنظرة جانبية خاطفة مجيبا في برود :-
طبعا لابد أن أكون حزينا ... فمن يعرفك لا مفر من أن يعتريه الغم والحزن
ضحك وقد أدرك مغزى دعابتي ... وأنا أشاركه الضحك ...
تحدثنا عن الكرخانه ... وقرب موعد زفاف ساري وحبيبته لينا ..
حتى بلغنا منتصف المسافة من منزل العم صالح ... عندها قال في هدوء وهو يحرف إتجاهي
قائلا :-
دعنا نغير الطريق اليوم يا عم مجد ...
لم أعارضه ...
وسرت حيث أشار ...
وصمت هو على غير عادته ... وأخذ يتلفت حوله في إهتمام ...
لم أبال بتصرفه هذا ...
وبقيت على صمتي وشرودي ...
وفجأة ...
أمسك ذراعي في قوة وهتف :-
توقف ...
لم أدري ما أصابه .. ولكنني حين توقفت وإستدرت إليه رأيت بصره متعلقا خلف كتفي .. وعينيه متألقتان بشدة وهو يقول في لهفة :-
إنظر بسرعة خلفك ... هيا ...
رددت في غيظ :-
ما بك .. هل جننت ...؟؟..
قال في حماس متزايد :-
لو إلتفت لأصابك ما أصابني وأكثر ...
إستدرت .. حيث أشار .. وإنعقد حاجباي ...
كان خلفنا تماما فتاتان .. الأولى سمراء ..( سوداء الشعر ) والثانية شقراء قصيرة القامة نوعا ما .. لم أدري سر لهفة أسعد .. والفتاتان متوقفتان والشقراء تبتسم حين تطلعت إليهما .. فعدت إلى أسعد متسائلا :-
ماذا .. مالذي تريدني أن أراه ...
إنصعق وهتف وهو يشير إلى الشقراء :-
تلك سوسن يا أحمق ...
وهنا إستدرت بقوة كادت أن تنتزع عنقي من جذوره ...
يا إلهي ...
سوسن ...
إنها أجمل على الطبيعة بكثير ..
ربما لذلك لم أعرفها ..
أما هي فقد عرفتني .. لهذا توقفت ...
يا خيبتي ...
تصلبت قدماي ..وإنعقد لساني .. وأسعد يشير لهما هاتفا :-
سوسن .. زينه .. لحظة ..
وهنا كدت أهوي فاقد النطق ..
هاهي سوسن أمامي ..
تقترب مني ...
يا ربي ...

عبيد خلف العنزي
06-26-2008, 04:52 AM
* الحلقة الثالثة عشرة :

أتذكرون تمثال وليم والس المنصوب في اسكتلندا .. في المملكة المتحدة ..
عندما رأيت سوسن تقترب مني أنا وأسعد مع صاحبتها صرت مثله تماما ...
تصلبت ..
تبلكمت...
وتحولت إلى بحر من العرق ...
إقتربت وقلبي وحده ينتفض بسرعة الضوء بين ضلوعي ...
حتى صارت أمامي
قالت بصوت دق في قلبي قبل أذني :-
مساء الخير ..
ياربي .. أي خير .. قولي ورد ... ياسمين ..
بل عطور الدنيا كلها ...
ومدت يدها الرقيقة إلى أسعد تصافحه هي ورفيقتها ثم مدت يدها الصغيرة إلي
تأخرت عن مصافحتها وعيني متعلقتان على وجهها ..
فضحكت ..
هنا استفقت من سكرتي .. ومددت كفي ..
وما إن تلاقت الأصابع حتى ارتجفت أنا .. وارتجفت هي ..
ولفنا الصمت ...
وعلقت العيون الأربع ببعضها ...
تحدثنا ...
تحدثنا دون صوت ..
دون حروف أو كلمات ...
عيوننا قالت كل شيء ...
عيني فضحتا شوقي وانبهاري ...
عينيها كشفتا لهفتها لي ...
بقي أسعد يتأملني قليلا ثم هتف في اعتراض باسم :-
هيه يا شباب .... نحن هنا ...
عدنا إلى الواقع .. وملامحنا يكسوها الخجل ...
وسوسن تقول في عذوبة :-
السيد مجد ...
قلت بلهفة :-
أنا هو ...
ثم استطردت :-
هل تصدقين أنني لم أعرفك ...
ردت مبتسمة :-
لماذا هل تغيرت ...
قلت بهيام :-
نعم .. لقد صرت أجمل ..
أطرقت في خجل من هذا الغزل المباشر ...
حتى أنا استغربت من جرأتي هذه ..
ولكنها سكرة لقاء الحبيب .. بعد طول انتظار ...
تكلمت رفيقتها مخاطبة أسعد في عتاب :-
يبدو أننا خارج اللعبة يا أسعد ...
رد بخسة واضحة :
معك حق يا زينه ...
قالت سوسن بعجل :-
أنت من دعاني يا أسعد ...
مال إليها مرددا في خبث :-
ولكنك لم تكلميني أنا ... أليس كذلك ..
قالت مرتبكة :-
أنت ناديتني من أجل ضيفكم العربي
إتسعت حدقتاه مردد في عجب :-
الله أكبر ... وما أدراك بذلك ... ثم ماهذه العبارة .. ضيفكم العربي وكأنك لا تعرفينه ..
زاد ارتباكها وهي تتلعثم مرددة :-
إنها أول مرة أراه فيها .. حدق بها معلقا :-
حقا ...
سارعت مواصلة :-
على الطبيعة....
وهنا لم تحتمل فوضعت وجهها على صدر زينه في خجل ..
وأنا أيضا لم أحتمل ...
فانقضت قبضتي تلكم صدر أسعد وأنا أقول في سخط :-
حسنا .. أنا من يريد التحدث إليها .. ولقد قطعت مسافة كبيرة من أجل ذلك .. فلا تكثر الهذر يا هذا ... وتوقف عن إحراج الفتاة ....
ثم استدرت إليها مواصلا في حنان الدنيا :-
ألا يمكن أن نلتقي يا سوسن ....
قالت في ارتباك وهي ترفع وجهها :-
هنا بعد الظهر .. غدا .. ما رأيك ..
قلت :-
هل تسألين .. بالطبع موافق ...
مدت يدها مجددا إلي لتصافحني فأطبقت عليها بكلتا يدي مرددا في غرام :-
سأنتظرك ..
قالت بصوت أوهنه الخجل وهي تسل كفها من يدي في لطف :-
لا تقلق ....
سارعت بعدها تجر زينه التي لوحت لنا بيدها مودعة في حين ضرب أسعد جبهته مرددا في
ذهول :-
لقد أخذت هذه البنت عقلك كما قال ساري فعلا ...
جاوبته وأنا أتأمل ظهرها المقفى عنا في لوعه :-
وقلبي أيضا ..

* * *


في المنزل سرد أسعد تفاصيل اللقاء في حماس مع الكثير من التوابل والنكهات للتشويق ...
في حين لم أتكلم أنا كثيرا .. فلقد كنت شاردا معها .. هناك ..
قلبي يرفرف حول عينيها الواسعتان ...
اليوم رأيتها ...
وقد كانت في غاية الجمال ... ترتدي بنطالا من الجينز الأسود .. وقميصا من الكتان الأبيض ..
وشعرها الأشقر الناعم المسترسل على كتفيها ...
مع ابتسامتها الساحرة ..
والأحلى .. ذلك الحرف الذي يتعثر به لسانها .. الراء ... ياربي ..
أخيرا تحقق ما حلمت به طوال الأشهر الماضية ...
سوسن ..
سأراها غداً ..
أفضل مافي لقاء اليوم .. أنني بسطت كل مشاعري أمامها دون أية مواربة ..
وهي لم ترفض ذلك ...
وهذا إنجاز كبير في حد ذاته ..
))هيه .. عد إلينا يا أبا الشباب (( ..
أيقظتني هذه الهتافة بصوت العم صالح من شرودي مع ضحكات الجميع وهو يواصل في مرح :-
لقد ذهبت سوسن بعقلك تماما ..
رددت في نشوه :-
وقلبي ياعم ..
هتف أسعد :-
نفس كلمته لي اليوم ...
قالت سارة في إشفاق :-
انظروا إليه كيف يقولها .. إنه عاشق حقيقي يا جماعه ..
ربت ساري على كتفي متمتما :-
هيا ... اذهب لترتاح ..
جاوبته في إمتنان :-
معك حق .. شكراً ...
لقد فهم ساري أنني أود الاختلاء بنفسي قليلا قبل نومي .. فتذرع لي بحجة النوم .. ليساعدني على الهروب من السهرة ...
استغللت ذلك .. واستأذنت من الجمع .. وصعدت إلى الشقة ..
وعلى سريري .. فرشت سهدي .. وخيالي ...
مع سوسن ...

عبيد خلف العنزي
06-26-2008, 04:53 AM
* الحلقة الرابعة عشرة :

عيناك والدمع الأسود فوقهما ..
تتساقط كأنغام بيات ..
عيناك وتبغي وكحولي ..
والكأس العاشر أعماني ..

تذكرت هذه الأبيات لشاعر العصر نزار قباني حين استفقت من نومي ..
وتمنيت لو كان موجودا معي ليكتب لي ولسوسن قصيدة حب ..
وكالمعتاد .. هبطت إلى الطابق السفلي .. وتناولت إفطاري .. وبدأت ألاغاني تنتشر في الدار ..
ولكن .. بطعم مختلف ..
طعم الحب ..


*******


لم أفارق المنزل ..
ومن حسن الحظ أن الوغد أسعد لم يخبر جمعنا البارحة عن وقت الموعد .. وإلا لما سلمت من غمزا تهم ..
ودقت الواحدة بعد الظهر .. وتسللت من المنزل كاللصوص .. بينما أسعد ينتظرني في الخارج مع زينه ( صديقة سوسن ) ليتحرك ثلاثتنا إلى مكان الموعد
لم أدري ما اعتراني ..
ساعة أعدل رباط عنقي .. وأخرى أتأكد من هندامي .. و...
( اهدأ يا أستاذ .. هي معجبة بك وليس بما ترتدي )
إلتفت إلى زينه بعد عبارتها هذه وقلت بلهفة :-
حقا يا زينه .. هل هي ؟؟؟..
أومأت برأسها إيجابا وقالت بثقة :-
طبعا .. فعندما أحضر ساري الصورة .. أصرت على الاحتفاظ بها .. وفي اليوم التالي لوصولك رأتك مع أسعد في السيارة .. فزاد هذا من شوقها لرؤيتك ..
طار قلبي فرحا من كلماتها .. ولكن ..
انطلق لساني يقول :-
أين رأتنا بالأمس ؟؟..
ردت ببساطه :-
عند المدرسة .. عندما كنتم تغازلون الفتيات ..
زممت شفتي في سخط وأنا أخاطب أسعد في غل :-
أرأيت أيها الوغد .. إنك تسبب المشاكل أينما حللت حتى على غيرك .. تماما كالعفاريت ..
ضحكت زينه قائلة :-
على رسلك يا أستاذ .. لقد شاهدتك بالأمس .. ولم تكن أنت من يغازل .. وهذا مما ساهم في رفع قدرك عندها ..
حمدت الله بصوت مسموع ثم عاودت مخاطبة أسعد :-
لقد أنجاك الله مني أيها المشاغب ..
ضحكنا في مرح وواصلنا المشي ..
و ... الحاووس ..
و..
هاهي ..
سوسن ..
تقف على الطريق المنحدر من الحاووس الذي تقابلنا عنده البارحة ..
ولكن ..
ولكنها كانت أجمل ..
ترتدي بنطالا أبيض اللون .. من قماش لامع .. وبلوزة من القطيفة الوردية .. وفي أذنيها أقراط صغيرة من الذهب . تلمع تحت أشعة الشمس ..
كانت تمسح العرق عن جبينها الناصع بمنديل وردي كلون البلوزة ..
لقد كانت رائعة .. بل فاتنة .. بل ساحره… بل أميرة ..
بل كل هذا ..
إلتفتت إلينا وهي تضع المنديل في حقيبتها البيضاء المعلقة على كتفها الأيسر .. لتبتسم أروع ابتسامة رأيتها في حياتي ..
توقفنا عندها ..
فقلت أنا بادئ ذي بدء :-
سوسن ..
تطلعت إلي في خجل وهي تقول في خفوت :-
أهلا يا أستاذ ..
مددت كفي وأمسكت يدها وأنا أهمس :-
أي أستاذ .. أنا خادمك مولاتي ..
رفعت عينيها الزرقاوان وقالت في خجل مضاعف :-
لا تقل هذا .. أنت أعز من ذلك عندي ..
أغمضت عيني وقلت :-
أظنني سأفقد الوعي بعد هذه الكلمات الحالمة ..
ضحكت في خفوت وأسعد يقول في احتجاج ساخر :-
ماذا .. تفقد الوعي .. وماذا عن الغداء الفاخر الذي وعدتنا به ..
تطلعت إليه في سخط مرددا :-
يالك من ثقيل ظل يا هذا ..
ضحكنا في مرح وأنا أقول في حماس :-
أحلى غداء لعيون سوسن اليوم ..
وتشبثت بكفها الصغير ونحن نتجه إلى قلب الطريق لنستقل سيارةً إلى وسط أنطاكيا ..

* * *


حثت الحافلة بنا الطريق وإلى جواري سوسن التي ملكت كل أحاسيسي
نسيت جمال تركيا حين غرقت بجمال عينيها ...
نسيت الطبيعة الساحرة حين سحرني صوتها ...
صارت هي كل شيء ...
الماء .. الهواء .. النبضات .. كل شيء ..
أما أسعد فقد غرق مع زينه في الأحاديث حول الضيعة .. من تزوج .. ومن خطب .. وأخبار المدرسة .. فقد أيقن أنني وسوسن لسنا هنا أبدا ..
كنت أتطلع إليها في حب جارف .. وهي ترى ولعي المطل من مقلتي ..
حتى عندما وصلنا إلى قلب أنطاكيا أصررت على أن تتأبط هي ذراعي ولستم تدرون كم شعرت بالسعادة وهي توافق وتدس ذراعها تحت إبطي فقلت في غبطة
الآن أحس بأنني ملكت الدنيا ...
ردت في حرج :-
ألا ترى أنك مندفع تماما في عواطفك ..
دب القلق في نفسي فقلت في جزع :-
ألا تقبلين عواطفي ... لا أريد أن أفرض عليك ما لا تريدين .. لو كانت هناك...
سارعت بالقول مقاطعة لي وهي تربت على كتفي في حنان وقد أدركت صدمتي
لا لم أقصد ذلك .. ولكنني أُحرج .. ونحن لم نعرف بعضنا بعد ..
لم يزل أثر كلماتها من صدري .. ولكنني تصنعت ابتسامة جوفاء وأنا أحل ذراعها من ذراعي وأمسك كفها في هدوء .. وأعتمر الصمت ..
لم تدري المسكينة أنها أصابتني في مقتل .. فلقد كانت محقة ..
لقد إندفعت أكثر من اللازم في تصرفاتي .. وبالغت في إفشاء عواطفي على نحو محرج لسوسن ولي أيضاً ...
إنه جنون الحب ...
عموما .. غرقت في الصمت حتى أن زينه وسوسن تبادلتا النظرات الحيرى لتبدلي المفاجيء ..
أما أسعد فأشار إلى مطعم فاخر في آخر ناصية قريبة من السوق المركزي للمدينة وقال في حماس :-
أخيرا .. أفخم مطاعم المدينة ..
ولجنا المطعم الذي كان مثالا للأناقة والفخامة بالفعل ...
الطاولات والمقاعد .. وحتى السقاة .. كانوا رجالا ونساء في زى موحد
تحلقنا حول طاولة في آخر المطعم تطل على لوحات أنيقة تمثل خيولا وفرسانا عثمانيين في عهد الفتوحات الإسلامية العربية ... اشتركت مع الموسيقى التي تبعث في المكان في إعطاء جو كلاسيكي خلاب ...
طرقت بأصابعي للساقية التي تقدمت منا بخطوات رشيقة وانحنت نحوي قائلة :-
أفندم ...
أجبتها بالإنجليزية بطلاقة :-
هل يمكن أن تغيري هذا الشريط ..؟؟..
وقبل أن تتفوه بكلمة كنت قد وضعت في كفها ورقة بخمسين دولارا .. فاتسعت عيناها وهي تسألني بإنجليزية جيدة :-
وماذا يرغب سيدي ...؟؟..
أشرت لها أن تقترب وهمست في أذنها ثم أخرجت شريطا من جيبي وناولتها إياه
التقطته وعاودت الانحناء في احترام .. لتبتعد إلى طاولة المشرف ...
وبعد لحظات .. صدح ناظم الغزالي في أجمل وأبدع أغانيه .. فابتسم الجميع وزينه تخاطبني في انبهار :-
لك طريقة عجيبة في التعامل يا أستاذ مجد ...
هززت رأسي بهدوء وقلت :-
أشكرك يا زينه ....
ثم استطردت في هدوء أشد :-
أرجوك نادني مجد فقط ... فنحن أصدقاء الآن ..
بدت خيبة الأمل على ملامحها بعد أن فشلت في انتزاعي من برودي وصمتي الذي عاوته مجددا..
وشاع الأسف أيضا على ملامح سوسن ..
وحضر الطعام ..
وبعده جاءت الساقية مرددة :-
ماذا يطلب سيدي ..
طلبت عصير برتقال ومثلي طلبت سوسن .. أما زينه وأسعد فقد طلبا نوعا من الخمر يدعى كيواتي ...
وغرقت زينة مع أسعد في الحديث حوالي العشرة دقائق .. ليمسك أسعد كفها وهو ينهض من مقعده قائلا :-
هيا يا زينه لنتفرج على المجوهرات في ذلك المحل ...
فهمت زينه قصده وقامت معه وهي تلتقط حقيبتها في خفة ليغادر الاثنان
ولم أتحرك ..
بل أشرت للساقية التي وافتني في الحال ..
فقلت مخاطبا سوسن :-
مار أيك بقهوة طازجة ...
أومأت برأسها في صمت .. فأشرت بالطلب ..
ولم أتفوه بعدها بحرف ...

عبيد خلف العنزي
06-26-2008, 04:54 AM
* الحلقة الخامسة عشرة :

وصلت القهوة وتناولت فنجاني في صمت .. في حين قالت سوسن في خفوت
ألا تريد أن تكلمني ... ؟؟؟
قلت بهدوء وعاطفة :-
لقد قطعت مسافة طويلة كي أراك وأسمعك ..وأكلمك
قالت بحزن :-
إذن مابك ؟؟؟..
قلت متطلعا إلى عينيها :-
لقد صرت سخيفا معك .. وتسببت في إحراجك ...و...
وضعت كفها الندية على كفي متمتمة :-
من قال هذا ...
قلت في توتر :-
هذا ما حدث .. وأنا أشعر بالسخط على نفسي من تلك التصرفات ..
قالت في إشفاق :-
يبدو أنني أخطأت بانتقاء عباراتي معك يا ..
كانت تريد قول شيء ولكن الخجل أعاق الحروف في حلقها فصمتت
أمسكت كفها بكلتا يدي وقربتهما إلى شفتي وقبلتهما ... فاتسعت عيناها وهي تمسح خدي بحنان وتهمس :-
كل هذا في قلبك ...
تطلعت إليها في هيام والحروف تذوب على لساني قبل أن أنطق بها فتابعت هي في رقة وهي تخرج منديلها :-
يالك من رجل ...
ومسحت عيني ...
لقد سالت دموعي دون أن أدري ...
يا للضعف ....
إنني أرتجف كورقة في رياح الخريف ... أمام فتاة ...
أفلت كفها واستدرت بجذعي في عجل إلى الجهة الاخرى حتى لا يلمح رواد المطعم دموعي المنهمرة ..
فقالت مفاجئة :-
ماذا بك ...
قلت في سخط :-
إنني أبكي كالنساء ...
قامت من مقعدها وإقتربت مني ووضعت كفيها على كتفي وقالت بحنان :-
لنخرج ...
مسحتُ دموعي بمنديلها .. وقمت ودفعت الحساب مع نفحة إكرامية جعلت الساقية تقول في سعادة :-
أهلا بك في كل وقت ياسيدي ...
أومأت برأسي وأنا أغادر مع سوسن .. التي شبكت أصابعها بأصابع كفي اليسرى ...
وبعد برهة من المشي تذكرت أسعد وزينه فتلفت حولي بحثا عنهما في إهتمام فسألتني سوسن في هدوء :-
عما تبحث ؟؟؟...
أجبت وأنا أدير بصري حولي :-
عن أسعد وزينه ...
قالت بخجل :-
إنهما في طريقهما إلى المنزل الآن ...
قلت بعجب :-
هي إتفاقية إذن ...
قالت في خجل متزايد :-
ألم تأتي من أجلي ..
وهنا لم أحتمل ...
لم يحتمل قلبي دلعها هذا ...
فشددت أصابعي حول أصابعها وقلت في وجد :-
نعم من أجلك أتيت .. ومن أجلك سأبقى
إحمرت وجنتاها في حياء عذري خلاب وهي تقول في إرتباك :-
هناك مكان أريدك أن تراه ...
هل سترافقني ... إنه قريب ..
وضعت كفي على صدري في موضع القلب وقلت :-
إلى آخر الكون ... ياحورية البحر ....
ولم أقاوم .. وهي تقودني إلى الطريق العام وتشير لأحد سيارات الأجرة .. لنركب معا ...
إلى ذلك المكان ...
الخاص ...

* * *

عبرت سيارة الأجرة الطريق المؤدية إلى نهر العاصي الذي يشق شمال سوريا إلى تركيا .. ثم إلتفت بنا حول حربيات ودخلت شوارعا صغيرة تحيط بها الأشجار من كل جانب وعند أكمة كبيرة من الأشجار الوارفة في أول مرتفع أخضر أشارت سوسن للسائق بأن يتوقف ...
نزلت هي وتبعتها وأنا أدفع أجرة المشوار للسائق الكهل الذي تناولها مني قائلا في طيبة :-
أسعدكما الله .. عقبال فرحكم إن شاء الله ...
ابتسمنا في وجهه وهو يبتعد بسيارته في حين أمسكت هي بكفي قائلة بلهفة وهي تشدني :-
هيا .. لندخل الغابة ...
وتبعتها ...
فعبرنا منطقة الأشجار على طريق ترابي صغير بدا أنه مخصص للمشاة .. حتى وصلنا إلى مرتفع قصير صعدته سوسن ثم مدت يدها لي تتلقف كفي وهي تغمغم في سعادة :-
هيه .. اقترب ...
ومددت كفي .. وعلوت المرتفع ...
ولم أكد أفعل .. حتى إتسعت عيناي ...
فلقد كان أمامي .. أعجب منظر رأيته في حياتي ...
للوهلة الأولى .. لم أصدق ما تراه عيني ...
فلقد كنا فوق مرتفع يطل على العاصي (( النهر )) الذي يقسم أراضي تشع بالخضرة اليانعة .. وأمامنا مرتفع آخر .. يربطه مع مرتفعنا جسر من الفولاذ
بدا كالحبال المعقودة .. وعلى الجسر وقف الشباب ..
كل شاب مع فتاته ..
يتحدثان .. متماسكي الأكف في حب واضح ..
و...
يا للخجل ..
بعضهم يتبادل القبل ...
وهنا إلتفت إلى سوسن وقلت في مزيج من العجب والإعجاب :-
ماهذا ...
ردت بخفوت :-
جسر العاشقين ..
إتسعت عيناي وأنا أردد في سعادة :-
هل تعنين أنك ...
وضعت سبابتها على شفتيها وهي تقول في فرح :-
كفى .. فلو لم أعجب بك .. لما كنت أحضرتك إلى هنا ...
عندها مددت يدي وأمسكت كفيها وقلت بشجن :-
إذن هيا لنشارك العاشقين عشقنا يا حورية البحر ...
إبتسمت وهي تلتصق بي ونحن نعبر الجسر الذي أخذ يهتز قليلا تحتنا وسوسن تتمسك بي أكثر ..
بينما رفعت ناظري إلى السماء في لهفة فابتسمت قائلة :-
هل أنت خائف ؟...
رددت على الفور :-
لا .. ولكنني أدعو الله أن يهتز الجسر أكثر ...
تساءلت في حيرة :-
لماذا ؟؟؟..
قلت بخبث مرج :-
حتى تلتصقي بي أكثر ...
توردت وجنتاها بخجل عارم وهي تبتعد عني وتدق قبضتها في صدري مازحة
أيها المتحذلق (( عكاك )) بالعامية ...
قلت بهمس :-
أيتها الحورية ...
أمسكت بيدي وهي تخطو فوق الجسر برشاقة وأنا خلفها ...
أنا خلفها إلى آخر الدنيا ...
إلى حيث تشاء ....
فهي قد ملكت قلبي ..
فلماذا المقاومة ...


* * *

في الجهة المقابلة انتقينا طاولة خشبية صغيرة جلسنا عليها متقابلين ليأتي قروي مسن قائلا بابتسامة واسعة :-
بما ذا يأمر الأحباب ....
طلبنا وجبة من المشويات مع كوبين من العصير .. فانصرف ليعد ما طلبنا على حين قالت سوسن مبتسمة :-
ماهي مخططاتك ...
قلت مباشرة :-
ماذا تتوقعين .. سأتصل بوالدي ليأتي ويخطبك لي من أهلك ...
أطل الفرح من عينيها وهي تتمتم في ارتباك :-
الأمر ليس بهذه البساطة ...
أمسكت كفها وقلت بلهفة :-
لا يوجد مستحيل أمام الحب يا سوسن ....
تطلعت إلي مليا ثم قالت في حنان :-
أتمنى ذلك يا مجد ... لقد انحصرت كل أحلامي في أن أكون إلى جوارك فقط
فمنذ رأيت صورتك وأنت تسكن أفكاري .. وقليلا قليلا بدأت تنفذ إلى قلبي .. حتى صرت أنتظر حضورك على أحر من الجمر ...
قلت ساخرا :-
مع أنني أفتقد إلى الجاذبية ....
ردت نافية :-
على الإطلاق ... أنت وسيم للغاية ...
قلت :-
وهل يكفي أن أكون وسيما لتحبيني يا سوسن ...؟؟..
ردت بشرود :-
ما جذبني ليس ملامحك .... بل عينيك ... شيء غريب يطل منهما ولكنك تألفه حين تراه على الطبيعة ....
أثارت فضولي وأنا أستحثها على المواصلة قائلا :-
وما هذا الشيء ...؟؟..
ساد الحزن صوتها وهي تواصل :-
حزن ... حزن عميق دفين ... عينيك على الرغم من مرحك حزينتان وأنا حزينة طوال حياتي ... لذلك وجدت فيك شيئا مني .. وهذا ما جعلني أتعلق بك ...
أغمضت عيناي قائلا :-
لقد صدقتي ...
سألت حينها :-
ماسر حزنك ...
إبتسمت وأنا أفتح عيني مجددا مغمغما :-
دعيه لوقت آخر ... فلا أريد أن أفسد جلستنا العذبة هذه يا حبيبتي ...
خجلت من عبارتي وأنا أعلق في إهتمام :-
ألا تتوقفين عن هذا الخجل وأنت معي ...
هزت رأسها نفيا وقالت في تلبك :-
لا لا أقدر ... ثم إنه مزيج جميل من الخجل والدلع .. وعليك احتماله فهو لك وحدك ..
أضحكتني قائلا :-
فاتنة .. وفيلسوفة أيضا .. إنك ستكونين أروع زوجة .. لأتعس شخص في هذا العالم ...
ردت بسعادة :-
لا تقل هذا .. سنبني معا سعادتنا يا شاعري .. وسنكون أسعد حبيبين في هذه الدنيا ...
قلت بدهشه :-
شاعري .. وما أدراك بأنني شاعر ..؟؟..
قالت مبتسمة في دلال :-
ساري .. حين أعطاني صورتك ..
قلت بغيظ :-
هؤلاء الشباب .. لا يستطيعون كتمان شيء أبدا ...
قالت بهيام :-
والآن أسمعني شيئا من أشعارك ..
قلت بحب :-
هل ستفهمين كلماتها .... إنها بالفصحى ..
ردت بوله :-
قلبي سيترجم كل ما تقوله لي يا عمري ...
أربكتني عبارتها فقلت :-
سأسرد لك قصيدتي عندما رأيتك أول مرة على شريط الفيديو ما رأيك
أغمضت عينيها وهمست :-
قل ...
وبدأت ...
من أجل عينيك .. سأترك الدنيا وما فيها ..
من أجل عينيك .. أبيع روحي وأشريها ..
استرسلت في قصيدتي وهي مغمضة العينين في لذة واستمتاع وكفي فوق كفها على الطاولة ...
عندها .. لم نعد هناك ..
لا في تركيا ...
ولا في كوكب الأرض كله ..
بل حلقنا في الفضاء ... بأجنحة من السعادة ...
وسط كواكب من الحب الصافي ...
علمني حبك .. أشياء ..
ما كانت أبدا في الحسبان ... رحمك الله يا نزار ...
لقد قلتها وصدقت فيها ..
فهكذا شعرت وأنا مع سوسن ...
عند جسر العاشقين ...
في تلك اللحظة من الغرام ...
التي لن تمحوها الساعات والأيام ...
مهما حدث .............

عبيد خلف العنزي
06-26-2008, 04:55 AM
* الحلقة السادسة عشرة :

في اليوم التالي لرحلة جسر العاشقين .. ومع شروق الشمس .. تناولت الفأس من يد سالي .. وأخذت أقطع الأخشاب عنها .. للمدفأة الحديدية (( الصوبا )) الخاصة بالمنزل ...
وبعد لحظات وبينما أنا منهمك بضرب الأخشاب والعرق يغمر جسدي ويلمع على صدري من خلال قميصي المفتوح ..
إذا بصوت غناء جميل ..
صوت أنثوي ..
إلتفت إلى مصدر الصوت فإذا بفتاة جميلة الملامح .. تتقدم نحوي بخطوات رشيقة ..
كانت جذابة حقا .. شعرها أسود مجعد .. وعينيها سوداوان واسعتان اشتركا مع شعرها وبنطال الجينز الأسود والقميص الأزرق الضيق في إعطاءها منظرا غجريا فاتنا ...
ولكني لم ألقي بالا .. لانشغالي بما في يدي من عمل ...
وقفت حدي .. تماما وقالت بابتسامة أنيقة :-
إذن فأنت الضيف السعودي في منزل عمي ...
أنزلت الفأس واتكأت على عصاها قائلا في هدوء :-
أنا هو .. يا آنسه ...
قالت بجرأة :-
نوران ...
قلت بنفاذ صبر :-
آنسه نوران .. هل تسمحين بتركي الآن فلدي ما أقوم به .. ربما نلتقي فيما بعد .. في منزل العم صالح مادمت من أفراد الأسرة ...
قالت بسرعة :-
هل أعتبر هذا موعدا .. يا أستاذ مجد ...
قلت في غضب :-
موعد ... ماذا ورائك يا آنسه ...
ثم استطردت في سخط واضح :-
إنني لا أعرفك .. حتى يكون بيننا أي نوع من الحديث ...
ردت بثقة :-
أنا أعرفك .. فلقد أخبرني ساري عنك .. ولقد أتيت خصيصا لمقابلتك
زفرت في ضيق :-
حسنا ... ادخلي إلى المنزل .... منزل عمك .. وعندما أنتهي سألحق بك لنتحدث بما تريدين ...
هزت كتفيها واقتربت مني في قلة حياء سافرة هامسة :-
سأنتظرك ... فلا تتأخر ...
قالت ذلك ولوحت لي بكفها في مرح وهي تتنطع في مشيتها مغادرة إلى قلب المنزل ....
هززت كتفي في عجب وعاودت تقطيع الحطب ...
ولكن ... وبعد فترة وجيزة فوجئت بالعم سليم جار منزل العم صالح وهو يقول في توتر :-
تعال معي .. يا أستاذ مجد ..
قلت بدهشة وقد تعجبت من أسلوبه :-
صباح الخير ياعم سليم ... مابك ...
إلى أين تريدني أن أرافقك ...
رد بعجل :-
أسعد الله صباحك ... والآن هيا معي ....
لم أفهم سر عجلته ولكنني ألقيت الفأس ومشيت معه ...
كان يتلفت حوله طوال الطريق إلى بستانه المجاور لحقل العم صالح
وعبر البستان ... وعبر طريق ترابي ضيق سرنا حتى وصلنا إلى كوخ خشبي صغير ... وهناك فتح باب الكوخ ودفعني إلى الداخل بسرعة وأغلق الباب خلفي دون أن يدخل ..
أذهلني الموقف ... وأردت أن أستدير لطرق الباب .. ومعرفة مالذي
دهاه ... ولكن صوتا ناعما أتاني قائلا :-
صباح الخير يا شاعري ...
كان ... إنها ...
هي ... سوسن ...
إستدرت فإذا بها تخرج من خلف دولاب صغير وتتطلع إلي بعينين غاية في الجمال ...
كانت ترتدي قميصا من القطن ... وتنورة من القماش ...
كان هذا هو لباس البنات العازبات في تركيا ...
إتسعت عيناي وأنا أقول :-
لماذا هذا الأسلوب البوليسي كله ...
ضحكت في وله ..و..
فهمت ...
فهمت سر استغرابي من شكلها ...
لقد كانت عينيها الحمراوان ... وتلك الرائحة ...
نعم ...
لقد كانت سكرانه ... يا إلهي ...
إقتربت مني وهي تتمايل حتى صارت أمامي ... لتقول في وهن :-
لقد اشتقت إليك ...
عجزت عن إخفاء ضيقي ...
فأنا لا أحب الخمور وشاربيها ...
فقلت في عتاب :-
لم أكن أعرف أنك تشربين ...
مسحت أصابعها في صدري وهي تقول في ضياع :-
إنه مهربي الوحيد من أحزاني ...
وسالت دموعها وهي تواصل :-
لا أحد يهتم بي .. لا في صحوتي ولا في سكرتي .. فلماذا أهتم ...
إندفعت وأمسكت كفها وقلت بحزم :-
الآن يوجد من يهتم بك ... أنا ... ولا أريد أن أراك ثملة بعد اليوم
أومأت برأسها وهي تبتسم في فرح وتقول :-
حقا .. أنا أهمك ...
مسحت خدها في حنان مرددا :-
بالتأكيد يا حورية البحر ...
وهنا تطلعت إلي بذهول قليلا ثم أقدمت على أغرب عمل ...
لقد احتضنتني بقوة .. وألصقت شفتيها بشفتي في قبلة حارة ...
وضعت أنا أيضا ... وأنا أحيطها بذراعي .. وأضمها بدوري إلي ..
صرنا جسدا واحدا ...
اشتعلت أعماقي في قوة .. وتسارعت نبضات قلبي .. وهي تضمني ..
وجسدها لصق جسدي ..
ثم ..
ثم ابتعدت عني وهي تضحك ..
ودفعتني حتى أنني تعثرت بموقد صغير وسقطت على ظهري .. وهي تضحك في سكرة ونشوة ثم تطوح بذراعيها بلا وعي وتقول :-
أحبك ...
أرجوك لا تغضب مني يا شاعري .. كان لابد أن افعل ذلك ...
ثم إندفعت خارجة من الكوخ بسرعة وأنا لا أفهم شيئا .. سوى أن معدتي قد انقبضت .. وقلبي لم يهدأ من خفقانه السريع بعد ...
وبقيت أطالع حيث غادرت ...
بذهول مطبق ...

عبيد خلف العنزي
06-26-2008, 04:57 AM
الحلقة السابعة عشرة :

وفي الظهر بعد أن عدت إلى المنزل .. تناولت الغداء وأبدلت ملابسي .. ارتديت حلة سوداء اللون .. وغادرت إلى الحاووس ..
وعبر الطريق الضيق الذي يخترق منتصف الضيعة عبرت إلى الحاووس وهناك على المقعد الخشبي كانت زينه مع أحد رفيقاتها ...
وما إن رأتني حتى إقتربت مني في لهفه وهي تقول في ارتباك :-
أهلا يا مجد ...
أدرت بصري فيما حولي وقلت بقلق :-
أين سوسن ...؟؟
ردت وهي تناولني كرتا ورديا صغيرا :-
إنها في هذا المحل .. إنه بجوار المطعم الذي كنا فيه بالأمس .. أعط هذا الكارت للبائعة هناك .. وهي تتكفل بالباقي ...
قلت بدهشه :-
لم كل هذا التعقيد ..؟؟..
أجابت وهي تهز كتفيها :-
صدقني لا أدري ..
دسست الكارت في جيبي وإتجهت إلى موقف الحافلات الصغيرة وإستقليت إحداها متوجها إلى قلب المدينة ... وهناك ..
ترجلت أمام المحل المطلوب تماما ..
كان محل ملابس نسائيه ... وفيه فتاة من بنات حربيات جميلة الطلعة واسعة العينين ...
ترى هل كانت كل الفتيات واسعات العينين أم أنني أختلق ذلك للتشويق والدعاية لتركيا ...
عموما تطلعت الفتاة إلي بتساؤل .. ودون أن أتفوه بحرف إلتقطت الكارت وناولته لها .. ومن لحظة وقوع عينيها عليه انقلبت ملامحها إلى الترحاب وهي تغمغم :-
تفضل من هنا يا أستاذ مجد ...
تبعتها إلى غرفة خلف طاولة البيع .. وأشارت لي بالدخول دون أن تتبعني ..
وهنا ارتفعت درجة توتري من هذا الأسلوب المخابراتي الذي صرت
أمتهنه في رواياتي فيما بعد ..
كانت غرفة صغيرة تغطت جدرانها بصور الفنانات وعارضات الأزياء
وفي زاوية المكان مقعد خشبي استقرت عليه سوسن ...
بدت غاية في الجمال كعادتها .. ترتدي سترة وبنطالا من قماش ولون واحد .. على قميص وردي باهت تزينه ربطة ( إيشارب ) زرقاء .. وشعرها مجموع في فراشة من القماش المزركش خلف رأسها
خلتها لأول وهله إحدى الإنجليزيات اللواتي اعتدت رؤيتهن في لندن ....
قامت من على مقعدها حين لمحت دخولي .. وأشرق وجهها وهي تقول :-
أخيرا يا حبيبي ...
طار كل توتري وغيظي وأنا أتأملها في انبهار ....
إقتربت مني وهي مطرقة حتى صارت أمامي وهمست :-
أنا آسفة .. لما فعلت معك اليوم .. ولكن .. ول ...
قاطعتها في حزم :-
ولكن الخمر أطارت صوابك ... أليس كذلك ...
لمحت السخط بعيني فردت في حزن :-
هل غضبت مني ... صدقني لم أكن أقصد ...
قلت :-
قصدت أم لم تقصدي ... فالأمر ...
ولانت ملامحي وأنا أواصل :-
قد أعجبني ...
ردت بدهشه :-
أعجبك ...
قلت بسرعة :-
ليس الخمر ... ولكن القبلة ...
إتسعت عيناها ثم توردت وجنتاها في خجل وهي تهمس :-
يالك من وقح ...
إقتربت منها وأنا أهمس بدوري :-
حقا ...
أومأت برأسها وهي تبتسم فأمسكت كتفيها فضحكت في مرح وهي تميل
نحوي وتضع رأسها على صدري وتغمض عينيها متمتمة في وجد :-
أحبك ...
أحطها بذراعي وألصقت رأسي برأسها في لهفه وقلت :-
إنني أدعو الله أن يجمعنا سريعا يا حوريتي ...
مسحت وجهي بكفها وقالت في حب :-
أنا لك وحدك .. وأنت هل تعاهدني أن تكون لي وحدي ..
هززت رأسي إيجابا وقلت :-
أعاهدك يا حورية البحر ...
إبتسمت وهي تدنو مني أكثر وتقبل خدي في رقة وتهمس :-
حسنا دعنا نتجول قليلا ثم نذهب إلى قاعة النجمة الذهبية ..
علقت بدهشه :-
النجمة الذهبية .. ماهذا المكان ...؟؟..
هزت رأسها وردت :-
مفاجأة ...
وبالفعل تجولنا معا .. وحدنا .. ويدي في يدها .. نضحك ونمرح .. ونجري .. ونجلس .. ونداعب الطيور ..
وبعد قرابة الساعة والنصف من التجوال .. دخلنا قاعة النجمة الذهبية .. الذي على ناصية جسر العاصي من الطرف الشرقي لأنطاكيا ..
قاعة احتفالات لها مسرح واسع إصطفت عليه فرقة موسيقية تركية مشهورة .. ومع كل رجل إمراته .. والكل يرقص ..
شاركت أنا وسوسن في الرقص وأثناء تنقلاتنا وسط الجموع همست لها بكل حبي وأفكاري .. ومنزل أحلامنا ..
وغرقنا معا في موجة من الرومانسية لم أعرفها في حياتي بعدها أبداً ..
وقبل أن ننتقل إلى أغنية أخرى اتجهت سوسن إلى قائد الفرقة وهمست له ليبتسم عندها وهو يهز رأسه إيجابا لتعود هي إلي وتقول في حب :-
هذه هديتي إليك يا شاعري ...
وبدأت الفرقة تعزف .. يا إلهي .. دبكه ..
واصطفت الجموع جنبا إلى جنب .. ورقصنا .. ورقصت بقدمي كما لم أرقص في حياتي .. وانبهر الجميع بحركاتي .. وعند نهاية المقطوعة
صفق الجميع لي في إعجاب وأنا أضع يدي على صدري في موضع القلب تحية وشكرا لهم ...وخجلا من هذا الإطراء وسوسن تقف إلى جواري في زهو ..
ومن القاعة الذهبية حللنا عند محل لبيع المجوهرات .. وهناك أصرت سوسن على الدخول وحدها ...
رأيتها تتحدث مع البائع وتكتب له ورقة صغيرة .. ثم تخرج لي مجددا ..
قلت بعجب :-
ماذا فعلت ...
أمسكت ذراعي وغمغمت :-
مفاجأة يا عمري .. ستراها غدا ..
قلت باستسلام :-
كما تشائين .. أنت المليكة وحدها .. فاستعبدي أو فأعتقي ..
ضحكت في سعادة وهي تلتصق بي .. فسألتها في فضول :-
سوسن هل حقا أنت سعيدة ..
ردت بفرح :-
لا .. أنا أسعد إنسانة في الدنيا .. أنت لا تدري كم أكون في أحسن حالاتي معك يا شاعري..
على الرغم من اعتراض الجميع عليك لكونك عربيا ..
قلت بدهشه :-
وماذا في ذلك ..؟؟..
ردت بارتباك :-
لا أدري .. ولكن ربما لأن العرب تحالفوا لإسقاط حكم العثمانيين ..
ضحكت في مرارة معقبا :-
انظري لحالنا بعد تلك الحماقة ..
إعترضتني ووضعت كفيها على صدري بدلال قائلة :-
دعنا من السياسة .. ولنعد إلى حبنا وسعادتنا ..
قلت بمرح مماثل :-
على رأيك .. فالسياسة لا تجلب سوى العذاب ..
ثم تذكرت أمرا فقلت بعجل :-
ألا تخافين أن يقلق أهلك لتأخرك عن المنزل ..؟؟.
أغمضت عينيها وهي تسند رأسها على صدري وتهمس :-
أمي تعلم بحبي لك .. وهي ترتب لي مواعدي معك .. بعد أن رأت سعادتي معك يا ملاكي ..
ضممتها مرددا :-
الناس يتطلعون إلينا ...
همست دون أن تفتح عينيها :-
دعهم .. أريد أن يعرف العالم أنني أحبك ..
أريد من الدنيا كلها أن ترى غرام سوسن ومجد علنا ..
هيا .. دعنا ندخل المطعم الذي كنا فيه البارحة .. ولتضع لنا شريط ناظم الغزالي
قبلتها على جبينها قائلا :-
كما تأمر مولاتي ...
ضحكت في فرح ونحن نتجه إلى المطعم ..
وهناك جلسنا وأكلنا .. واستمتعنا ..
وناظم يغني ..
قل لي يا حلو .. منين الله جابك ..
هذا هو الحب ...
أجمل شيء في هذا الكون ..
وهي
هي .. أروع بنت عرفتها في عمري ..
ركبنا الحافلة بعد يوم حافل من نشوة الحب والسعادة الجمة ..
وحثثنا المسير إلى حربيات ..
الحبيبة ..
مهد الشلالات ...
ومهد حبي الأوحد ..

عبيد خلف العنزي
06-26-2008, 04:58 AM
الحلقة الثامنة عشرة :

توقفت سيارة النقل المتوسط في قلب شارع حربيات الرئيسي وهبطت منها مع سوسن وأخذنا نسير جنبا إلى جنب حتى وصلنا إلى الحاووس وقد صارت الساعة الخامسة والنصف عصرا ...
وعند الحاووس قلت لسوسن :-
هل سأراك غدا ...؟؟؟
شدت على يدي وهي تهمس وعينيها مغروزتين في عيني :-
لن أتأخر عنك أبداً في الغد ....
قبلت يدها وهمست بدوري :-
سأنتظرك حتى آخر العمر لو تأخرت يا ملاكي ...
إبتسمت وهي تستدير مبتعدة ...
كم هي جميلة ...
بل رائعة ..
تملكت سوسن كل خيالي وأنا أسير في الطريق الآخر إلى منزل العم صالح ..
وصلت المنزل وطرقت الباب ..
فتحت سالي ..... ولكن ...
ملامحها كانت قلقه ... متوترة ... ومكفهرة ....
دب القلق في عروقي وأنا أسأل :-
ماذا بك ...؟؟..
أشارت لي بالدخول وهي تفسح الطريق في صمت دون أن تنطق مما دفع أمواجا أكبر من التوتر في داخلي ...
دلفت إلى الردهة ..
وهنا انفطرت أعصابي ...
الكل مكفهر الجبين ..
العم صالح .... غالية ... سارة ... سلمى ... فرات ... ساري ..
ماذا هناك ؟؟؟؟...
انطلق هذا السؤال من فمي بلا وعي مني ...
فأشار لي العم صالح أن أقترب وأجلس إلى جواره ... ففعلت ...
وما كدت ...
حتى قال بصوت غاضب :-
إسمع ما حدث ....
وبدأ يروي ....
* * *
كان العم صالح جالسا يحتسي القهوة قرابة الساعة الثالثة عصرا عندما دخلت سالي تقول في ارتباك :-
أبي ... إنه ...
ولم تتم عبارتها وذلك لأن والد سوسن دخل كالعاصفة وهو يهتف :-
يا عيب الشوم ...عليكم يا بيت الدغلي .. يا خسارة الجيرة والعشرة
هب العم صالح وقال :-
ماذا بك يا أبا عايده ... صرخ :-
ماذا بي ... تقول ماذا بي ....
كيف تحضرون ذلك العربي التافه ( يعنيني أنا طبعا ) وتجعلونه يتحدث مع ابنتي بل ويأخذها معه ... أين نخوتكم ..؟؟..
حاول العم صالح الحديث ليهدي من روعه قائلا :-
اهدأ يا رجل .. الأمر ليس كما تتصور .. إنه يحبها .. ثم إنه سوري الاصل أبا عن جد ..
لوح بذراعه ساخطا وهو يواصل :-
لا تحاول يا أبا شاكر ... إنه سعودي ... أليس يحمل جواز سفرهم ... إنه منهم إذن ....
لقد عشت أنا وأنت هناك .. وعرفنا معا كم هم قوم قساة يعتبرون الكل عبيدا لهم ... قالت
سالي :-
ولكنه مختلف عنهم ... ونحن نعرفه منذ سنوات.. وهو السند الوحيد لأبي وإخوتي هناك ... كما أنه يحب سوسن ويريد الزواج بها
صرخ الرجل :-
وما أدراك ؟؟؟... وما أدراك بأنه يعبث بها ثم يهرب إلى بلده بعد أن نفضح نحن ...
هزت رأسها (سالي) وهتفت :-
لا ... ليس مجد كذلك أبدا ... إنه محترم .. ولقد حدث أبي اليوم أن يزورك بعد العشاء .. حتى يفتح معك موضوع الخطبة ليتصل بوالده حتى يأتي ويطلبها منك رسميا ...
هتف في ثوره :-
لا يمكن .. لا يمكن أن أزوج ابنتي لسعودي متكبر ..
وأما بالنسبة لصاحبكم فأنا سأتصرف معه بما يليق به ....
وخرج ... كما دخل .... كالعاصفة
* * *
تطلعت إلى العم صالح بعد أن أنهى سرد الأحداث على مسمعي ..
فكرت قليلا .. بعدها ... قمت من مقعدي وإتجهت إلى الباب .. فقالت سالي في لوعه :-
إلى أين ؟؟؟؟...
قلت بحسم :-
إلى منزل سوسن ...
هتف ساري بغضب :-
هل جننت ؟؟؟ ... سيقتلك ذلك المتهور ...
رددت بحسم :-
أنا من صنع هذه المشكلة وسأتحمل تبعاتها وحدي ...
قام أسعد قائلا في حماس :-
سأرافقك ..
قلت بصرامة :-
لا ... سأذهب وحدي ... ولن أقبل أي تدخل منكم .... سأصلح الأمر
قلت ذلك وغادرت الردهة في عجل ... تاركا المنزل ...
إلى هدف واحد ..
منزل سوسن ...
سأحل هذا الإشكال ... بأي ثمن ...
أي ثمن
* * *
قطعت الطريق إلى دار سوسن وقلبي يدق بعنف ... وصداع رهيب يكتنف رأسي من كثرة الأفكار التي تكتنف بالي ...
ماذا سأقول له ؟؟؟...
ما ذنبي فيما حدث له في السعودية ...؟؟؟؟..
يا إلهي ... كل شي سأقبله ...
إلا أن أفقد سوسن ....
عندها بتأكيد سأجن ...
وفجأة ....
آخ ...
ارتطم شيء صلب بظهري ...
سقطت على وجهي من فرط قوة اللكمة ...
رفعت بصري إلى فوقي .. فإذا بشاب فارع الطول يحمل هراوة كبيرة .. كانت هي التي ارتطمت بظهري فيما يبدو ..
بعدها ظهر رجل أشيب الفودين ... وهو يهتف في ظفر :-
لقد أرحتني من عناء البحث عنك أيها الوغد ....
ركلني في معدتي عندها وأنا أحاول النهوض وأخذ هو والفتى يركلانني في عنف على وجهي ومعدتي وظهري .... حتى أظلمت
الدنيا أمام عيني ..
وسكن جسدي ...
سكن تماما ....

* * *

عبيد خلف العنزي
06-26-2008, 04:59 AM
الحلقة التاسعة عشرة :

فتحت عيني بعد أن أفقت من الغيبوبة ...
فإذا بي على سرير أبيض داخل غرفة طبية وحولي العم صالح وسالي وساري وأسعد وخالتي أم شاكر ومعهم ضابط شرطه ما أبصر عيني حتى قال :-
حمدا لله على السلامة يا سيدي ... الطبيب يقول أن ما لديك لا يتعدى بعض الرضوض في القفص الصدري وكدمات بسيطة مع جرح جبهتك .. منحته أكثر ابتسامة أمتلكها في حالة الوهن التي أنا بها .. وأنا أخاطب العم صالح :-
هل كان أبا سوسن ...
أومأ العم صالح برأسه إيجابا وقال :-
نعم ومعه ابن عمها كنعان ...
تنهدت في ألم والضابط يقول في إهتمام :-
والد سوسن وكنعان في السجن الآن بإنتظار تحسنك لإكمال التحقيق و
قاطعته :-
أنا لا أريد منهم أي شيء .. إنني أتنازل عن حقي فيما حدث ...
قال أسعد معترضا :-
ولكنهما اعتديا عليك ...
قلت بحزم :-
أنا حي ... وبخير والحمد لله .. هذا هو المهم ...
ثم نظرت للضابط مواصلا :-
متى ستطلقون سراحهم يا سيدي الضابط ؟؟....
رد متعجبا :-
حالما توقع التنازل .. ويتم دفع الكفالة عنهما ...
قلت بعجل :-
وكم مقدار الكفالة ؟...
رد بدهشه :-
مائة دولار تقريبا ....
أشرت لأسعد قائلا :-
افتح جيب معطفي يا أسعد وأحضر محفظتي ...
فعل أسعد ما قلت له ...
فتناولت منها ورقة من فئة المائتين دولار وناولتها للضابط مواصلا :-
خذ مائة دولار للكفالة ... والمائة الأخرى لك على أن تخرجهما الآن
وعندما سأخرج من هنا سأوقع لك ما تريد ...
تناول النقود وهو لا يفهم سر فعلي هذا في حين قالت سالي :-
لماذا كل هذا يا أخي مجد ...
قلت بألم :-
إنني أفعل كل هذا من أجلها يا سالي ...
من أجل سوسن ...
وصمت الجميع ... أمام قولي هذا ...

* * *
خرجت من المركز الطبي في حربيات بعد 13 يوما من إصابتي ...
وهنا كان يجب ان اتقبل الوضع الجديد في المنزل .. فليس من السهل هنا ان يدخل الجيران والاقارب في خصومات او مشاحنات بسبب بعضهم البعض فما بالكم والامر بسببي انا ..
صارت وجبة الافكار كئيبة جدا وصامته في الاغلب .. بدأت احس فعلا انني غيرت الكثير في هذا المنزل الجميل بتصرفي على الرغم من انني لازلت احس بأن كل ما جرى ليس فيه ذنب لي ..
وبعد ثلاثة ايام من خروجي وبينما انا جالس اطالع كتابا لشيرلوك هولمز
اذا بإبنة العم صالح الصغرى تدخل علي وهي تمشي الهوينى بتردد وتوتر حتى اقتربت مني وانا في المجلس مع اسعد الذي اخذ يداعب ابن اخيه الى جواري
تطلعت اليها في هدوء متعجب وهي تقف على رأسي وفي فمها كلام يصارع للخروج من بين شفتيها فأملت رأسي وانا اخاطبها في ابتسامة لطيف قدر الامكان
ماذا بك يا سالي ؟!1
ترددت قليلا ثم قالت في وجل :
انها سوسن ...
توترت وانا احاول النهوض في اعياء هاتفا في قلق الدنيا
مابها ؟؟؟؟
وهنا جاء صوتها المخملي الحنون فيما يقارب الهمس :
انا هنا يا شاعري
وبكل جهدي التفت خلف سالي واذا هي على عتبة الباب
شاحبه عينيها ذابلتان من كثرة البكاء
وخدها متورم .. مسكينه يبدو انه ضربها .. ياله من متحجر القلب من يقوى على لمس هذه الحورية بأذى
تمتمت :
مولاتي ..
ولم تحتمل هي لتندفع نحوي وتلقي بنفسها بين ذراعي وتجهش بالبكاء
ومن بين دموعها اخذت تغمغم :
انهم يقتلونني .. سيزوجونني من ابن عمي .. لقد رفض والدي مجرد تفكيري بك يا مجد .. سأموت .. لا يمكن ان اكون لغيرك ..
اسمع سأموت .. نعم .. سأتقل نفسي لو اجبروني على ذلك ..
وهنا ضممتها بشده الي قائلا :
لا تكوني مجنونه .. لن يفرقنا شي
قالت في وهن :
انت لاتعرفهم يا حبيبي
ثم اخرجت من قميصها قلادة ذهبية ووضعتها في يدي مواصلة :
هل تذكر يوم خرجنا معا ومررت على محل المجوهرات كنت اريد ان نرتبط معا بهاتين ولكن يبدو انني سأتركها معك لتذكرك بي
قبضت اصابعي على القلادة وعيني تسكبان الدمع بغزارة وانا اهمس : هل استسلمتي يا اميرتي ..
خنقتها العبرة وهي تقول ربما لست مكتوبا لي هنا .. ولكن ثق بأننا سنكون معا في عالم افضل .. وتذكر انك حب سوسن الوحيد ..
قالتها والصقت شفتيها على خدي في قبلة حاره ثم انسحبت مني بسرعه خارجة من الدار كلها .. لتتركني في دوامتي اصارع انفاسي التي كدت اعجز عن التقاطها

عبيد خلف العنزي
06-26-2008, 05:00 AM
** الحلقة الأخيرة **

وبعد يومين ومع الصباح انطلقت الاعيرة النارية والاهازيج واحتفلت حربيات مهد الشلالات بعرس سوسن وخرجت من هناك وانا اجر حزني معي
وامام الدار اوقفني اسعد والعم صالح ليقول لي الاخير في دهشه :
هل تغادر ؟؟ .. هكذا يا مجد
جاوبت في سخط :
والله لولا سمعتكم وخشيتي على ما قد يأتي لخطفتها وهربت بها من هنا ولكنني لا اقدر على ان اورثكم عارا وحزنا مني يا عمي ..
قال اسعد في اشفاق :
الا تحضر عرسنا على الاقل
جاوبته في مراره :
لم تبقى لي سوى الاحزان يا صديقي ..
وغادرت حربيات .. وتركيا .. وهي معي .. صورتها لا تفارق خيالي ..
وعدت الى عملي .. وانكببت عليه محاولا ان انسى ما جرى لي في تركيا ..
ومرت الاعوام وسافرت الى كندا واكملت دراستي هناك ثم عدت الى الرياض .. ومررت على المطعم الصغير لأجد اسعد

* * *
استقبلني في ترحاب وجلسنا سوية نتحدث واخذتها الذكريات حتى سألته في لهفه :
ما أخبار سوسن ؟؟؟
وهنا وجم واطرق حزينا فإنخلع قلبي وانا ارد سؤالي مجددا
ما بها سوسن
رفع رأسه والدموع تلتمع في عينيه قائلا :
لقد رحلت سوسن عن هذا العالم في العام الماضي بحادث سيارة
وهنا توقفت كل مشاعري وتجمدت أحاسيسي .. وتحجرت دمعة كبيرة في مقلتي لم تلبث ان سالت كخيط من الحمم على خدي وانا ارتجف في الم هامساً
يا إلهي .. لماذا يا ربي
ثم هتفت :
آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه يا مولاتي واسندت رأسي على ذراعي وانا اصيح باكيا حتى ان كل من في المطعم اقتربوا مني فيقلق واسعد يخبرهم ان قريبا لي قد مات وهم يواسونني ..
لم يمت قريبي
بل انا الذي قد مت
وبعد دقائق عشر قمت في حزم واتجهت الى باب المطعم ليسألني
اسعد :
إلى اين
توقفت واجبته دون ان التفت اليه :
إليها يا صديقي .. الى حوريتي
وخرجت من الباب ..

* * *
وصلت الى حربيات وعلى الفور
توجهت الى قبرها .. وهناك
جثوت على ركبتي وانا ابكي بكل ما اوتيت من قوة
وافرغت حزني كله ومرغت وجهي بتراب القبر وانا اصيح :
واااااااااااااااا مولاتي ...
سوسن
سوسن ..
انت مجد
قطع هذا الصوت الهادئ نوحي فإلتفت الى مصدر لأجد ابن عمها الذي حنى رأسه في حزن وهو يقول :
عجزت ان اجعلها تنساك يا سيدي .. انها لم ولن تحب سواك ابدا
مزقت عبارته نياط قلبي ودموعي تنهمر في غزاره وهو يواصل :
حتى بعد الحادث دخلت الاسعاف وهي تناديك ..
لقد بقيت في قلبها الى الابد
ثم اقترب مني وهو يقول في ندم :
ارجوك سامحني .. ارجوك ..
وضعت يدي على كتفه وقلت في قوة :
لا يا صديقي .. انت لم تخطئ انه خطأي انا .. ما كان يجب ان اتركها ابدا
ثم اخرجت القلادة من يدي وتطلعت اليها في حب .. فقد كانت تحمل اسمي واسمها ..
شاهد ابن عمها القلاده فمد يده الى الصبي الذي معه وقال في حنان اقترب من عمك يا بني .. اقترب الصبي مني وهو يقول في حيره :
انت مجد يا عمي
اجبته :
نعم
واصل مبتسما :
وانا مجد
وهنا ذهلت .. وانتبهت الى عينيه
عينيها
التفت في لهفه الى ابن عم سوسن فقال في رضى :
انه ابني منها .. ولقد اصرت ان يحمل اسمك .. ولم اقوى فخذلتني
قدماي وانا أضم الفتى الى صدري واعاود البكاء مجددا
انا لا استحقها
لا استحقها ابدا ..

* * *

تمت بحمد الله

بقلم عبيد خلف العنزي
25/08/2000 م

سلطان ربيع
06-26-2008, 07:13 PM
من بداياتها وحتى أخر الحزن [ فُراق ]
شكراً من الأعماق يا عبيد
فقد جعلت من هذه السوسن [ رسوله حب ]
منحتها قليل من الوقت في روايتك
وكثيراً من البقاء .

تقبل تقديري وفائق الاحترام .

عبيد خلف العنزي
06-27-2008, 05:33 AM
من بداياتها وحتى أخر الحزن [ فُراق ]
شكراً من الأعماق يا عبيد
فقد جعلت من هذه السوسن [ رسوله حب ]
منحتها قليل من الوقت في روايتك
وكثيراً من البقاء .

تقبل تقديري وفائق الاحترام .




تبقى سوسن بالنسبة لي لي رمز صفاء وقصة حب لا يُنسى .. أحييكَ وأشكرك على اهتمامك ومتابعتك استاذي سلطان