المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : جواز سفر .. !


د. منال عبدالرحمن
07-23-2008, 12:26 PM
:

أوّلَ مرّةٍ قصدتُ فيها بوّابةَ الرّحيل , كنتُ بحجمِ الحزنِ في وطني ..

كنتُ بحجمِ الأرقِ في أعينِ المظلومينَ و بحجمِ الجوعِ في ثغرِ ذاكَ الطّفل الواقفِ على ناصيةِ شارعنا .

كنتُ كما زنزاناتِ القهرِ الانفراديّة , بحرّاسِ ضئيلةٍ على أبوابها , و بنورٍ يتسلّلُ كلصٍّ حزينٍ في ليلةِ شتاءٍ باردة ..

كنتُ أنوءُ بمعطفٍ يُثقلُ جناحيّ المكسورتين , ما لبثتُ ان رميته من علِ ,ما أن تمكّنتُ من ملامسةِ الغيم ..


وجدتُني أفكّرُّ بتفاصيلَ صغيرة بقدرِ الفرحِ في وطني , بجارتنا و قد انجبت مولوداً ذكَراً , بأبي يحملني و يدي الصّغيرة تُمسكُ امتيازَ اجتيازي للصفِّ الأوّل , بصديقتي تقودُ درّاجتها الجديدة , و تضحكُ أمامَ الصّبيةِ الّذين تمنّت دائماً ان تكونَ مثلهم ..

بفرحِ أمّي , إذ تحملُ داليةُ العنبِ عنقودها الأوّل , و برضا سائقِ سيّارةِ الأجرة , إذ يرمي لهُ أحدهم ببضعة قروشٍ ..

بوطني إذ يرفعُ راياتِ الفرحِ لذكرى انتصارهِ الأوّل .. و بعينينِ رجلٌ حزين , يدركُ وحدَهُ طعمَ ذلك الانتصار و طعم الخيبةِ لذكراه .


كنتُ وحدي ملّاحةَ الحزنِ على متنِ جوازِ سفري , أحملُ في رقبتي خطيئةَ وطنٍ , يئنُّ تحتَ وجعِ أبنائه و يحتوي جوعهم فقط !

كنتُ وحدي و ليسَ معي سوى حقيبةٍ و معطفٍ و جوازَ سفر ...

و جناحَ نورسٍ جريح !

د. منال عبدالرحمن
07-23-2008, 12:31 PM
http://arabic.salmiya.net/songs/marcel/ram/marcel29.ram

د. منال عبدالرحمن
07-23-2008, 12:42 PM
:

أدركتُ في أوّلِّ اقلاعٍ لي خارجَ حدودِ وطني , كم منَ القيودِ يحتفظُ بها وطني كتذكاراتٍ لخيباتٍ تكرّرت على مرِّ الأزمنة ..

أدركتُ أنّ الحريّةَ تعاني من آثارِ عمليّاتِ التّجميلِ الّتي تحدثُ في الخفاء ,
وأنّ الوطنَ وحدهُ ينظرُ إلى السّاعةِ في حينَ انشغلَ الجميعُ بالتفرّجِّ على سجناءِ الحلمِ و المحتّجينَ على الحقائقِ السّبع ,
و باحصاءِ أوراقهم الشّخصية , الّتي تُثبت أنّهم كانوا يوماً أبناءً لرحمِ المجدِ المراقِ على بوّاباتِ التّاريخ ..

أدركتُ أنّ الحبّ في وطني استعباد , و أنّ الفرحَ ذنبٌ عليكَ أن تدفعَ وزنهُ دمعاً حتّى يستقيمَ بكَ الميزان , و تنفعكَ حججُ المنطقِ الكاذبة ..


أدركتُ انّ جوازَ سفري هذا , ما هوَ إلا قيدٌ على هيئةِ فراشة !

د. منال عبدالرحمن
07-23-2008, 01:05 PM
مقابلَ عينيَّ المشدوهتين بذاكرةٍ اكتشفتها للتوّ , كان يجلسُ وجهٌ شاحبٌ بدا عليهِ و كأنّه ماتَ قبلَ ثانية , ثمَّ عادَ للحياة مُكرهاً على التّنفس ..

كان يتملّكني فضولٌ لأعرفَ انتماءَ ذلكَ الموتِ في صدره , و مصدرَ الحزنِ في يديهِ في وطنٍ يُباعُ الفرحُ فيهِ بالمجّان ..

كانَت عيناهُ تقصُّ لي حكايا أناسٍ مرّوا بالنّهاياتِ بلا خوفٍ أو هلع , و بلا جوازاتِ سفر !

و كانَ شريانهُ السّباتي شفّافاً كأحلامِ الأطفال , ممحوّاً كالفرحِ المسروقِ في صدورِ العشّاقِ في مدينتي , هادئاً كالأمنياتِ في أعينِ الأسماكِ القاطنةِ أعماقَ البحر ..

كنتُ أرقبهُ و أشعرُ بأنّني أراني فيه , أرى نظرةَ أبي الأخيرة لي و دمعةَ أخي الأصغر البريئة تركضُ على وجهِ أبي البارد , كنتُ أرى دمَ طفولتي , إذ سباهُ الخوفُ و حكاياتُ الغولِ الكبير , الذي اغتال أحلامَ الأطفال ..

كنتُ أرى الوجوهَ تحتلُّ الأقفاصَ و تُقفلُ النّوافذَ لتتعفّنَ و تصرخَ أين نحنُ من مرآةِ الانتماء !

و حينَ تغلّبتُ على كلِّ الأسماكِ الصّغيرةِ الّتي طفَت على سطحِ ذاكرتي تلتقطُ بعضَ الأوكسجين , و أردتُ أن أُرضي للمرّةِ نصفِ الأولى شهيّةَ عقلي في السّؤال , كانَ ذاكَ الوجهُ قد اختفى ..

بحثتُ عنهُ في كلِّ مكان و سألتُ كلّ الوجوه عنه , و لكنّهم أكّدوا لي أنني وحدي من رآه !

د. منال عبدالرحمن
08-07-2008, 10:07 AM
:

من الأعلى كان يبدو الوطنُ كاملاً , كنتُ أراهُ للمرّةِ الأولى واحداً , قطعةً متكاملَةً تختلطُ فيها جميعُ الألوان , و لكنّها واحدة بكلّ تناقضاتها ..

نحنُ نرى الوطنَ دائماً مقسّماً , نراهُ بعينِ الرّضا , ماردَ حنينٍ عملاقٍ في داخلنا , يهبُّ كلّما اقتربَ أحدٌ منهُ بحرفٍ , و يتسلّقُ شجرةَ الفاصولياء ليبني لكبرياءنا بيتاً فوقَ الغيم ,

و نراهُ بعينِ السّخطِ , رغبةً بالهروبِ الغاضب , طفلاً خائفاً مذعوراً يُسارعُ لاقتطاعِ الشّجرة , فتنهارُ أحلامنا فوقَ الغيم .. و تسقط !

من الأعلى , تستطيعُ أن تشعرَ للمرّةِ الاولى أنَّ وطنكَ يُمكنُ أن يكونَ بالأبيضِ و الأسودِ معاً و تشعرُ أنّه مثلكَ , تملؤهُ الأفراح و الأحزان , و يغلبُه الشّرُّ حيناً , تماماً كما يفعلُ الخير ..

من الأعلى تستطيعُ أن تدركَ أنّه يحتضنكَ بأكملك , و يزرعُ فيكَ طفولتَكَ و أحلامَكَ و ذاكرتَكَ الأولى ..

د. منال عبدالرحمن
09-02-2008, 12:23 PM
بعدَ أن تُمضي ساعاتٍ معلّقاً بينَ زرقةِ السّماءِ و بياضِ ذاكرتكَ و سوادِ الحزنِ في عيني طفولتكَ , تبدأُ بالشّعورِ بقيمةِ تفاصيلِ الوطنِ الصّغيرة ,

الجريدة اليوميّة و كلُّ السّطورِ السّاخرةِ من أفكاركَ الثّائرة , كلّ الصّور الّتي تُلغي تلويحاتكَ البائسة لوطنٍ يبقى حتّى بعد رحيلك , و تلّوحُ لهُ بمنديلٍ يخصّه !

فنجانُ القهوةِ الّذي يحملُ ذاكرةَ احتراقَ لسانكَ للمرّةِ الأولى بطعمِ نضجِ الوطنِ في داخلك , و قطعةُ خبزٍ صغيرة اسمّرت بشمسِ الحقولِ الصّفراءِ في بلدك ,تُجبرها على التّحدثِ عن ظُلمِ الأرضِ فترفضُ و تتسمّرُ في بلعومك !


حتّى جاركَ في المقعدِ و أطفالهُ الّذين يمعنون في الصّراخِ و البكاء , و التفافَ حاجبيهِ من الغضبِ و الرأفة , يأخذانكَ إلى مساءاتِ الوطن و صوتِ من حولكَ و صمتهم امامَ نشرةِ الأخبار .

بعدَ ساعاتٍ من شعوركَ بالحريّةِ المقيّدة ستبدأُ في محاولةِ التّخلصِ من الوطن و ستكتشفُ - للمرّة ليست الأولى - فشلك !

د. منال عبدالرحمن
09-25-2008, 12:26 AM
يبدوُ الطّريقُ طويلاً جدّاً حينَ يكونُ وراءَكَ الوطن , و تمضي و أنتَ تخافُ الالتفاتَ إلى الخلف , و لكنّك تفعل , و تعاقبُ نفسكَ بتظاهركَ باللامبالاة .

اعتقدتُ أنا أيضاً أنّي لستُ مبالية , اعتقدتُ ذلكَ كثيراً و كنتُ أديرُ وجهي بثورةٍ طفوليّةٍ عنه , و اغضبُ في داخلي عليه و ألومهُ و أحمّلهُ خطيئةَ الحزنِ و أجلدهُ , ثمّ أجثو امامَ عينيهِ و أقبّلُ أصابعهُ و ترابَ أرجوحتي القديمة الّذي احتضنَ عبثي الطّفولي , و شجرةَ "النّارنجِ " تنغرسُ في جِلدهِ , فيُثمر بها / معها ألفَ سنبلةٍ و أمنية , و جدولاً صغيراً يختبئُ في ساقية , يروي عطشَ القلوبِ إلى الحبِّ و انتماءَها إلى الأرض .

حين يكونُ وراءكَ الوطن , يكونُ الطريقُ طويلاً و شاقّاً و مُفضياً إليك , إليكَ وحدك , لتكونَ في مواجهةٍ مع نفسك , مع أخطائكَ و اخطائهم ,عفوكَ و غفرانهم , و ظلمكَ و جورهم ,

حينَ يكونُ وراءكَ الوطن , تُدركُ انّهُ الوحيدُ البريءُ من دمك , و أنّكَ و هم تحملونَ اثمَ دمه !

د. منال عبدالرحمن
10-29-2008, 09:42 PM
قبلَ أن تحطَّ قدميكَ على ترابِ وطنٍ آخر , حذارِ من لسعةِ بردٍ تغتالُ أطرافَ أصابعك , عليك أن تتوقّع أنَّ أرضاً أخرى لن تحتضنكَ بذاتِ الدّفء كتلكَ التي احتضنت خطواتكَ الأولى , تعثّرك , و ركضكَ هرباً و خوفاً و حُبّاً و لهفةً ..
هكذا كنتُ أحدِّثُ نفسي قبلَ أن أبدأ جاهدةً في محاولةِ كتمِ أنفاسي لاستبقاءِ أكبرِ قدرٍ من الوطنِ في رئتيّ , كطفلٍ صغيرٍ لا يُحبُّ أخاهُ الأكبرَ إذ يقسو عليه , فإن أصابهُ مكروه , حزنَ عليه بكلِّ ما يحملُ من طفولةٍ و لهفة !
لكنَّ الوطنَ لم يُصبهُ مكروه , وحدها رئتي التي عانَت بردَ الأوكسجين , رغمَ شعورها بوفرته للمرّةِ الأولى !
خطوةٌ أولى , تلتها خطوةٌ أخرى و أنا أدركُ أنَّني رغمَ ثباتِ الأرضِ تحتي أكادُ أهوي , رغمَ الفرحِ الغامرِ باكتشافِ جزيرةٍ جديدةٍ للحريّة , ربّما كانت أو كانت فعلاً بلا وجع , بلا ظلم و بلا قهرِ المسافاتِ و الأصوات , رغمَ ذلك كنتُ اتعثّرُ بأنفاسي و أتلعثمُ و أنا أحاولُ جاهدةً أن ألفظَ اسمي بلغةٍ أخرى !
لأوّلِ مرّة أشعرُ أنَّ الأوراقَ على كثرتها مخرجٌ , منفذٌ للضّوء , إذ طالما ارتبطت بمخيّلتي برحلةٍ طويلةٍ من الشّقاءِ و الكذب , كانّت تركضُ إلى حقيبتي كلهفةِ عصفورٍ إلى عُشِّه و كنتُ أنا رغمَ غربتي عنها و اغترابي بها , سعيدةً باحتضانها , إذ أنّها كانت البداية , بدايةُ البداية !

د. منال عبدالرحمن
12-03-2008, 08:24 PM
- لماذا أنت هُنا ؟

السّؤالُ الأوّلُ الّذي وضعني أمامَ نفسي وحيدةً بلا وطن , لماذا أنا هُنا و اختَفت كلُّ الإجاباتِ التّائهةِ و المرواغةِ , لم يبقَ سوى اجابةٍ وحيدةٍ .. أنا !

بلا كسرةٍ تكسرُ ظهرَ كلَّ ما سيُقالُ بعدها و لا فتحةٍ تفتحُ كلَّ الأبوابِ , بدونِ تذكيرٍ أو تأنيث . لأنّك وحدك المعني , أنتَ فقط , سواءً لحقَ بكَ عارُ التّاءِ أم لم يفعل !
لم أشعر قبلاً بأنّ ياءَ المتكلّمِ لا تعاني الأنانيّة و أنَّ الإجابةَ بأنا وحدي , ليسَت نوعاً من التّنكّرِ لأحد . كانَ كلُّ شيءٍ دائماً يٌعاني الجمع و يرزحُ تحتَ أرقِ الانتماءِ للكلّ , لا شيءَ يخصُّكَ وحدكَ , حتّى أشياؤكَ الصّغيرة و أجزاءُ جسدك تخضعُ لمعاييرِ الجمعِ و تُقاسي الحرمانَ من الاختلاف .
أنا .. حتّى أقولَها أحتاجُ ان أخلَعَ كاتمَ الصّوتِ عن أفكاري , ثمَّ أطلقَها بلا خوفٍ من كونها عياراتٍ طائشة قد تُصيبُ أحدهم في مقتلٍ في قلبِ أنانيّته .

- جئتُ هُنا , لكي ...

لكي أتعلّمَ الكلام !

د. منال عبدالرحمن
01-08-2009, 05:33 PM
لا شيءَ يُعرّفكَ سواك , أنتَ جوازُ سفركَ الوحيد , هكذا يقولُ الوطنُ المُختبِئُ في صوتِك .
خاطبتني أرضُ المطارِ و الوجوهُ الغريبةً و عرباتُ الحقائبِ و المفتّشونَ و الوجوهُ الّتي تنتظرُ بلهفةِ الحنينِ و وجعِ البُعدِ و أملِ البداياتِ الجديدة , كلُّ شيءٍ كانَ يتحدّثُ حولي بلغةٍ واحدة .
و في لحظةٍ ما وجدتني أفهمُ جميعَ لُغاتِ العالم و أُدرِكُ كيفَ يصنعُ البشرُ الأوطانَ , منطلقينَ من وطنٍ أصيلٍ صغيرٍ وحيدٍ منبوذٍ في دواخلهم ومُسيطرٍ على ذاكرتهم .
خطوتينِ فقط تفصلك عن عالمٍ آخر , قادرٍ على أن يُقدِّمَ لكَ ذاتَكَ و حبّك و حريّتكَ و رغباتِكَ و أحلامكَ و خذلانكَ على طبقٍ خاصٍّ بكَ وحدَك , رغمَ كلِّ البردِ الّذي قد يُحاصرُ رئتيكَ و يُجمِّدُ قلبك !

د. منال عبدالرحمن
01-29-2009, 01:23 PM
لا تفتّشوا حقائبي , ليسَ معي سوى تذكرةِ طفولَتي و آهٍ صغيرةٍ و كتابٍ كانَ يغفو على صدرِ أبي !

لا تفتّشوا حقائبي , ليسَ معي سوى الوطن !

حقيبتي تتثاقلُ خلفي , شيءٌ ما يجرّها إلى الخلف و يدفعني أنا إلى الخوف و على كتفي أخرى تحاولُ أن تسبقني , شيءٌ ما يصرخُ فيَّ : اذهبي و آخرَ يُمسكني من قلبي ...

عندما تسافر , اقبض على الوطن بصدرك و استنشق هواءاً آخرَ لتُدركَ أنّ الوطنَ ليسَ في قلبكَ ,

بل هوَ قلبكَ ذاته !