المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : جرير وعشيرته كليب... صورة أخرى


منصور الرحيمي
07-29-2008, 02:13 AM
"جزء من دراسةٍ مخطوطةٍ"


ليس كبني الخَطَفَى فصيلةٌ في العربِ تعاقبَ أبناؤُها على كرِّ العصورِ وتحدُّرِ الأجيالِ على إذكاءِ نيرانِ الشَّتائمِ والأهاجي، فهَيَّجُوا غُوَاةَ الشُّعراءِ عليهم فرَاشُوا لهم مِن عُورانِ الكلامِ سهاماً نافذةً لا يَبِلُّ جريحُها، فاحْتَقبُوا لقَوْمِهم بني كُلَيْبٍ الضَّغينةَ والأحقادَ والذِّكْرَ السَّيِّئَ في الشِّعرِ والأخبارِ.
وكلُّ من أراد أنْ يحدِّثَنا عن بني كُلَيْبٍ فإنَّه يعودُ إلى نقائض جَرِيرٍ وأبنائِه من بعدِه لينتزعَ مِمَّا قيل فيهم مآثرَ بني كُلَيْبٍ وتاريخَها، وماذا في النَّقائضِ عنهم غير الذِّلة والقلَّة ؟! وغير تشفِّي الأعداءِ بالسَّفَهِ والتفحُّشِ ؟! فلَمْ تكن كُلَيْبٌ غيرَ مَدْرَجٍ للمَشاتِم، قد التَحَفَها الهجاءُ التحافاً، ولم يترك الشُعَراءُ فيها متعرَّقاً، وفَرَشوا أمرَهم فرمَوهم بكلِّ عظيمةٍ وذميمةٍ.
حتى إذا فَرَغَ الشُّعراءُ من الهجاءِ ـ والهجاءُ كَذُوبٌ ـ جاء الرُّواةُ والأدباءُ فجعلُوا كلَّ ما قال النَّاسُ في بني كُلَيْبٍ حقاً، وحدا بعضَهم إعجابُه بجَرِيرٍ إلى الإزراءِ بقومِه والحطِّ مِنْهم ليقولَ: هو الشَّاعرُ؛ كان يَنْهشُه نحوٌ من أربعين شاعراً فبذَّهم وأَكَلَهم، على خُبْثِ مَنْبِتِه ودِقَّةِ أصلِه ولُؤْمِ قومِه!
فأبو عُبَيْدَةَ يقولُ: "كُلَيْبٌ وعَمْرو خَسِيسانِ من بني يَرْبُوع"! ويقولُ: "لم يمدَحْ أحدٌ قطُّ بني كُلَيْبٍ غير الحُطَيْأَة"، ويسوقُ الرُّواةُ كلمةَ ابنةِ الحُطَيْأَةِ: "بئسَ ما استبدلْتَ من بني رِياحٍ بَعْرُ الكَبْشِ"، جعلوها تعني الذلَّةَ، ولَمْ تُرِدْ غير تَفَرُّقِ منازلِهم.
ثم تجاوزتْ هذه النظرةُ القرونَ فآمَنَ بها مؤرِّخو الأدب المعاصرون؛ فيقولُ شوقي ضيف عن جَرِيرٍ: "لَمْ يكن لآبائِه ولا لعشيرتِه ما لآباءِ الفَرَزْدَقِ وعشيرتِه مجاشِعٍ من المآثرِ والأمجادِ، أما العشيرةُ فقد عُرِفَتْ بأنَّها كانتْ تَرْعى الغنمَ والحميرَ"، وقال الفحَّام: "لَمْ يُطِل جَرِيرٌ الفخرَ بأسرته الأدنين، فَخَرَ بجدِّه الخَطَفَى ولكنَّه لم يُبْدِئ في هذا الفَخْرِ ويُعِد، فقد كان من وضاعةِ أبيهِ عطيةَ ما يمنعُه من أنْ يجلِّيَ في هذا المضمار، ولم يُطِل جَرِيرٌ الفَخْرَ برهطه الأدنين من بني كُلَيْبٍ، وأنَّى له أنْ يفخرَ بمَن لا مفاخِرَ له ؟".
وليس من العربِ قبيلةٌ إلا وقد نِيلَ منها وهُجِيتْ، وقالوا: إنَّما يَسْلمُ من الهجاءِ النَّبِيهُ جِدَّاً الذي يَكْبُرُ قَدْرُه عن مقاريضِ الهجَّائين أو الخاملُ جداً الذي يَدِقُّ لُؤْمُه عن الوصولِ إليه، ومَن بينهما ـ وهم عامَّةُ النَّاسِ ـ فقد لَحِقَتهم مَعَرَّةُ الهجاءِ، وما الهجاءُ إلا "سَفَهٌ وتفحُّشٌ يُلتمس به غَيْظُ المنسوبِ، وأكثرُ من يتكلمُ بمثل هذا الغضبانُ السَّفيهُ الضَّيِّقُ الصَّدرِ"، وجاء في بعضِ كلامِ أبي العلاءِ المَعَرِّيِّ: "ما ضَرَّ فوارسَ المَرُّوتِ هَدْرُ الفرزدقِ بشِدْقٍ مَهْروتٍ؟"، يعني بفوارسِ المرُّوتِ بني كُلَيْبٍ.
أما زَعْمُ مَن زَعَم أنَّ بني كُلَيْبٍ ليس لهم من المآثر مأثُرَةٌ فيُكْذِبُه ذِكْرُ أيامِهم، فقد كان لبني الخَطَفَى يومُ سُوفَةَ؛ وهو يومٌ استنقذُوا فيه مالَ بني سَلِيطٍ وقد اكتسحَتْه قيسُ عَيْلان وذَهَبَتْ به، وغَصَبَهم حقَّهم فارسُ تميمٍ عُتَيْبَةُ بنِ الحارثِ وأحْلَبَه قومُه بنو ثَعْلَبَة بن يَرْبُوع فلَمْ يبيتُوا على خَسْفٍ فأخذوا منه الحقَّ وانتصفُوا مِن تَعَدِّي إخوتِهم، وحَمَوا بئرَ بني سَلِيطٍ من بني حِمَّان، وجاوَرَهم الحُطَيْأَةُ فحمِدَ جِوارَهم فقال يَمْدحُهم:
لنِعْمَ الحيُّ حَيُّ بني كُلَيْبٍ = إذا ما أوقَدُوا فَوْقَ اليَفاعِ
ونِعْمَ الحيُّ حيُّ بني كُلَيْبٍ =إذا اختلَطَ الدَّواعِي بالدَّواعِي
وليس الجارُ جارَُ بني كُلَيْبٍ =بِمُقْصى في المحلِّ ولا المُضَاعِ
هم صَنَعوا لجارِهم ولَيْسَتْ = يدُ الخرقاءِ مِثْلَ يَدِ الصَّناعِ
ويحرم سِرَّ جارتِهم علَيْهم = ويأْكلُ جارُهُمْ أُنُفَ القِصَاعِ

وجاوَرَ البَعِيثُ المُجاشِعيُّ الشَّاعرُ بني الخَطَفَى ثلاث سنين فحَمِدَ جِوارَهم وأثنى عليهم خيراً.
ومن رجالِ بني كُلَيْبٍ المذكورين: الدَّلَهْمَسُ من بني زَيْدِ بن كُلَيْبٍ، من فرسان تَمِيمٍ بالسِّنْدِ، وابنُه عبَّاسُ من شجعانِ النَّاسِ المذكورين بالبصرة، ومنهم: معاويةُ بنُ أوْسٍ؛ فارسٌ شاعرٌ جاهليٌّ حَفِظَتْ له كتبُ الأدب أبياتاً فَحْلةً. ومنهم: عبدُ الله بن عثمانَ الكُلَيْبيُّ، سيِّدٌ شجاعٌ من فرسان تَمِيمٍ قُتِل في سِجِسْتان؛ حين حامى عن عبدِ الله بن ناشرةَ المُجاشِعيِّ الثائرِ بسِجِسْتان في زمن ابن الزبير حتى قتلا، فرثاهما أبو حُزَابَةَ بشعرٍ مَشْهورٍ. ومنهم: شَرِيكُ بنُ عُصَيْمة الكُلَيْبيُّ الذي رثى جريرٌ، من رجالهم وشجعانهم. ومنهم: جبيرُ بنُ عياض الكُلَيْبيّ من ساداتهم رثاه جريرٌ.
أمَّا القَوْلُ بأنَّ جريراً ارتفع عن الفَخْرِ برَهْطِه كُلَيْبٍ إلى الفَخْرِ بيَرْبُوعٍ لأنَّه لَمْ يَجِدْ لهم مفاخرَ ومآثرَ؛ فهذا الكلامُ الواهنُ، وإنما أُتِيَ قائلُه من قلَّةِ تدبُّرٍ في النَّقائضِ ومعاني الشُّعراءِ فيها؛ فجريرٌ حين ناقَضَ شُعراءَ بني يَرْبُوعٍ كغسَّانَ السَّلِيطيِّ افتخر عليهم ببني كُلَيْبٍ، وحين ناقَضَ شُعراءَ بني حَنْظَلَةَ كالفرزدقِ ارتفعَ ففاخَرَهم بيَرْبُوع، وإذا ناقَضَ شُعَراءَ غير تميميين ارتفع إلى الفَخْرِ بتميمٍ أو بِمُضَرَ أو بنزارٍ. فهذه النَّقائضُ ومذهبُهم فيها؛ يحوزُ كلُّ شاعر إليه المفاخرَ والمآثرَ التي ليس لخصمِه فيها شِرْكةٌ، وكذلك كان يصنعُ الفرزدقُ فيفخرُ برَهْطِه مجاشعِ بنِ دارمٍ ويضمُّ إليه فخرَه ببني عمِّه بني نَهْشَلِ بنِ دارمٍ وبني عبدِ الله بن دارمٍ ولم يعدُدْ أحدٌ عليه في هذا نَقيصةً. وقد كفَّ الفرزدقُ مرغَماً عن هجاءِ مِسْكينِ الدَّارِمِيِّ وقال: "نَجَوْتُ من مُهاجاةِ مِسْكِينِ الدَّارِمِيِّ، لأنَّه لَوْ هجاني اضطرَّني أنْ أهدمَ شَطْرَ حَسَبي وفَخْري؛ لأنَّه من بحبوحةِ نَسَبي وأشرافِ عَشِيرتي، فكان جريرٌ حينئذٍ ينتصِفُ مِني بيدي ولساني"، فالفرزدقُ يعلمُ أنَّه يَمْتَحُ فخرَه من أمجادِ بني عمِّه وليس من رهطِه مجاشعٍ خاصَّةً، ولَوْ هَجَاهم الفرزدقُ لأمْسَكَ عن مفاخرةِ النَّاسِ بأفعالِهم فيَهْدِمَ شَطْرَ فَخْرِه، كما كَفَّ جريرٌ عن الفَخْرِ بأفعالِ بني سَلِيطٍ وقال: "لولا ما فَعَلَ العَبْدُ ابنُ أمِّ غَسَّانَ لنَشَرْتُ من أيامِ بني سَلِيطٍ ما لا يبيدُ جَدَّ الدَّهْرَ" قال الرَّاويةُ: "وكانوا فُرْساناً".
فإنْ قَلَّبْتَ النَّظَرَ بعدُ في شعرِ جريرٍ لوَجَدْته يَفْخَرُ بفصيلتِه بني الخَطَفَى وبعشيرتِه بني كُلَيْبٍ، وذلك في شعرِه كثيرٌ، كقولِه:
بَنَى الخَطَفَى حتى رضِينا بِناءَهُ= فهل أَنْتَ إنْ لم يُرْضِكَ القَيْنُ قاتِلُه
بَنَيْنا بِناءً لم تنالوا فُرُوعَهُ= وهدَّمَ أَعْلَى ما بنيتم أَسَافِلُه
بنُو الخَطَفَى والخيلُ أيامَ سُوفَةٍ= جَلَوْا عنكُم الظَّلماءَ وانشقَّ نُورُها
ما زال عِيصُ بني كُلَيْبٍ في حِمى= أَشِبٍ ألَفِّ مَنابِتِ العِيصانِ
وروى أبو عُبَيْدَة من المآخذِ على جريرٍ: "مِمَّا يُعَدُّ على جريرٍ قولُه:
أتوعِدُني وراءَ بني رياحٍ= كَذَبْتَ لَتَقْصُرَنَّ يَدَاك دُوني
فقال له بنو كُلَيْبٍ: ما هجانا أحدٌ قطُّ أشدُّ مما هَجَوْتَنا بِه! حين استوى لك أنْ تقولَ وراء بني كُلَيْبٍ، فرغِبْتَ عن آبائِك إلى أعمامِك"، وما قالَه جريرٌ ـ إنْ سلِمَتِ الرِّوايةُ من غَلَطِ الرُّواةِ أو تَزَيُّدِهم ـ هو حَقُّ المعنى وهو الصَّحيحُ الجاري على مذاهبِ الشُّعراءِ؛ فجريرٌ يهجو بتلك الأبياتِ فَضالةَ العَرِينِيَّ، وقد حمَِيَ لأخوالِه بني سَلِيطٍ حين فَضَحَهم جريرٌ، فهدَّده فضالةُ برهطِه ثَعْلَبَةَ ومعهم بنو سَلِيطٍ، فكان قولُ جريرٍ: إنْ تفعلَ فإنَّ بني رِياحٍ مَعِي عليك. وبنو كُلَيْبٍ وبنو رياحٍ يَدٌ على بني ثَعْلَبَةَ. هذا مذهبُهم في نَقْضِ المعاني.
وما تجِدُه في كلِّ شعرٍ هُجِيَ به بنو كُلَيْبٍ فيُوصَفُونَ بأنَّهم رُعَاةُ شاءٍ ليسُوا بأَهْل إبلٍ ولا خيلٍ؛ فذلك على مَعْنى تعاهدَهُ شُعراءُ العربِ؛ فالعربُ يرَوْنَ أَهْلَ الغنمِ أَقْبلَ للضَّيْمِ وأَرْضى بالهَضِيمَةِ وأَخْنَعَ للذُّلِّ كقولِ الرُّواةِ في قبيلةٍ: "كانوا أهلَ شاءٍ وحميرٍ فلم يَسْتطيعُوا بَرَاحاً فأقامُوا وأقَرُّوا بالذُّلِّ". ولهذا المَعْنَى تَرَى جريراً يهجُو برِعْيَةِ الشَّاءِ فيقولُ:
ولا شَهِدَتْنا يومَ جَيْشِ مُحَرِّقٍ= طُهَيَّةُ فُرْسانُ الوُّقَيْدِيَّةِ الشُّقْرِ
وذلك كثيرٌ في شعرِه وشعرِ بنيهِ؛ وفي أخبار الفرزدقِ خَبرٌ فيه أنَّ الفرزدقَ كان يرعى غنم أهلِه في صباه، وما بَلَّ لسانَ الفرزدقِ في هجاء جريرٍ إلا ذِكْرُه الشَّاءَ والحميرَ.

حمد الرحيمي
07-29-2008, 11:26 AM
منصور الرحيمي ...




أهلاً بالباحث الأدبي الكريم ...


سعيدٌ بحضورك و سعيدٌ أكثر أن خصصتنا بشيء من بحوثك و أوجه قراءاتك للإرث العربي الكبير ...

أنت بهذه الرؤية الأدبية و التصور المنطقي للمسألة تُلمح لمحبي الأدب العربي ضرورة النظر إلى الأمور بشموليةٍ أكبر و تكشف جانباً مهماً في تاريخ عشيرة جرير أساء في فهمه الرواة و النقلة ...

و أنت بهذا الكم الهائل من الألفاظ المعجمية تخبرنا كم هي ممتعةٌ / مذهلةٌ لغة الضاد ...




تقبل نقي مودتي ...

عطْرٌ وَ جَنَّة
07-29-2008, 12:05 PM
الأستاذ مَنصُور الْرَحيمي


أهلاً وَمطراً بِمكامن الأدب وَتفاصيِّل التاريخ الْعَريق

كُلّ ماكان أعلاه ..ليس جُزءاً مِن دِراسةٍ مَخْطُوطة فَقَط ..
بَل هُوَ خُطوط الإرث الْعربيّ الْمَدروسة بِإسْتقامة ..وَالتي سَتبقى فِي حفظ ذَاكرتنا ..للآخرة ,

القراءة هُنا مُدهشة وُممتعة .. تتلمذنا على كَيف يمكن للكلمات اغواء اللغة ..وكيف تكون لغة الضاد .. لُغَة سَماوية .. بِ ألفِ جِناح ,



شُكراً لِكلّ ما هُمِيّ مِن مَطر

http://www.qamat.net/vb/images/smilies/a36.gif