المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كورس


بدر حامد
08-15-2008, 09:17 PM
حدث أن توقفت في آخر طابور القادمين ، وأسندتُ حقيبتي إلى جانبي..وحدث أن أخرجتُ منها مسجلي الصغير وعلقته في جيبي، ووضعتُ السماعة على أذني، وغرقت في عالم موسيقي كبير! وحدث أن شغلت بمراقبة البناطيل الجنز المنتفخة.. لثلاث فتيات سمراوات كن في الطابور الموازي لي؛ واستغربت أنني لم ألاحظهن بالطائرة .. واحدث أن أُخذتُ – كالعادة- إلى عالمي الذي لم أدرك معه أن الطابور تحرك كله من أمامي..

هذا كل الذي -أظنه - حدث... أو ربما أن اسمي، أو شكلي ، أو لؤم الرجل الذي أخذ يتفحص جوازي ؛ كان هو السبب !.. ثم حدث أن الأيادي أخذت تتقاذفني من يد ، إلى يد ، إلى يد .. إلى أن وصلت إلى مكتب صغير ، وأنا أردد في كل الوجوه كالببغاء :

What's problem sir ?

وجدت جوازي بيده ، كان يقبع كجبل من اللحم، محشور خلف طاولة صغيرة ..هذا الرجل البدين الذي كان لون وجهه بلون الجزر المُحْمَر ؛ يقطب جبينه باهتمام نحو الأختام، والصورة التي على الجواز ؛ بشكل خاص . حدجني بنظرة سريعة ، لاحظت معها بقعاً صفراء حول عينيه . كررت سؤالي ذاك :

What's problem sir ?

كنت أنتفض خائفاً ، كعصفور صغير في قبضة أطفال كبار!.. لعنت الحظ العاثر الذي أوقفني هنا. وشعرت برفاقي يطلون علي شامتين ، بعدما فضلت كورس اللغة الانجليزية على مرافقتهم إلى سوريا و تركيا ! ..ثم سخرت بدوري من أحلامي وأنا الذي ينوي إكمال الدراسة الجامعية السنة القادمة هنا!..

قلبي الذي يطرق صدري من الداخل بعنف و كأنما يريد الخروج ، ذكرني بما كان يردد جدي كثيراً: الرجل الشجاع ..يُمسح على قلبه ، ولا يشعر به . بينما يقطب حاجبيه ويمسح براحة كفه اليسرى على صدره بطريقة تمثيلية متقنة. جمعت شتات نفسي ..وتهاويت على كرسي بالجوار دون استئذان..وأنا لا أزال أنتظر..دخل رجل نحيل فارع الطول واستدار، مباشرة ، من خلف الطاولة، وانظم إلى الرجل الآخر في التحديق بجوازي ، والهمس !..

للمرة الأولى أدركت أن هناك عدد من الناس يراقبون ، باهتمام ، ما يحدث داخل الغرفة ؛ من خلال الباب المفتوح ، والنافذة التي تقع خلف ظهري مباشرة .

سمعت أنه في حالات مشابهة ، أن الأجانب ، في بلادنا ، يصرخون ، ويطلبون الاتصال بالسفارة ، مما يحقق انفراجاً دراماتيكياً بالموقف ، حاولت أن أفتح فمي ،لأخرج صرخة صغيرة ، لولا أن الرجل البدين ، رفع رأسه نحوي ، فرأيت شاربه الأشقر الكثيف يتحرك ، وهو يسألني :

- ما اسمك ؟.

كانت فكرة الصرخة لا تزال قائمة في رأسي ، ولكني استبدلتها بـ :

- تجد ذلك في الجواز...معك !.

- ولكن .. أمي لم ترسلني إلى المدرسة مثل أمك .( وسمعت الرجل الذي بجانبه يهمس بشيء، فأكمل بلكنة ،وعلى وجهه ابتسامة رأيتها مستفزة ) ..آل أنود!.. آل أنود! ..

لا أعلم هل الذي حدث نوبة إحباط ويأس ،مبالغ فيها، لمراهق السابعة عشر ربيعاً ،والذي تعود أن يحطم كل شيء في المنزل من حوله كلما غضب ، استيقظت كل تعاليم القبيلة في دمي( أفا بس!.. أفا والله!!...) ، جسدي الذي كان ينتفض رعباً ينتفض الآن غضباً ، وقلبي لم أعد أشعر به! . جسمي يكتسي طبقة من لون صارخ صاعدة من أسفله وحتى أطراف أذناي ، أردت أن أقول : رجل أمي أنظف من وجهك ..يا...علج !!. لكنني قلت وأنا أضغط على مخارج الحروف كما تعلمت في المدرسة :

- May name is .. Osama bin laden

رأيته على كرسيه يتضاءل.. ويتضاءل ..ثم يتضاءل.. حتى أصبح كقط يهرب في كل اتجاه!..ثم رأيته يستعيد روحه، وتستطيل رقبته وينبت له قرنان ويتحول إلى شيطان حقيقي، أحمر ،و منتعش !. خرج ثم عاد، ثم خرج ثم عاد ؛هذه المرة ومعه آخرين ، كلهم ينظرُ نحوي . لم أعِ ما فعلت ، لكني مرتاح للانتقام ، وأرغب بان أخرج لساني له !.

امرأة متقدمة بالسن دخلت ، نظرت إلي بضجر وخيبة أمل معاً ، أخذت تصرخ في وجه الرجل البدين ،بقوة ،تبادلوا الصراخ معاً ، بينما أنا ساكن في مكاني بلا حراك ؛ لدقائق . فهمت منها فقط : He is a child

مرت من أمامي ، وأنا على المقعد ، قبضت على معصمي ، جذبتني بعنف ، فاندفع جسمي النحيف أمامها وكادت ذراعي أن تنخلع.. خرجت أمشي معها لا أدري إلى أين ، قالت على الفور بعصبية ، و بلسان عربي فاجأني :

- مش عارفة !!.. جاي بتعمل إيش هون ؟!!..

لزمت الصمت ..

- وريني التذكرة ! ..

أخرجت تذكرتي .. ووقفت بي على كونتر الخطوط السعودية ..وبعد ثواني ..استدارت نحوي وأعادت التذكرة..

- حظك حلو أمامك نصف ساعة للمغادرة...

حملت حقيبتي ، واتجهت نحو البوابة 104 وفي قلبي شوق سنوات طويلة لأهلي الذين غادرتهم منذ خمس عشرة ساعة فقط !.

د.محمد فؤاد منصور
08-15-2008, 10:06 PM
أخي العزيز بدر حامد
قصتك جميلة بل رائعة .. استكملت فيها أدواتك جميعاً كقاص فجعلتنا نثور مع أحد بني جلدتنا وهو يعامل بشكل سئ أدي إلى ترحيله قبل أن يخطو خطوة واحدة داخل ذلك البلد الغربي ..شعرنا بمشاعره وأحسسنا بأحاسيسه وهو يقف بلا سند أمام معاملة فجة لمجرد الأشتباه في الأسم .. حتى الوجه الوحيد الذي التقى به وكان يمكنه مساعدته كان حرباً عليه فساهم في إعادته من حيث أتى .. سيظل الصراع قائماً بين حضارتنا وحضارتهم إلى أن تعلو رايتنا من جديد وهذه يلزمها الكثير من الوقت والجهد معاَ .. تحياتي لقلمك المبدع.
د. محمد فؤاد منصور

خالد صالح الحربي
08-16-2008, 01:25 AM
:
قد تكون مُشاركة وَحيدَة ، لـ..اسم يُقدّم قطرةً من مَطَرِه .
ولكنّها كفيلةٌ بأن تجعلُهُ يُعشِب في صدورنا / وعقولنا .
احتراماتي لقلمٍ كهذا القلم .

بدر حامد
08-16-2008, 10:34 PM
د.محمد ، أستاذ/خالد

أشكر مروركما..وأسعد به..!