المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : جِدُّو كريشنامورتي .. (1895-1986)


نور الفيصل
08-31-2006, 07:46 PM
كريشنامورتي

ديمتري أفييرينوس

ولد جِدو كريشنامورتي في قرية صغيرة في جنوب الهند. وبُعيد انتقاله إلى مدينة مدراس مع أسرته، تبنتْه السيدة آني بيزانت، رئيسة الجمعية الثيوصوفية التي احتفتْ به في شبابه بوصفه مسيحًا جديدًا. وفي العام 1929، تخلى كريشنامورتي عن الدور الذي أنيط به، مفككًا التنظيمات "الروحية" التي طوقتْه، منطلقًا في مهمة، وقف لها حياته كلها، لـ"تحرير الإنسان تحريرًا مطلقًا غير مشروط" من القيود والإشراطات كافة، بما فيها القيود التي يفرضها الدينُ المنظَّم والاتكال على المرجعيات الدينية والروحية المختلفة، فجاب العالم إبان 65 سنة، متكلمًا في أوروبا والهند وأستراليا والأمريكتين، حتى قبيل وفاته بأسابيع قليلة.

لم يعتنق كريشنامورتي أي مذهب، كما لم يبشر بأية عقيدة، بل صاغ تعليمه الفريد وحده، منصرفًا انصرافًا كليًّا إلى رصدٍ دائم لآليات الذهن البشري في كتابات ومحاضرات ومحاورات جُمِعَتْ في أكثر من 40 كتابًا وتُرجِمَتْ إلى حوالى 50 لغة. والقضايا الدائمة التي تصدَّى لها، والتي تتناول أصل المشكلات البشرية وطبيعة الذهن وكيفية التحرر النفسي وتحقيق الإشراق الروحي، بوَّأتْه مكانة خاصة بوصفه واحدًا من أكثر متكلِّمي القرن العشرين وكتَّابه استفزازًا للذهن المستكين إلى يقينياته وتحديًا لمزاعم جحافل المرشدين الجُدُد من أصحاب "الدكاكين الروحية" الذين يوزعون "التقنيات" و"الوصفات" و"الوعود" التي تزيد بلبلة العالم على بلبلة.

كان كريشنامورتي يريد تحرير البشر نفسيًّا لكي يكونوا على تناغُم مع أنفسهم وأشباههم ومع الطبيعة. وقد علَّم أن الإنسان هو صانع البيئة التي يعيش فيها، وأن إيقاف كابوس العنف المستمر منذ آلاف السنين لا يتم إلا بتحول جذري في النفس البشرية. وقد اكتفى بإعطاء إشارات حول "فن" القيام بهذا التحول؛ إذ ليس ثمة طريق ولا منهاج لبلوغه: على كل أحد أن يقوم بالعمل بمفرده، دون اللجوء إلى أي معلم أو مرجعية؛ فالحياة بأسرها تصير المعلَّم.

لهذه الأسباب مجتمعة، كانت التربية واحدة من اهتماماته الرئيسية. فإذا استطاع الطفل أن يتعلم رؤية إشراطاته الإثنية والدينية والمذهبية والاجتماعية إلخ، التي تقوده حتمًا إلى النزاع، إذ ذاك يستطيع أن يستوعي أنه العالم وأن العالم فيه؛ ولعله يستطيع بذلك أن يصير كائنًا بشريًّا يتحلى بفطنة رفيعة تلهمه السلوك السليم آنيًّا. فالذهن المثقل بالأحكام المسبقة مستعصٍ على الحرية.
.
.
منقول ... للحديث بقية ...

نور الفيصل
08-31-2006, 07:50 PM
***
ليس كريشنامورتي "فيلسوفًا" بالمعنى المألوف للكلمة. فغالبية الفلاسفة يقومون، انطلاقًا من مسلَّمات يأخذون بها وتشكِّل نواة فلسفاتهم، ببناء صرح نظري يبحثون له عن تطبيقات في النشاطات البشرية المختلفة وفي العالم. أما "فكر" كريشنامورتي فهو يقوم على أسُس نفسانية يمكن التحقق منها "تجريبيًّا" – شريطة أن يتحلَّى المرء بالجرأة والشجاعة الكافيتين للإقدام على مثل هذه المغامرة – من شأنها أن تحث فيه، من دون أدنى عنف أو لجوء إلى سلطة فكرية خارجية، تحولاً غير متوقَّع يشمل سائر جوانب حياته.

وإن التعمق في دراسة تعاليم كريشنامورتي ليكشف عن آفاق جديدة توطِّد دعائم فكر حرٍّ، نقيٍّ، متجدد، يتخطى كل الحدود والمقولات التي تفرضها علينا غالبيةُ المناهج والفلسفات والمذاهب التي لا تتسبَّب، في الأعم الأغلب، إلا في التجزئة والصراع والفوضى – الأمر الذي يمنح هذا الفكر أفقًا عالميًّا شاملاً بالغ الأهمية، وخاصة في عصرنا.

إن معضلة الإنسان الأساسية تعود، في نظر كريشنامورتي، إلى "سيرورة الأنا" the I-process: تلك السيرورة المتمثلة في الرغبة المنغرسة في الأنا إلى الاستزادة من الوقود الذي يكفل لها الاستمرار في التقوقع على نفسها؛ ذلك التقوقع الذي لا يتجلى في الأنانية الفردية والشواهد الاجتماعية والتاريخية على عنجهية الإنسان وقسوته وحسب، بل وفي المفاهيم الأخلاقية الاجتماعية السائدة، المشبعة بالإحساس بالتفوق وبالرضا الذاتي وبالغرور المقنَّع.

كريشنامورتي من القلة النادرة من الفلاسفة التي عملت على إقامة صلة وثيقة مباشرة بين التعقيد الحاذق واللامنطقي للنفس البشرية، بكل إحباطاتها، من جهة، وبين شعلة المحبة المتقدة في الكيان الإنساني، من جهة ثانية. فهو، بإزالته المسافة الوهمية الفاصلة بين أنا الإنسان وبين ما هو حقيقي فيه، أي بين الإنسان كعَرَض والإنسان كجوهر، يحرِّر النفس البشرية من فصام لازَمَها طويلاً. كل ما ليس حقيقيًّا وآنيًّا ومباشرًا خاضعٌ للزمن، أي للصيرورة، أي لإشراطات الذاكرات النفسانية، ولا يقع، بالتالي، في حقل "الإبداع" الخالص، وهو "انسلاب ذاتي" auto-alienation، بمعنى قريب من مفهوم إريش فروم للانسلاب. إن كريشنامورتي يضع إصبعه مباشرة على موضع العلة التي لا يستطيع أي تحليل نفسي "اختزالي" أو أية تجربة "صوفية" عابرة أن تشفيها – ألا وهي اعتيادنا القاتل محاكمة نفسنا ومقارنتها بالآخرين وإدانتها، ووضع سلَّم قيم من ابتداعنا نحن ومن صُنْع إسقاطاتنا الخافيَّة (= اللاواعية)، بدلاً من أن نلزم الصمت، ونبقى فاعلين في العالم، حاضرين فيه، نحيا حياة هي فينا، بأن نكون، لا كما نرغب في أن نكون، بل كما نحن فعلاً.

لذا يقترح علينا كريشنامورتي – نحن الذين نلتقي بالمجهول في كلِّ لحظة، مزوَّدين بالذهن (وهو أفكارنا وذاكراتنا ومعلوماتنا المتراكمة) درعًا يدرأ عنَّا "خطر" ما نجهل – تجربة جريئة، قوامها تأمل نقدي عميق في النفس، مصحوب بشكٍّ وانتباه يقظ يتملص من قبضة الذاكرات والتلقائية الآلية المترسبة فينا عبر الماضي كلِّه، وتتفتح فيه زهرةُ كل لحظة جديدة بذبول زهرة اللحظة التي سبقتْها، وتتوِّجه يقظةٌ نهائية شافية على مستويات النفس البشرية كافة.

تلكم ثورة كلِّية جذرية، "نفنى فيها عن نفسنا"، بالتعبير الصوفي، وعن ذاكراتنا الماضية، فتتفتح فينا "بصيرة"، وحدها قادرة على الإفصاح لنا عن الواقع، واقع "ما هو موجود" what is – الآن. أما مقاربة الواقع بالذهن وحده – وهو الماضي كلُّه – فهي "أشبه بضخِّ الدم في جثة ميت"، بحسب تعبير أحد المفكرين.

لا يركن كريشنامورتي إلى كل فعل آلي وإلى كل تكرار وإلى كل رتابة واعتياد في حياتنا النفسية. ففي الفهم أيضًا، كما في المادة، نزوع طبيعي إلى الاعتياد وإلى التكرار وإلى العطالة؛ وهو نزوع ما لم نتداركه في الوقت المناسب ونفهم سياقه بالكامل، لكفيل بأن يستفحل ويتحول إلى هاجس يستحوذ على حياتنا النفسية برمَّتها. من هنا يميِّز كريشنامورتي تمييزًا دقيقًا بين "ذاكرات الوقائع" (وهي الذاكرات الطبيعية التي لا غنى لنا عنها) وبين "الذاكرات النفسانية" التي تنجم عن مُواحدة identification "أنا" الفرد مع ذاكرات الوقائع. فهذه المُواحدة الذاتية التي تقوم بها "الأنا" الخاضعة لشهوة الديمومة، خوفًا من التلاشي والاضمحلال، هي المسؤولة عن استنزاف حياتنا الداخلية وعن إحباط كافة مساعينا إلى المعرفة الحق للنفس وللعالم.

"الأنا"، إذن، عبارة عن مجرد حزمة من أنماط السلوك أو العادات التي يضعها كريشنامورتي في نطاق "المعلوم". و"العادات"، هاهنا، لا يعني بها كريشنامورتي الحركاتِ اليوميةَ البسيطةَ التي يتعذر من دونها استمرارُ الفنون والصنائع والعلاقات بين البشر – لا بل تتعذر الحياة الإنسانية نفسها، – بل يعني بها تلك المسالك "الاعتيادية" التي من شأنها دومًا إدامة ردود الفعل الدفاعية التي تحرضها أحداثٌ رضِّية مؤلمة في الماضي. إنها الجروح النفسية أو الندوب المتشكلة في النقاط التي تأذَّت فيها الأنا، بقايا الأفعال الناقصة التي – لسبب أو لآخر – لم نعشها في كلِّيتها، وبالتالي، لم نفهمها، الأحداث الرضِّية الذي لم يتم استيعاؤها أو هضمها.

العالم في حركة دائبة، في صيرورة أبدية، والأنا، بكلِّ ثوابتها ومكابداتها الناجمة عن رغبتها في ديمومة سكونية، إنما هي مقاوِمة لهذه الصيرورة. الأنا، بنظر كريشنامورتي، هي الماضي المحفوظ في ذاكرة ليست مجرد ذاكرة توثيقية أو وظيفية، بل ذاكرة – كونها ما تزال مشحونة بالانفعال الموجِع الناجم عن الفعل الرضِّي – موجِّهة لسلوكنا كلِّه، وتنحو إلى فَرْضِ مجرى محدَّد على حياتنا كلِّها وعلى مصيرنا برمَّته. هي ذاكرة، على الرغم من تجدد الحياة الدائم، ترمي بنا، مع صباح كلِّ يوم جديد، في أزقة مساعينا القديمة، وتفرض علينا غَصْبًا عَقْد ميثاق متجدد، لا مع الحياة، بل مع طموحات ماضينا العقيمة، التي تستطيع بذلك، من جراء "الالتزام" بهذا الميثاق غير المَوْعيِّ، أن تتظاهر بالحياة وتتلقى دفعًا جديدًا.

إن استمرارية الأنا ما هي إلا استمرارية هذه الذاكرة، وديمومة الأنا إنما هي ديمومة الماضي – ماضٍ ليس إلا جملة تشنجات وأوجاع وقروح ومقاومة متعنتة لكلِّ خروج عليه أو حياد عنه، لكلِّ صيرورة عفوية، أصيلة، مبدعة.

بذلك فإن صراع الأنا مع الحاضر يُختزَل إلى صراع الماضي مع الحاضر، كما يقول رونيه فويريه. وهذا الصراع يخلق المفهوم النفسي للماضي. أي أن مقاومة الصيرورة التي تكوَّنت لدى وقوع الأحداث الماضية تخلق فينا معنى الماضي. ومن جهة أخرى، فإن عدم إشباع الرغبات هو الذي يخلق فينا مفهومَ المستقبل – لا المستقبل الحقيقي الذي سوف يعاش فعلاً وحتمًا، بل مستقبل مفتعَل، ليس في حقيقته إلا ماضيًا، لأنه – عمليًّا – مكوَّن، في حاضر منقوص، من ذكريات هذا الماضي. ليس ثمة جديد حقيقي في هذا المستقبل المزيف لأنه ليس غير صورة معكوسة للماضي في مرآة الأنا. أما المستقبل الحقيقي، الفعلي، فلا يمكن اختباره إلا كحاضر حي.

عندما تتلاشى مركزية الأنا، مع جحافل التناقضات التي تولِّدها في النفس، يعي المرء أن ما كان يتوسَّم فيه ذاته، ما كان يراه من نفسه ويحسب أنه هو، لم يكن في حقيقة الأمر إلا صورة ممسوخة من ذاته الحق وقد أضفى عليها صفة الإطلاق – حزمة من الأفكار والانفعالات والرضوض التي تختزل روعة الحياة، بتجلياتها اللانهائية، إلى قانون يتوهم أنه سيجد بتطبيقه السعادة التي ينشد، وتحُول، بالتالي، دون تفتحه الحقيقي والكشف عن إمكاناته الأصيلة.


.
.

يتبع

قايـد الحربي
08-31-2006, 07:59 PM
النور : نور الفيصل
ــــــــــــــــــ
* * *

ومضةٌ مضيئة تأتين بها إلى هنا
و سأنتظر البقيّة بشغف .

شكراً لك .

نور الفيصل
08-31-2006, 08:00 PM
قيل في فلسفته

هو ذا رجلٌ واحدٌ من زماننا قد يصح القول فيه إنه سيد من سادة الحق."

- هنري ميلِّر.
.

يفحص كريشنامورتي، بموضوعية وبصيرة معهودين عنه، عن تعبيراتٍ عما يحلو لنا أن ندعوه ثقافتنا، تربيتنا، الدين، السياسة، والمنقول؛ وهو يلقي ضوءًا وافرًا على انفعالات أساسية من نحو الطموح والطمع والحسد، الرغبة في الأمان وشهوة السلطان – وجميع هذه يبيِّن [كريشنامورتي] أنها عوامل إفساد في المجتمع البشري. الثقافة الحقيقية، بحسب كريشنامورتي، ليست قضية تربية، ولا تعلُّم، ولا موهبة، ولا حتى عبقرية، بل هي ما يسمِّيه "الحركة اللازمنية لبلوغ السعادة، الله، الحقيقة". و"حين تتعرقل هذه الحركةُ من جراء السلطة، أو المنقول، أو الخوف، يحصل تحلُّل"، بصرف النظر عن مواهب أيِّ فرد أو عِرْق أو حضارة معيَّنة أو إنجازاته".

- د. راجاغوبال

نور الفيصل
08-31-2006, 08:06 PM
النور : نور الفيصل
ــــــــــــــــــ
* * *

ومضةٌ مضيئة تأتين بها إلى هنا
و سأنتظر البقيّة بشغف .

شكراً لك .


أهلا بك قايد الخير

أعشق التعرف لفكر الآخرين ، وأتمنى دائما أن أتعلم أكثر منهم
لذا لا بدّ أن نسبر غور ما تركوا لكي ندرك الطريقة التي يفكروا بها ويتعاملوا بها مع الأشياء
لسبب مباشر جدا
أن الحكمة ضالة المؤمن ، لذا نأخذ ما يفيدنا ونترك ما عداه ، ولا نصادر فكرهم فهم أحرار به
كما نحن أحرار بما نؤمن ونعتقد .

قايد كن بكل الخير
مساؤك كله فائدة بإذن الله


نـور

سلطان ربيع
08-31-2006, 09:34 PM
نور الفيصل

ودعوه من نوع خاص للتنزه في فكر هذا الرجل وتأملاته النقدية العميقة
فراءت وقراءت حتى أصبت بالذهول من قدرته وسيطرته على منهجيه فكرة
ومن أشد ما استوقفني قدرته على السير في نمط ضيق ومحدود لا يستطيع سوى المتمكن على التساير معه
ومواكبة أفقه
وهو التفريق بين أنا و الأنانية الفردية والشواهد الاجتماعية والتاريخية على عنجهية الإنسان
بالفعل هي :
تجربة جريئة، قوامها تأمل نقدي عميق في النفس، مصحوب بشكٍّ وانتباه يقظ يتملص من قبضة الذاكرات والتلقائية الآلية المترسبة فينا عبر الماضي كلِّه.

الشكر لا يكفي أمام ما تقدم
سعيد لرؤيتك
ومقدر لحرفك
ودمت بخير

نور الفيصل
09-06-2006, 10:36 AM
سلطان

الشكر لك أولا وأخيرا فأنت من إستثار حفيظة التنقيب والبحث لدي
ولأنني أعشق الإضاءات على فكر الأخرين فأنني أكون أسيرة للدهشة التي تأخذني وأنا أمارس إكتشافهم

سلطان شكرا لك
سعدت بهذا العبور الوعي

كن بكل الخير


نـور

نور الفيصل
09-06-2006, 10:51 AM
***
ثورية كريشنامورتي تتمثل في مقاربته الجديدة فعلاً للعمل على الذات وفي اكتشافه شيئًا ثوريًّا، خارقًا، لم ينتبه إلى أهميته، في غمرة اختبارهم للعالم الداخلي، غالبيةُ المعلِّمين والفلاسفة الروحيين: إذا كان العمل الداخلي يبدأ من "نقطة انطلاق" في حقل الوعي، فإن هذا المنطلَق، بوصفه، منطقيًّا، لا يخرج أصلاً عن نطاق الأنا (المعلوم)، لا بدَّ أن يحتجز كلَّ ما ينتج عنه ضمن هذا النطاق نفسه.
وما يحدث في هذه الحالة، من حيث لا نعي، هو نوع من إعادة ترتيب محتويات الوعي "الأنوي" في تشكيلة جديدة نتوهم أنها خبرة جديدة، في حين أنها إلباس للقديم ثوبًا جديدًا.
من هنا استحالة أن تختبر الأنا شيئًا غير ذاتها ومعطياتها، وضرورة عدم الانطلاق في سيرورة معرفة النفس من "مركز"، بل إعمال نوع من الانتباه الدائم الذي لا يوجد فيه "أحد" ينتبه، ويكون فيه الراصد والمرصود (أو المراقِب والمراقَب) مندمجين في سيرورة الرصد أو الانتباه – مثل المحبة تمامًا: في لحظة الشعور العميق بالمحبة الحقيقية لا يوجد محب ومحبوب، بل محبة فقط! ("الصديق آخرٌ هو أنت"، كما يقول أبو حيان التوحيدي.) إن ما يميز الخبرة الروحية الأصيلة، في الواقع، هو العجز الكامل عن مقارنتها بأيٍّ من الخبرات النفسية السابقة (الذاكرة، المعلوم)، مما يفسح المجال شاسعًا لاكتشاف آنيٍّ للمجهول في كلِّ لحظة.

نور الفيصل
09-14-2006, 02:38 PM
.... بهذه الخبرة يستوعب الإنسان، في لمحة كلمح البرق، بُطلان الأنا، وتتلاشى الأنا القديمة وقد صَعَقَها انكشافُ زيفها. وتبلغ طاقة الإنسان، التي كانت تُستهلَك في تغذية تناقضات ينسل بعضها بعضًا، درجةً مذهلة من التركيز، ويبحر الكيان الداخلي في محيط لا ساحل له، في استغراق مطمئن في الحياة الكلِّية يجعله غير قابل للاستغلال من أحد ويطفئ فيه الرغبة في استغلال غيره.
والفكر والعاطفة، اللذان كانت الأنا تحرص على الفصل بينهما، يندمجان في فهم عميق منعتق من إسار الزمن.
يستتب عندئذٍ تكاملٌ تام في قوى الكيان، يتجلى في محبة هي غاية ذاتها، هي أبدية ذاتها.
هذه المحبة – وهي، بحسب كريشنامورتي، فعل "التأمل" بعينه – تطلق مواهبنا الحقيقية من عقالها، لأنها لا تختار ولا تقيد؛ إنها أشبه ما تكون بشمس روحية تسطع في مجدها، تشرق بأشعتها الدافئة على الفراشة والذبابة معًا، وتشمل بضيائها المجرم والقديس – زهرة تنشر أريجها على السابلة جميعًا، بصرف النظر عن هويتهم.

***

نور الفيصل
09-21-2006, 12:19 PM
كريشنامورتي، حين يحيل "الأنا" إلى القضاء، وحين يرينا ببساطة كلَّ التناقضات التي تعيث فيها فسادًا ويجعلنا نعترف بفراغها من كل معنى أصيل، وحين يشدِّد على الحرية والمسؤولية الفرديتين، فإنه يقترب من ج.ب. سارتر، على الرغم من جميع الاختلافات العميقة بين الرجلين في القصد والمنهج.
غير أنه يتخطى في براعة، عبر التحول الداخلي الحاسم، المعضلة التي عجز مؤلِّف " الوجود والعدم " عن تخطيها.
بيد أن فكر كريشنامورتي ليس تخصصيًّا، وهو لا يندرج ضمن أيِّ منظور تاريخي. إنه يعارض ذوبان الفرد في الجماعة؛ ومع ذلك فهو يقر، مع كارل ماركس، بأن الأنا هي ثمرة الوسط الاجتماعي. لكن الأنا عنده ليست جوهر الإنسان – وهاهنا أساس الفرق بين المفكرَيْن.
يخاطب تعليم كريشنامورتي العالم بأسره، لأنه، على كونه من أصل هندي، ظل يشدد على أنه – نفسيًّا – لا ينتمي إلى أية قومية ولا إلى أية ثقافة بعينها.

سلطان ربيع
11-23-2006, 12:35 PM
http://www.mariamnour.com/images/osho1.jpg
11 ك1 / ديسمبر 1931
19 ك2 / يناير 1990.
يعتبر أوشو رجل القرن العشرين الذي اشتهر بفضل مساهمته الثورية في علم التحويل الباطني .


جواب أوشو عن السؤال:
إن تعاليمك تشبه كثيراً تعاليم"كريشنا مورتي". ما رأيك فيه؟



ليس لدي رأي حوله. أولاً أنا لا أعرفه، ثانياً عندما أقول شيئاً ما فإنك تقارنه مع كلام إنسان آخر- من أشبه ومن لا أشبه- عندها لن تستطيع أن تستمع إلي، وستضيّع وقتك في المقارنة.

من المستحيل أن تتشابه الكلمات بين شخصين، لأنه عندما أقول شخصان، فهما غير متشابهين. إن الورقتان من نفس الشجرة غير متشابهتان. إن أي حجرين غير متشابهان. يمكن أن يوجد تشابه في بعض الكلمات أو قد يكون سطحياً جداً في بعض الأشياء، ولكن أي شخص في العالم مميّز وفريد بحيث لا يمكن لأحد ما أن يشبهه تماماً.

إذا بدأت تقارن ما أقوله مع الجيتا " Gita" أو كريشنا أو ماهاڤيرا أو بوذا، فإنّ هذه المقارنة ستخلق نوعاً من الاضطراب، ولن تكون كلماتي قادرةً أن تصلك أنت. لن تكون هناك علاقة مباشرة بيننا.

لذلك أقول لك بأنّي لا أعرف، ولكن أقترح عليك أن تبتعد عن المقارنة وعن إيجاد أوجه الشبه والاختلاف. إن ذلك لن يفيد أحداً.

لكن هناك عادات شائعة تشكلت في حياتك، أحد هذه العادات هي المقارنة. إنّك غير قادر أن تقيّم شيئاً من دون مقارنة، لا تستطيع استيعاب التقييم بحد ذاته دون المقارنة، وعندما تبدأ المقارنة يبدأ الخطأ.

عندما تقارن بين الورد الجوري والليلك يبدأ الخطأ. الجوري جوري والليلك ليلك، والبنفسج بنفسج، الجوري ليس أفضل ولا البنفسج أقل شأناً، كلٌّ يعيش في تفرّده وتميّزه، لا أحد أفضل أو أقل ولا حتى يماثل أو لا يماثل. الإنسان يشبه نفسه ولا يشبه أحداً أخر. عندما تبدأ برؤية هذا التفرّد والتمايز بين الأشياء ستكون قادراً أن تتوقّف عن المقارنة.

ولكن المقارنة أصبحت عادة راسخة لديك، حتى أنك تقارن بين الأطفال الصّغار وتقول:"انظر، لقد سبقك الطفل الآخر، إنّك متأخر." أنت غير عادل مع هذا الطفل، لأن الطفل الآخر هو آخر، وهذا الطفل هو هذا الطفل. من المستحيل أن تقارن بينهما، إن وجود كل منهما مختلف عن الآخر، متميز وفريد في أصله، لا يوجد علاقة بين أيٍّ منهم

فإذاً هي عادة متأصّلة فيك. إن النظام التّعليمي يعلّمك المقارنة، بدون المقارنة لا تستطيع أن تقيّم. والنتيجة أنّك لا تفهم أحداً أو أي فكرة بشكل مباشر، وتضع العديد من أفكارك حاجزاً بينك وبين الآخر.

لذلك سأكتفي بهذا وأقول: لا أعرف مدى التشابه أو الاختلاف بيني وبين كريشنا، لم أقارن أبداً، وأطلب منك أيضاً ألاّ تقارن – سواء بيني وبين شخص آخر أو بين أي شخصين.

إنّ هذه المقارنة المستمرّة: ما أوجه التشابه بين بوذا وماهافيرا، بين عيسى ومحمَّد، بين كريشنا وراماكريشنا ؟

ما هي إلاّ مضيعة وقت! لا سؤال حول التشابه أو الاختلاف، لأن كل شخص هو ببساطة ذلك الشخص، ليس له علاقة بالآخر، ومن السخافة أيضاً أن تقول "اختلاف"، لأن عدم التشابه لا يعني الاختلاف.

كل شخص فريد ومتميّز بذاته، لا يوجد اثنان متشابهان في هذا الكون، ولا حتى حدث أو تجربة تتكرر. لا وجود للتكرار في الحياة، إن الحياة تستمر بخلق التجدّد والتّمايز دوماً.

لا داعي للمقارنة أو التقييم. عندما تستمع لـِ كريشنا، عليك أن تسمعه مباشرةً، وإذا كنت تسمعني عليك أن تسمعني مباشرةً. إذا كنت تستمع لزوجتك فاستمع لها مباشرةً، إذا كان بينكما شخص ثالث تبدأ المشاكل والصراعات. لا داعي لشخص ثالث أن يحلَّ بيننا، إن تواصلنا يجب أن يكون مباشراً.

عندما أقف أمام زهرة، وأتذكّر الزهور التي رأيتها البارحة، وأبدأ بالتفكير حول الشبه والاختلاف بين هذه الزهرة وتلك الزهور، لن أستطيع رؤية الزهرة، إن ظلال أزهار البارحة ستقف بيني وبين هذه الزهرة وتمنعني من رؤيتها مباشرةً.

إذا أردتُّ أن أرى هذه الزهرة التي أمامي، علي أن أنسى كل الزهور التي رأيتها في الماضي، إنّ وجودهم في هذه اللحظة غير عادل بالنسبة للزهرة. لا داعي أيضاً أن أحمل ذكرى هذه الزهرة إلى الغد، فإن للغد أزهاره، وإلاّ ستقف هذه الذكرى بيني وبين أزهار الغد.

لذلك لا تحضروا كريشنا مورتي إلى هنا. ولا تظن أنه بإمكانك أن تضعني بينك وبين أي شخص آخر تستمع له، إن ذلك لن يكون عادلاً لذاك الشخص.

انظر إلى الحياة مباشرة، ولا تدع أحداً يتوسّط بينك وبينها. لا أحد مثلك أو يختلف عنك، فكل إنسان هو نفسه، وأتمنى أن يحقق كل إنسان ذاته.

إنها قاعدة أساسية في الحياة أن يصبح كل شخص نفسه، ولكن حتى الآن لم تستطع أن تقبل ذلك، حتى الآن البشرية غير مستعدّة لتقبل كل فرد كما هوَ. إنّك تحاول أن تجعله كشخص آخر: عليه أن يصبح مثل بوذا أو غاندي. إن ذلك إهانة مباشرة لتميّز وفردية كل شخص.

عندما تقول لأحدهم :"كن مثل غاندي" تكون فد أهنته لأنّه لم يولد حتى يصبح غاندي. إن غاندي قد وُلدَ سلفاً، فما الفائدة من غاندي آخر؟ عندما تطلب ذلك من أحدهم فكأنك تقول بأنّه لا يملك الحق أن يصبح نفسه، لديه الحق فقط بأن يكون نسخة عن شخص آخر، أن يقلّد شخصاً آخر.

إنه بذلك يتحوّل إلى نسخة كربونية فقط، ولن يصبح كالأصل أبداً، إن ذلك إهانة للإنسان.

فإذاً أنا لا أقول أن يصبح كل شخص مثل باقي الأشخاص، أنا فقط أقول بأن يصبح نفسه، عندئذٍ يكون العالم جميلاً. حتى الآن قد جرّبنا فقط أن نرتب الأمور بحيث يصبح كل شخص مثل الآخرين. لذلك أنت تقارن وتفكر وتبحث. لا داعي لكل هذا، ولا داعي للتفكير بهذه الطريقة أبداً.

نور الفيصل
11-23-2006, 01:13 PM
اضافة رائعة بحق يا سلطان
أقسم قد أمتعتني بهذا الفكر المتميز الجميل

وكأنه يريد للدهشة أن تتولد فينا في كل لحظة وفي كل موقف ومع كل الأشياء
تلك هي مصيبتنا أننا فقدنا الدهشة بالأشياء والأحداث فأصبح كل شئ بلا نكهة .

نـور

هدى مصلح
12-21-2006, 07:47 PM
ماعساني أن أقول
متصفح يرتقي بنا إلى السماء

* نصيحة
لاتعبروا من هنا بدون التزود بفوائد كثيرة .

نور الفيصل
03-10-2007, 12:04 PM
ماعساني أن أقول
متصفح يرتقي بنا إلى السماء

* نصيحة
لاتعبروا من هنا بدون التزود بفوائد كثيرة .


هدى مصلح .. سيدة الضوء

شكرا بقدر الوعي المتشكل فيكِ
لا عدمتك


دمتِ بكل الخير

نـور