المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قِصصٌ تُروى .


عبدالعزيز رشيد
02-19-2009, 01:49 AM
هنا نختار القصص من عمق الذاكرة\الذائقة
... مع بعض الآراء إن أحببنا ذكرها

عبدالعزيز رشيد
02-19-2009, 01:50 AM
(الأمنية)


شعرت بأنني سأموت !
عمري ثلاثة وعشرون عاماً ، لم أكن مصدقة أبدا !
خصلات شعري تتجاوز نصف طولي ، وبشرتي كالأطفال ، وروحي كالمستحيل.
الدوار الذي شعرت به وسقطت بعده كان على فترات متباعدة يعودني ، ولكن لم يلحظ أحد . كانت في كل مرة دقائق معدودة أعود بعدها أنثى جامحة بكل مفاتن الحياة ووهجها الخلاب .

في تلك الليلة .. لم أستطع منع الهاجس أكثر !، كنت أشعر أن الحياة تُسحب مني رويداُ رويدا .. سخرت من نفسي وأنا أفكر في الحديث له عن ذلك فليس ثمة ما يمكن وصفه ..

أخذت مصحفي وبقيت أقرأ في طمأنينة لم أشعر بها قبلاً ، أو هكذا بدا الأمر ، الهدوء الذي غمرني حينها جعلني استرق بضع نظرات نحو ثلاث سنوات هي عمر طفلي المبتسم لدميته وهو يحضنها نائماً .
فكرت أن أصلي بحثاً عن طمأنينة أكثر، لكن نفس الهاجس داهمني من جديد وهذه المرة بدأت أشعر أنني أفقد الإحساس تدريجياً بحركة أطرافي ..
ازددت التصاقاً بمصحفي وإن لم أعد قادرة على التلاوة فقد امتلأت عيناي بدموع غزيرة ، وجبيني يتصبب عرقاً ! ، للحظات تمنيت أن أصل لحضن أمي ، تمنيت لو مت أن أموت في حضنها ، .. لكم أشعر بفقدانها ! ، يبدو أنني سأموت فعلاً ؟ لماذا أنا خائفة لهذه الدرجة !الموت حق ! وهو لم يعقد اتفاقاً مع أحد! ، بكيت في فزع غريب ، وجاهدت للسيطرة على نفسي . وعندما نجحت قليلاً في ذلك جاءت الطمأنينة ! طمأنينة من ذلك النوع المؤقت ، استغليتها بالمسارعة إلى سجادتي وبدأت أصلي .. حينها بدأت السير في فناء أبيض من كل الجوانب ، ليس له سماء ولا أرض ولا جوانب ولا جهات ! .. قابلت طفلة تشبه صوري التي التقطت لي قبل سبعة عشر عاماً .. ابتسمت لي وأنا أعبرها ونظراتي تتعلق بوجوه كثيرة بعضها ضاحك وأخرى باسمة ، كانت أمي الحزينة الوحيدة من بينهم ، فيما كان فؤادي الصغير يجر دميته الشقية المتمردة خلفه ، وعندما اعترضت طريقهما مرا من خلالي ..! تنبهت إلى أنني لم أعد قادرة حتى على التحية . انشطر السقف نصفين ورأيتني ارتفع تدريجياً باسمة . رأيته يتأمل صلاتي في سكون المحب . اعتادني كذلك . تمنيت أن يقترب لحظتها . في ارتفاعي سقط المصحف من بين أصابعي ورأيته يشع نوراً على السجادة ، حركت أصابعي فلم تستجب ، سجدت في داخلي وأغمضت عيني وأنا أمد روحي باتجاههما ، كانا يقتربان في ضحكهما ، يداعبه كالعادة ثم يتسابقان نحوي . الثلاث سنوات هي التي تصل أولاً ، أحتضنه كما لم أحضنه من قبل ، وأمد يدي الأخرى مطوقة أباه .

رأيت ضياء أبيضاً نورانياً يغشى كل شيء ويقترب مني . استدار وارتفع كأنه يريد أن ارتديه . كانت معه نسمات كنسائم مابعد مطر الصبـاح ، كم هي الحياة حلوة !، . . شعرت به يطرد الرعب من قلبي ، وسمعت أيضا كصوت الباب يقفل . لم ألحظ أنني كلما توغلت في ارتدائه كان الحبيبان يغيبان أكثر فأكثر . اختفيا تماما عندما أكملت ذلك وأنا أدعو ربي أن أعود مراراً لرؤيتهما ، كنت أشعر أنه سيعوضني لأنني مت وأنا مازلت برعما نديا ، هي الأمنية التي خطرت لي حينها .. ما من آلام فقد اختفت !

طوال الليالي التي عدت فيها لرؤيتهما كانا يبدوان حزينين أو فرحين إلى حد ما . لم يشعرا بي أبداً!! ، لكنني في آخر المرات وجدتهما يتأملان صوري و .. يبكيان ! وثمة أخرى كانت تقف صامتة وهي تعيد ترتيب أولويات الحضور !
بكيت كما لم أبك من قبل و تجرعت حينها كل الآلام من جديد ، وسألت ربي ألا أعود من الموت مرة أخرى .

عبدالعزيز رشيد
02-19-2009, 02:05 AM
(إغفاءة)



أمسكت بعصاي السحرية ووجهتها إلى كومة الكتب المكدسة على مكتبي منذ شهور .. وأزلت الغبار عن سطحها .. وحاولت أن أتهجى بعض عناوينها فاستعصت علي .. نزلت بعيني إلى

أرض المكتب .. فرأيت صرصورا صغيرا يحاول تسلق ساقي العارية .. هززت ساقي بقوة

فطار والتصق بالجدار .. أمسكت بقلمي وكتبت بعض أرقام كانت تلح على مخيلتي .. وحاولت ن أتذكر أصحابها فلم أستطع .. نظرت إلى ساعة الحائط فوجدتها تشير إلى الواحدة بعد منتصف

الليل .. اتجهت عيناي مرة أخرى إلى كومة الكتب .. فوجدتها تتطاير أمامي .. فركت عيني أحاول أن أستجمع بعض خوفي وكثيرا من جنوني .. كانت الكتب تتسابق للاصطدام بوجهي

تساقطت عناوينها عند قدمي .. وكونت كومة استمرت في الارتفاع حتى بلغت ركبتي ..

حاولت القيام فلم أستطع .. عدت إلى الجلوس على كرسي مرغمة .. ألقيت برأسي إلى الوراء ..فاصطدم بالباب الزجاجي لخزانة المكتب .. شعرت بخدر لذيذ .. أغمضت عيني

واستسلمت للنعاس .. رأيت نفسي أركض على أرض دخانية تحيط بها الغيوم من جهاتها الأربع .. نظرت إلى الأسفل .. فلم أعثر على قدمي .. كانت ركبتاي معلقة في الغيوم ..

أحسست بألم في مؤخرة رأسي .. وضعت يدي على موضع الألم .. ثم نظرت إليها ..

فوجدت لونا أحمر قانيا يغطي أطراف أصابعي .. ابتسمت لغبائي .. لم أكن في يوم من الأيام أكثر انتباها ويقظة مما أنا عليه اليوم .. عدت برأسي إلى الأمام .. فلم أجد الكتب

التي كانت تغطي ساقي .. نظرت إلى سطح المكتب فوجدتها مرتبة حسب الحروف الهجائية

قرأتها عنوانا عنوانا .. وتذكرت مؤلفيها كاتبا كاتبا .. نظرت إلى الورقة التي كتبت عليها أرقاما كانت لأناس كنت أعرفهم في يوم من الأيام .. فوجدت أمام كل رقم اسم صاحبه ..

أمسكت بعصاي السحرية مرة أخرى .. ولمست بها أطراف قدمي .. فدبت فيهما الحركة

من جديد ..توجهت إلى باب المكتب .. وقبل أن أخطو خطوة واحدة نظرت إلى كرسي الذي كنت أجلس عليه .. فوجدتني ملقية برأسي إلى الوراء ومغمضة عيني ويرتسم على وجهي

ظل ابتسامة شاحبة كما هي حالي عندما ينتابني التعب من الاستذكار .. ابتسمت مطمئنة ..

وخرجت وأغلقت الباب ورائي بهدوء ..

عائشه المعمري
02-19-2009, 02:37 AM
عبدالعزيز
أيها المثمر على أرض أبعاد
لا تأتي إلا بـ سُقيا رَحمة

/
،
هذا الموضوع وسيلة لـ التعرف على أسماء لامعه ف كِتابة القصة القصيرة
ووسلية أيضاً إلى الولوج في ذائقة العابرين من هُنا
وبلاشَك ، هُنا سَيكون مُتسع لـ المُتعة السردية التي تَمنحها القصة لـ قارئها .

عبدالعزيز رشيد
02-19-2009, 09:11 PM
عائشة المعمري
وجودك زاد المكان بهجة وأضاء ألوانه ليمنحه رونقه ,وهنا فرصة لنعرف مافي جعبتنا من قصص لهم
ممتنٌّ كثيرا لكلماتك
تحيّتي ,

عبدالعزيز رشيد
02-19-2009, 09:14 PM
(تجربة)


فَقَدَ الهروب الدائم من المدرسة الإعدادية مذاقه، وكأيّ شيء ممنوع يقع تحت طائل الإفراط، يضبطه التكرار بنغمة الرتابة والملل، وتدهسه العادة صانعةً من طريقه الوعر طريقاً معبداً مثل الذي هربتُ منه. كنتُ أقضي الليلة السابقة عليه مُمنياً نفسي بمتعٍ لا نهاية لها. سبع ساعات من التسكع والتدخين ومعاكسة بنات مدرسة المعلمين والجلوس في المقاهي والذهاب إلى السينما والمكتبة العامة. لم يعد الهروب يتم بيننا باتفاق. يذهب كل واحد إلى أحد الأماكن المعتادة، وبطريق الصدفة يدور حديث عابر عن إنجازات الساعات السابقة، وآمال الساعات اللاحقة. كنتُ من النوع الذي يفضِّل مكاناً أو مكانين على الأكثر، لكنني جرَّبتُ في البداية شهوة التنقُّل في الأماكن جميعاً، ثم بدت لي سريعاً شهوةً تافهةً تحتاج إلى سرعة بديهة لا أملكها، لكنني لا أحقدُ على عدم ملكيَّتي لها. كنتُ أحتاج دوماً إلى الرسوخ والثبات وانْفلات الساعات من حولي دون إحساس، والتشبُّع اللانهائي بهذا الانْفلات الزمني. ذهبتُ اليوم لإهدار الساعات السبع في الحديقة اليابانية. كان قرار إهدار وإحراق الوقت استراتيجية كل صباح، تلك الاستراتيجية التي كانت عيناي تطرف من عذوبة إمكان تحقيقها على الوجه الأكمل.
وكان الفشل يأتي عادة قبل ساعة أو ساعتين من زمنها الكليّ، ويأتي معه الألم من الإحساس العميق بالزمن وقيده. تظل الحديقة من السابعة حتى العاشرة مُحتفظةً بوحْشَةٍ هادئة مُنعزلة.
هناك ثلاث ساعات قبل أن يظهر أحد الأصدقاء. جلستُ أمام البحيرة المؤطرة بتماثيل بوذا المُتربعة الساكنة. وجوهها باسمة، وجذوعها راسخة. كان الصمتُ شديداً حين انعكس وجهها أمامي على صفحة الماء الراكد، وجه غريب مُهان. التفتُ إليها وأنا أكبتُ قشعريرة خوف من ظهورها المُفاجئ. كانت تقفُ فوق رأسي. ابتسمتْ لعنف لفتتي، فخرجتْ منها الابتسامة بائسة حزينة. تبدو دون الخمسين بقليل. بشرتها مُلوَّحة بشمس قوية. بسرعة ودون تمهيد- وكأنها لا تملك أمرها- مالتْ على أذني وسألتني إن كنت أريد أم لا؟ أبعدتُ رأسي عن فمها وأنا أحاول أن أبدو أقل انزعاجاً، أن أبدو مُتماسكاً بسنواتي الخامسة عشرة. مَن؟ أنتِ؟ نعم. خرجتْ منها كلمة الإيجاب مدعومة بهزة تأكيد حادة من رأسها ووضع يدها على صدرها. تأثَّرتُ بقولها ودعمها المُتزامن، وأحسستُ بشفقةٍ جارفة تتجاوَزَها بعماءٍ مُسْكِر، وتتطلع لكائنات من مثل نوعها. لا. ومع هذا خرج مني الرفضُ مُتعالياً، وارتسم على وجهي نفور ساخر. اعتذرتْ وهي تسحب الرفضَ لتُضاعِف به وجودها. قلتُ في نفسي: ربما القبول لا يدعم وجودها. كانت ابتسامات تماثيل بوذا على وجه البحيرة.

عائشه المعمري
02-19-2009, 09:39 PM
(صدر الريح)

دفنت رأسها في صدره ، احتضنت قفصه الصدري بقوة ، قالت : صدرك مملكتي ، لكنه حكم شجرة الدر ، غدا سيغادرني ، وأبقى وحيدة كأنني الليل .. ابتسم الرجل داخله : " أنت تلميذة في مدرسة الحب .. دعيني أعطيك دروسا أكثر " .. أغمضت عينيها ، وغابت في حلم العناق ، وحين أفاقت سألته عن مدى صلاحية الحب في صدره .. أجابها: " سيحميك من الريح".

في الصباح ،وبينما كل شيء يتلون بالذهب .. تناولت حقيبتها المدرسية ، وضمتها إلى صدرها بقوة .. كالرجل الآخر تماما : " أحب أيها النهار ، ذكرى حبيبي معي ، ولون كلماته تحفظه رموشي " ..

تناولت القلم وكتبت قصائد شوق ملونة ، رسمت صدرا يمنع موج الريح ، وامتطت غيمة بيضاء إلى حلم بعيد كشفافية الروح ، كالملكة المتوجة ، داعب خصلات شعرها بأصابع جميلة كساها عطر الحناء جمالا لا يضاهى.


الليلة الأخرى تتكدس في حقول الزمان والمكان ،والأمكنة تتحول إلى ضفاف شواطئها جزرا من الأقمار لا تنتهي ، وأمل تخضب كفيها من رائحة الانتظار أسفارا من صدر رجل العشق ، ولا تنتهي إلا في مواسم جفاف العاطفة .

جبينك سجادة بوح وغرام.

… وهي صامته تعبث بالحلم يفجره نهار الغد.

" أحب وجهك غائما وحزينا"

… يخفق رمشاها بدمعة حانية تستجدي آخر الحلم.

صدري بوابات مفتوحة اذ يضيق بك الرعب من الحياة.

… من وراء زجاج الدموع تتكسر نظراتها إلى صدره .. انه البوابة الوحيدة والبعيدة.

لماذا الصمت يا حبيبتي ، وبيننا بحور العشق تنتظر منا الإبحار ؟!!

… تلتقي نظرات الخوف ، ونظرة الرغبة ، عيناها تغسلان صمت اللسان وضجيج الجسد.

ما آخر الحلم؟!

حلم آخر.

وأين يقظة الواقع ؟!

واقعنا جميل ، بحر لا نهاية له ، لماذا نغتاله بحسابات الغد؟! ويومنا مدفون في وحشة الجفاف ، والأيام معركة الخاسر؟!!



الطريق إلى الجامعة تكسوه خفقات مطر البارحة ، أمل تصارع خطوات الأمس القريب ، ومن خلال السحب ترنو إلى قمر الليالي التي سهرتها تحلم بالحصان الأبيض .. الطريق يتلوى تحت عجلات الباص . والجامعة تبدو كأنها آخر العالم..

"السنوات تعبر جبينك يا أمل أسرع من عمرك" .. يا صديقتي من يأمن العاصفة ؟! .. " كانت نجمة تسكن القلب" .. وفي مرماها تتباعد السنون .. " اختاري قدرا ودعي النزيف يستمر ، قد يتوقف يوما ، قد تولد الحياة من رحم الموت " .

.. يا صديقتي ، الريح تهب بقوة على صدري ، والحمل يتلاشى ، وأنا …



هي .. والسكون .. وروزنامة هيبة الليل تتأرجح تحت ثقل العواصف .. أمل تختزل مساحات الظلمة ، وتجر أنفاسها إلى المدن البعيدة ، في الغرفة شمعة وكتاب جامعي أوراقه تسبح في فاء آخر .. الريح تعبث بلسان الشمعة ، وأوراق الكتاب .. تمتد يد مرهقة إلى الهاتف .. الستارة تخفق مع هياج الطقس..

الشمعة تكاد الريح تقتلها .

لكنه الليل يا حبيب العمر!!

الريح تأكلني ، فأين صدرك أقهر به محطمة الجبال ؟

الليل يزداد سوادا ، والريح تمزق الستارة ، والشمعة الوحيدة تأكلها الحلكة ، وقف الليل يدثر وجها كأنه بقايا أسطورة قديمة ، وسماعة هاتف تسقط ، وشيء يتهاوى كأنه آخر ما تبقى من أمل.

عبدالعزيز رشيد
02-21-2009, 01:08 PM
(انشطار على مربعات متناقضة )



أظن أنني قضيت وقتا طويلا هنا. يبدو ذلك من حثالة البن المترسبة في فنجان القهوة التركية. من فتات الشوكولاتة المنثور على مفرش الطاولة ,كآثار طبق (تراميسو) لم يعد موجودا. أضع مرفقاي على الطاولة, أفتح يداي كما كتاب, فأسند رأسي على راحتيهما. و أتأمل بيادق رصّت على رقعة شطرنج. لا أذكر أني جلبت رقعة الشطرنج معي. و لا أعلم لم جلبتها أصلا, رغم أني أجلس وحيدا في المقهى.

اقترب مني أحدهم, فطلب أن يلاعبني. أذنت له. و لأنه وحيد مثلي في المقهى, لم أشعر أنني بحاجة لأية أسئلة عن هويته, كي ألاعبه.
ترك لي شرف النقلة الأولى. و بعد تأمّل, حرّكت البيدق خطوتين إلى الأمام.

- يبدو أنك تخفي شيئا- قالها خصمي و هو يقدم البيادق ليفتح الطريق للفيلة- لقد استغرقت نقلتك و قتا غير مبرر من التأمل, و عندما رفعت البيدق فوق مربعات الرقعة, كانت يدك ترتجف..أنت كالمتردد, تخفي شيئا.

قفزت بالحصان فوق بيادقي:
- حسنا, أنا أخفي أسلوبي في اللعبة.

ضحك خصمي:
- تعلم جيدا أني أقصد أبعد من هذا. الشطرنج ليست مجرد مبارزة بين عقلين, إنها –أيضا- حوار بين عقلين. و أنت لم تلاعبني لكي تغلبني و حسب, بل لكي تحادثني. لكنك تخشى مداخل الحوار, كما تخشى النقلة الأولى.

قدّمت بيدقا آخر, كنت بحاجة إلى تحريك الوزير, فلقد بدأت فيلته تهدّدني:
- أعطني سببا واحدا يدفعني لمحادثتك بأشيائي الخاصة؟

- أنا عابر, لا أستطيع فضح سرّك. أنا غريب, لم تقدّمني إلى محيطك. إن أخبرتني بأمرك, فلن أجد من يعنيه أمرك, حتى أكشفك أمامه.
قالها و هو ينطح بفيله أحد البيادق, فيطرده خارج الرقعة.

تقدمت بقلعتي, كانت حركة عبثية. تسمح لبيادقه بالاقتراب من حدودي:
- حسنا , سأخبرك. الصحة ليست بحال جيدة. أذكر أني غادرت المستشفى (التخصصي) في العصر, بعد فحوصات لم تظهر أي تحسّن في الحالة. و لكني من الذهول, لم أعلم كيف انتهى بي الأمر هنا, ألاعبك مباراة شطرنج, في هذه الساعة المتأخرة من الليل.

حرّك وزيره بشكل قطري, فحاصر حصاني:
- لم لا تسمّي الأشياء بأسمائها؟!..(الصحة ليست بحال جيدة)...فلتقل أنك مريض.

- حسنا, أنا مريض.
قلتها, و تركته يغتال حصاني بالوزير. لكني أطبقت على قلعته بالفيل.

- و ما الذي تخافه في المرض؟...أهو الألم؟!

عندها دفعت بالوزير إلى الأمام مهددا الملك..كانت نقلة انتحارية, و لكني أردت أن أقول له:
- كش ملك!... ماذا تريد مني؟! ألا يكفي أني أخبرتك أني مريض؟!

- على رسلك..أخبرني ولا تخف. فأنا عابر, لا أستطيع فضح سرّك. أنا غريبٌ, لم تقدّمه إلى محيطك.

كان بإمكانه أن يغتال وزيري, إلا أنه اكتفى بإبعاد الملك.
حينها, قتلت أحد بيادقه بالوزير, حفظا لماء الوجه, و استعادةً لإيقاع اللعبة الذي كان هادئا:
- سأجاريك...أنا لا أشعر بالألم الآن, فكيف أخشاه؟..أقصد أنني و إن كان يتنظرني الألم مع تطوّر المرض, فإني لن أستوعبه حتى أتذوقه؟ و لن يخفيني كثيرا ما أسمعه من المرضى حولي. أليس الألم تجربة ذاتية؟

قفز بحصانه إلى الأمام, و هو يقول:
- ألا تخشى جحيم جهنم؟!
- طبعا!
- كيف تخشاها و أنت لم تجرّبها؟!
- حسنا..لأنني..لأنني أحرقت إصبعي بكبريتٍ حينما كنت صغيرا !
قلتها, و أنا أشاهده يباغت بحصانه الوزير الذي عفا عنه من قبل.

أكملنا اللعبة صامتين بعضا من الوقت. ثم بادرت بنبرةٍ لا تخلو من ترددّ:
- أتصدق أني لم أخبر أهلي بعد؟ لم أخبر أصدقائي أو العمل؟ كنت حريصا على إخفاء زياراتي إلى المستشفى. و التخفيف من شأن الأعراض التي أشكوها.

لقد وصل خصمي بأحد البيادق إلى نهاية الرقعة, فحدّثني و هو يستبدله بالقلعة المطرودة:
- حسنا سأتفهّم ذلك..فليس ثمة عودة بعد إخبارهم. سيُلزمك محيطك بتقبّل الحقيقة. المرض بالنسبة لك الآن حقيقة ذاتية, يسهل عليك إنكارها, يسهل عليك القول أن زياراتك إلى المستشفى, الفحوصات التي تجريها, و الطبيب الذي تقابله, كل ذلك كابوس ستستفيق منه بأية لحظة, كابوسٌ لا يعيشه أحد سواك. أما إن أخبرت أهلك فلا ثمة عودة, سيصبح المرض حقيقة موضوعية, يذكّرك به الجميع و يسألك عنه الجميع.

اعترضت بالفيل قلعته الجديدة.. و وضعته في مربعٍ يهددّ منه القلعة و الحصان:
- لا ليس ذلك يا عزيزي...أولا, لا أريد إخبارهم لأني لا زلت في مرحلة الفحوصات, و لن أجعلهم يقلقون و لمّا أتأكد بعد. و ثانيا, أخشى أن يدفعهم القلق على صحتي عن حرماني من الحياة, حرماني من مواصلة الإنجاز. أقصد أني أخطط مع زوجتي للإنجاب, و لا أريد أن يدفعها الخوف من مرضي, أو الخوف من المستقبل على حرماني من الإنجاب. كما أنني أنتظر ترقيةً إلى مرتبة مدير قريبا, و لا أريد أن يحرمني علمهم بالمرض من ترقيتي.

و بالوزير التف خصمي على الفيل الذي كان يهدد قلعته:
- أنت لا تخشى التوقف عن الإنجاز..لا تخشى الحرمان من الحياة..أنت تخشى الموت!

نقلت القلعة بشكل أفقي حتى أحاصر بها ملكه في النقلة التالية:
-لحظة...و من أنت حتى تحدثني بالموت و الحياة؟!

- أنا العابر الذي لا يستطيع فضح سرّك. أنا الغريب الذي لم تقدّمه إلى محيطك. إن لم تصارحني بما لديك, فليس من السهل عليك أن تجد غيري لتصارحه.

- حسنا..سأصارحك.. و لكن أقنعني أولا كيف عرفت أنني أخشى الموت من كلامي.

اقترب بحصانه كي يحاصر قلعتي إن تجرأت على الملك:
- أنت تقاوم الموت بالإنجاز..أنت تبحث عن الخلود بأية طريقة.. بابنٍ يحمل اسمك, أو حتى بلقب (المدير السابق).. و لكن صدّقني,إن نقلك المرض إلى العالم الآخر, لن يبهجك أن يظل ذكرك من بعدك, فالحسابات هناك مختلفة..إنها مختلفة!

حينها قفزت بالبيدق إلى حدود رقعة الشطرنج, و استبدلت به الوزير:
- أتعلم أني أستطيع إنهاء هذه المبارة معك بأية لحظة؟ أن أغلبك و أتخلّص من حديثك المزعج في أية لحظة؟

- أنا و أنت نعجز عن إنهاء هذه المباراة. بل أنا و أنت لا نريد لهذه المباراة أن تنتهي. الزمن و الظروف هي الكفيلة بحسمها. في كل مرة أضيق على ملكك أترك لك مخرجا, و أنت فعلت المثل. أتذكر حينما اقترب الوزير من...

و ضع النادل الفاتورة مقاطعا, و قال بشيءٍ من النزق:
- متأسفين... و لكن ينبغي أن نغلق المحل.

نظرت إلى خصمي و على وجهي نصف ابتسامة:
- فلنلتقي هنا غدا.

لا أعلم لم افترض النادل أني كنت أحدّثه حتى يقول:
- المحل تحت أمرك كل يوم.

أخرجت من محفظتي خمسين ريالا فوضعتها بسرعة كي لا يدفع خصمي الفاتورة. بدأت بطي رقعة الشطرنج كي أعيدها معي. تعجبت حينما رأيت النادل يطويها معي. بل أكثر من هذا, لقد سحبها من بين يدي قائلا:
- دعها..إنها ليست مهمّتك!

صعدت عيناي بدهشة إلى وجه النادل. و عندما ارتدّت إلى ما بين يديه, كانت رقعة الشطرنج قد ذابت في مفرش الطاولة المرقّط بمربعات حمراء و بيضاء!
لم ينتظر النادل حتى أستوعب ما حدث, وبد أ بقلب الكراسي على الطاولة, و من بينها كرسي خصمي الذي لا أذكر أنه غادره. لقد غاب كطبق (التراميسو) الذي لم يعد موجودا, و لكن هذه المرة دون أثرٍ يتركه على الطاولة!

خرجت من مقهى (الركن الإيطالي) و بدأت أتلفت بحثا عن سيارتي, لقد أزاحتها زحمة شارع التحلية إلى موقفٍ بعيد. سرت إليها و رأسي مطأطأٌ إلى الأرض, أسترجع على مربعات الرصيف , حركات البيادق على رقعة شطرنج لم تعد موجودة, مثل طبق (تراميسو) بلا آثار على الطاولة, أو وجه غريبٍ قد أصبح في ذاكرتي مثل لغز فسيفسائي.
لم أتأمل وجه خصمي كلّه,و كل ما تبقى منه أحجار فسيفساء تنتظر أن تنتظم في صورة. حينما أقبل نظرت إلى عينيه فقط ,و حينما حدّثني نظرت إلى فمه فقط, مرة نظرت إلى جبهته, و مرة تأملت أنفه. و بمجرد أن جلست في مقعد السيارة, اكتملت في ذهني صورة عنه. صورة تذكرني بالوجه الذي أراه في مرآة السيارة!

عائشه المعمري
02-21-2009, 04:33 PM
الصغير يذهب إلى المخيم


كنت أسكن مع سبعة أخوة كلهم ذكور شديدو المراس , وأب
لا يحب زوجته ربما لأنها أنجبت له زمن الاشتباك ثمانية أطفال
و كـانــت عــمــتـنا وزوجـهـا و أولادهـا الخمسة يسكنون معنا
أيضا , وجدنا العجوز الذي كان إذا ما عثر على خمسة قروش
على الطاولة أو في جيب أحد السراويل الكثيرة المعلقة
مضى دون تردد واشترى جريدة ولم يكن يعرف القراءة وهكذا
كان مضطرا للاعتراف دائما بما اقترف كي يقرأ أحدنا على مسمعيه الثقيلين أخر الأخبار.



في ذلك الزمن - دعني أولاً أقول لك إنه لم يكن زمن اشتباك
بالمعنى الذي يخيّل إليك , كلا لم تكن ثمة حرب حقيقة . لم تكن ثمة أي حرب على الإطلاق .
كل ما في الأمر أننا كنا ثمانية عشر شخصا في بيت واحد من جميع الأجيال التي يمكن أن تتوفر في وقت واحد . لم يكن أي واحد منا قد نجح بعد في الحصول على عمل , وكان
الجوع - الذي تسمع عنه – همنا اليومي .
ذلك الذي أسميه زمن الاشتباك .. أنت تعلم لا فرق على الإطلاق
كنا نقاتل من أجل الأكل , ثم نتقاتل لنوزعه فيما بيننا , ثم نتقاتل بعد ذلك . في أي لحظة سكون يخرج جدي جريدته المطوية باعتناء من بين ملابسه ناظرا إلى الجميع بعينيه المتحفزتين , معنى ذلك أن خمسة قروش قد سرقت من جيب ما – إذا كان هناك خمسة قروش – أو من مكان ما , وأن شجارا سيقع .

ويظل جدي متمسكا بالجريدة وهو يتصدى للأصوات بسكون الشيخ الذي عاش وقتا كافيا للاستماع إلى كل أنواع الضجيج والشجار دون أن يرى فيها ما يستحق الجواب أو الاهتمام ..وحين تهدأ الأصوات يميل أقرب الصبيان إليه (ذلك أنه لم يكن بالبنات )ويدفع له الصحيفة وهو يمسك بطرفها , كي لا تخطف .

وكنت مع عصام في العاشرة - كان أضخم مني قليلا كما هو الآن
وكان يعد نفسه زعيم أخوته أبناء عمتي – كما كنت أعد نفسي زعيم أخوتي .. وبعد محاولات عديدة استطاع والدي وزوج عمتي أن يجد لنا مهنة يومية : نحمل السلة الكبيرة معاً ونسير ساعة وربع حتى نصل إلى سوق الخضار بعد العصر بقليل .

في ذلك أنت لا تعرف كيف يكون سوق الخضار : تكون الدكاكين قد بدأت بإغلاق أبوابها وأخر الشاحنات التي تعبأ بما تبقى تستعد لمغادرة ذلك الشارع المزحوم وكانت مهمتنا – وعصام و أنا – هينة وصعبة في آن واحد فقد كان يتعين علينا أن نجد ما نعبئ

به سلتنا : أمام الدكاكين … وراء السيارات … وفوق المفارش أيضا
إذا كان المعني في قيلولة أو داخل حانوته .
أقول لك إنه كان زمن الاشتباك : أنت لا تعرف كيف يمر المقاتل
بين طلقتين طوال نهاره . كان عصام يندفع كالسهم ليخطف
رأس ملفوف ممزق أو حزمة بصل ، وربما تفاحة من بين عجلات الشاحنة وهي تتأهب للتحرك , وكنت بدوري أتصدى للشياطين – أي بقية الأطفال – و إذا حاولوا تناول برتقالة شاهدتها في الوحل قبلهم وكنا نعمل طوال العصر : نتشاجر عصام و أنا من جهة مع بقية الأطفال أو أصحاب الدكاكين أو السائقين أو رجال الشرطة أحيانا , ثم أتشاجر مع عصام فيما تبقى مع الوقت .


كان ذلك زمن الاشتباك أقول لك ذلك هذا لأنك لا تعرف : إن
العالم وقتئذ يقف على رأسه , لا أحد يطالبه بالفضيلة ..
سيبدو مضحكا من يفعل أن تعيش كيفما كان وبأي وسيلة
هو انتصار مرموق للفضيلة.حسنا حين يموت المرء تموت الفضيلة أيضا أليس كذلك ؟
إذا دعنا نتفق بأنه في زمن الاشتباك يكون مهمتك أن تحقق الفضيلة الأولى , أي تحتفظ بنفسك حيا َ وفيما عدا ذلك يأتي ثانيا . ولأنك في اشتباك مستمر فأنه لا يوجد ثانيا
أنت دائما لا تنتهي من أولاَ.

وكان يتعين علينا أن نحمل السلة معا حين تمتلئ ونمضي إلى البيت : ذلك كان طعامنا جميعا لليوم التالي .. بالطبع كنا أنا و عصام متفقين على أن نأكل أجود ما في السلة على الطريق ذلك اتفاق لم نناقشه قط , ولم نعلن عنه قط ولكنه كان يحدث وحده ذلك أننا كنا معا في زمن الاشتباك .

وكان الشتاء شديد القسوة ذلك العام الملعون وكنا نحمل سلة ثقيلة حقا (هذا شيء لا أنساه , كأنك وقعت أثناء المعركة في خندق فإذا به يحوي سريرا ) وكنت أكل تفاحة , فقد خرجنا من بوابة السوق وسرنا في الشارع الرئيس .

قطعنا ما يقرب من مسير عشر دقائق بين الناس والسيارات والحافلات وواجهات الدكاكين دون أن نتبادل كلمة (لأن السلة كانت ثقيلة حقا وكنا نحن الاثنين منصرفين تماما إلى الأكل ) وفجأة….

لا هذا شيء لا يوصف لا يمكن وصفه : كأنك على نصل سكين من عدوك و أنت دون سلاح وإذا بك في اللحظة ذاتها تجلس في حضن أمك .

دعني أقول لك ما حدث : كنا نحمل السلة كما قلت لك وكان شرطي يقف في منتصف الطريق , وكان الشارع مبتلاً , وكنا تقريبا دون أحذية وربما كنت أنظر إلى حذاء الشرطي الثقيل والسميك حين شهدتها فجأة هناك كان طرفها تحت حذائه أي كنت بعيدا نحو ستة امتار ولكنني عرفت , ربما من لونها , وأنها أكثر من ليرة واحدة .

نحن في مثل هذه الحالات لا نفكر يتحدثون عن الغريزة
طيب أنا لا أعرف ما إذا كان لون الأوراق المالية شيئا له علاقة بالغريزة .. له علاقة بتلك القوة الوحشية , المجرمة , القادرة على الخنق في لحظة , الموجودة في أعماق كلّ منا .
ولكن ما أعرفه هو أن المرء في زمن الاشتباك لا ينبغي له أن يفكر حين يرى ورقة مالية تحت حذاء الشرطي وهو يحمل سلة من الخضار الفاسد على بعد ستة أمتار.
وهذا ما فعلته : ألقيت ببقايا التفاحة وتركت السلة في اللحظة ذاتها .

ولاشك في أن عصام يتمايل فجأة تحت ثقل السلة التي تركت في يده ولكن كان شاهدها بعدي بلحظة واحدة .
إلا أنني بالطبع كنت قد اندفعت تحت وطأة تلك القوة المجهولة التي تجبر وحيد القرن على هجوم أعمى , غايته أخر الأرض , ونطحت ساقي الشرطي بكتفي فتراجع مذعورا وكان توازني أنا الأخر قد اختل ولكنني لم أقع على الأرض وفي تلك اللحظة التي يحسب فيها الأغبياء أن لاشيء يمكن له أن يحدث – شاهدتها كانت خمس ليرات لم أشاهدها فحسب بل التقطتها واستكملت سقوطي ‘لا أنني وقفت بأسرع مما سقطت وبدأت أركض بأسرع مما وقفت .

ومضى العالم بأجمعه يركض ورائي : صفارة الشرطي , وصوت حذائه يقرع بلاط الشارع ورائي تماما . صراخ عصام ,أجراس الحافلات , نداء الناس … هل كانوا ورائي ؟ ليس بوسعك أن تقول وليس بوسعك أن تقول لقد عدوت متأكدا حتى صميمي أن لا احد في كل الكواكب السيارة يستطيع أن يمسكني . ويعقل طفل عشر السنوات سلكت طريقا أخر لأنني حسبت أن عصام سيدل الشرطي على طريقي لست أدري لم ألتفت كنت أركض ولا أذكر أنني تعبت كنت جنديا هرب من ميدان حرب أحبر على خوضها وليس أمامه إلا أن يظل يعدو والعالم وراء كعبي حذائه

وصلت البيت بعد الغروب , وحين فتح لي الباب شهدت ما كنت أشعر في أعماقي أننهي سأشهده : كان السبعة عشر مخلوقا في البيت ينتظرونني وقد درسوني بسرعة ولكن بدقة , حين وقفت في حلق الباب أبادلهم النظر : كفي مطبقة على خمس الليرات , وقدماي ثابتتان في الأرض .كان عصام يقف بين أمه وأبيه , وكان غاضبا لاشك في أن شجارا

قد وقع بين العائلتين قبل مقدمي.واستنجدت بجدي الذي كان جالسا في الركن ملتحفا بعباءته البنية النظيف ينظر إلي بإعجاب : رجلا كان حكيما , رجلا حقيقا يعرف كيف ينبغي له أن ينظر إلى الدنيا . وكان كل ما يريده من خمس الليرات جريدة كبيرة هذه المرة .

وانتظرت الشجار بفارغ الصبر كان عصام بالطبع قد كذب : وقال لهم إنه هو الذي وجد خمس الليرات وإنني أخذتها بالقوة ليس ذلك فقط بل أجبرته على حمل السلة الثقيلة وحده طوال المسافة المنهكة : ألم أقل لك إنه زمن الاشتباك ؟ لم يكن أي واحد منا متهما بمناقشة عصام , بصدقه أو بكذبه فذلك شيء

لا يمكن أن يكون له أي قيمة .. لم يكذب عصام فقط بل ارتضى أن يذل نفسه ويعلن ربما للمرة الأولى أنني ضربته وأنني أقوى منه ولكن ما قيمة ذلك كله أمام المسألة الحقيقة الأولى .

كان أبوه يفكر بشيء أخر تماما : كان مستعد لقبول نصف المبلغ
وكان أبي يريد النصف الأخر لأنني لو نجحت في الاحتفاظ بالمبلغ كله لصار من حقي وحدي , أما إذا تخليت عن هذا الحق فسأفقد كل شيء وستقاسمون المبلغ .

ولكنهم لم يكونوا يعرفون حقا معنى أن يكون الطفل ممسكا بخمس الليرات في جيبه زمن الاشتباك وقد قلت لهم جميعا بلهجة حملت أول مرة في حياتي طابع التهديد بترك البيت وإلى الأبد : إن خمس الليرات لي وحدي .

و أنت تعرف لاشك : جن جنونهم وضاع رابط الدم فوقفوا جميعا ضدي لقد أنذروني أولا ولكنني كنت مستعدا لما هو أكثر من ذلك ثم بدؤوا يضربونني وكان بوسعي بالطبع أن أدافع ن نفسي ولكن لأنني أردت أن احتفظ بكفي داخل جيبي مطبقة على خمس الليرات فقد كان من العسير حقا أن أتجنب الضربات المحكمة وقد تفرج جدي على المعركة باستثارة بادئ الأمر ثم لما بدأت المعركة تفقد طرافتها قام فوقف أمامهم وبذلك يسر لي أن التصق به اقترح تسوية قال إن الكبار لاحق لهم بالمبلغ ولكن من واجبي أن أخذ كل أطفال البيت ذات يوم صحو إلى حيث نصرف جميعا مبلغ خمس الليرات كما نشاء .

عندما تقدمت إلى الأمام معتزما الرفض إلا أنني في اللحظة ذاتها شهدت في عينيه ما امسكني لم أفهم بالضبط آنذاك ما كان في عينيه ولكنني شعرت فقط بأنه يكذب وأنه كان يرجوني أن أصمت.



أنت تعرف أن طفل عش السنوات – زمن الاشتباك – لا يستطيع أن يفهم الأمور (إذا كان ثمة حاجة لفهمها ) كما يستطيع عجوز مثل جدي .

ولكن هذا ما حصل كان يريد جريدته ربما كل يوم لمدة أسبوع وكان همه أن يرضيني بأي ثمن .

وهكذا اتفقنا ذلل المساء ولكنني كنت اعرف أن مهمتي لم تنته فعلي أن أحمي الليرات الخمس كل لحظات الليل والنهار

ثم علي أ أماطل بقية الأطفال وعلي أيضا أن أواجه محاولات إقناع وتغرير لن تكف عنها أمي قالت لي ذلك السماء إن الليرات الخمس تشتري رطلين من اللحم , أو قميصا جديدا لي ,أو دواء حين تقتضي الحاجة أو كتابا إذا ما فكروا بإرسالي إلى مدرسة مجانية في الصيف القادم .. ولكن ما نفع الكلام ؟ كأنها كانت تطلب مني وأنا أعبر بين طلقتين أن أنظف حذائي .

ولم أكن أعرف بالضبط ماذا كنت أنوي أن أفعل . ولكنني طوال الأسبوع الذي جاء بعد ذلك نجحت في مماطلة الأطفال , بآلاف من الكذبات التي يعرفون أنها كذلك ولكنهم لم يقولوا إطلاقا إنها أكاذيب . لم تكن الفضيلة هنا أنت تعلم كانت مسألة أخرى تدور حول الفضيلة الوحيدة آنذاك : خمس الليرات .



ولكن جدي كان يفخم الأمور وكان يريد جريدته ثمنا معادلا لدوره في القصة وحين مضى الأسبوع بدأ يتململ, لقد شعر (من المؤكد أنه شعر , ذلك لأن رجلا عجوزاً مثله لا يمكن أن تفوته تلك الحقيقة )

أنني لن اشتري له الجريدة وانه فقد فرصته ولكنه لم يكن يمتلك أي وسيلة لاستردادها .
وحين مرت عشرة أيام أعتقد الجميع إنني صرفت الليرات الخمس وأن يدي في جيبي تقبض على فراغ على خديعة ولكن جدي كان يعرف أن الليرات الخمس لاتزال في جيبي

وفي الواقع قام ذات ليلة بمحاولة لسحبه من جيبي وأنا مستغرق في النوم (كنت أنام بملابس ) إلا أنني صحوت فتراجع إلى فراشه ونام دونما كلمة .


قلت لك أنه زمن الاشتباك كان جدي حزينا ولم يحصل على جريدة لأنني نكثت بوعدي لم يتفق عليه كان يفهم زمن الاشتباك , لذلك لم يلمني طوال السنتين اللتين عاشهما بعد ذلك على ما فعلته وقد نسي عصام القصة أيضا كان في أعماقه – كطفل صعب المراس – يفهم تماما ما حدث واصلنا رحلاتنا اليومية إلى سوق الخضار , كنا نتشاجر أقل من أي وقت مضى ونتحادث قليلا يبدو أن شيء ما – جدارا مجهولا ارتفع فجأة بينه – هو الذي مازال في الاشتباك – وأنا الذي تنفست – ليس يدري كم – هواء أخر .

وأذكر أنني احتفظت بخمس الليرات في جيبي طوال خمسة أسابيع كنت أعد خروجا لائقا بها في زمن الاشتباك , غلا أن كل شيء حيت يقترب من التنفيذ كان يبدو كأنه جسر للعودة إلى زمن الاشتباك وليس للخروج منه .


كيف تستطيع أن تفهم ذلك ؟ كان بقاء الليرات الخمس معي شيئا يفوق استعمالها كانت تبدو في جيبي وكأنها مفتاح أمتلكه في راحتي وأستطيع في أي لحظة أن أفتح باب الخروج وأمضي ولكن حين أقترب من القفل كنت أشم وراء الباب زمن اشتباك أخر …
ابعد مدى وكأنه عودة إلى بداية الطريق من جديد.

وما بقي ليس مهما : ذات ليوم مضيت مع عصام إلى السوق وقد اندفعت لأخطف حزمة من السلق كانت أمام عجلات شاحنة تتحرك ببطء وفي اللحظة الأخيرة زلقت وسقطت تحت الشاحنة .

كان حظي جديا فلم تمر العجلات فوق ساقي إنما توقفت بعد ملامستها على أي حال صحوت من إغمائي في المستشفى وكان اول ما فعلته كما لاشك تخمن أن تفقدت خمس الليرات إلا أنها لم تكن هناك .

أعتقد أن عصام هو الذي أخذها حين حملوه معي في السيارة إلى المستشفى ولكنه لم يقل وأنا لم اسأل كنا نتبادل النظر فقط ونفهم لا لم أكن غاضبا لأنه كان ملهيا و أنا انزف بأخذ الليرات الخمس كنت حزينا لأني فقدتها .

وأنت لن تفهم , ذلك كان في زمن الاشتباك

__________________________ تمت

هذه القصة التي لا يمكنني نِسيانه البته ،
فـ كاتبها إستطاع أن يحول الواقع المرير الذي يُعانيه الشعب بعد النكبة ،
إلى مادة هَزلية إستطاع أن يَصوغ تفاصيلاً دون إهمال ما يَود إيصاله من مُعاناة الشَعب ..

عبدالعزيز رشيد
02-21-2009, 05:46 PM
(دخلتُ بلادكم بأسمالي*)


لسببٍ ما ماتت أمي, وأرخى بيتـُنا الكبير كفاً من الغربة..
لسبب ٍما امرأة أخرى جرّتْ عقِب الباب خلفها مثل ذيل. طفل ما لن يسمع صوتي. لسبب أكثر غرابة تحرّر اسمي من الكنية؛ أصبح مجرد اسم عادي لا ماء فيه ولا شجر.. لا طفل يأوي بعد المدرسة!.
لسببٍ ما غارتْ غرفةٌ ملونة من بيتي. اختفى الجرفُ و صواتٌ يومي كأنه الشقشقة!. حتى أن السعفات التي أهش بها أحلامه.. هي أيضا ذوَتْ كأنها الشمس!. غارقةٌ في ما يشبهُ الغيم, خفيف وبارد, لا يكاد يحملني؛ كلما تداعى عضوٌ أسندني هواء. مالذي أنا فيه؟!.
التراتيل من جهاتها, الشمس تزاحم الريب.. و تعثرُ بحقيبة طفل. صبية يحاصرون كرةً بأحلامهم, برْقٌ.. حفّارةٌ تجد لها مكاناً في الفوضى, و عرَقٌ أسمعهُ جيدا يحدِّثُ جبيناً أسمراً!. ياردتان فقط ما تفصل بين العابر وسيارة نزقة. أرى جيدا مصابيح نيون معلقة في الهواء. معلقة كالصدى!.

مالذي أنا فيه؟!
لسبب ما قصرت أصابعي, عن الطاولة انزاح مرفقي, وسقط رأسي على هذه الورقة التي أحاكي.. ليست أصابعي ولا هذا الرأس الذي أبيضّت حواسه ما يكتب الآن.. ما يمكنكم أن تسمونها روح هي ذي أنا, ناعمة في ما يسمى الملكوت. أطفال يكشطون الحروف بأقدامهم, ويتشقلبون في فضاء الغيب الكبير!..

لسبب ما أتذكر نافذة بيتنا القديم الذي أرخى يباباً, و أنه لم يكن جسدي ذاك الذي يقلبه المخاض ذات اليمين وذات الوهن!. الصراخُ شاهرٌ وحاد, في غرفة يسترها الله بالملائكة.. لسبب ما لا أتذكر من تلك النافذة إلا أضلاعها الأربعة وأضلاعي التي أوجعتني حدّ الطلقْ, وحد صياح الصبيّ خارجا من دمائي!.. و خارجة أنا من عذريتي.. داخلة في محراب من التفكّر منذها!..

لسبب ما فقدَ والدي حواسه ورجليه وقدرته على الظلم والحقد والنقمة و المكائد. و لسبب ما احتفظ له القدر بماء عينيه, لتنـزفان كأنهما مطر يعقم الأرض!. لسبب ما تفرق شمل الأشياء, الأسماء, الجهات, الحدس, الانتظار, المناسبة, الفتن, النجوى, الأرصفة, ليلة العيد, ليلة العيد, ليلة العيد وأختي!.
أختيْ لسبب ما فرّت من بين غفواتي, فرّت كأنها الدخان, و أنا القارورة.. كأنني الغمدُ وأنها النصل, كأنني الوردة وأنها الطفل!. لسبب ما خطفت ملابسَها من صدري, ورائحتها, وصوتها, وشقاوتنا, وخرجت مع أول جدار!. الأمر الحزين جدا أنها مكثت في مكان كأنه المكان, وكأنه الضباب, هناك مع طفلي؛ في برزخٍ لا يحيون فيه ولا يموتون, أشباح/ أشباح كأنهم الحلم !لسبب ما عاث فيّ دماء وقيح وجلد محترق يتبدل, ورائحة.
لسبب ما الوجوه تضمر, و تحترق الصور!



*:لعلي بن أبي طالب _رضي الله عنه_

وَرْد عسيري
02-22-2009, 08:28 AM
وُجُودُ كُل هَذا الثَراءِ يحتَاجُ لأكثَر مِن وُجودٍ يحتَوِيه وَ يتأملهُ بِـ وعيٍ كَامِل !
عَبد العَزِيز ، لَم تَقع عَيْنِي قراءةً إِلا عَلى الأُولَى .. وَ أكملتُها وَ كَم استَصعبتُ الخُروجَ مِنها !

حَتماً سأعُود كَثِيراً .. شًكراً لكُمَا .. شُكراً كَأن لَم تكُن عَظِيمَةلأحدٍ قَبلاً إِلا لكُم
http://ayah227.googlepages.com/wh_73073504.gif

سعد الميموني
02-24-2009, 06:39 AM
فكرة رائعة يا عبدالعزيز


بصدق أسعدني الموضوع


لك جزيل الشكر

عبدالعزيز رشيد
02-27-2009, 02:40 AM
ورد عسيري
نثرتي كلّ الورْد بقدومك وأثريت المكان بعطر كلامك
.. الأولى كانت آخر قصّة قرأتها وأردتها الأولى هنا (":
تحيّتي ,



سعد بن علي
ووجودك أسعدني كثيرا
ممتنٌّ لوجودك

عائشه المعمري
03-04-2009, 12:35 PM
وجدتها بلا عنوان في أولى صفحات مجموعتة القصصية :
( العابرون فوق شظاياهم )

___________________________________

تقع شناص على الحدود بين سلطنة عمان ودولة الإمارات العربية المتحدة،
وتطلُّ على خليج عمان وبحرٍ من الأحلام سليلة الأمنيات المسافرة.
لم يشأ التاريخ لشناص أن تكون هنا، فقد اختار لها مكاناً بين الجرح والفرح؛
يظللها غمام الحب والرغبات. ولكن ما حدث في الأيام الأولى من الزمان غيّر
المسار كثيراً...
روى لنا الثقات أن سيدنا التاريخ في بداية الحياة، كان يطير حاملاً كل المدن
والقرى في صرّة كبيرة على ظهره، ليعبر الأرض سهولاً وقفاراً وجبالاً وبحاراً...
وكلما مر على مكان أعجبه، ابتسم ثم هبط ليفتح الصرّة فأنزل مدينة أو قرية
هناك، فصارت المدن والقرى كما هي عليه اليوم.
وحُكي أن شناص سقطت سهواً من صرة التاريخ عند مروره هنا، وهوت على
هذه الأرض، فأوجعتْ وتوجعتْ..

وحيث أنه لا يلتفت إلى الوراء، ولا يصحّح ما ارتكب من أخطاء،
فإن سيدنا التاريخ تناسى شناص، وتناسته هي أيضاً...

عبدالله العويمر
03-06-2009, 07:49 PM
مليء ُ ُ بالجَمال ِ والفِكْر ِ ياعبدُالعَزيز


تَجْعَلُنَا نتّفق ُ ُ علَيْك


دُمْتَ وارِفَا ً

عائشه المعمري
03-08-2009, 11:54 AM
البارع

حرك قدما باتجاه البحر ،حرك أخرى باتجاه اليابسة ، طفول تختبئ هناك بين أشجار النارجيل ترصد حركة أقدامك ، أمسك خنجرك جيدا وسر مع خطوات رفيقك على
البساط الممدود فالأرض مثقلة بخريفها .

استدر للوراء ، خذ دورتك كاملة ،انتهى المشوار الأول ، انتهت المساحة المهيأة أمامك ،
ارفع قدمك وأستدر ، تعلم أن تضع إضاءة المكان على حد خنجرك ، طفول ربما ، هناك ،
تراقبك ، تنسل من بين أحراج الموز خضراء مدهشة ، يبتل خمارها برذاذ الخريف ، كم
مرة بحد خنجرك أخرجت الماء من بطن نارجيلة ؟! حين شربت طفول ماء (المشلي) أردت أن تخرج لها البياض الطري ، لكنها انسربت منك داخل أشجار الموز الكثيفة ،
أعجبتك اللعبة ، دخلت معها ، لم تكن كما أردت ، حينها غضبت ، وتحركت خنجرك في
سيقان وأوراق الموز تمزق بشراهة الأجساد الطرية .

أزل الذكرى عن كهوفك الآن أيها البارع ، فالموسيقى لا تزال تسكب عنفوان الصور على مخيلة الواقفين حواليك ، والطبل (المرواس) يحمل حدة صوته ، جلية ، متتابعة ، كأنه
يموسق موج البحر ، والطبل (المهجر)عميق كعذابك ، تختال في أذنيك أصوات الناي ،
حزين هذا الناي كحزنك ، شجي وعذب ، كطفول ، لكن طفول ، نزق الأرض ، وشموخ
الجبل ، لا تقبض الخنجر لترقص .. واصل استداراتك فرفيقك يهز خنجره :
"حبل المحبة الهي رب لا تقطع
والشمل تجمع لمن له قلب هجاعي"

عين على الخنجر ،وعين على أطراف المكان ، وطفول ، دفقة خضبت جراحك حنا لا يزول

أيها البارع خفف الذكرى حتى لا تثقلك : حتى لا تقع والخنجر في يدك ، طفول كانت رائحة الوقت والمسافات نحو البعيد ، مضت كغزال بري صوب الجبل ، طفول لا تشرب موج البحر
، لا تسكن إلا ظل الصخر ، ، غادرتك طفول منذ زمن ،وما زلت تقبض على الزمن في حد
خنجرك ، خنجرك مرهف ، عنيد ، متوحش ، جسور .. كخطى طفول ، لكنك لست
كخنجرك:

"لله محبي صغير السن يتواضع
يعطف ويرحم من اللي كبده لساعي"

ارجع خطوك مرة أخرى ، الزمن ليس في صالحك ، جرد ذاتك من ذاتك ، ستكتشف أن
الأرض انسحبت من تحتك ، أن البحر غادر مياهه ، أن الدم لم يرض بشرايينه .. وحدك
تختال مرحا بين الجموع وفي قلبك لهيب الموسيقى وإيقاع الطبل .

"اللي مجاري دموعه جرح المجمع
واللي فؤاده قطار دماعي"

ابتعد عن رفيقك كي لا تقعا معا فالبساط يمتد بامتداد خطوكما ، ليس أبعد من ذلك
ارفع قدما ، انزل قدما ، حرك قدما ، سكن قدما ..

ارفع ، انزل ، حرك ، سكن

احرق اليابسة من تحت أقدامك لعل المكان يخضر بسهوب خريفك ، أشجار العمر
تساقطت ، ضاعت في صحراء الربع الخالي وخريفك ممتد إلى ما لا نهاية ، ممتد لكنه لا
يصل ، فقط يحلم بطفول .

الوجوه تتكاثر من حولك ، تتزاحم لرؤيتك ، وأنت فاقد للرؤية ، الضباب من حلوك يلتئم
على عينيك ، لا رؤية إلا وجه طفول ،يبعث الفضاء ضحكة طفول ، تنشق الرؤيا أمام
عينيك ، تسرع في خطوك ، تبتل قبضتك على الخنجر ، طفول ترسل ضحكاتها في اتجاه
البحر وأنت لا ترى إلا اليابسة ، ولا صوت إلا الناي يتكسر دمعا ، ومن حولك لا يرون دمك
أيها البارع ، كانت طفول ثورتك ، لكن لست ثائرا ،غادرتك أيها البارع ، منذ زمن رحلت
طفول إلى الجبل ، تذرع أنفاس الوحوش وحدها ، كغابة ضيعت أشجارها ، طفول ، هذه
الثائرة في زمن اللاثورة لم تعد كما كانت ، أنت المبلل بالضباب وموج البحر ، تعود إليك
الأصوات ثانية :

"حبل المحبة الهي رب لا تقطع
والشمل تجمع لمن له قلب هجاعي"

حرك قدما ، تقهقر إلى الوراء بظهرك ،وخذ دورتك كاملة ، عد إلى الوراء الذي كنت فيه،
لا زالت الرقصة مستمرة .

حرك قدما ، شاطئ مرباط بعيد عنك ، والسفن يعبث بها الموج في انتظار الإبحار ، حرك
قدما ، استدر للوراء ، ربما السفن تغادر مراسيها، لا تثق بالموج ، فقط احفظ توازنك ، يدك
اليمنى تتمسك بالخنجر أكثر فأكثر ، تصبح كأن اللحم جزء من مقبض النصل ، ورفيقك
معك، الموسيقى ثائرة والكون ضباب أبيض .. أبيض .. كالبياض الطري الذي جعل طفول
تنسل إلى أحراش الموز ، لكن لا مكان أمامك تنسل إليه .

ارفع قدمك ، بادل بينها والأخرى ، لا تبطئ ، أسرع فالنواخذة شدوا صواريهم ، حرك قدما
، لا تبطئ ، فطفول لن تأت ، تذكر أيها العاشق أن البحر أسطورة المغامرين ،الجبل ليس كما هو الجبل ، أخرج الأسطورة من جيبك ،تقول الأسطورة انه في رأس الحمراء تم العثور على 220مدفنا لرجال متوفين في وضع القرفصاء وباتجاه البحر ، أياديهم تمسك
على الأصداف الفارغة ، إلا واحد يمسك لؤلؤة في يده ،تمنيت لو تكون أنت ،لكن طفول
،لؤلؤتك غابت ،غامت سماؤها ، أمطرت جبال سمحان والقمم المجاورة له .


حرك قدما ، هذه الغزالة البرية لا تسمع نغمات برعتك ،لا تلتف إلى حركات قدميك.. ربما .. ربما تفكر فقط في نصل خنجرك .

حرك البارع قدما في اتجاه البحر ..

الأخرى باتجاه اليابسة ..

تهاوى صوت الإيقاع ،وصوت الناي ..

كان البارع يقبض على مقبض الخنجر بيده اليمنى ، وعلى النصل بيده اليسرى، لم يكن المطر وحده يسقط على البساط ، كان هناك شلال أحمر من يدي البارع ، وحدقتيه.

عبدالعزيز رشيد
03-16-2009, 08:43 PM
(*Zytglogge)




"الوقت العجوز؛ ذاك الذي يدير العجلة، الأطول و الأعظم من الجميع! مصنعه مكانٌ سريّ، عملهُ صامت، و يداهُ خرساوتان"

(تشارلز ديكنز)


-1-

ينتصبُ برجُ الساعة (التزيت كلوكه) في الجهة الغربية من مدينة بيرن القديمة، و لو توقفتَ لأربعِ دقائق قبل تمامِ الساعة، لرأيتَ قافلةً غريبةً من ثلاثة دببةٍ معدنية تنبعتُ من أحدِ شبابيك الساعة الشرقية؛ أولُها يمشي على أربعة أقدام، و ثانيها على قدمين، و الثالث يمتطي جواداً مُطهماً. فوقَ الشرفة، يجلسُ مهرجٌ أحمرُ الملابس، هو في سحنتهِ أقرب إلى الشيطان، ما إن يرى قافلة الدببة حتى يبدأ بسحبِ يديه الإثنتين ليقرعَ الأجراس المعلقةَ فوقَه، و كأنهُ يقول: "أنا حارسُ الساعة، أنا حارسُ الوقت، أنتم تموتون و أنا أبقى، أنتم تبكون و أنا أضحك."

في الجانب الغربي من الساعة، تدور العقاربُ الذهبية الحاملة نقوشَ الشمس و القمر و النجمة و الضوء، بينما تتوزع ملامح أربعة أشخاصٍ على اللوحة المرسومة كخلفيةٍ للساعة: كورونوس (إله الوقت، و النسخة البدائية من الشيطان)، آدم و حواء و هما يخصفان من ورقِ الجنة و يداريان بهِ سؤاتيهما، و ملاكٌ مصفح بالحديد، تلوحُ فوق رأسه هالة ضوئية، يمسكُ بالسيفِ عامودياً في وجه آدم و حواء، ليسدَّ بهِ طريقهما إلى الجنة، و ليعلنَ بذلك عن بدايةِ الزمن الأرضي، بعد ارتكاب الخطيئة الأولى حسب القصة المسيحية.

هل هذه هي بداية الوقت كما حلا للفنان فيكتور سوربيك تسمية لوحته المنقوشة على وجه الساعة؟ و هل للوقت بداية أو نهاية؟ و هل له وجود ماديّ أصلاً؟ أسئلة لا حصر لها بدأت مع بداية الانسان، و لن تنتهي إلا بنهايته، و ليس أقلها أهمية ذاك السؤال الذي خطر في بال الشاب البيرني "ألبرت إينشتاين" و هو يراقب "التسيت كلوكه" أثناء ابتعاده عنها في الترام:

هل الوقت عالميّ أم فردي؟ مطلقٌ أم نسبي؟

"لو حملتَ ساعةً معك في الترام، و انطلقتَ مبتعداً عن "التسيت كلوكه" بسرعة الضوء، فإنّ عقارب "التسيت كلوكه" ستتوقف، بينما سيستمر دقّاقُ ساعة معصمِكَ بالدوران."

هكذا كانت إجابة إينشتاين في ذلك العصر الذي كانت فيه الأسئلة تتوالى محاولةً استبدال الإطلاق بالنسبية، و العالمية بالفردية. بدل عالمية أخلاق كانط، هناك سوبرمان نيتشه! بدلَ الأديان ذات الأجوبة المطلقة و المتسامية هناك الأسئلة الوجودية التي لا تتحقق إلا باتخاذ الفرد لخيارِه الحرّ.

"الفردُ يحملُ وقتَه معه، الفردُ هو مرجعية كل شئ، لا حاجةَ إلى المطلق، لقد استُبدِل اللهُ بالفرد!"

عُذراً سيد إينشتاين! لا يمكنني أن أعرضَ إجاباتِك هذه دون أن أحكيَ قصةً دارت أحداثها في جوف الساعة التي أوحت لك بنظريتك النسبية، في جوف "التسيت كلوكه"، جوف البرج..

في ذلك الوقت الذي كان فيه برجُ الساعةِ يُستخدمُ لحبسِ المومسات اللاتي يتعرضن لرجال الدين و يحاولنَ إغوائهم..



-2-

في تلك الليلة الباردة و المظلمة التي بدأت فيها قصتنا، كانت قطرات المطر تتساقط من أعالي السماء بشكل محموم و متتابع. انتفض أسقف كاتدرائية بيرن من فراشه، و انطلق مسرعاً نحو الشرفة المفتوحة في أعالي البرج الذي يحوي منامته. عند الشرفة، أخذ الأسقف العجوز يتطلع في الظلمة الحالكة، و يستنشق هواء الليل البارد، و هو يحاول أن يبعدَ عن ذهنهِ تفاصيل حلمه الرطب الذي أيقظه مفزوعاً من نومه. كان جرس برج الساعة يقرع في الخارج مؤذناً عن حلول منتصف الليل.

لم تفلح محاولات الأسقف العجوز في التخلص من تفاصيل حلمِهِ الذي أمتعه و أفزعه في نفس الوقت، إذ سرعان ما رمى الأسقف نفسَه في ثنايا هذه التفاصيل و هو يحاول استرجاع ملامح وجه المرأة التي رآها عاريةً وسطَ حلمِه.

في الحلم؛ كانت السماء صافيةً و فسيحة، و كانت الشمس مشرقةً و مريحة، بينما ارتمت التلال الخضراء في الأفق لتعطي الحلم خلفيةً بانورامية هائلة. على ضفة النهر، كانت امرأة الحُلم تجلس على صخرةٍ ملساء و قد تعرّت تماماً. كان جسمها العاري يشع بياضاً و نقاءاً، و كان ضوء الشمس ينعكس على جلدها البضّ ليحيطَ بها و يجللها بالنور، و كأنها ملاك أو قديسة. أكثر ما أزعج الأسقف عندما أفاق من نومه هو التأثير الذي تركته امرأة الحلم في جسدِه، و الذي انتصب شاهدا على الشهوة المُحرمة التي ما زالت تتقد في جسد الأسقف العجوز.

لمح الأسقف حركةً في الباحة الممتدة أمام الكنيسة، و عندما اشرأب بعنقه، تبينَ خيال امرأةٍ مرتجفة، تختبئ خلف تمثال الرجل الضخم ذي القرنين، و الذي يحمل ما بين يديه ألواح الوصايا العشر. كان التمثال يعود إلى موسى، و كان يشير فيه بإصبعه إلى الوصية الثانية: "أن لا تصنعَ صورةً أو شَبَهاً لما هو في الجِنان فوق."

أحسّ الأسقفُ بالغضب لهذا الانتهاك الصارخ لحرمة الكنيسة، و لكنه حينما استرجعَ حلمه، استدرك سريعاً، و هو يتذكر صورة المرأة القديسة المغتسلة وسط النهر. ربما كانت هناك علاقة ما بين المرأتين! ربما أرسلت إليه السماء هذه المرأة، في هذه الساعة، و تحت جنحِ الظلمةِ و البرد، كي يصلَ إلى امرأة حلمه: القديسة، الملاك، المِثال، المُطلق!

لبس الأسقفُ نعليه، ثم أسرع بهبوط السلالم الدائرية التي تربط منامته بمدخل الكاتدرائية. دفع الأسقفُ باب الكاتدرائية الضخم ليُحدثَ صريرا مزعجاً وسطَ الليل. أطلَّ برأسه، و أخذ يطوحُ بالمصباح يمينا و شمالاً. ابتلع الأسقفُ ريقه في ترقبٍ حينما تبينَ المرأة البغي و هي تختبئ بملابسها الرثّة خلف التمثال. أشارَ الأسقفُ بمصباحه ناحية المرأة البغي؛ لم تتحرك. حينما أشارَ مرة ثانية، تشجعت على الاقتراب ناحيته خطوةً واحدة. تراجع الأسقفُ إلى الداخل تاركا الباب الضخم مُشرعاً خلفه. ما هي إلا دقائق، حتى تبعته المرأة البغي إلى منامتِه في الأعلى، ليُغلقَ خلفها الباب الخشبي الموحش.

عندما أفرغَ الأسقفُ شهوته، لم يعد يرى في المرأة المحشورة تحته لا القديسة و لا الملاك و لا المِثال و لا المُطلَق! كان يرى امرأةً فاجرةً تلوثُ فراشَه، و كانَ يُحسّ بثقلِ الخطيئة الأولى يرزحُ فوقَ كتفيه. ماذا سيحدث لو أنّ هذه المرأة الفاجرة باحت لأحدٍ عن ما حصل لها في منامته؟ ماذا سيحدث لو أنها أشارت إليه من أحد مقاعد الكاتدرائية و هي تهمسُ: أنا أعرفُ هذا الرجل!

أمسكَ الأسقفُ بيدِ المرأة البغي و قادها إلى الأسفل؛ إلى غرفة الاعتراف. هناك، تركَها و سطَ الظلمة، و أسرع ليوقظَ قارع الأجراس من نومه الثقيل. حدّق قارعُ الأجراسِ باستغرابٍ في وجهِ من أيقظه، و عندما تبيّن ملامحَ الأسقف، انتصبَ واقفاً على قدميه. تمتمَ الأسقف:

"هناكَ امرأة خاطئة في غرفة الاعتراف، خذها إلى حارس الساعة، و أخبره أن الساعة لا تحتاج إلى صيانة هذا الأسبوع."



-3-

لبرج الساعة تاريخٌ طويل و مفزع. قبل بناء الساعة، كانَ البرجُ سجناً معروفاً يُستخدمُ لحبسِ المومسات و البغايا. بعدَ بناء الساعة، أُلغي هذا التقليد في العلن، و لكنه استمرّ في السرِ لحبس هؤلاء الذين لا يُراد لأحدٍ أن يسمعَ بهم أو يدريَ بموتِهم. كان الأمر نتاج معاهدةٍ ما بين أسقف كاتدرائية بيرن و الحارس القائم على تعهدِ ميكانيزم الساعة.

سلّمَ قارعُ الأجراسِ المرأة البغي لحارس الساعة، و عندما أدى إليه رسالة الأسقف فهمَ حارسُ الساعةِ مغزاها مباشرة: سبعةُ أيامٍ متواصلة وسط البرج تعني موتاً محققاً بسببِ العطشِ أو الجوعِ أو الجنون. قادَ حارسُ الساعة المرأة البغي إلى جوف البرج، و عندما أغلقَ وراءها البابَ الحديديّ، حدثَ أمرٌ غريبٌ للغاية: توقفَ الوقتُ بالنسبةِ إلى هِيلجا!

لم تقاومْ هِيلجا الأسقفَ و لا قارع الأجراسِ و لا حارس الساعة. كانت ترتمي بقدرها بين أيديهم و كأنها ورقةٌ استسلمت لعبثِ الريح. كانت بردانة و حافية و جائعة عندما بدأت قطرات المطر بالتساقط. عندما قاربت الساعة منتصف الليل لم يعد بإمكانها أن تصبر أكثر. ليلة مثل هذه لن تجلب لها مزيداً من الزبائن. كان عليها أن تخرج تحت المطر و الظلام و البرد علّها تجدُ رجلاً يرمي في رَحْمِها قطعاً نقدية. كان رجل الدين الحليق الذي نام معها قبل أسبوع هو أول من خطر في بالها و هي تمشي وسط الليل. عندما وصلت إلى الكاتدرائية، لم تجد رجل الدين الوسيم. بدلاً منه، وجدت ذاك الأسقف المُرعب الذي قادها إلى منامته في الأعلى، و الذي يبدو أنه كان سبباً رئيسياً في حبسها الآن في هذا المكان الموحش.

جلستْ هيلجا وسطَ الظلام، و أخذت تتذكرُ أحداث طفولتها في فرايبوج. كانت الطفلة العاشرة في بيت عائلتها الفقير و البائس. كانت تحمل دلوَ الحليب و تمشي به بينَ البيوت عندما شاهدتها العجوز التي تملأ المساحيق وجهها، و التي علّقت على صدرها النافر. لم يمر على هذه الحادثة سوى أسبوعين حتى توقفت العجوز ذات المساحيق أمام دارهم و بصحبتها رجلٌ حليق الرأس، مفتول العضلات. تحدث الرجل الحليق إلى والدها، و بعد يومين، رجعَ و العجوزَ بصحبته، ليأخذاها من بيت والديها إلى بيرن المظلمة الباردة، بيرن المرعبة، المكان الذي مارست في البغاء أولَ مرة. هل كان يجدرُ بها أن تقاوم؟ لقد هربت ثلاث مرأت، و لكن الجوع في كل مرةٍ كان يُرجعها إلى مهنتها الرخيصة التي تحشرُ في فمها ما يكفي كي يبقيها حيةً حتى الزبون التالي.

جلستْ هِيلجا وسطَ الظلام، و حاولت أن تتبينَ أي شئ حولها دون فائدة. كانت الظلمة أسمكُ من الباب الحديدي نفسِه. حاولت أن تصغي إلى ما حولها، لم تسمع سوى صوت أنفاسها اللاهثة. كم مضى على هِيلجا و هي جالسة وسط البرج؟ لا أدري! لقد توقف الوقتُ بالنسبة لهيلجا، توقفَ الوقتُ و هي في جوفِ البرج، جوفِ الساعة..

و لكن عطشها أخذ يزدادُ تدريجياً. جوعها أخذ يزدادُ تدريجياً. جنونها أخذ يزدادُ تدريجياً. ذكرياتها أخذت تتلاشى تدريجياً. لا بدَّ أن هذه مؤشرات على الوقت. لا بدَّ أن أسيرة الساعة تخضع لمنطقِ الساعة نفسِه.

انتفضت هِيلجا فجأةً من موضعها و أخذت تضربُ برأسها على الحائط. لا بدّ أن هناك طريقة لإيقاف الوقت! لقد تلاشت الذكريات تماماً من رأسها، لم يبقَ سوى لون أصفرٌ يختلط في داخل رأسها مع الظلمة التي تحيط بها من كل مكان.

لا بدّ أن هناك طريقة لإيقاف الوقت! أخذت هِيلجا تتلمسُ طريقها بخطى مجنونة، حتى عثرت قدمها بعتبةٍ تشبه الدَرَج. صعدت هِيلجا عَتبات الدرجِ على يديها و قدميها و كأنها هرةٌ مذعورة. عندما وصلت إلى الأعلى، اصطدمت بما يشبه الباب الخشبي. عندما دفعت هِيلجا الباب حدثت معجزة: لقد نسيَ حارسُ الساعة إقفال باب العليّة الموصل لميكانيزم الساعة!

غمرَ الضوء المتسللُ من أعلى عيني هِيلجا حتى كاد أن يعميَهما و يملأهما بالظلام. عندما فتحت هِيلجا عينيها ثانية، وجدت نفسَها أمام حجرة مستطيلة تتكونُ من ستة عواميد خشبية، تمتلئ من قاعدتها حتى أعلاها بالتروس و الحبال و الجنازير.

هذا هوَ! هذا هوَ طريق الخلاص! هذا هوَ طريقُ الموت!

رمتْ هِيلجا نفسها وسط الحجرة الخشبية، و سرعانَ ما سَحلتْ الجنازيرُ عظامها، و انغرزت التروسُ في أحشائِها الرخوة.

عندَها، عندما انطفأ النورُ في عيني هيلجا؛ توقفتْ عقاربُ "التسيت كلوكه" عن الدروان لأولِ مرة. أخذَ أهلُ بيرن يتطلعون في وجه الساعةِ باستغراب، و أخذوا يتحدثون فيما بينهم عن هذا الحدث غير العادي. الخبازُ تأخرَ في موعدِ إقفالِ مخبزه. الفتاةُ انصرفتْ دونَ أن تحظى برؤية عشيقها. الأسقفُ رقدَ في منامتهِ متأخراً. رجالُ الشرطةِ لم يبدأوا دورياتهم الليلية إلا متأخراً.

في ذلك اليوم الذي ماتتْ فيه هِيلجا، توقفَ الوقت!




___
* Zytglogge : (تُنطق: تزيت-كلوكه) بمعنى برج الساعة، و هي الساعة الشهيرة الموجودة في بيرن، عاصمة سويسرا.

عائشه المعمري
03-18-2009, 10:42 PM
الأنثى والريح


والغبار يهمس للأشجار المتمايلة بسرَّه؛ قال صديقي ناظراً خلال النافذة:
"الريحُ بعثرت كل شيءٍ داخلي. خّمن معي: كم أنثى تلزمني لأرتّب الأشياء داخل قلبي مرةً أخرى؟"
لم يكن قلبي معي. في البرد المتعجرف أُفكّر، وفي سطوة الريح أفكر، فركتُ يدي بشدة بحثاً عن دفء رحل مع الشمس. قلتُ مستنكراً:
"ومتى كانت الأشياء داخل قلبك مرتّبة؟"
ألصق جبهته بزجاج النافذة، ثم أنفه الطويل. حاول إلصاق شفتيه دون إبعاد الجبهة والأنف عن الزجاج، ففشل. كلما ألصق الشفتين ابتعدت الجبهة، وكلما ألصق الجبهة ابتعدت الشفتان. قال:
"كانت مرتبة قبل مجيء الريح".
ابتعد عن النافذة. اقتربتُ واضعاً جبهتي على الزجاج البارد. في الخارج صرخت الريح في انتشاء مجنون وغامض. قلتُ:
"واحدة!"
لم يفهم. سألني من بعيد:
"واحدة؟"
أجبت محاولاً إلصاق جبهتي وأنفي وشفتي بالزجاج في نفس الوقت:
"أنثى واحدة. ألا تكفي أنثى واحدة لترتيب ما بعثرته الريح؟"
سمعته يرد: "لا أظن. إنها بعثرة بفعل الريح"؟
آلمني أنفي من شدة الضغط على الزجاج البارد. استدرتُ قائلاً له:
"أما أنا فأظن.. لأنه ترتيب بفعل الأنثى!"



1/3/2003

نوف عبدالعزيز
03-19-2009, 09:13 AM
موضوع بقمة الروعة و أختياراتك جداً رائعه :)

لي عودة بإذن الله بعض ما بقي في الذاكرة من قصص

كل الإحترام و التقدير لك

عبدالعزيز رشيد
03-21-2009, 09:39 PM
.. وزاد روعة باطرائك"
نوف أنتظر ذاكرتك تشرّفنا
تشكّراتي

أحمد الحسون
03-22-2009, 01:24 AM
أخي عبد العزيز

اختيار موفق

سرد غني ، وعذب المعطى الدلالي في طياته، وبنيات عديدة في فضاءات النص.

دمت بيراعك المميز.

عائشه المعمري
04-02-2009, 01:17 AM
نخلةٌ واحدةٌ في أرضٍ شاسعة..

نخلةٌ وحيدة


"وتختفين يا نكهة اللُبان..
هكذا دون إنذارٍ سابقٍ بالرحيل. تسابقين الفجر ورحيل العصافير وتخلّفين طفلاً يتعثر بجراحه، عاجزاً حتى عن أوهن النداء: "أرجوك عودي". فلِمن تتركينه؟! المسافات ـ صغيرتي ـ لا تؤوي العجزة. فأرجوك عودي..."
الحكايةُ أبعد من الدمع. تغور في صميم الجرح.
منفيون ـ بُنيّتي ـ رغم احتكاك الحزن بالحزن. مشردون في امتداد الحلم. لو تسألين الآن: ما أنت؟! ما تفعل؟! سألغي ذاك الرماد. سألغي الذاكرة وأبدأ من جديد. سأقول مثلاً:


"لا أعرف من أكون. فقد وجدتني في هذه اللحظة أحتسي حضورك المتشرذم. وأبحث عن فقيد داخل مقلتيك. وهأنذا أجد عينين كعينيه.."
أو ربما قلتُ:
"صديقين. لا أذكرُ ما فعلتُ هذا اليوم. زارني هاجس الخروج من غرفتي فتركتها في كنف الريح ومضيت. أطلقت العنان لكل جوارحي. فقدتُ بعد ذلك كل التفاصيل. فلربما صادفتُ متسكعاً يفتش عن ظلال الخطو مثلي، فوضعت يدي في يده. مشينا بين الأزقة. ضحكنا معاً دون أن نعرف اسمينا. أفشينا سرّينا الدفينين. ثم افترقنا دون تبادل عنوانينا قائليْن: "فلنترك لقاءنا الثاني للزمن كي يحدده". أو ربما احتضنت مُسِنّاً على فراش الموت، أنهك أقرباءه انتظار رحيله. أو ربما ركضتُ خلف طفلة شقية أفلتت من يد أمها لتعبر الشارع أمام سيارة متوحشة. أو ربما صادفت روح أنثى مهاجرة لم أرها قط، ولم أسمع لها صوتاً، ولم أقرأ لها حرفاً. روح أنثى تنسلُّ خلسة من سحابة بيضاء وتجيء تربت على كتفي المثقل. ألا تسكن الأرواح السحب؟! أو ربما عدتُ إلى الغرفة ظناً مني أنها وطني الممزوج بنكهة اللبان. أوه. ها أنت تفجرين الذاكرة وتعودين من جديد. صغيرتي قلت لك: "جنّبيني الحديث عما مضى. أريد شراء النيسان بأي ثمن". فلِم تنداحين من ذاكرتي الآن وتنتثرين حضوراً؟ حسناً. سألغي ما قلت، وسأبدأ من جديد:
"وتختفين يا نكهة اللبان..
هكذا دون سابق إنذارٍ بالرحيل..."
أو لاخترتُ لك أن تكوني سيداً، أصنعه من أرق الورق، وخاطبته قائلاً:
"لو أعطيتني الإذن ـ سيدي ـ بالتحدث لاخترت هذا الاستهلال:
"يا أيها الواقف على الجرح، وتنظر إلى البعيد.. تمهّل فثمة كائنٌ تحت قدميك؛ يُدعى القلب".
هو استهلال مغرٍ وبّراق يولّد في النفس، الحزن والتعاطف والفضول. هذه الأشياء تجبرك على سماعي دون مقاطعة حتى النهاية. لكني لن أستهلّ حديثي بتلك العبارة، لأنك لم تأذن لي بالتحدث يا سيدي. أبصارنا تخلق ما نرى، وأنا أوجدتك الآن هنا لتسمع مكرهاً ما أقول. المكره لا يعطي الإذن، لذا سأستهل بما يلي: "وطني المكسو بسرابيل الصمت، اخترتك قلباً للعاصفة.. فكن قلبي".


ومن أنت يا سيدي؟
لا يهم. كثيرون أولئك الغرباء يوجدون لحظة بوح، فكن منهم سيدي.. ثم امض بعيداً بالبوح!
"وطني المكسو بسرابيل الصمت، اخترتك قلباً للعاصفة.. فكن قلبي!"
لا. سأقف. هذا الاستهلال عقيم، ويفضي إلى فراغات سوداء تبتلع أنوار النفس. سأترك ما قلت ـ يا سيدي المُكره على المجيء ـ وأبدأ من جديد:
"يا أيها الحزن المشعّث..
يا أيها القلب المدجج بالخواء: وطني المسافات التي نفت الغريب إلى أقاصي العاصفة" لكن ليس هذا ما أريد قولـه! كيف لي تطويعِ حرف عنيد؟ كيف لي ترويض جملةٍ متمردة؟ أعطني سيدي جملة أستهل بها بوحي. هب لي رقصات حرفٍ على شفير الحكاية وسأحكي. صدقني: سأحكي.
سأقول ـ يا سيدي الذي أُحضر فوق غمامةٍ من وجع الانتظار ـ كم تزمجر داخلي الكلمات الصاخبة، الهادئة، المتهورة، الرزينة، الخضراء، الجدباء. لكني أريدُ بداية. أريدُ جملةً قُدّت من فولاذ صلبٍ، أملسٍ، متماسك، لا يملك الرائي أمامه إلا الطرق بالأصابع وهز الرأس إعجاباً: "فولاذ ممتاز". أريدُ أحرفاً سُكّت من ذهبٍ برّاقٍ. أريدُ نكهة فاكهةٍ تذوب داخل الفم تجبرُ المتذوق على قطف بقية الثمار. أريدُ بداية. أريد بداية وبعدها سأحكي لك، وأصف، وأقول".
لكنني لن أقول، فورق الأرق تحرقه الكلمات. ويتبخر السيد المُحضرُ، فوق غمامةٍ من وجع الانتظار.. وستختفين أنت بالتأكيد، وسأعود إلى كتابة حزن جديد. سأقول واصفاً حزناً آفلاً كنت أعرفه:
"أسمعك يا صوت الذي يأفلُ بمحض الحزن؛ يا الماضي في التلاشي غير آبهٍ بدربك، يا عابراً فوق شظية الوجع.. أسمعك، فحدِّث، وأطل الحديث للدمع والليل وجيوش السائرين في أوجاعهم. لا سامع هنا غير الله، فأفض في حديثك وأسهب. قل. إني أسمعك.
إن كنت تنوي الصمت، فلِم اخترت إذن الهرب إلى هذا الكهف؟! لِم انتظرت آخر الخريف حيث الريح باردةً تعصف بأوراق الأشجار وأوراقك، ثم أتيت؟! لِم اخترت السماء مكسوة بالغيم تنذر بالثورة وهربت إلى هنا؟! ألم تفعل ذلك لتحدّثني يا صوت الذي يأفل؟! قل إذن.
قالت تحرث الحزن بقلبك لينبت الدمع:
"سوف توصلني إلى مرحلةٍ أكره فيها ذكر اسمك. صدقني قد أصل إليها من شدة معاناتي المستمرة. وأنت كما أنت. لا فائدة مرجوة من طباعك القذرة أحياناً. لن تتغير. هل تعلم لماذا أقول ذلك؟ لأنها ليست المرة الأولى التي أشتكيك فيها إلى نفسك. لكن لا جدوى، فأنت أنت، وأنا أنا، والدنيا تسير. إن كان من الضروري تغيّر أحدنا، فحتماً سأكون أنا".
ثم مضت تحزم أمتعتها بصعوبة بالغة. يعيقها تكوّر جنينكما في بطنها. لم تترك شيئاً من ملابسها إلا ورمته في الحقيقة. وأنت.. كما عهدتك في كل موقفٍ مُذهل ومباغت: لا تزيد عن فعلين؛ الصمت والتأمل. كانت تبكي بحرقة، وتسيل الدموع مختلطة بشعرها المتناثر على وجهها. بدا وجهها كلوحة من عبث التردد والرحيل. ورحتَ تتأمل هذه اللوحة بشيءٍ من الإسقاط على عمرك.. يا أيها الآفل!!
ثمة فرق بين بكائكما. هذا ما حدّثتك نفسك به. هذا التلاشي يا صديق ليس إلا دمعة ذرفها قلبك، ثم قيل للخطوات: كوني، فكانت. والذي شق هذا الكهف.. لو ملأ قلبك الأرض دمعاً، وجرت دموعه أنهاراً من التلاشي، ما شعر به البشر. ما لم تذرف عينك الدمع، فأنت في أعرافهم: ضاحك!!! لذا لم تلمها حين قالت وهي تغلق الحقيبة:
"أنتَ عديم الشعور بهذه الحياة. لا تعرف طعم الإنسانية.. ومهما رأيتَ من فواجع، فلن تبكي. أتعرف لماذا؟ قلبك أصم وأعمى. وأنا لن أهدي قلبي لمثله" ثم مضت باتجاه باب المنزل. وأردفت:
"من فضلك. خذني إلى بيت أهلي. هذا طلبي الأخير منك. لو كان بطني يسمح لي بالقيادة لفعلت. لكني مضطرة لطلب ذلك منك. سأتركك لكل هذه المرارة التي أسكنتني فيها مذ تزوجتك".
هذه المرارة يا أيها الآفل.. هي جنّتك. عشتَ تستمد منها قوة لمجابهة هزائمك... والآن ظنّوها ناراً تكويهم. فالله معك. الله معك أيها الآفل. أوصلتها إلى بيت أبيها. قالت لك: "حين تستعيد إنسانيتك.. تجدني هنا".
ولم تجد أنت غير هذا الكهف خوفاً على إنسانيتك... إني أسمعك. هيا أفض وأسهب في حديثك.. هيا.."
لكنه يموت من كمدٍ بفعل الانتظار ولا يضيف لحديثه حرفاً جديداً. ويختلط نداء رفاته بنداء غريبٍ آخر منفيّ تآمروا عليه. يأتي صوته مع الموج ليقلق الأصنام. ها أنا أسمعه يقول:
"لا يسعني الآن البكاء. هذا الرماد هو ما تبقى منّا. نحتارُ الآن أين ندفنه والماء يحيط بنا من كل صوب. لا يابسة تبدو، والعطش يكاد يفتك بنا. لم أطلب الكثير. أريدُ شبراً لا أكثر. وأريده هناك؛ في الأرض المسماة: "وطني"... شبراً واحداً نقبرُ فيه جميعاً. في الأوطان المنسوجة من خيالات الألم يُحرق الموتى، ليتمكنوا من دفنهم في مساحة ضيقة من الوجع. فاقبروني قبل أن أقبركم".
وترتجف الأصنام وتقيم الحواجز لمنع الصوت، لكنها لا تفلح. ويظل الصوت الغريب منذراً حتى يمتزج بكل جوارحي، فأصرخ كما يصرخ.
أو لربما تماديتُ في إلغاء الذاكرة، وقلتُ معاتباً ذاك الرجل المتمرد داخلي:
"وتنوي بداية حُزنٍ جديد...
لا قدميك ترتجفان، ولا يرمشُ لك جفنان. لا قلبك يرتعش أو يهتز فيك ضمير. تبدأ بمحضِ العادة وتمضي كأيّ عابرٍ أغوى المسير. تقول للوراء:
"أيها الأمسُ: أنا لا أنظر إليك بغضبٍ، وليس يقتلني الأسى على ما أسكنتُ فيك"
ثم ترحل ولا تلتفت.
ويحك يا مهاجر... ويحك يا مكابر... أتعي ما أنت فاعل؟!
.. وتمضي غير آبه.
أناشدك بالله الوقوف.. قف..
قف..
قف"
أو ربما عدتُ طالباً يشكّلني ويضربني إذا أخطأت. وأخالني أدرس معني كلمة"
وحيد. قال المعلم يقرّب معنى الكلمة إلى ذهني:
"نخلة واحدة في أرض واسعة نخلةٌ وحيدة"
وأكبر لأرى سحابةً تسير بمفردها في سماء الرغبات فأصرخ:
"وحيدان يا سحابة....
أنتِ في هذا الشاسع الأزرق.
أنا في هذا الداخل الأسود!"
أو ربما خاطبت وجهي:
"حُزناً على ذبول العزم، أزرع شوكك لتنبت الحياة.
وكنا يا وجهي المتساقط هاربيْن من الحقيقة المُفجعة: "الميلادُ بداية الحُلم لبصيرةٍ مُغمضة العينين".
فقل يا وجه: "إلام تمضي بأقدامٍ متآكلة كُتب على خطاها الضلال؟"
ألست مني؟! وماؤك المسكوب.. ألم يودي ببعضي معه؟! ها نحن الآن وحيدين إلا من الحق. نرتب الفصول المسكونة بالبشر. ننتقي. نغربل الأفئدة. دعني أتلاش فيك يا وجه، ولتتحدّث ولترسم ولتخطط"
أو ربما عدت عاشقاً فقد محبوبته دون سابق إنذار. يكتب بكامل جنونه:
"وكنتُ أستيقظ من ليلي مختنقاً بالخطوط والدوائر والأشكال اللامفهومة. أترنّح في معمعتها. أبحث عن عينيك؛ بصري الذي يُشكّل رؤيتي للكون. ولم أزل محتقناً مذ رحلتِ، غير مُصدِّق أني أعيشُ دون عينيك! والآن، لأنَّك بعيدة هناك، سأُنفِذها؛ أصابعي المرتعشة في المعمعة. سأكون. سأسكب داخلي أولئك الذين ينسجوني. سأبحر في جرحي الذي يقطر أزمنة القحط. فلتعبثي يا أصابعي مقلّمةّ الأظافر رأفة بالعالم".
لكن أصابعي تتهشم. ويجيء نداءٌ يعبرني. يذكرني بالفجر والشرفة التي أقف عليها الآن وأنصتُ إليه:
"لا يا وحيد...
لا يا ابن الشمال والجروح المزمنة. قف هاهنا وحدّق في اتساع الريح، وفراغات الضمير. أينقصك وجع، لتستورده؟ قف يا وحيد وفكر. أرجوك فكر".
وأظل أفكر وأفكر، وأنبش ذاكرتي من جديد. أبدأ النداء بكامل وعيي:
"وتختفين يا نكهة اللُبان..
هكذا دون إنذارٍ سابقٍ بالرحيل. تسابقين الفجر ورحيل العصافير وتخلّفي طفلاً يتعثر بجراحه، عاجزاً حتى عن أوهن النداء: "أرجوك عودي". فلِمن تتركينه؟! المسافات ـ صغيرتي ـ لا تؤوي العجزة. فأرجوك عودي...".
مسقط
9/8/2003
***

زخات مطر
04-04-2009, 04:29 AM
ألق من جمال

قصص جميلة ..

سأتابع قراءتها باذن الله


:) شكرا جزيلا

عبدالعزيز رشيد
04-07-2009, 11:52 AM
أحمد حسّون
منوّر هالمكان بك ياأحمد


أختي: زخّات المطر
ممتن لك وتابعي هطلك ..

عائشه المعمري
04-22-2009, 01:46 PM
ابتسامة لـرجل الغروب

لأنه هناك. رأيته واقفا بسكون النجوم، في البعيد .. يترك بصْمته بذاكرتي صدى، كالراحلين، والتفاتة أخيرة يتركونها
لدموع الأحبة. أنصت لوقع خطواته الحزينة وأتأمل خيال وجهه المنطفئ، أتخيل عينيه فأخاف السقوط من السماء
بدونهما. يمشي برفق وكأنه يشفق على القرميد من الوداعة الساكنة خطاه في مروره العابر.
هناك أسفل معطفه الداكن أترك للخيال نفسي وأسافر معه في غروب جديد من التأمل. يقف كتمثال نابض بالحياة، واضح
التفاصيل، مبهور الأنفاس. يحدق في المدى الواسع، أتخيل عينه وهي ترفّ تحت عصف النسيم؛ فيبدو مرهقا من وطأة
لطفها على قسماته الساهمة. وتهرب الأنّات من صدري مرة أخرى. تنتهي الشمس من غرقها الأزليّ فيدير ظهره بادئا
غروبا آخر لغريب وحيد، وفتاة تتبعه ببقايا التساؤل وتتابع الأنفاس. وأغمض عينيّ مقترفة حلما جديدا:

- أيها الرجل هناك. أيها البعيد.

((يلتفت إليها كما يرى سفينة تعبر البحر، يبتسم كما ابتسم يوم اختفت الشمس خلف السحاب، وغربت مرتين، تناديه
فيغادرها النداء، يريقه لفح أنفاسها على شرفتها، تسكب الماء على الزهور ويغادرها بابتسامة الغروب، فترتجف.))

ربّاه، أهو الحب؟ شرفة تعانق الغروب، ويدي المرتجفة وراء أصيص الزهور، رجل غريب يأتي ويرحل بكل غموضه
ليتركني محدقة في حمرة الشفق، ولا أعلم أين أنا. ليته يحملني على الطرف البعيد من ابتسامته، وليتني أودع نفسي في
شروده للأبد وأبقى هناك حتى تنتحر الشمس للمرة الأخيرة.

تسقطتٌّ أنباء قدومه الذاوي وحضوره الخائف لمقتل الشمس كل يوم، فلم يجبني إلا الغياب وكأنه لم يكن إلا بداخلي، ربما
لأنه يمرّ على هامش الزمان والمكان لديهم، لا يرونه من شرفتي الصغيرة كما أفعل كل يوم، لا تحاصرهم الأسئلة لمرآه
شاخصا الأبصار مشدوها كأغنية المآتم، أو مبتسما كرضيع في صدر أمه. ربما لأنهم لا يلتقونه مع أفق يشرب آخر
انثناءات الضوء، وزهور منتعشة التويجات، تشرب ماء الحياة كما يشرب البحر حمرة الشفق. لأن السؤال كان من نصيبي،
والدهشة آخر ما يجعل قلبي ينتفض كطير مذبوح أو كطائر طنّان يبحث في عمق عينيه عن وجهه مستديرا إلى زهور
شرفتي. لأنه رجل الدهشة، رجل البسمة، رجل جاء ولم يثر غبار الأسئلة حوله، ولم ينثر العجب على الجميع كما فعل
معي؛ آمنت أنني أرى الغروب مرتين، مرة في هروب الشمس داخل البحر، ومرة وهو يخطو خطاه بإيقاعهن الناعم؛ ليترك
فتاة قابعة في انزواء شرفتها، متلاحقة الأنفاس، مصعّدة الأمل.


لأنه رجلي أنا، ورحلتي اليومية في ارتباك لطيف؛ تركته للخيال فرسمه كما شئت أن أراه، بعيدا عن ظله الممتد من حافة
الرصيف حيث يستقر تطاولٌه على صدري. جعلت له عينين واسعتين، يشع الغروب منهما، ويستوطنهما بريقه الآسر،
أعطيته لحية خفيفة تهديه الوقار، تخيلته صوتا واضح النبرات، نابضا بالقوة، مهذبا بالحزن. أوسعت معطفه برائحة
البرتقال، تتصاعد منه فلا تصل لسواي، غادرني كلُ ما رأيته إلا ابتسامته التي يرحل بها وهو يستدير نحوي بوجهه
المفعم بالظل ليواصل نقر الرصيف بوقع أكثر حزنا. جعلت للغبار ثورة رقيقة وهو يمرغ قدميه في نثار الرصيف الرملي.
كما جاء هو بالخيال؛ جاء به الخيال بصورة تهيّج الرعشة، صورة تتركني صريعة لهاجس وحدتي، وتقلبات سؤاله العنيد،
من هو؟.
وأصغي مرة أخرى لحلم آخر:

- أيها الرجل، أنت، يا رجل المعطف.

(( يمر أمامها برتابته المعتادة، يغمرها برائحة البرتقال، يحتك مرفق معطفه بيدها الممدودة، ويواصل عبوره خلالها بين قرميدة وأخرى. وترتجف مرة أخرى)).

قديس يسدن خاشعا أمام البحر، هناك أمام بقايا الملح الجافة في القرميد الأحمر أذعنت للتلاشي، الاستسلام لموجة الوهم
تقذف بي أسفل قدميه فأراه عملاقا كالسماء وأنا جزيرة صغيرة في بحره المتلاطم. رأيته يزفر وقاره الساكن على تخيّلي
فأتنهده أكثر. أصرخ للسماء: "إنني إنثاك أيها البحر، حوريتك أيتها السماء، ودعة يغمرها ظلك أيها القديس ويطهرها
ضوءك أيها المحراب الطاهر، فانزل لي من عليائك أيها الرجل، تنهدْني يا رجل الغروب، دعني أغمرك بالحب، وأرتّلك
تسعين غطسة للشمس، تولّني بصمتك الهادر واحتضنّي حتى تموت السماء". سُجنت بصوتي المختنق طويلا لاجئة لظله
المنتهي في صدري وقلبي يسّاءل عن سره. هناك حيث اللاحلم واللاحقيقة، بين اشتياق ضفائري ليده المودعة بمعطفه
دائما، وبين تحرّك غموضه في حناياي؛ تصاعد صوتي المرتعش حاسبة نفسي أتمازج مع إحدى أخيلتي، حيث افترقت عن
كينونتي لأسكن رغبتي في النداء، هناك وهو الواقف بتأمله الرفيق لغروب يراه كل يوم، ويفرحه كل يوم، كنت -ولم
أحس- أقترف غروبي به وفيه. حيث كان هو ذلك الــ(هو)، ولم أعرف هذه الــ(أنا). لأن الهاجس ناداه وقلب الهاجسة تاه
في عتمة وجهه تسعون يوما:

- إيــــــــــــــــه. يا رجل.

هناك حيث اقترب ناقرا الأرض أسفل شرفتي، عيناه السوداوين، لحيته الخفيفة، وجهه النورانيّ حاملا استفهامه المتجلي مع اقترابه البطيء. من هناك جاء يقترب لفتاة نادت فيه غروبه الآفل وجاءها رافعا نظره إلى شرفتها، برائحة البرتقال التي تضّوع وتنتشر في أوصالها المرهقة. وقف على عتبة الحلم والحقيقة، أسفل شرفتي، أرفع رأسي لأراه، ويرفع نظرته ليراني.

- يــــــــــــا رجل. اخبرني. من أنا؟

يتمايل رأسه قليلا ويغوص أكثر في عينيّ، يلتفت بخطاه الرتيبة نحو طريقه المعتاد، ويكمل رحيله الذي رتّلته الأيام خطوة فخطوة تاركا صمته أمامي. هناك والشمس تتبع ناموس الأفق، استصرختْ الأنثى بداخلي، والحبُ، والدهشةُ، والتساؤلُ، استصرختُ لهفتي وأيامي الممتزجةَ بوقفته:

- يـــــــــا رجل. من أنت؟

يلتفت ويخرج صوته متغلغلا في أوصالي، باعثا الرعشة، ومثيرا رجفة الحلم الأخير:

- أنـــــا رجل الغروب.

يلقي ابتسامة الظل في الهواء، ويكمل خطوه الرفيق طيّ الطريق، مجليّا درب رحيله الأفقيّ، ورأيتني هناك أتشبث بطيف ابتسامة أخيرة، وذاكرة لتسعين رعشة ذهبت ولم تعد.

سلمى الغانمي
05-07-2009, 05:00 PM
|

هذا الصفحة دافقة جدا ً
وخصوصاً أبن الجارد كان لانشطاره دفء خاص
سأكون هنا و لا أتعب من شكرك
شكر أول لعبدالعزيز
واسمحلي بنقلها لمدونتي ووطن آخر مدثرة بأسم الجارد

.
.

http://www.wl3.net/uploader/up/20891104120080423.gif

نوف عبدالعزيز
05-17-2009, 10:08 PM
تكورت داخل بطن أمي، لاصقت ما بين قدمي وبطني، التحم رأسي بركبتي. ضاعت يدي وسط أحشائي. رغم الغشاء الذي يحيطني هممت بالخروج، كلى فضول وشوق، لم أتنفس بعد، مرتبطة بتنفس أمي، تأتيني الحياة من خلال السرة التى تربطني بها, رئتاها ترتجفان, أرتجف أنا أيضا, تتنفس، أتنفس بدوري، تضحك فأشعر برعشة تدغدغني، تأكل أو تشرب فاشعر بنشوة، فأندفع في هزة إلى الأمام وهزة إلى الوراء، أحيانا أصعد وأحيانا أهبط، لكنى غالبا ما أكون شبه نائمة أو في غيبوبة جميلة, دقات قلبها منتظمة وحزينة غالباً كأني أجلس تحت ساعة ميدان هائلة، أسمع من خلال أذني صوت جريان الغذاء السائل في الجهاز الهضمي، وحركة دوران في الجسم بأكمله. أشعر بدغدغة ونشاط جديدين, اهتز من جديد في حركة دائرية ثم أشعر بسرعة تنفسها فأعرف أنها تسير، أنتبه قليلا، ثم أعاود النوم اللذيذ, ولم أفتح عيني بعد, وأحيانا أخرى أشعر بيد ثقيلة تداعبني ، عرفت بعد ذلك أنها يد أبي , فقد كان لا يفارق أمي أينما حلت بينما هي تحملني أنا/ وحلم أبي بداخلها, أبي كثير القلق , لطم موضع رأسي بيده حين راودته فكرة أن أكون أنثى فانزعجت قليلا, ثم هدأت محاوله أن أتحرك لأفصح لأمي عن غضبى, فيهدأ أبي ويبتسم مطمئناً قلبه بذكورتي فأرتاح لمداعبته انتفاخ أمي وأعود إلى النوم*
ولكن لم أهنأ بنومي ,, قطع هناء إغماضتي صرخات أمي تعلن عن قدومي , مبللة بدماء اختناقي,ودوار يصيب رأسي, كل الأشياء تصرخ , وكلها تدفعني للخروج عنوه,لم تمهلني صرخات أمي بالتفكير بيومان متبقية لي بهذه الظلمة , فانتقلت على عجالة عبر سراديب ظلمة من ظلمة أولى وثانية حتى أوشكت على اختناق بالثالثة, حيث كانت فرحة أبي تطوق عنقي , وارتباكه يؤخر ميعاد إنقاذي,وفرجت أمي ساقيها وتسرب هواء, عبر ممر خروج,وتلقفتني يد الطبيب ورفعني عالياً, فامتلأت رئتاي برائحة مستشفى, فضربني على مؤخرتي, كعادة مشينة جداً لا زالوا يمارسونها ,فبكيت , حين علمتُ بأن الحياة ما هي إلا وجهان للظلم ظالم أو مظلوم ,ثم غسلوني, معلقة برقبتي كـ صغار الهررة بيد أحداهن,وتناثرت قشوري حولي, وبعدها غفوت,ليخترق صوت أذان مسامعي ,الله أكبر ,الله أكبر ,أشهد أن لا أله ألا الله ,أشهد أن محمداً رسول الله ,الله أكبر,الله أكبر, مستقراً بقلبي الصغير لتحبا بداخلي الفطرة الإلهية وفتحت لي الدنيا عيناً أرهقتها ظلمة رحم تسعه أشهر ألا يومان, وكان يومي الأول الذي عمل فيه عداد العمر المتصدي ممزقاً بطنينه حلمي في حياه هانئة بدنيا رضعت الشهوات وغرِقت بالمتع ,فبكيت مجدداً , حين ضحكت أمي بشراً بمقدمي ,ولم يفعل هو , (أبي) فقد تراءت خيبه أمله عذابات تضيق على مهدي حين سأل : ( أيمن..؟؟)وحين لم تجد أفواه الحلم ما تجيبه به,تفجرت ملامحي بالأنوثة وقتلته,فأقترب عاقداً حاجبيه حينها أحسست بأنفاسه وهو يؤذن بأذني , ممارساً طقوسه الإيمانية, دون إي رغبه صادقه منه!لأبدأ حياتي مفعمة بالرضا والإيمان, كيوم ولادتي الغارق بابتهالات الحجيج وقد استقرت أقدامهم وقوفاً بعرفات ,وكانت تلك البداية ,بعدها جاء صوت أمي الهادي من ركن سحيق لـ يجبرني على الابتسام بوجه أبي المتجهم حين قالت : (فؤاد ماذا ستسميها ..؟؟)
فجاء رده متأخراً مدنساً بكفرة بمشيئة الرب,وبارداً بعد أن مارس رجولته بنزع تلك الأفكار والعواطف التي تخنقه مبدداً بيده ضبابات خيال أسهدته ضاغطاً على نظارته لترتطم بقسوة بأنفه الكبير: ( من, اُسمي من ؟؟)تمزقت أمي حرجاً وهي تبتهل للرب شكراً حين منحنها الستر وحرمني نمواً كاملاً لحواسي وعقلاً كي لا أفقه شيئاً مما يقولان و قالت : (ابنتنا..!!)
(إيمان ..) قالها بضيق واصطكت أسنانه حين نطق حروف أسمي محرقه كل مسافات عبور بـ حنجرته وكأن أمي واجهته بحقيقة مرة , صافقاً الباب خلفه,فسقط بعض دمع على شفتاي مبللاً حلقي (فيا عجباً أأرُضعت دمعاً..!!)وبذات الصباح الذي استنشقت اختناق رئتاي من رائحة سيجار أبي , أودعت قفصاً صغيراً, بتلك الحضانة المقرفه, حيث عبرت ممراً طويلاً أراقب نظرات حاملتي وهي تلاحق حلمها بسلب قلب الدكتور المشرف على مراقبة حالتي غير كاملة النمو وتمرر يديها على إزار قميص يستر صدرها,وقبل أن تقذفني مسرعه وسط وجوه عده وتهرب حيث الأخرى التى تعلن عن قدوم دكتور آخر أعلنت عنه بقولها : (بيتفل مان ) , مارست الأجهزة احتضاني حين ضاقت الصدور بحملي ,فـ كنت وقتذاك أراقب الفرحة تشرق في الوجوه عداي ,(أرأيتم رضيعا بائساً..؟؟) مؤكد لا ولكن أنا كُنت كذلك فقد كان إحساسي بالفقد / والحزن سبباً بنضج حواسي قبل أوانها, فكبرت أيامي سريعاً لاحتيازي استفهامات كُثر ,فباءت كل محاولات مناغاتي , مداعبتي بالفشل فلا أبتسم ألا نزراً قليلاً, أليست الأجنة تحمل أمزجة من ضاق بحملها ؟؟!هكذا علقت أمي حين علقت الممرضة ع ملامحي قائلة بلطف : ( ستكون فتاه قوية وجميلة ,,)كانت عبارة أمي كفيلة بمنحي الإيمان بموعد ولادتي الخطأ ,, فرضعت الحزن وعاشرت الكفر مع أبي, حين لم يكن راضياً بقدومي,رغم ممارساته الإيمانية الأخرى,فكانت أول شناعة أرتكبها هي عدم الرضا بأي شيء , ومنها ثديي أمي,وقد حاولت معي كثيراً , حدود التوحد الجسدي حيث ضمتني بقوة وبكت,كان يؤلم قلبها إحساسها برفضي لها, و لوجودي هنا بين يديها لأمتص قذارة ما قذفه أبي بجسدها,ولكن حين عاد الحجيج بيوم عيد لممارسه التكبير,وارتفعت أصواتهم بالدعاء ,وعلا صوت أمي بالتأوهات وصوتي بالبكاء منحت قلبي رضعتان, وحالما انتهت نقمتي من جوع توقف أداراها للحليب, وكأن الرب يعرف أنها لا تستحق منحي حبها المدنس , وأني لا أستحق سموم تقذفها بجسدي,وفي اليوم التالي,تمزق جسد أمي وأنتشر به هزال كالوباء وتابع جسدها قذف دمائها المدنسة بحيوانات أبي وأنبوب اختبار , فتتابعت عليه العمليات, حتى كسا شعرها الشيب وترهل جسدها وسقطت كل أعضائها الجميلة ككتل لحم رطبة أعدت للشواء, لتتسرب لخياشيمي رائحة احتراق ,ففتحت عيناي لأراه أبي واقفاً منتصباً كجسد شيطاني , بعيناه الحمراويين وجلدة الأسمر وابتسامته الصفراء وثوبه الباهت كملامحه الباردة ونظراته القذرة ,ليرسم كمداً وحزناً ع وجه أمي , فلا يكتفي بخمس عشر عاماً ذاقت بها الموت وهي تستسلم لمشارط أطباء تعبث بجسدها النظر في سبيل تحقيق رغبته بامتلاك طفل, وحين سقطت مشوهه كـ كبش فداء لي,عاد ليخرجها حيث جحيمه قبل انقضاء ممارسات العيد بأيامها الأربع قائلاً : ( وليس الذكر كالأنثى) لتغوص أمي بالفكر معلقه نظراتها الحزينة نحوه, ليتابع بصوته الخشن نافثاً دخان خبث من صدره : (أنتِ ترهقين نفسك وتكلفيني الكثير فما فائدة كل ما فعلناه , هي أنثى ) وكـ مشرط كانت كلماته, لتقتسمني نصفين,نصفٌ يكرهه وآخر يكرهه أكثر .



ايقونه فلتس لجورج البهورجي / بتصرف

عائشه المعمري
05-18-2009, 12:56 AM
هداية



لاتسألني ياصاحبي لماذا أضحك تارة وأدمع تارة فالمشكلة ليست في الكأس التي في يدي ، فماكان الشرب يوما سببا كافيا
للدموع ولا سببا كافيا للضحك . فقط أتذكر لحظات معينة مرت بي في هذا المكان، أتذكر حين خسرنا أنا وأنت في السوق
تلك الخسارة الكبيرة ، أنت أنجدك أخوتك في لحظتها ، أما أنا فعدت إلى القرية في ليلة رائحتها تشبه رائحة امراة خائنة
مكسورا ذليلا . عدت إلى هنا إلى قريتي ، إلى المكان الذي سقط إسمي من قوائمه منذ زمن طويل ، منذ أن نسيت أهلي
وكل من في القرية ووهبت حياتي للمال ولذيذه فقط .
أذكر تلك الليلة تماما ، كنت أسأل نفسي : ماذا أقول لهم ؟. كيف احيا بينهم ؟، وغدا عندما يكتشفون أني لم أعد أملك شيئا
، ماذا سيفعل بي كل من أسأت اليه ؟. في تلك اللحظات ... أدركت كم أنا وحيد؟! .. وأحسست أن كل ما بداخلي كان خواء
أو أسوأ من ذلك .
دخلت القرية بداية الليل ، نمت في قصري .. الذي أعرف جيدا بأني سأفقده حين يعلن افلاسي . ذلك القصر الذي كان لعمي
الغبي ذات يوم وانتقل بموته إلى حيازتي ... لا أعرف لماذا تخيلته تلك الليلة ؟ ورأيت صورته في كل المكان؟. رغم أنه
منذ موته لم يمر بذاكرتي إلا حين يذكره الآخرون ، حتى بوجود ابنته في سريري ، ربما حضور صورته الطاغي تلك
الليلة سببه أن كل المال كان له لذلك يعاتبني على ضياعه .
أتعرف ياصاحبي أن الساعة الثالثة والنصف صباحا ليلتها لم تسعفني بالنوم؟. ولم تسعفني بأن أذهب إلى مكان ما؟. ولا
أدري لماذا حركتني قدماي أو قدماي حركتاني لأتمشى ليلا في القرية ، كم هي تعيسة تلك الليلة ؟!. وصلت إلى المسجد بعد
أن مررت مشيا على بيوت كانت طفولتي أمام ابوابها واسوارها . آه تذكرت في لحظتها بأن في قريتنا مسجدا ، كانت
صورته قد اختفت كباقي تفاصيل القرية عندي منذ زمن .. وجدته يجذبني اليه ، دخلته دون وضوء ، وبعد أن دخلت بقليل ،
تذكرت بأن علي ان أتوضأ. توضأت . عدت إلى ماكنت أفعله في سالف الايام ، قرأت القرآن ، كان جميلا و مسكنا ، وكان
وصول الناس ووصول إمام المسجد قاسيا على قلبي . أردت أن لايقطعوني عن القراءة ، انها لذة لم أعهدها من قبل. أردت
أن أواصل ، صليت معهم وأعرف أن بعضهم تهامس عند خروجه مستغربا من أن اصلي الفجر ، أردت أن أواصل قراءة
القرآن ، سلمت على الإمام وعلى عدد ممن بقي متأخرا ، ظللت أقرأ حتى أشرقت الشمس .
كانت ثمة نافذة جنب المحراب تأتي بالضوء كأنه حزمة من النقاء ، اطلت عيناي منها ، لترى ذلك المنظر الجميل ، الله كم
موقعه جميل مسجد قريتنا في قمة الجبل؟! تنظر إلى الأسفل فترى الوديان والسهول الممتدة مع خور جميل يمتد حتى
البحر الذي تعكس زرقته أشعة الضوء بجمال متناه ،لماذ لم يفكر أحد أن يستثمر هذا المكان الجميل ؟!. أنا متأكد أن
السياح سيجنون حين يشاهدونه ......
تسألت في داخلي لحظتها :
(أعوذ بالله .. ماذا بي ؟ .. ماذا دهاني ؟ .. أنا في بيت الله .. واريد أن استثمره للتجارة وللسياحة .. لما لا .. لما ..
لما لا يكون الله قادك إلى هذا المكان لتنجو من الافلاس والهوان والذل ؟.)
كانت تلك الكلمات بداخلي ، عصفت بي للحظات ثم انتصر الشيطان الساكن في يسار قلبي كعادته ، وخرجت إلى مسكن الإمام ..
لم يكن من الصعب بأن أجعله إلى جانبي ليساعدني في إقناع أبناء القرية بأن الخير سيعم المكان والمنطقة كلها ، وبأن
أبناءهم سيعملون في المشروع السياحي وبأننا سنبني مسجدا أكبر منه في موقع آخر ، فقمت بأخذ تنازلات من الجميع واستعنت بمعارفي في كتابة الأرض بإسمي وبعتها لمستثمرين كرام ، أحبوا الفكرة وأقبلوا عليها بسرعة وسددت ديوني
وبدأت الحياة تلعب لعبتها معي من جديد .
- هل كان بعيدا من هنا هذا المسجد ؟
- ليس كثيرا أظنه مكان المسبح والمطعم الإيطالي أو أقرب قليلا إلى خيمة الرقص الشرقي.
- وأين بنيت لهم المسجد الجديد ؟
- لم يبن بعد ، المشكلة ياصاحبي بأن أسعار أراضي القرية ارتفعت والميزانية المخصصة للمسجد الجديد لم تخطط
وتحسب لهذا الإرتفاع .

عبدالعزيز رشيد
06-12-2009, 09:24 PM
(ما ترسمهُ الريحُ و تمحوه)

"لكنني أريدهم أن يعلموا بأنني مازلت حياً، أنني أمتلك معلفاً ذهبياً ما بينَ شفتيّ، أنني ما زلت الرفيقَ الصغيرَ للريحِ الغربية، أننّي أنا الظلُ الهائلُ لدموعي."

( فيدريكو جارسيا لوركا )



عندما اختارتْ أمُ راكان اسمَ راكان، كانت تريدُ لهُ أن يحملَ أجمل الأسماءِ كافةً، و لم يخطر ببالها أنهُ سيشبُ و يكبر دونَ أن يسمعَ الاسمَ الذي اختارتهُ له. فبعدِ ستة أشهرٍ من ولادته، و عندما كانت تفلي بأصابعها النحيلة شعراتِ رأسه، لاحظتْ سائلاً أصفراً غليظاً يخرجُ من أذنيه، و عندما استشارتْ إحدى عجائز القبيلة، أشارت عليها العجوزُ بأن تحشوَ أذنيهِ بالرملِ حتى لا يدخلَ الماءُ إلى رأسِه، و يختلطَ عليهِ عقلُه.

لا تدري أمُ راكان هل أجدت نفعاً نصيحةُ تلك العجوزِ أم لا، فلقد كَبرَ ولدُها و أظهرَ عقلاً راجحاً يزنُ بلداً كاملة، و لكنهُ للأسفِ لم يكن قادراً على أن يسمعَ و لا أن يتحدثَ ليدللَ على ذكائهِ و فطنتِه عندَ الأغراب. يمكنكَ أن تعيشَ أعمىً في الصحراء، و لكنكَ لا تستطيعُ أن تعيشَ أبكماً أو أصمّاً. ما الجدوى التي يعلقها عليك رجالُ القبيلةِ إن كنتَ غيرَ قادرٍ على أن تأتمرَ بأوامرِ رئيسها، و لا أن تطربَ لقصائدِ شاعرِها، و لا أن تصرخَ في وجوهِ أعدائِها صرخةً تُدخلَ الرعبَ و الفزعَ في قلوبِهم؟

لذا لم تجد أمُ راكان كبيرَ غضاضةٍ و هي ترى فلذةَ كبدها يخرجُ بالأغنام يومياً كي يرعى بها. كانت صحبة الأغنام التي لا تعقلُ و لا تستطيع الحديث أهونُ لديه من صحبة البشر الذين يعقلون و لكنه لا يستطيع الحديث معهم. كانَ يتفننُ في تشذيب عصاه التي يقودُ بها الغنم، و كان يتخيرها من أجود أنواع شجرات الطلح التي يمتلئ بها الوادي المجاور، و سرعانَ ما اهتدى راكان إلى فائدةٍ جديدة لتلك العصا، حينما اكتشفَ في نفسهِ موهبةَ الرسمِ على الرمال.

لا أدري كيفَ اهتدى راكانُ بالضبطِ لهذه الموهبة، و كيف تعلمها، و لكنهُ سرعانَ ما أخذَ يمارسها باستغراقٍ و يطورها كلَ يوم. كان لا يحتاجُ إلى أغراض أو أدوات لممارستها، فشجراتُ الطلحِ تملأُ الوادي الذي يسكنون بجانبه، أما حبات الرمل، فلقد كانت أكثرَ ما تزخرُ به الصحراء. كانَ أول ما تعلمه هو رسمُ إطارٍ صغيرٍ مستطيلِ الشكل، كي يحصرَ جهودَهُ و ضرباتِ عصاه داخلَه، و لقد كان مضطراً لأن يجعل الإطار صغيراً، فالرسمُ على الرمال معناه أن تنحنيَ بظهرِك حتى تصلَ إلى الأرض دونَ أن تضع قدميك أو يديك داخلَ الإطار حتى لا تفسدَ اللوحة. لذلك، كان يرسم إطاره الصغير، ثم يستلقي بجانبهِ على شقه الأيسر حتى يبدأ الرسم. بدأ راكان برسم الغنم و الهضاب و شجرات الطلحّ، و عندما تطوّرت موهبتهُ و ازدادت ضربات عصاه خِفة و رشاقة، بدأ يرسم نساء و رجال قبيلته. سرعان ما طوّر راكان موهبته بشكلٍ مُبهر، إذ بدأ يرسم إطاراتٍ أكبر تسمحُ له بإيداع المزيد من التفاصيل داخلََها، و لكي يتغلب على مشكلة آثار الأقدام، صار لا يضع قدميه إلا في مواضع محسوبة، يعزمُ أن يستخدمها لاحقاً و يمرّ عليها بالعصا في تسلسل منطقي رائع.

سرعانَ ما تعرّفَ راكانُ على عقبتين تفسدان عليه لوحاته الرملية. الأولى كانت طبيعة حبات الرمل نفسها، و التي تتساقط في الشقوق و المسامات التي يخلقها بعصاه بشكلٍ سريع و متتابع، حتى تختفي ملامح الشئ الذي شرع برسمه قبل الفراغِ منه. هذه المشكلة جعلت راكان خبيراً في نوعيات الرمل و التربة التي يقصدها لرسم لوحاته، إذ أنّ من العبث الرسم على الرمال الناعمة التي تتسرب كالماء داخل التجاويف و الحفر التي تخلقها عصاه، و كذلك من العبث أن يرسمَ على التربة المروية المتشققة بعد المطر، إذ كانت تتكسرُ بشكلٍ فوضوي و غير محسوب كلما أراد غرز عصاه فيها.

العقبة الثانية اكتشفها في ذلك اليوم الذي رسمَ فيهِ وضحى -ابنة عمه التي كان يتعشقها سراً في صباه-. لقد اختار أجودَ أنواع التربة في ذلك اليوم، و قضى النهارَ كاملاً و هو يضربُ بعصاه بحذرٍ، و يحاول أن يودعَ الرملَ سرَّ عينيها الشهلاوين و أنفها المدبب و ابتسامتها الحلوة. عندما فرغَ من لوحته أخذ يتأملها في إعجابٍ و افتتان. لم يسبق لهُ من قبل أن أَطلَعَ على لوحاته أحداً غيره، و لكنه هذه المرة، أحسَّ برغبةٍ شديدة بأن يتعرف إن كانت لوحته قادرةً على أن تدخل في غيره نفس شعور النشوة و اللذة اللذين تدخلهما فيه. أخذ راكان يركضُ باتجاهِ المضاربِ و الخيام، و عندما رأى ابنة عمهِ أشار إليها في إلحاحٍ كي تتبعه. بدأَ قلبهُ يخفقُ بعنفٍ عندما أحسَّ بالرياح تضربُ على أعقابهِ و تثيرُ الرملَ حوله. التفتَ نحو وضحى التي كانت تعدو وراءه، و أصدر صوتاً عالياً يستحثها فيه على أن تعجّلَ من وقعِ خطاها. عندما وصلا إلى الوادي، كانت الريح قد أخذت وجهَ وضحى مَعَها و مضتْ.

و كما دفعت التربة راكانَ إلى دراستها، كان عليه أن يبدأَ بدراسة الريح. هناك أنواع مختلفة من الرياح، هناك الريح التي تهبُ في مواسم معينة كريح الخماسين، و هناك الريح التي تهبُ من جهات معينة كالصبّا و الدَّبور، و هناك الريح التي تهبُ كيف شاءت في كل الأوقات و من كل الجهات. كان الأمر أشبه بالعبث، مما دفعَ راكانَ إلى أن يؤمنَ بأن هناك شياطين و سعالٍ في الصحراء تنفخ الريح متى شاءت كي تفسد عليه لوحاته. عندما أعجزته معرفة طبيعة الريح، حاول أن يتحوّط منها، و أن يتذرى بهضاب الأرض من عصفها، و لكن كل ذلك لم يجدِ نفعاً. كانت الريحُ تلعبُ و تدورُ و تغير اتجاهاتها كل لحظة، و كأنها تنوي إغاضته و اللعبَ على أعصابه. الفائدة الوحيدة التي كان بإمكانه أن يعزوها إلى الريح، أنها كانت تغنيه من أن يمسح الأرض بعد الفراغ من لوحاته التي يتعرض فيها لرجال و نساء القبيلة، و لقد رسم مرةً زعيم قبيلتهم الذي لا يحبه كثيراً، و ركزَ عُرجوناً ناتئاً بين فخذيه.

لقد كان الصممُ بمثابةِ نعمةٍ بالنسبة إلى راكان، إذ أن طبيعته الحالمة كانت تضيقُ بمعاشرةِ البشر و الجلوس إليهم، و لكن إن كان للصممِ عيبٌ رئيسي، فهو أنهُ يجعل الأخبار لا تصلكَ إلا متأخرةً، إلا متأخرةً للغاية. ففي إحدى الصباحات الحارّة، لمحَ راكانُ رجلاً و هودجاً غريبين يقفانِ أمامَ خيامِ عمهِ ضاري، و عندما استفهمَ من أمهِ عن أمرِهما، وضعت سبابتها تحتَ أذنها و سحبتها حتى وصلت إلى ذقنها -مما يعني أنها تتحدث عن وضحى-، ثمَّ كوّرت يدها اليسرى، و أدخلت بنصرَها الأيمن في يدها اليسرى، و كأنها تلبسهُ خاتماً.

حلَّ الخبرُ كالصاعقةِ على راكان، و تمالك نفسه حتى لا يتهاوى أمام والدته. استجمعَ كلَ قواه في ساقيه المرتعشتين، و أخذ يمشي بخطى متهالكة قاصداً الموضع الواقع وراء الخيام حيث لا يراه أحد. عندما خلا بنفسهِ هناك، أخذ يجري بكل ما بقي في ساقيه من قوةٍ حتى غاب عن الأنظار. كانت الريحُ تشتدُ في أثره، و كأنها تسابقه نحو الموضع الذي يقصده. لم يتوقف حتى وصلَ إلى وادي الطلحِ، و عندما توقف، كانت الدموعُ تسيلُ دِفاقاً فوقَ خديه. أحسَّ راكانُ بغصةٍ هائلةٍ تترقرقُ في حلقه، و بفقدٍ هائلٍ يملأُ روحَه، و لكنَّ أكثر ما أفزعهُ هو هذا الضعف الذي لم يعهدهُ في نفسِه.

وضحى تزوجتْ! تَزَوجَها الرجلُ الغريب الذي لم يره في المضارب من قبل، و سيمضي بها إلى قبيلته و أهله، و لن يراها أبداً بعد الآن. لن يرى وجهها الحبيب و عيونها الواسعة بعد الآن. لن يرى ابتسامتها الحلوة و أنفها الأشمّ. سوف تمضي، و سينساها، و ستسرق الأيامُ ذكراها كما تسرقُ الريحُ لوحاته الرملية. كانت سعالي الصحراء تنفخُ الرياحَ بقوةٍ و تنثرُ الرمالَ فوقَ وجهه، و كأنها تسخرُ منه.

قفزَ راكان إلى أقرب شجرةِ طلحٍّ منه، و سحب أحد أغصانها حتى كسره، و أزال الأشواك الناتئة بسرعةٍ تجرّحت معها يداه. كانت الريحُ تشتدُ من حولهِ و تنثر الرملَ و الغبار. انحنى راكان على الرمل و بدأ يرسمُ بهوسٍ و بسرعةٍ وجهَ وضحى. لم يرسم إطاراتٍ هذه المرة. كان عقله مشغولاً عن الإطارات بوضحى، و كانت الريح تعصفُ بشدةٍ لا تسمحُ له بأن يهتم بأمور شكليةٍ مثل هذه. و لكنَّ رسمَ أي شئٍ تحتَ عصفِ هذه الريح المسعورة كانَ أشبه بالمستحيل. كان كلما حفر خطاً على الرِمال، أزالتهُ الريحُ العاصفة، و كانت الدموعُ المختلطةُ بالرملِ تملأُ عينيه و تعيقهُ عن الرؤيا. لكنه لم يتوقف. كان يرسمُ و يرسمُ و يرسم، حتى حرثَ الوادي خطوطاً تحاولُ أن تتشابكَ لتحفظ له وجه حبيبتهِ دونَ جدوى. في الأخير، سقطَ راكان متهالكاً بعدَ أربعِ أو خمس ساعات، و أخلدَ للنوم على إحدى التلات المرتفعة المُطِلة على الوادي.

عندما أفاق، كانت الرياح قد خفّت حتى كاد أن لا يشعرَ بها، و كانت الشمسُ الغاربة تنثرُ أشعتها الحمراء على طول الوادي. تطلعَ راكان من تلتهِ المرتفعة إلى الأسفل، و أخذَ يتتبعُ آثارَ ضربات عصاه التي أبقت الريحُ بعضاً منها، بعد أن لعبتْ بها و غيرت في اتجاهاتها. كادَ قلبه أن يتوقف عندما وصل بعينيه إلى الجانب الجنوبي من الوادي، و عندما تأكدَ من حقيقةِ ما يراه، طفرتْ دمعةٌ أخيرةٌ من عينهِ أحسَّ بعدَها بالطمأنينةِ و الراحة. كان وجهُ وضحى مبسوطاً على مساحةٍ هائلةٍ من الرمال. كان مرسوماً بتفاصيله الدقيقة، و ملامحهِ المُحببة، و جماله الهادئ. هذه هي وضحى بعينيها الشهلاوين، و أنفها الأشمّ، و ابتسامتها الحلوة. هذه هي وضحى كما عرفها و كما سيتذكرها دائماً. و لكنَّ أكثرَ ما أثار انتباه راكان و دفع بالدمعة الأخيرة فوق خدِه، كانت عنقها الطويلة التي رُسمت بطريقةٍ غريبة، و كأنها تلتفتُ إلى الوراء، قبل أن تمضي بعيداً مع الريح.

عبدالعزيز رشيد
06-12-2009, 09:28 PM
(حكايةُ الصبيِّ الذي استطاعَ أَنْ يَرَ الَنوم)


هاكَ يدي، وتعالَ معي.. فسوفَ آخذكَ إلى مكانٍ لم ترَه من قبل. سوفَ أذهبُ معكَ إلى بغداد -حاضرةِ الخلافة- لأجوسَ بكَ أزّقتها العتيقةَ حتى نصلَ إلى ذاك البيمارستان الضخم، الذي يقومُ على الضفةِ الشرقية من نهرِ دجلةَ الأزرق.

هل ترى ذاك الرجلَ المربوعَ القامةِ ذا اللحيةِ القصيرةِ والنظرةِ الساهمة؟ ذاك الذي يمشي بخطىً متعبة داخل البيمارستان؟ هل عرفته؟ إنه الشيخُ الرئيس حجةُ الطبِ أبو علي الحسين بن عبدالله بن سينا. أنا متأكدٌ أنكّ سمعتَ بهِ من قبل. هو لا يزالُ في منتصفِ العمرِ -آنذاك-، ولكنّ صيته قد شاعَ و ذاع، حتى ترأسَ بيمارستانَ بغدادَ الكبير، وأصبحَ قبلةً لطلاب الطبِ والمرضى المكروبين.

لم أمشِ بك كل هذه المسافة، وأعبر بِك حدودَ المعقولِ لمجردِ أن ترى الشيخ الرئيسَ في شبابهِ في بغداد، وإنما أريدُ أن أريكَ ذاك الصبيَّ الصغير الذي ألتقى به ابنُ سينا ذاتَ صباح وتحدثَ معَه. اتبعنى..


-1-
توقفَ ابنُ سينا أمام غرفةِ العزل. داخلَ الغرفة، كانتْ ترقدُ امرأةٌ عليلة من أشرافِ مكةَ مصابةٌ بالسّل. مضى على وصولِ المرأةِ شهرٌ كامل، حينما أتى بها أخاها وتركها داخلَ البيمارستان برفقةِ ابنها الصغير، وقفلَ راجعاً إلى الحجاز. كانت آنذاك تعاني من حمىً مرتفعة وسعالٍ شديدٍ متقطّع. أما الآن، فقد ذبلَ جسمُها وشحُب وجهها كالزهرةِ من دونِ ماء، واصطبغ البلغمُ الخارجُ من فمِها بحمرةٍ قانية. قرعَ ابنُ سينا الباب برفقٍ ثمَ دخل..

"السلام عليكِ يا أمَ مَعن."

"وعليكَ السلام ورحمة الله يا بنّي" أجابت بصوتٍ مبحوحٍ متقطّع.

ابتسم ابنُ سينا بود، وهو يلحظُ صوتَ سعالِها العنيف والدمَ الذي يصبغ طرفَ حشيتِها المفروشة في أقصى الغرفة.

"كيف كانت ليلتُك؟" سألها ابنُ سينا، منحنياً فوقَ معصمِها ليتحسسَ نبضَه.

"كسابقاتِها.. نوباتٌ من السعالِ الذي لا يتوقف."

"هل استطعتي النوم؟"

"نمتُ و الحمدلله.. ولكني أريد أن أشتكي ولدي لديك."

التفتَ ابنُ سينا ناحيةَ الصبي الجالسِ في الطرف الآخر من الغرفة، والذي كان يصغي إلى حديثِهما بإنصاتٍ واهتمامٍ واضحين. كان الصبيّ لا يتجاوز الثامنة من عمرِه، ويلبسُ ثوباً أزرقاً فضفاضاً. ابتسمَ ابنُ سينا وسأله:

"لماذا تريدُ أمُك أن تشتكيكَ يا مَعن؟"

هزَّ الصبي كتفيه بعجبٍ، وابتسمَ ابتسامةً حلوةً لم يملك ابنُ سينا إلا أن يردّها بمثلِها. ارتفعَ صوتُ الأم من وراءِ ابن سينا:

"لأنه لا ينام"

"لا ينام! حسبتُ أنّ أمكَ هي التي لا تستطيع أن تنامَ بسبب سعالِها وليس أنت! ما الذي يمنعكَ من النومِ يا معن؟ هل أنت قلقٌ على أمك؟"

ضحكت الأمُ ضحكةً سرعانَ ما قطعتها نوبةٌ طويلةٌ من السعال الشديد.

"ربما هو قلِقٌ -رغمَ أنَّ صحتي جيدة ولا تستدعي القلقَ- ولكنَّ هذا ليسَ هوَ السببُ الحقيقي الذي يمنعه من النوم."

"ما هو السببُ إذن؟"

"ألا تخبرُ الطبيبَ عن سببِ امتناعِك عن النومِ يا معن؟"

"أريدُ أن أرى النوم" أجاب الفتى الصغير منتصباً على قدميه.

"ترى النوم!"

هزَّ الفتى رأسهُ موافقاً.

"أعذر جهلي ولكني لم أفهم تماماً.. كيفَ تريدُ أن ترى النوم؟"

"هل تعرف أيها الطبيبُ كيف ننام؟"

عقدَ ابنُ سينا يديه وراءَ ظهرِه وتغضّنت جبهتهُ بالتجاعيدِ التي تعلوها حينما يثيرُ أمرٌ اهتمامِه..

"لا.. لا أعرف. هناكَ كثيرٌ من العلماءِ والفلاسفة تسائلوا عن سرِ النوم دونَ أن يخلصوا إلى إجابة!"

"ذلكَ أنهم لم يصبروا حتى يرَوا النوم." همسَ الصبي بحماسةٍ وكأنه يفضي بسرٍ مقدس.

"لا زلتُ لا أفهم!"

"النومُ يأتي إلينا بخطىً خفيفة. يتسللُ برشاقةٍ دونَ أن يصدرَ صوتاً. بمجردِ أن يدهمَ الدارَ أو يقفزَ عبرَ النافذةِ نحسُّ بنعاسٍ شديدٍ ونغمضُ أعيننا حتى قبلَ أن يدخلَ غرفتنَا. لو أنَّ أحداً استطاعَ أن يقاومَ النعاس، لو أنهُ بقيَ مفتوحَ العينين في تلكَ اللحظةِ التي يغمضُ الباقونَ فيها أعيُنَهم، لرأى النومَ يتسلل وسطَ الغرفة."

"وهل سبقَ لكَ أن رأيتَ النوم؟"

"لا.. فهوَ في كلِ ليلةٍ يهزمني، ويرسلني في سباتٍ عميق قبلَ أن أراه. ولكن لا بدَّ لي أن أهزمَه."

ابتسمَ ابنُ سينا بتعجبٍ وأخذَ يدعكُ جبينَه المتغضِن.

"لا تستهن به. فكما يضعُ الأحلامَ في عقولِنا، هو يستطيعُ أن يقرأ أفكارنا. لا بدَّ أنه علمَ بنيتِك المبيتّة، فصارَ يتريثُ عندَ بابِ غرفتِك حتى يسمعَ شخيرَك قبلَ أن تدخل."

اتسعت عينا الصبيّ في دهشةٍ وهتفَ قائلاً:

"لم يخطر هذا الشئ ببالي مسبقاً. سوفَ أخدعهُ هذه الليلة وأشخر متظاهراً بالنومِ حتى يدخل."

صرخت الأمُ في احتجاج:

"ما هذا يا أبا عليّ؟ قد اشتكيتُ لك لتساعدَني ضدَه، فإذا بكَ تشاركُه جنونَه!"

"ولدكِ نابغةٌ يا أمَ معن. حقَّ لكِ أن تفخري به."

ابتسمت الأمُ بفخرٍ و تناولت العقار الذي أعدهُ لها ابن سينا من مزيجِ العسلِ والورد.


-2-
استيقظَ ابنُ سينا على صوتِ طرقٍ عنيفٍ يهزُّ بابَه. قفزَ سريعاً من مرقدِه وتناولَ جلبابَه ولبسَه. فتحَ ابنُ سينا البابَ ليجدَ عبدَالرحمنِ -أحد طلابِه- يلهثُ خلفَ البابِ وصدرُه الهزيلُ يعلو ويهبط. وضع ابنُ سينا يدَه اليمنى على كتفِ الشابِ المذعورِ وسأله:

"ماذا جرى؟"

أجابَ عبدُالرحمن بنفسٍ متقطع:

"المرأة الحجازيةُ المصابةُ بالسل تلفظُ أنفاسَها."

جرى ابنُ سينا بجلبابهِ الواسعِ ورأسهِ المكشوفةِ بأقصى سرعتِه قاصداً غرفةَ العزل. لا.. ليسَ أم معن، ليسَ أم معن. كيفَ تموتُ غريبةً، بعيدةً عن أهلِها، وحيدةً إلا من ولدِها الصغير؟ والولد.. ماذا عن الولد؟

حاولَ ابنُ سينا طردَ هذه الأفكار، والتي طالما حذرهُ أساتذتهُ منها حينما تعلمَ في بخارى. لا تفكر في شخصِ المريض أو مقدارِ حزنِك لأجله. فكر في جسدِه، نبضِ قلبه، سرعةِ أنفاسِه..

"ما الذي جرى بالضبط؟" سأل ابنُ سينا عبدَالرحمن الذي كان يعدو بجوارِه.

"أفقنا على صوتِ سعالٍ شديد، وإذا بأمِ معنٍ تلفظُ كميةً هائلةً من الدم ثم تفقد الوعي."

وصلَ ابنُ سينا إلى الغرفة المشرعةِ الباب، ليفاجأَ بالمنظرِ البشعِ أمامَه. كانت بحيرةٌ من الدمِ اللزجِ تملأ أرضية الغرفة وقد أخذت تسبحُ فوقَها قطعٌ سوداءَ من الدمِ المتخثر. وسطَ بحيرةِ الدم، كانت أمُ معن ترقد ممددةً بلا حراك. صرخَ ابن سينا في عبدالرحمن:

"ارفع رجليها إلى الأعلى."

خاضَ عبدُالرحمن بحذرٍ وسطَ الدم ليرفعَ رجلي المرأة الباردتين. انحنى ابنُ سينا فوقَها، ووضعَ اصبعيه الوسطى والسبابة فوقَ عنقِها. لم يكن هناكَ نبض.

تناولَ ابنُ سينا خرقةً مبللة من وعاءِ ماءٍ قريب، ومسحَ وجهها. كانت عيناها الجاحظتان تنظرانِ إلى الأعلى. أغلقَ ابنُ سينا العينين، بينما أنزل عبدُالرحمن قدمي المرأة المتوفاة في رفقٍ وحِرص. أغمضَ ابنُ سينا عينيه في ألمٍ وأخذ نفساً عميقاً. عندَها تذكرَ الشئ الذي غفلَ عنه منذ دخولِه. نظر إلى الركنِ البعيد في أقصى الغرفة، ليجدَ الصبي الصغيرَ منزوياً هناك، وقد أخذ ينظر إلى الدمِ الأسودِ وعيناهُ يملأهما الذعر.


-3-
يختلفُ الألمُ عندما يصيبُ الصغارَ عن الألمِ الذي يحيقُ بالكبار. الكبارُ غالباً ما يتألمونَ لخوفِهم من مجئِ هذا الألم، لقلقِهم من تذوقِ تلكَ الغصّة المريرةِ التي يعهدونها، ومعاودةِ تلك التجربة المرهقة الطويلة التي يهابونها. أما الصغار.. فهم يقفونَ كالسنابلِ المشرعَة في وجهِ الريح، غيرَ متحرزين ولا حذرين، ليجتاحَ الألمُ الحقيقي روحَهم، ويعذبهم دونَ أن يدركوا كنهَه وحقيقته.

مضت خمسُ ساعاتٍ دونَ أن يحرّك معنٌ عضلةً واحدة، أو يتزحزحَ قيد أنملةٍ من الركنِ القصيّ في الغرفة الذي انطوى فيه. رأى بعينيه أمَه تلفظُ أنفاسَها، ليأتيَ الطبيبُ ومن معَه ويلفونها ثم يخرجونها من الغرفة. ثمَّ أتت امرأة عجوز مسحت أرضيةَ الغرفة، وأزالت البحيرة الحمراء التي تدفقت من فمِ أمه. حاولوا مراراً وتكراراً أن يتحدثوا معه، أن يخرجوه من الغرفة دون جدوى. لم يصرخ. لم يبكي. كان ينزوي في ذاك الركن بلا حراك، وقد طوى ركبتيه قربَ صدرِه، وأخذ ينظر بسهومٍ في فضاء الغرفة. عندما حاولوا إخراجه من الغرفةِ رغماً عنه، منعهم الرجل الملتحي المربوع القامة.

كان عقله فضاءً فارغاً إلا من صورٍ تتدافعُ داخلَه بينَ لحظةٍ وأخرى. كانت عيناه مفتوحتانِ إلى درجةِ الإيلام. كم يتمنى لو ينام هذه الليلة.. هذه الليلة فقط. لو يغلق عينيه ليستيقظ في الصباحِ ويجدَ أمه ترقدُ بجانبهِ كالمعتاد. تضمّه حين يلجأ إليها. تبتسم له حين يقبلُ رأسها. ماذا حصلَ لها؟ أين ذهبت؟ هل ماتت؟ ماذا يجبُ أن يفعل؟ أين يذهب في هذه المدينة الكبيرة الغريبة التي لا يعرفُ فيها أحداً يلجأ إليه؟

أخذتِ الأفكارُ والصورُ تتداخلُ وتختلطُ في عقلِه. ابتسمَ ابتسامةَ اليائسِ الذي أدركه الفرجُ أخيراً. إنه النوم. ها هوَ قد جاء. لن يقاومَه هذه المرة. لن يحاولَ أن يراه. سوفَ يهبُ نفسَه إليه بكلِ حبٍ، بكلِ شوقٍ، برضىً واستسلام، علّهُ أن يحتضنَهُ.. أن ينقذَه من هذا الشعور المرّ الغريب الذي يملأ روحَه ويأرّقه.

تعالَ أيّها النوم.. تعالَ ولا تخشى شيئاً، فها أنا أغمضُ عينيَّ برضىً، مستجدياً، مستعطفاً قدومَك المبارك. تعالَ واحضنّي كما اعتادت أمي أن تحضنني..

بقيَ مغمضاً عينيهِ لبرهةٍ من الوقتِ دونَ أن يحسَ ذاك الخدرَ الدافئَ المعتاد يسري في جسدِه. فتحَ عينيه مختبراً.. وعندَها رآه!

كانَ يقفُ وسطَ الغرفة، فوقَه مباشرة. كانَ يتلفعُ بعباءةٍ سوداء ينسابُ لونُها ليتداخلَ معَ لونِ الظلامِ المحيط به. لم يكن هناك أيّ صوتٍ ينبعث لخطواتهِ أو أنفاسِه. كان ينظر في عينيه.. مباشرة.

"هل أنتَ النوم؟" سألَه معن.

"أنا النوم."

ابتسمَ معنٌ وأحنى رأسه بمراراة. كان يتمنى طوالَ حياتِه أن يرى النوم. كان يعاندُ أمه ويغضبها، ويظل لساعاتٍ سهراناً أملاً في رؤيةِ هذا الشئ المتدثر بالسواد. والآن -حينما أراد من كل قلبهِ أن ينامَ ليهربَ من ألمِه- إذا بهذا الشئ الغريب يظهر أمامَه ويقفُ فوقَه!

"لماذا لم أنمْ إذن؟"

"لأني أريدُ أن أريكَ شيئاً."

"ماهوَ؟"

"تعالَ معي."

مدَّ النومُ يدَه الكبيرةَ إلى معنٍ فتناولها. أحس بالدفءِ حينَ ضغطت يدُ النومِ الواثقة على يدِه. نهضَ على قدميه وأخذ يسير بجانبِ النوم. هل هذا الذي يحدثُ حلمٌ أم حقيقة؟

"ألا تخشى أن يرانا أحد؟" سأل معنٌ النوم.

"لماذا أخشى ذلك؟ هل نسيتَ أنّه لا يمكنُ لأحدٍ أن يرانا؟"

"كيف ذلك؟"

"انتظر وسترى."

كانَ هناكَ رجلٌ يجلسُ على بوابةِ البيمارستان الضخمة. بمجردِ أن دخلا الممرَ المؤدي إلى البوابة، تمطّى الرجل وتثاءبَ تثاؤبةً طويلة. رفعَ النومُ يدَه ونفخ ببطءٍ باتجاهِ البوابة. مالت عنقُ الحارسِ على كتفِه. أخذ معنٌ ينظرُ مبهوراً إلى الحارسِ وهمس:

"هل نام؟"

"تأكّد بنفسِك حينما نعبر البوابة."

كانَ الحارسُ يغطُ في نومٍ عميق فوقَ مقعدِه -وقد ابتسم بلذةٍ وارتخى جسُده- حينما مرّا بجانبِه. لفحت معن نسمةُ هواءٍ باردة حينما وقفا خارجَ البيمارستان وسطَ تلك الليلة الغريبة. تساءل معن:

"أين نحنُ ذاهبون؟"

"إلى الجسر الكبير الذي يربط الجانب الشرقي بمحلة الرصافة."

"ولماذا نحنُ ذاهبون هناك؟"

"سوفَ ترى"

أجابَ النومُ باقتضابٍ وأكمل مسيرَه. انحرفا سويةً إلى اليمين ليدخلا زقاقاً ضيقاً يوصل إلى ضفة دجلةَ الشرقية والجسر الكبير. كانَ هناكَ شحاذانِ يتشاجرانِ وسطَ الزقاقِ في تلك الساعة المتأخرة من الليل. ابتلع معنٌ ريقه بصعوبة وهو يقتربُ منهما بصحبةِ النوم. التفتَ الرجلانِ ناحيتهما حينما قارباهما، ليرفعَ النومُ إصبعه السوادء ويلمسَ جبهة أحد الشحاذين. أغمض الشحاذ عينيه مباشرةً وسقطَ فوقَ أرضِ الزقاق يغطّ في نومٍ عميق. فتحَ الشحاذ الآخر فمَه ليصرخَ، ولكن النومَ لمسه في حنانٍ على جبهته، ليرسلَه هو الآخر في سباتٍ عميق فوقَ أرض الزقاق الصلبة.

تابعَ معنٌ سيرَه بجانبِ النوم، مخلفاً الشحاذَين خلفه يغطان في نومهما العميق. تناولَ النومُ يدَ معنٍ ثانيةً وضغط عليها في حنان ودفء. حينما انتهيا إلى آخر الزقاق رأى معنٌ مياهَ دجلةَ الفضية وقد التمعت تحتَ ضوءِ البدر. كان المنظر رائعاً لا يمكن وصفه. تساءل معنٌ إن كان هذا حلماً أم حقيقةً؟ خصوصاً بعد أن بدأ يشعر بالخدرِ يسري في قدميه المنهكتين.

أخذا يسيرانِ حتى اعتليا الجسر الكبير وتوقفا في منتصفِه. أشارَ النومُ إلى القمر وقال:

"في كل ليلةٍ، حينما أنتهي من الطوافِ على البيوتِ وأرسل جميع الناسِ إلى النوم.. أصلُ هنا إلى الجسر، وعندَها أتعلقُ بأشعةِ النورِ وأعودُ إلى القمر."

تثاءب معنٌ وهو ينظر إلى البدرِ المكتملِ في السماء.

"هل ستذهبُ الآنَ إلى القمر؟"

"نعم.. ولكن ليسَ قبلَ أن أرسلكَ إلى النوم أنت أيضاً. لقد جئتُ بك هنا لأخبركَ عن سر القمر. القمر لا يعكسُ أشعةَ الشمس، وإنما هو يعكسُ نورَ تلك الأرواحِ الطاهرة التي توفيت وستصعدُ بإذن الله إلى الجنة..."

بدأت كلمات النومِ تتداخل، وأخذ الخدرُ يتسلقُ جسدَ معنٍ ويسري في كافةِ أعضاءه.

".. هذه الليلة، اكتمل القمرُ بدراً لأنّ روحاً طاهرة -تفوقُ كلَ الأرواحِ نوراً- توفيت. هذه الروح هي روحُ أمك رحمها الله. عندما أصلُ إلى القمر، سوفَ أخبرها كم كنتَ شجاعاً وعظيماً هذه الليلة. سوفَ أخبرها أنك لم تذرف دمعةً واحدةً، وكم أنت تحبها كما هي تحبك تماماً."

ابتسمَ معنٌ في تعبٍ وسعادة. انحنى النومُ على جبينِه وقبلّه ببطء. وعندَها.. أغمضَ معنٌ عينيه ونام.


-4-
وكما تنتهي كلُ رحلةٍ، تنتهي رحلتنا.. فتعالَ لنرجعَ سوياً ونتركَ الصبيَّ -الذي رأى النومَ- نائماً وحدَه لأولِ مرةٍ، في طريقه الشاقِ والطويل نحوَ الحقيقةِ التي لا تُدرك. تعالَ لنغادر بوابةَ البيمارستان متجهين إلى الجسر الكبير، ولكَ الخيار في أن تنظرَ أو لا تنظرَ إلى آخر الزقاق. فهناكَ سوفَ تجدُ الشيخَ الرئيس -ابن سينا- ينزعُ عباءتَه السوداء، ويهبُ الشحاذَين بعضاً من الدراهمٍ مقابلَ امتثالهما لما أمرهما به.

عبدالعزيز رشيد
06-12-2009, 09:34 PM
عدي الحربش أو "علي الزيبق" كما يسمّي نفسه بالمنتديات أصدر مؤخّرا كتابه (حكاية الطفل الذي استطاع أن يرى النوم) بحقّ أشكر تلك اللحظة التي قادتني إلى هذا الكتاب واقتنائه أنصح الجميع به ماأجمل\أمتع اللحظات التي أقضيها معه أغبط كلّ من استطاع التعرّف على كتاباته باكرا جميل جميل وأكثر وربّي

http://www.kuwaite.ws/uploads/1bcb9c77f5.png

وشـــاح
07-04-2009, 03:27 AM
في زقاق الموتى أرتعد كلما تبدى بياض. كنتُ سيد أحلامي ،لكنها أحيانا ترهقني وأنا أمر مستندا إلى جدار الزقاق. تتحرك الكائنات في الزقاق وفي مخيلتي فترتعش ساقاي. آه يا بياض طفولتي، كل شيء في زقاق الموتى في حلكة الليل أبيض، حتى وأنا أغمض عيني وأركض تظل الأشياء حليبية تتراقص في غنج ..

وفي بياض النهار، حين تطلع الشمس الحارقة، أركض نحو الزقاق لا يُدركني خوف .. أتحسس الجدار، وأؤكد التفاصيل كي لا تملأني الرهبة ليلَا .. وأسخر من نفسي ولا أتجرأ على إخبار الأصدقاء، أقول: ليست سوى خدوش هذه، وتلك بُلغة مهترئة، وفي اليسار نخيلة لا تنمو ، ثم كيف تُفزعني هذه المسافة القصيرة؟ .. أسجل المكان وأهله بدقة، لكنني بالليل أنسى كل شيء، ولا تعود تراودني غير أحلامي، وقصص الذين سكتوا مرة واحدة، ولم ينطقوا لأنهم رأوا ما هو في علم الغيب، أو ماتوا بحسرتهم. أتذكر القبر والظلمة والملكين ومطرقة النكير فأسمع الهمهمات، وأُسرع فيسرع معي من يتعقب الخطى .. ثمّة امرأة وجدوها في الزقاق ميتة، على صدرها خدوش حادة، والذباب الأزرق يصنع الولائم حول الدم المتخثر .. و -أمي رحمة- المرأة الحنون محنية الظهر تدفع بالأطفال نحو الدنيا وجدوها بالزقاق ميتة, و بسمة الطفلة الصغيرة، كانت تجري فسقطت هناك في زقاق الموتى .. رَشّوا الحليب في كل مكان تحركت فيه, حيث تلعب، حيت تركض، حيث تخرج لسانها الصغير لنا، وتكشف عن مؤخرتها نكاية بنا .. ما عُدتُ أستطيع شرب الحليب لأنه يذكرني بجسمها الرخو .. وحين يمر الموتى إلى مثواهم لا يمرون كرامًا، بل يظلون في خيالي .. يتسامرون، يقهقهون، يلعبون، يصمتون أحيانا لأن الكلام انتهى، ينظرون بحزن إلى الحدود القصوى لمملكتهم .. ثم أخرج عند المساء و أركض، كي لا يمسكني الموتى، وألتفت فلا أرى سوى الظلام، لكن العيون تظل ترقبني ما إن أسير .. وإيقاع قلبي يعزف وأقرأ قصار السور، ثم أرى أبي يدخل الدار لأن بيتنا في آخر الزقاق وأصيح به كي يترك الباب مفتوحًا لكنه لا يسمعني .. يُقفل الباب ويضع الرتاج وخشبة الأمان .. وألحق الباب لاهثًا، أطرق أطرق بكل القوة، والأعين تترصدني، الأعين الميتة المخيفة الحزينة البريئة، تلك الأعين التي أتحداها في الصباح، وأقول اظهري، ولا أجرؤ وقت الليل والغمام لأنها ترد الصاع صاعين ..

وأفكر في الحياة العنيدة، وفي جارتنا كثيفة الشعر على الوجه كرجل، مكتنـزة الشفاه كأنما تتأهب للكلام باستمرار.. تجلس في الزقاق طوال اليوم تعد الموتى، على الأرجح، ولا تموت .. لكنها اختفت في يوم وقالوا وقالوا وبحثوا في كل مكان ثم شموا الرائحة ..

وقد جرى في الزقاق -بعد موت مكتنزة الشفاه-، أن شيّعها الناس بعد العصر ووضعوا على قبرها الشوك .. وزعت النساء علينا خبزا حارا بالفلفل، ثم اجتمع الأطفال بدوني، يتدارسون أمورا حسبتها خطيرة .. تدافعوا نحو بيتها، وكنت في أعقابهم .. دخلتُ فخرجوا و أغلقوا الباب دوني .. ها إني أصبحت وحيدا مع كل أشيائها, مع صورتها التي لا تُفارِق وأقول ستظهر الآن لتقترب ببطء وتطوقني بلحمها البارد ..

آه أيتها الأحصنة المالحة في حلقي، يا هذا الجفاف في مياه الروح، وهذا العرق المتفصد، وهذه العزلة الفائضة .. أتخيل موتي، أتخيل الكلاب في المقبرة تنبح: هوهوهو، والذئاب تعوي: عوعوعو، والموتى يتذمرون بأصوات لا أجيدها: حمممم حممم حمم .. وأنا أحلم بالأصوات ذاتها، شهرين متتاليين وأنا أحلم، والمرأة مكتنزة الشفاه تطير خفيفة حول فراشي، لا تفعل بي شيئا، لكنها تسلخ وجهها ثم تعيده، تنصحني بأكل النبق و تسألني عن بعض القلائد التي سرق الأطفال وتقول: طَمْئِنْ أهلي, أنا هنا مرتاحة ..

ولقد مر بعدها بالزقاق رجل لم يغطوا وجهه، وكنت بالسطح، فبانت عيناه البيضاوان .. ظل البياض يغزوني ويحرك في شهوة البكاء .. أراهن الآن أني كئيب للسبب ذاته، كوني تطلعت وأمعنتُ وكدت أسقط لو لم تمسكتني يد .. يدُ من يا ترى؟ يدُ من؟ ..

تراب المزارات لم ينفعني، وأمي مَلّت، لذلك تركَتْني حتى كبرت ُوشختُ، وعاد البياض قريبا مني، لكنه مُرعب على الدوام، ثم حانت ساعتي، فجاءت المرأة التي كانت تتأهب، كما يحدث في الأفلام على الدوام، حين يغادر الجسد ذاته ولا يذهب بعيدا لأن كل شيء يخترق صلابته، وجاء الرجل الذي كان يُصلح لنا الكهرباء، يمسك الأسلاك ولا يتأذى، ويسأله أبي فيقول:
-الكهرباء صديقي .. ويقهقه ..

جاءت المرأة فَقَدّتْ مني شبحا ومضت .. الشبح مني الآن وأنا منه .. لكنه لا يفهمني .. يظل طوال اليوم يفرضُ رغائب قارسة .. يتجول في الزقاق وأنا لم أتكيف مع ليله بعد، يلاعب الكائنات التي ماتت، وأنا أخشاها .. ثم آلف .. الوجود فكرة مبهمة، والزمن يوضح كل شيء .. أرى في الزمان ذاته، والأمكنة الغامضة اللزجة، الفتاة الصغيرة وقد كبرت .. ما عادَتْ تأبه الآن لمقالب أحد .. تسير مرفوعة الرأس بجناحين يغطيان القليل، ولا يكشفان طراوة الجسد و الدنيا .. وأظل رفقة الشبح طوال الوقت، بنفس الزقاق، ثم نبدأ في اختصار المسافة، رفيقين هذه المرة، فقد تعودنا على بعضنا ..

نسير متفقدين الأحوال كدورية الشرطة، دون سلاح أو حزام, تبدو الأمور عادية.. يتوافد المزيد من الأشباح, لكن لا يظهر أبي في نهاية الزقاق ليغلق الباب دوني .. وأجاهد كي أرسم صورته القديمة، لكنها تتسامى .. ويتراكم الغبار حول الشجيرة الصغيرة، ولا يعود الشبح يشبهني فجأة، لأنه ملَّ السير والزمن لايتوقف .. ثم أرجع قليلا إلى الوراء، إلى الشباب لأتوازن و أصنع ما فاتني .. أُصبحُ أبًا، لكن ابني لا ينتظر كي أغلق الباب دونه .. هو يغلق الباب دوني ويسخر.. وأحاول جاهدا الابتسام في وجهه .. وأعرف أن الحياة بالضبط هي زقاق الموتى .. الحياة التي يَنْزَرِعُ الموت في كل مكان فيها .. الحياة التي تَنْزع أضراس الناس بكُلّابِها .. ثم أعود إلى الطفولة هذه المرة، في زقاق الموتى كي أهنأ قليلا .. لا يهنأ جسدي لأن الزقاق دوما كالسابق ..

وأسير في الزقاق وحيدا، كما الماضي، أخاف فأركض لأغادره .. أظل أركض .. هناك من يتعقبني .. وقبل أن أنحرف إلى حيث منزلنا، حيث الخلاص، تصطدم رجلاي بشيء ثقيل فأتدحرج.


:


http://www.l44l.com/upfiles8/5Z767029.bmp
* عبدالعزيز الراشدي / زقاق الموتى من كتابهِ اللوحة "وجعُ الرمال"

فقـد
07-20-2009, 12:58 PM
عينا كلب أزرق/ غابرييل غارسيا ماركيز


ثمَّ ، نظرتْ إليّ. في البداية اعتقدتُ أنها تراني للمرة الأولى، لكنها عندما استدارت خلف الموقد، وشعرت بنظراتها المراوغة تنزلق على ظهري، وتعبر فوق كتفي... عندها أدركتُ أنني من يراها للمرة الأولى!

أشعلتُ سيجاراً وسحبتُ نفساً عميقاً وقوياً من الدخان قبل أن أدير المقعد لأجعله يتزن على ساق خلفية واحدة، وبعدها أصبح بإمكاني مشاهدتها حقاً، كما كانت... تقف بجانب الموقد وترمقني، كل ليلة. لدقائق وجيزة كان ذلك كلّ ما فعلناه: تبادل النظرات. أنا رمقتُها من مقعدي المتزّن على ساق خلفية واحدة، فيما هي واقفة ويدها الطويلة الساكنة فوق الموقد، ترمقني بدورها. شاهدت الألق الذي انفرج عنه جفناها، كما في كل ليلة؛ فتذكرتُ عادتي في أن أقول لها : (عينا كلبٍ أزرق). وبدون أن ترفع يدها عن الموقد قالت: (تلك العبارة، لن ننساها أبداً.) . ثم غادرت مكانها وتابعت متنهدة : (عينا كلبٍ أزرق. لقد كتبتُها في كل مكان.)

راقبتها تسير متجهة إلى منضدة التزين، وشاهدتُ صورتها تظهر في المرآة المستديرة ترمقني كلما طالني شيء من الضوء. مستمرة في مراقبتي بعينيها البراقتين كجمر، بدأتْ بفتح العلبة الصغيرة المغطاة بنسيج وردي ذو لآلئ، ثم رشتْ المسحوق على أنفها، كل هذا و أنا أراقب. حين انتهتْ أغلقت العلبة وانتصبتْ معاودة السير نحو الموقد، قالت : (أخشى أنَّ أحدهم يحلم بهذه الغرفة ويستكشف أسراري.) ، ومدت ذات اليد الطويلة المرتجفة فوق الوهج، تلك التي كانت تعمل على تدفئتها قبل الجلوس أمام المرآة. قالت : (أنت لا تشعر بالبرد؟) فأجبت : ( أحياناً ). وعادت تقول : ( يجب أن تشعر به الآن ).

وعندها أدركتُ لِمَ لمْ يمكنني البقاء وحيداً على الكنبة؛ لقد كان البرد هو الباعث على شعوري بالوحدة. قلت: (الآن أشعر به.) ثم استطردتُ : (وهذا غريب لأن الليل صافٍ، ربما سقطت الملاءة). لكنها لم تجد جواباً. مرة أخرى أراها تغادر مكانها لتتجه إلى المرآة، فأدير المقعد لأبقي على ظهري مواجهاً لها. و بدون النظر إليها، عرفتُ ما كانت تقوم به. عرفتُ أنها جلست أمام المرآة مرة أخرى تراقب ظهري الذي حظي بالوقت ليصل إلى أعماق مرآتها، ويُقبض عليه من قِبل نظراتها، تلك التي بدورها حظيت بالوقت لتصل إلى الأعماق و ترجع – كل هذا قبل أن تبدأ اليد دورتها الثانية – حتى أصبحت شفتاها مرسومة بالقرمزي في دورة واحدة من يدها، وهي جالسة أمام المرأة.

في مقابلي ، كنت أتطلع الى الجدار الاملس ، الذي بدا كمرآة عمياء لا يمكنني عبرها النظر إلى تلك الجالسة خلفي ، ولكن بوسعي تخيلها كما لو كانت هناك مرآة معلقة على الحائط تنقل إليّ صورتها ، و قلت ( أنا أراكِ ) . و على الجدار أمكنني أن أراها فعلاً ، كما لو رفعت عينيها إلى المرآة وشاهدتني بظهري المقابل لها على المقعد ، و في عمق المرآة ، وجهي المصوب باتجاه الحائط. ثم شاهدتُها تخفض عينيها ، دون أن تنطق بكلمة. قلت لها مرة أخرى ( أنا أراكِ ). فرفعت عينيها ثانية وقالت: ( هذا مستحيل. ) سألتها عن السبب الذي يجعله مستحيلاً ، و بعيون هادئة و منخفضة أجابت : ( لأن وجهك بإتجاه الحائط ). عندها أدرتُ المقعد ، قابضاً على السيجار في فمي . وحين بقيتُ مواجهاً لها عادتْ إلى مكانها خلف الموقد . هاهي ترفع كفيها فوق الموقد، كما ترفع دجاجة جناحيها ، تدفيء نفسها ، بينما ظلال أصابعها تغطي وجهها ، و قالت : ( أعتقد أني على وشك الإصابة بالبرد. لابد أن تكون هذه مدينة الصقيع. ) أدارت وجهها جانباً ، فتحولت بشرتها من النحاسية إلى الحمراء ، و فجأة بدت حزينة. قالت : ( افعل شيئاً بهذا الصدد.) و بدأت بخلع ملابسها. قلت : ( سأدير وجهي للحائط ) لكنها قاطعتني : ( لا جدوى ، سيمكنك رؤيتي على أية حال ، كما فعلت قبلاً.)
الوهج ينزلق على بشرتها النحاسية فيجعلها تلمع ، قلت لها : ( لطالما أردتُ رؤيتك هكذا ، و بطنك المكسوة بالحفر كما لو تم ضربك.) و قبل أن أدرك كم كانت كلماتي غبية و غير لبقة ، كانت هي قد أصبحت عديمة الحس بماحولها ، مشغولة بتدفئة نفسها قرب الموقد. قالت : ( أحياناً أشعر أني مصنوعة من معدن.) ، و صمتت فيما تحرك كفيها بخفة فوق اللهب. قلت : ( أحياناً ، في أحلام أخرى ، اعتقدتُكِ مجرد تمثال برونزي صغير مقام في زاوية أحد المتاحف ؛ ربما لهذا أنتِ باردة.)
- ( في بعض الأوقات ، عندما أنام على قلبي ، أستطيع أن أشعر بالفراغ يكبر في جسدي ، بشرتي تصبح رقيقة كصفيحة معدن ، ثم عندما يزداد تدفق الدم ، أشعر بالقرع في داخلي. كما لو أن شخصاً يناديني بالطرق على معدتي ، يصبح حتى بوسعي سماع صوت النحاس خاصتي في الفراش، يبدو مثل – ماذا يسمونه ؟ - المعدن المصفح.)
ثم سكتت و اقتربتْ أكثر من الموقد . قلتُ لها : ( أحبُّ أن أسمعكِ).
- ( اذا استطعنا العثور على بعضنا يوماً ، ضع أذنك على أضلعي عندما أنام على جانبي الأيسر ، و ستسمعني أقرع. لطالما أردتكُ أن تفعلها يوماً.)

سمعتُها تلهث بقوة فيما تتحدث. قالت أنها لسنوات لم تفعل شيئاً مختلفا ً؛ وهبتْ عمرها للبحث عني في أرض الواقع. ودليلها الوحيد إليّ كان تلك العبارة : ( عينا كلبٍ أزرق ). سارت عبر الشارع و صرخت عالياً بها ، أرادت أن تخبر ذلك الشخص الوحيد القادر على الفهم : ( أنا الشخص الذي يزورك في أحلامك كل ليلة ، ليقول لك : عينا كلبٍ أزرق ). كانت تذهب إلى المطاعم ، و قبل أن تطلب شيئاً تقول للنادل : ( عينا كلبٍ أزرق ) لكن الندل جميعهم كانوا ينحنون مجاملين باحترام ، دون أن يتذكر أحدهم أنه قال تلك العبارة في أحلامه قط. بعدها لجأتْ إلى الكتابة على الشراشف أو الحفر بسكين على أسطح الطاولات المصقولة : ( عينا كلبٍ أزرق ) . و على النوافذ المتشحة بالضباب جميعها ، نوافذ الفنادق ، و المحطات ، و جميع المباني الحكومية ، خطتها بسبابتها : ( عينا كلبٍ أزرق ).
قالت أنها ذات مرة دخلت محل صيدلة ، شمّت هناك ذات الرائحة التي شمتها مرّة في غرفتها ، بعد أن حلمتْ بي ، ذات ليلة. قالت لنفسها : ( لابد أنه قريب ) و بعد أن تفحصت القرميد الجديد النظيف اتجهت للصيدلي و قالت : ( أحلمُ كل ليلة برجلٍ يقول لي : عينا كلبٍ أزرق. ) يومها حدق الصيدلي بعينيها ثم قال : ( بالواقع يا آنستي ، إن لك عيوناً كتلك بالفعل.). قالت له : ( عليّ أن أعثر على الرجل الذي قال لي هذه الكلمات حرفياً ، في أحلامي.) لكن الصيدلي بدأ بالضحك ثم اتجه للزاوية البعيدة من منضدة العرض. بقيتْ ترمق القرميد النظيف و تشم تلك الرائحة المميزة ، ثم فتحت حقيبتها و أخرجت حمرة شفاهها القرمزية و كتبت بحروف مُحمرّة : ( عينا كلبٍ أزرق.). و حين عاد الصيدلي قال لها : ( سيدتي ، لقد لوثتِ القرميد.) ثم أعطاها قطعة قماش رطبة مستطرداً : ( نظّفيها الآن).
و تابعت الحديث من موقعها بجوار الموقد ، لتقول أنها أمضت طوال فترة ما بعد الظهر جاثية على أربع ، تنظف القرميد و تردد دون انقطاع : ( عينا كلبٍ أزرق.) حتى تجمع الناس عند الباب و قالوا أنها مجنونة.

و الآن بعد أن توقفتْ عن الكلام ، كنتُ ما أزال جالساً في الزاوية ، أتأرجح فوق المقعد. قلت لها : ( في كل يوم أحاول تذكر العبارة التي ستقودني اليكِ ، و الآن أعتقد أني لن أنساها. لكني لم أفتأ أبيّت النية ذاتها ، و عندما أستيقظ أكون قد نسيت الكلمات التي تمكنني من العثور عليكِ ).
- (أنتَ من ابتكرها في اليوم الأول).
- ( لقد ابتكرتُها لأني شاهدت عيناكِ الرماديتين ، لكن لم يكن بوسعي أبداً التذكر في الصباح التالي).
بقبضة مطبقة مرفوعة فوق الوهج ، تنهدتْ بعمق ، وقالت : ( لو أن بوسعك على الأقل أن تذكر الآن اسم المدينة التي كتبتُ بها تلك العبارات. )
أسنانها المتراصة المنتظمة تعكس وميض اللهب ؛ قلت لها : ( أودُّ لو ألمسكِ الآن.)
رفعتْ وجهها الذي كان مسلّطاً على الموقد ، رفعتْ أنظارها الملتهبة ، الدافئة في الآن ذاته ، تماماً مثلها و مثل يديها ، و شعرتُ بها ترمقني ، في الزاوية حيث أجلس متأرجحاً فوق المقعد. نطقت : ( لم تخبرني بهذا قبلاً)
- ( أنا أقولها لكِ الآن ، و هي الحقيقة. )
و من الجهة الآخرى خلف الموقد ، طلبَتْ سيجاراً. عندها شعرتُ بسيجاري الذي توارى بين أصابعي ؛ كنتُ قد نسيت أني أدخنُ واحداً. قالت : ( لا أدري لم لا يمكنني التذكر .. أين كتبتُها تلك العبارات)
- ( للسبب نفسه ، غداً لن يكون بوسعي تذكر الكلمات)
و بحزن قالت : ( لا . أحياناً أفكر أني ربما أكون قد حلمتُ بتلك الكتابة أيضاً.)

وقفتُ ، وسرت باتجاه الموقد ، حيث تجلس هي خلفه ، حاملاً السيجار و عود الثقاب في يدي ، التي لن يكون بوسعها الوصول الى ما خلف الموقد . مددتُ لها السيجار فوق الموقد فالتقطته بشفتاها ، ثم مالت على اللهب قبل أن يتاح لي الفرصة لإشعال عود ثقاب. قلت لها : ( في مدينة ما في العالم ، على كل الجدران ، لابد أن تلك الكلمات مكتوبة : عينا كلبٍ أزرق. و اذا تذكرتُها في الصباح فسيكون بإمكاني العثور عليكِ.) . رفعت وجهها ثانية عن الموقد ، بسيجار مشتعل بين شفتيها. همستْ : ( عينا كلبٍ أزرق) ، و بدأت تسترجع الذكرى فيما تذر الرماد ، و عينها نصف مفتوحة. نفثت الدخان ، قبضت على السيجار بين أصابعها و استطردت : ( شيءٌ قد اختلف الآن . بدأتُ أشعر بالدفء.) قالتها بصوتٍ فاتر و سريع ، كما لو أنها لم تقلها حقاً. كما لو أنها كتبتها على قطعة ورق و قربتها من النور فيما أقرأ : ( بدأتُ اشعر بالدفء) ممسكة اياها بسبابتها وابهامها ، قبل أن تبدأ بلفها وإتلافها ، و فيما أنا بالكاد أكمل القراءة ( .. دفء) كانت قد صيرتها كرة و ألقتها إلى النار ، لتصير خيوطاً من رمادٍ و وهج.
قلتُ لها : (هكذا أفضل. أحياناً يُشعرني مرآكِ ترتجفين بجوار اللهب ، بالخوف).

كانت قد مرت سنين طوال علينا و نحن مستمرين في رؤية بعضنا . في بعض الأوقات عندما نكون معاً ، شخصٌ ما كان يلقي ملعقة بالخارج ، و كنا عندها نستيقظ. وببطء أدركنا أن صداقتنا كانت خاضعة للأشياء الخارجية ، لأبسط حدث. لقاءاتنا جميعها انتهت بالطريقة ذاتها ، سقوط الملعقة ، حالما يحلّ الفجر. و الآن ها هي بجوار الموقد تحدق بي ، مما يجعلني أتذكر أنها نظرت لي بالطريقة ذاتها في الماضي أيضاً ، منذ ذلك الحلم البعيد ، حين جعلت المقعد يدور على ساق خلفية واحدة ، و بقيت أحدق في إمراة غريبة ذات عيون رمادية. لقد حدث عندها ، في ذلك الحلم أن سألتها للمرة الأولى : ( من أنتِ ؟ ) و أجابتني : ( لا أتذكر. ) و عدت أقول لها مصرّا : ( لكني أعتقد أننا شاهدنا بعضنا قبلاً . ) و بغير اكتراث جاءني جوابها :

- ( أعتقد أني حلمتُ بكَ مرة ، و بهذه الغرفة ذاتها)
- ( صحيح . لقد بدأتُ أتذكر الآن)
- ( يا للغرابة . من المؤكد أننا التقينا قبلاً ، في أحلام أخرى. )

سحبتْ نفسين من السيجار. كنتُ لم أزل واقفاً أمام الموقد ، و فجأة وجدتني لا أنفك عن التحديق بها، ارتفاعا و هبوطاً ، كانت لم تزل نحاسية. ليس ذاك النحاس القاسي البارد ، بل كان نحاسها أصفراً ، ناعماً ، و لين. و قلت لها ثانية : ( أودُّ لو ألمسكِ الآن).
- ( ستفسد كل شيء).
- ( لم يعد مهماً. كل ما علينا فعله هو قلب المخدة ليتسنى لنا اللقاء ثانية).
و رفعتُ يدي فوق الموقد ، لكنها لم تتحرك . فقط كررت الجملة ذاتها ( ستفسد كل شيء.) ، قبل أن أتمكن من لمسها.
قالت : ( ربما إن استطعتَ الوصول إلى خلف الموقد ، سيكون بإمكاننا أن نستيقظ معاً ، من يدري في أي بقعة من العالم).
- ( لم يعد مهماً.)
قالت : ( ان استطعنا قلب المخدة سيكون بامكاننا اللقاء ثانية ، لكنك عندما تستيقظ ستكون قد نسيت على أية حال.)
كنتُ قد عاودتُ سيري تجاه الزاوية ، فيما هي خلفي مستمرة في الإستدفاء بالوهج. و قبل أن أبلغ المقعد سمعتها تقول :
( عندما أستيقظ في منتصف الليل ، أبقى أتقلب في الفراش ، حاشية المخدة تحرق ركبتي ، لكني أبقى أردد حتى الفجر : عينا كلبٍ أزرق).
قلت لها و أنا أحدق في الجدار ، كما كنتُ قبلاً : ( إنه الفجر فعلاً.) ، و واصلتُ دون الإلتفات إليها : ( عندما قرعتْ الساعة الثانية بعد منتصف الليل كنتُ مستيقظاً ، و لكن ذلك كان منذ وقتٍ بعيد.)
اتجهتُ للباب و حين أوشكتُ على لمس المقبض ، جاءني صوتها مجدداً ، بذات الثبات : ( لا تفتح ذلك الباب.) و تابعتْ بعد صمت ( إن الرواق مليء بالأحلام المبهمة.) سألتُها : ( ما أدراك؟ ) و أجابت : ( لأني كنتُ هناك بالفعل قبل لحظةٍ مرت ، لكني عدت إلى هنا حين اكتشفت أني نائمة على قلبي).
كنتُ قد فتحت الباب تقريباً ، و من الفرجة الصغيرة جاءني نسيم بارد ناعم حمل لي رائحة منعشة للأرض المخضرّة و الحقول الندية. عادتْ تتحدث لكني واصلتُ فتح الباب و قلت لها : ( لا أعتقد أن هناك أي رواق في الخارج ، أني اشم رائحة الريف).
- ( أنا أدرى بهذا خيراً منك . هناك إمرأة بالخارج تحلم بالريف.) و عقدتْ ذراعيها فوق اللهب متابعة : ( إنها تلك المرأة التي طالما تمنت أن يكون لها بيت بالريف ، لكنها لم تكن قادرة قط على مغادرة المدينة.)
عندها تذكرتُ رؤيتي لتلك المرأة في بعض أحلامي السابقة ، لكني أدركتُ أيضاً ، فيما الباب شبه مفتوح، أن أمامي نصف ساعة قبل أن يتوجب عليّ الذهاب لتناول افطاري. لذا قلت : ( على أية حال ، يجب عليّ أن أغادر هذه الغرفة ، استعدادًا للإستيقاظ ).

في الخارج عوت الريح للحظة ، ثم هدأت، و أصبح بإمكاني سماع الأصوات الناجمة عن تنفس شخص نائم ، انقلب في فراشه للتو. النسيم القادم من الحقول توقف و لم يعد هناك روائح . قلت لها : ( في الغد سأتذكرك بهذا ؛ عندما أسير في الشارع و أشاهد امرأة تكتب عبارة ( عينا كلبٍ أزرق ) على الجدران. ) قالت فيما ارتسمت بسمة حزينة على شفتيها - بسمة مذعن للمستحيل - : ( رغم ذلك لن تتذكر شيئاً أثناء النهار. ) و عادت تضع كفيها فوق الموقد فيما تغيب ملامحها وسط غمامة أسى .
( أنتَ الرجل الوحيد في العالم ، الذي لا يتذكر شيئاً مما حلم به ، حين يستيقظ . )

عائشه المعمري
08-06-2009, 05:24 AM
بقايا سرير!

في الغرفة 101 كان كل شيء من حولي مثاليا, فالأثاث الإيطالي الماركة كان فخما وأنيقاً، والسجادة حمراء مصنوعة في
إيران تغوص فيها القدم، وهناك أيضا شاشة تلفزيون بلازما تبعث السرور والبهجة من خلال قنواتها التي لا يمكن
للعاديين إلا الدفع لها كي يطالعوها!

الأهم من كل ذلك هو أنني مزدوج وعريض وجوانبي مخملية، وسيحبني كل من سيدخل الغرفة ذات النجوم الخمسة.. سيتخيل نفسه وكأنه في إيطاليا مباشرة، لكنني سأخبرك عن أهم من جاءني، لعل هذا الأمر يثيرك ويزيح عنك الحزن قليلا..

كنت قد سئمت طول الانتظار، إذ مكثت شهرا أنتظر أن يضعوني في المكان المناسب، ولكنهم تأخروا لأن الغرفة الساحرة كانت تحتاج إلى صيانة دقيقة، ويبدو أنني جئت باكرا أو بالأحرى أحضروني باكرا.. كنت أسمعهم يقولون بأن الغرفة التي تصان هي من أهم الغرف لموقعها المطل على البحر.. كم أحب هذا المنظر الساحر!
ربما لم يخطر ببالك أن تكون مطلا على مشاهد مغرية كالتي كنت أطل عليها، ولكن هذا لا ينبغي أن يثير ضغينتك ضدي،
فالنهاية لا أحد يعرفها، وأنا الآن جوارك أحكي لك بعضا من حياتي الجميلة..

بعد أن تم كل شيء كان علي أن أنتظر بعض الوقت، حتى قرر أحدهم على ما يبدو أن يأخذ الغرفة.. وها أخيرا أسمع
المفتاح الإلكتروني وهو يدخل في مكانه المخصص معلنا فتح الباب، وها أخيرا الباب ورأيت رجلا يدخل من الباب وخلفه
عامل الفندق يضع له الحقيبة، ولم يكن معنيا به.. كان يتحدث في الهاتف النقال وهو يلف في الغرفة دونما أن يتأملها..
غادر العامل، ثم فجأة أحست بجسد ثقيل يجثم على صدري، لم أكن أتوقع ذلك الحجم ولكن في النهاية كان علي أن أصمت
ولا أتأفف خاصة إنني في أول يوم خدمة فعلية..

لا يغرنك مظهري الآن فقد كنت قويا بما فيه الكفاية لأحمل عدة أشخاص في آن، يساعدني في ذلك أطرافي المصنوعة من
الخشب الإيطالي المعروف والمطرز بالمخمل، وكنت عريضا ومريحا جدا وأتسع لشخصين معا..
المهم، قال الرجل السمين:
ماذا أفعل الآن؟

كل صفقات الأراضي فاشلة! ومن الفشل باع لي أحدهم أرض مقبرة! واليوم؟ بعدما اشتريت كل هذه الأراضي القريبة من
المشروع تقول بأن المشروع تم تأجيله إلى أجل غير مسمى؟ وبأن الأراضي صارت لا تساوي شيئا؟ حتى إني لا أستطيع
أن أعيد أموالي؟ لماذا؟؟

كان صوته عاليا وحادا.. ومما فهمته أنه خسر للتو صفقة كبرى.. لكن أمثالهم كما تعرف لا يكفون عن المحاولة، وبرغم
حدة صوته إلا أنه قال لمحدثه على الطرف الآخر:
لكن هذا حال السوق.. كلنا يعرف بأن هذا الأمر محتمل، ولذا فإني أملك مشروعا أفضل بكثير مما كان! سأعيد كل ما ذهب
مني في غمضة عين، سنؤسس محفظة مالية، وندعو الناس للمساهمة فيها، وبالطبع فالأرباح خيالية والأرباح هي من
سيأتي بالناس، فالناس تواقون للثراء السريع الذي لا يأتي بالتعب! هل فهمت الآن ماذا سنفعل؟

كنت أستمع إلى كل تلك المعلومات الخطيرة ولا لسان لي كي أبدي رأيا، وبالأساس لا أعرف كيف سيضع كل المال في
محفظته التي وضعها عليّ في تلك اللحظة وهو يخلع ملابسه؟..
لكنني في الأيام التالية كنت أرى بأن له محفظة كبرى، تقبع في الدرج المحاذي لي وفي آخر يوم له في الغرفة أفقت على
وقع خطواته الثقيلة وعلى غير المتوقع كان نشيطا وفي لحظات كانت حقيبته السوداء جاهزة وكذلك الأموال في حقيبة
أخرى صغيرة..

وبعد لحظات كانت العاملات يقمن بتنظيف الغرفة وحظيت بعناية خاصة وشراشف جديدة أسعدتني كثيرا، ثم في مساء نفس
اليوم سمعت صوت الباب الذي اعتدت عليه وعلى ذلك الصوت المميز الذي يصدره كلما وضع المفتاح في القفل الإلكتروني..
هذه المرة كان الداخل علي رجل وامرأة جميلة جدا ترتدي فستانا أبيض وطرحة طويلة، فابتسمت.. كانا عروسين ويبدو
أنها ليلتهم الأولى، فما أجمله من شعور أن أحظى بشرف ليلة حميمة خاصة بين عروسين شابين مملوءين بالحياة!

لكنهما خيبا ذلك الأمل الذي تأملته، فالفتاة العروس ظلت تبكي طويلا وكان يبدو أنها مرعوبة من الآتي، مما سيحدث بعدما
خلعت رداءها الأبيض الجميل! وبرغم محاولات الزوج الشاب المتكررة لاستمالتها، إلا أنها كانت تبكي وتبكي، وهو لا يرى
سوى الصد منها، حتى أصابه اليأس، فتحول إلى شخص آخر نقيض.. ويبدو أنه كان يحلم بهذه اللحظة بأي طريقة كانت،
لكنه انزوى في الشرفة يتأمل البحر المعتم إلا من أضواء العبارات الخاصة، وأخذ يدخن بشراهة..

في صباح اليوم التالي كان الزوج الشاب يحاول أن ينسي زوجته الجميلة ما حدث في الليلة السابقة، لكنها كانت صامتة
ولم تنم من الليل.. كانت مرعوبة ولا تتحدث، وكأنه كان يكلمني أنا، وعندما رأى أن الأمر لن يؤدي إلا نتيجة قلب وجهه
مجددا، وبدأ يدخن.. ثم قال لها: هيا سنعود إلى البلاد!

بعد أيام من رحيل العروسين البائسين سمعت الصوت الأثير إلي، وهذه المرة أيضا كانا رجل وامرأة ولكنهما لم يكونا
عروسين، فهي لا ترتدي فستانا أبيض..

كانا هذان الاثنان مختلفان، فهما لم يتكلما، بل بسرعة كانت ملابسهما ملقاة على السجادة الفارسية، وبسرعة كانا يقفزان
فوقي، وكان صوت مفاصلي يزداد أنينا كلما التحما!

بعدما أنهيا عملهما الحميم كانا يتنهدان، ثم دار بينهما حديث علمت منه أن المرأة كانت تعمل في إحدى المؤسسات
الحكومية وهي تعيش وحيدة في المدينة دون زوجها المغترب هو الآخر في بلاد أخرى.. أما الرجل فيعمل في شركة وهو
الآخر يحس بالتعب لأن زوجته لا تعيره أي اهتمام، لذلك عندما تعرفت عليه في أحد المراكز التجارية المشهورة تمسك
بهذه العلاقة التي ستخلصه من التوتر والأرق!

سمعته أيضا يحدثها عن وضعه المالي وحاجة أمه للعلاج وإنه لا يملك من المال سوى القليل والعيد يطرق الأبواب وهو
يعيل إخوانه الصغار وقالت له المرأة عندي خمسين ريالا سأعطيك إياها ورد الرجل: سأقترض من أصدقائي
فما كان منها إلا أن أخذت تقبله في أذنه ورقبته وهي تقول له: أنا أقرب من كل أصدقائك!

..................................
...............................
كيف وصلت هنا؟ سأخبرك يا صديقي.. في يوم من الأيام كان أحد النزلاء قد انتهى من حفلته الخاصة وغادرت الغانية التي
كانت برفقته، وكان وقتها ثملا ويدخن سيجارا وهو نائم أو بالأخرى شبه نائم.. كان يحمل في يد سيجاره وفي الأخرى
زجاجة الويسكي غالية الثمن، وفيما هو في سكرته تلك سقطت الزجاجة علي، وانسكب ما فيها ملطخا الشراشف وكل
شيء، ولكن تلك مشكلة يمكن أن تحل، غير أن السيجار الكوبي الفاخر أيضا سقط عليّ فيما هو يدخل في أجواء النوم
النهائية..

يمكنك أن تتصورما حدث، فالنيران التهمت كل شيء، وأنا في المقدمة، ولم يكن لي لسان لأصرخ وأقول أنقذوني، أو لا
أنقذوا هذا المسكين الذي كانت النيران تلتهمه فيما هو ما يزال نائما في سكرته!
لحسن الحظ أن النيران لم تأكل الفندق كله، وعندما أخمدت كنت كما تراني الآن: بقايا سرير!
هذه هي حكايتي، لكن ما هي حكايتك أنت أيها السرير الحديدي؟!




* القصة الفائزة بالمركز الثاني في الملتقى الأدبي الخامس عشر لـ الشباب 2009
بـ سلطنة عمان

شمس
03-23-2010, 06:00 PM
http://dc01.arabsh.com/i/00221/m5t0zorgv5zw.jpg

مبروك !

رن جرس الهاتف واذا بصوت نسائي ينساب عبر اسلاكه ويقذف بكلمه اشد من وقع قنبله على مسامعها وقفت صامته مذهوله لا تسمع شيئا سوى ذلك الصوت الذي زف اليها خبر وفاتها ولكنها سوف تظل على وجه الأرض تعيش مع تلك الكائنات من البشر بلا روح نعم اخبرتها تلك المرأه ان زوجها قد تزوج بأمرأه أخرى هل يوجد خبر اشد صدمه من هذ الصدمه فهي قد عاشت له ومن أجله لم تبتسم بوجه أي شخص آخر في غيبته عنها عجبا أن يكون هذا جزاء كل ما فعلت من اجله تنكر لكل شيء في لحظه والمؤسف انه كان قبل زواجه بأيام يحدثها عن المستقبل وتلك الحياة الورديه التي عاشت هي بها في الخيال فقط ما أقسى هذا الأنسان لقد اخلصت بكل مافي هذه الكلمه من معنى .... رباه .. فكيف يصل الى هذا المستوى المتدني لقد قتلت هذه المرأه بسكين الغدر من أعز الناس هكذا ودون سابق انذار .....


حملت روحها على كفها وجعلت قلبها النازف تحت حذائها وذهبت الى ذلك المكان ودخلت من ذلك الباب الكبير حيث رأت جموعا من الناس ضاحكه مسروره مهنئه والأنوار تملأ المكان والأصوات تتعالى بالأغاني والأهازيج وقفت جسدا بلا روح وسط هذه الأفواج غريبه.... حائره ...مطعونه ...تنظر وفي عينيها دمعتان كأنهما لؤلؤتان رفضتا النزول على خديها حفاظا على مابقى من اشلاء كرامتها وانسانيتها المعذبه وقفت وجسدها يرتجف من هول ما اصابها لكن هولها مما هوا قادم اشد تصميما لذا بقيت حتى خرجت كوكبه من المطربات فاخذ قلبها يرتجف مع كل صوت يصدح عاليا واحست بدوار رهيب يلف رأسها وتماسكت واخرجت منديلا من حقيبتها تمسح دمعه ابت ان تقاوم تلك المشاعر الجياشه مسحت وجهها ثم نظرت الى تلك الكوكبه ماعساها تضم في صفوفها ؟! نظرت فاذا هو يمشي وسط ذلك الحشد وهو ممسك بيد عروسه نعم كان كل ما يلبسه ابيض لكن قلبه كان اسود !! .. لم يعرف الحب طريقه اليه ....جلس مع عروسه في المنصه المخصصه لهما يخاطب عروسه خطابا هامسا وهي تبتسم لذلك الحديث ....قالت في نفسها ربما تكون هذه المسكينه ضحيه او ربما يقول لها ما قاله لي بالأمس حبست غيرتها ودموعها ثم تماسكت وخطت اول خطوه لها منذ وطئت قدماها هذا المكان نحوه ثم مدت يدا مرتجفه مصافحه ومهنئه عندما رآها ارتبك وتغير لون وجهه الى الوان قوس قزح قالت له في كبرياء وانتصار : مبروك
لم يجد كلمه يرد عليها عندما رأى على محياها ابتسامة المنتصر فقد عرف فيها الحب الصادق والعطف والأخلاص بعدها انصرفت وهي تشعر بالزهو الفخر لأنها اكبر من غدره وخيانته ومن صدمات العواطف !!




نشرت بتآريخ
6/ 7/ 1429

قمر
04-03-2010, 04:46 PM
نقلاً عن نقل من كتاب ( روائع الادب العالمى فى كبسولة ) لمختار السويفى / مكتبة الدار العربية للكتاب


قصة مدينتين - تشارلز ديكنز
A Tale of Two Cities




انكسر برميل مملؤ بالنبيذ الاحمر فى احد شوارع حى (سانت انطوان ) الذى يعتبر من افقر احياء مدينة باريس و اكثرها بؤسا .. وعلى الفور ترك جميع الناس اعمالهم واسرعوا الى حيث تحطم البرميل .. واخذوا يحاولون شرب قطرات النبيذ قبل ان تبتلعها الارض , وخلع بعضهم ثيابه واخذ يغمسها فى النبيذ المسكوب ثم يعصرها فى فمه ..

وعلى ناصية الشارع كان هناك حانة فقيرة يقف امام بابها صاحبها .. ( المسيو ديفارج )
بينما كانت زوجته ( مدام ديفارج ) منهمكة بشغل الابرة بداخل الحانة .. وبعد لحظات وصل رجل عجوز هو ( مستر جارفيس لورى ) ومعه شابه صغيرة اسمها الانسة لوسى مانيت .. ولهذه البائسة قصة غريبة بدأت فى طفولتها .. حين ماتت امها .. وبعد ان اختفى ابوها الدكتور مانيت .. ولم يعد احد يعرف مصيره .. وقد ارسلت الطفلة لوسى الى انجلترا .. حيث كان ابوها يحتفظ بأمواله فى بنك انجليزى هو ( بنك تلسون )

وتم تعيين المستر جارفيس لورى الذى كان يعمل بنفس البنك والذى كان صديقا للدكتور مانيت .. وصيا على هذه الطفلة وتولى العناية بمنشئتها وتعليمها .. وقد استعان المستر لورى بسيدة انجليزية تدعى ..مسز بروس .. لتقوم بتربية الطفلة ورعايتها .. فقامت هذه السيدة بواجبها خير قيام ..حتى اصبحت بمثابة الام للطفلة اليتيمة .. ومرت السنوات الطوال واصبحت الطفلة لوسى شابة رقيقة جميلة [/COLOR



]كان الجميع يظنون ان الدكتور مانيت قد توفى بعد ان انقطعت اخباره .. ولكن اخبارا جديدة وصلت تؤكد ان الدكتور مانيت مازال حيا .. وانه كان مسجونا بسجن الباستيل بباريس .. وقد اطلق سراحه اخيرا وانه الان فى رعاية المسيو ديفارج .. صاحب الحانة والذى كان يعمل من قبل فى خدمة الدكتور

لذلك فقد جاءت الانسة لوسى مانيت ومعها المستر لورى .. للقاء بوالدها وبحث احواله .. التى سمعت انها سيئة الى حد كبير , واخذهما مسيو ديفارج الى حجرة صغيرة بأعلى الحانة .. وما ان فتح باب تلك الحجرة حتى اصيبت لوسى بالخوف والهلع .. حين رات اباها الدكتور وقد ابيض شعره وانحنى ظهره .. وكان منهمكا فى صناعة الاحذية مستخدما منضده صغيرة عليها عدده وادواته

كان منظر الدكتور فى غاية البؤس ,, وهو منكب على على صناعة حذاء حريمى لدرجة انه لم يلحظ احدا ممن دخلوا الى حجرته يريدون الحديث معه

تقدم صديقه العجوز مستر لورى .. اليه .. وسأله فى صوت هادىء الا تذكرنى .. فلم يرد وسأله .. ما أسمك .. فقال بصوت ضعيف .. اسمى مائة وخمسة البرج الشمالى وكان يشير بهذا الى رقم الزنزانة التى سجن فيها بسجن الباستيل الرهيب

وسأله هل كانت صناعة الاحذية هى حرفتك بالسجن .. واخيرا قال مستر لورى .. يا صديقى الدكتور مانيت الا تذكرنى ؟ انا جارفيس لورى .. صديقك الموظف ببنك تلسون بأنجلترا

[COLOR="darkred"]نظر اليه الدكتور المسكين بضعف وانكسار .. ثم انهمك من جديد فى صناعة الحذاء .. وعندئذ اقتربت منه ابنته لوسى وملء عينيها العطف والشفقة ..ووضعت يدها بحنان فوق ذراعه .. فالتفت اليها وسألها هل انت ابنة سجانى فى الباستيل ؟.. ثم بدأ ينظر اليها فى اهتمام .. ويتحسس شعرها الذهبى ويبدو كما لو انه افاق على حقيقة غريبة .. ومد يده الى صدره .. واخرج قطعة ملفوفة منالقماش .. يحتفظ بداخلها ببضع شعيرات ذهبية .. واخذ يتفحصها ويقارنها بشعر لوسى وبدت على وجهه كل مظاهر الحيرة ..



وهنا قالت لوسى بعد ان ضمت راس ابيها الى صدرها .. ستعرف من انا فيما بعد .. ولكنى ارجوك الان ان تمنحنى بركاتك .. وان تشكر الرب على نجاتك من تلك المحنة الرهيبة .. سأخذك معى الى انجلترا لتعيش فى سلام .. وذهب مستر لورى ومسيو ديفارج للإعداد لرحلة السفر الطويلة .. وبقيت الانسة لوسى مع والدها الدكتور مانيت .. الذى نام على ذراعها كطفل صغير برىء .. وعندما عاد الرجلان ايقظاه والبساه ملابس جديدة .. ووضعت لوسى يدها فى يده و ساعدته على نزول درجات السلم ..


وفى محكمة اولد بيلى بلندن .. انعقدت جلسة خاصة لمحاكمة شخص يسمى ( تشارلس دارنى )
كان متهما بجريمة .. مساعدة اعداء ملك انجلترا بناء على شهادة الشهود الذين كانوا حاضرين بالجلسة .. وكان الدكتور مانيت وابنته لوسى ضمن هؤلاء الشهود .. الذين ذكروا انهم شاهدوا المتهم على ظهر السفينة التى كانت مبحرة من فرنسا الى انجلترا .. وحاول النائب العام ان يثبت بكل الطرق ان المتهم قد ارتكب تلك الجريمة .. ولكن مستر سترايفر محامى المتهم قد فند اقوال جميع الشهود وافسد شهادتهم واوضح عدم كفايتها ..وبذلك انتهى المحلفون الى قرارهم بأن المتهم غير مذنب ..

ولكن الانسة لوسى تأثرت جدا واغمى عليها .. لانها شعرت بأن شهادتها التى ذكرتها امام المحكمة .. رغم انها لم تكن تدين المتهم الا انها قد تتسبب فى ايذائه .. وذلك بالرغم من ان تشارلس دارنى هذا .. كان نبيلا فى تصرفه معها .. بل وساعدها كثيرا فى رعاية والدها اثناء الرحلة على ظهر السفينة .. وكان من الواضح ان شيئا ما من العواطف الرقيقة قد ربط بين الاثنين .. تشارلس دارنى ولوسى مانيت ..

سيدنى كارتون هو مساعد المستر سترايفر المحامى .. وقد بذل جهدا كبيرا فى المساعدة اثناء نظر القضية .. حتى حكم فى النهاية ببراءة مستر دارنى من التهمة التى كانت موجهه اليه ..ومن الغريب ان مستر كارتون يحس بشىء من عدم الارتياح للعلاقة بين مستر دارنى ولوسى مانيت ..
وكان الدكتور مانيت قد عاد الان الى حالته الطبيعية تماما .. واخذ يمارس مهنة الطب فى لندن .. ويقابل مرضاه فى البيت الذى استأجره هناك .. ومع ذلك فقد كان الجميع يعاملونه بلطف شديد .. خوفا من ان تعود اليه حالة فقدان الذاكرة التى انتابته حينما كان مسجونا بالباستيل بباريس ..
وكان اكثر الضيوف ترددا على منزل الدكتور مانيت وابنته هم المستر كارتون والمستر لورى .. والمستر تشارلس دارنى ..

بعد عدة شهور من رحيل الدكتور مانيت الى انجلترا .. وقعت احدى الحوادث البشعة فى مدينة باريس .. حيث داست عجلات العربة الفخمة ..التى كانت يستقلها الماركيز ايفرموند .. على طفل صغير فقتلته .. لقد كانت العربة منطلقة بأقصى سرعة فى شوارع باريس ..وحواريها الضيقة المملؤه بالرجال والنساء والاطفال .. من ابناء الشعب الفرنسى الفقير البائس .. الذين يبدون جميعا كالعبيد امام النبلاء فى فرنسا ..

توقفت عربة الماركيز ايفرموند قليلا .. بعد ان مات الطفل المسكين .. الذى حمله ابوه بين يديه وهو يبكى بكاءا مرا .. لم يهتم له الماركيز الذى اخرج كيس نقوده .. والقى بقطعة ذهبية على الارض كتعويض عن مقتل الطفل المسكين .. وانطلقت العربة بعد ذلك خارجة من باريس.. واتجهت الى الريف حيث وصلت الى المنظقة التى يقع فيها قصر الماركيز .. ايفرموند .. مارة بقرية صغيرة .. يعيش فيها عدد قليل من البؤساء الذين يعانون من دفع الضرائب الفادحة .. التى تفرضها عليهم الدولة والكنيسة .. وكان احد هؤلاء البؤساء هو عامل اصلاح الطرق .. الذى شاهد رجلا غريبا كان متعلقا بسلسلة اسفل عربة الماركيز .. واخبر الماركيز بذلك .. وطلب الماركيز ايفرموند من وكيله مسيو جابيل .. ان يحاول القبض على هذا الرجل ..

واخيرا دخل الماركيز الى قصره .. وقال للخدم انه يتوقع وصول ابن اخيه من لندن الى القصر .. وعرف من الخدم انه لم يصل بعد

وبينما كان الماركيز يتناول طعام عشائه .. وصلابن اخيه .. لقد كان هو نفس الشخص الذى يعيش فى لندن باسم تشارلس دارنى .. بينما اسمه الحقيقى هو تشارلس سانت ايفرموند .. وهو نبيل ينتمى الى تلك العائلة الفرنسية .. التى يرأسها الماركيز .. وكان من الواضح ان الماركيز .. وابن اخيه الذى ترك كل امواله .. واملاكه فى فرنسا كانا على غير وفاق.. وكان الشاب دارنى رافضا تماما تلك الغطرسة التى يتمتع بها نبلاء فرنسا .. فترك فرنسا وعمل فى انجلترا كمدرس للغة الفرنسية ..

وفى الصباح الباكر وجد الماركيز مقتولا بسكين .. مغروس فى قلبه وعلقت به ورقة تقول : هكذا انتقم جاكوس .. ارسلوه سريعا الى قبره ..

وعاد تشارلس دارنى الى انجلترا مرة اخرى .. حيث انتقل للعمل فى جامعة كمبردج كمدرس للغة والاداب الفرنسية .. وبمرور الشهور تمكن الحب من قلبه واصبح يتمنى الزواج من الانسة لوسى .. ابنة الدكتور مانيت .. وصرح لوالدها بأن هذا الحب والزواج ان تم فلن يكون سببا للفراق بين الدكتور وابنته
ولكى يكون دارنى صادقا مع الدكتور فقد اعترف له بأن اسم دارنى ليس اسمه الحقيقى .. بل ان له اسما فرنسيا مختلفا .. فطلب منه الدكتور الا يبوح الان باسم عائلته واسمه الحقيقى .. واكتفى الاثنان بالاقتناع بأنهما فرنسيان خرجا من فرنسا .. لعدم استطاعتهما العيش داخل الاحوال السيئة السائدة الان فى بلدهما و التى تسوء يوما بعد يوم وتوشك على الانفجار من شدة الظلم الواقع على الشعب .. وقبل ان يفترق الاثنان .. وافق الدكتور لمستر دارنى على ان يفاتح لوسى فى حبه لها وطلب الزواج منها ....

ومن الغريب ان المستر كارتون الذى يعمل مساعدا لمستر سترايفر المحامى كان يحب لوسى مانيت هو الاخر.. بل واعترف له بحبه وتجرأ على طلب الزواج منها .. ولكنها اخبرته فى لطف وادب شديد انها تحترمه ولكنها لاتحبه.. ولا تستطيع ان تقبل الزواج منه .. فبكى مستر كارتون من شدة التأثر.. وطلب منها ان تحتفظ بذكرى هذا الاعتراف كسر لا يعرفه احد سواهما .. فوعدته بذلك .. واقسم لها بأنه سيظل مستعدا طول عمره لفدائها وفداء جميع من تحبهم الان ومن سوف تحبهم فى المستقبل ..

وفى فرنسا علم اهالى حى سانت انطوان ..بأن والد الطفل الذى قتل تحت عجلات عربة الماركيز .. قد قبض عليه بتهمة قتل الماركيز .. وشنقوه بنفس القرية التى يقع بها قصر الماركيز ايفرموند .. واصبح من الواضح الان ان مسيو ديفارج .. صاحب الحانة فى حى سانت انطوان يترأس جماعة من افراد الشعب الذين امتلأت قلوبهم بالحقد على طبقة النبلاء .. والذين قرروا فيما بينهم قتل وابادة جميع افراد عائلة ايفرموند ..وان يحرقوا القصر الذى تعيش فيه هذه العائلة النبيلة الظالمة ..


وفى انجلترا تزوج النبيل الفرنسى السابق .. تشارلس سانت ايفرموند ..الذى يعيش فى انجلترا باسم اخر وهو تشارلس دارنى .. من الانسة لوسى مانيت .. وانجبا طفلة جميلة .. وكان يزورهما بين حين واخر .. مستر كارتون ومستر لورى العجوز .. الذى ما زال يعمل فى بنك تلسون لندن ..

وفى يوم ما قال المستر لورى ..ان الاحوال قد ساءت جدا فى فرنسا .. وان معظم الملاك والنبلاء الفرنسيين . اخذوا يحولون اموالهم الى انجلترا .. هربا من حالة الغليان التى اصبحت موشكة على الانفجار ..

بل لقد حدث الانفجار بالفعل فى حى سانت انطوان .. وخرج الشعب مسلحا بكل ما وصلت اليه ايادى الناس.. من كل انواع السلاح .. واندفعوا تحت قيادة المسيو ديفارج صوب سجن الباستيل.. وهاجموه واشعلوا فيه النيران واطلقوا سراح المسجونين .. وقبضوا على جميع ضباط السجن وقتلوا مديره .. وطلب المسيو ديفارج من احد الضباط الاسرى .. ان يريه الزنزانة مائة وخمسة البرج الشمالى .. وهى الزنزانة التى كان الدكتور مانيت مسجونا فيها .. وقام هو ورفاقه بتفتيش الزنزانة .. واحرقوا محتوياتها ثم خرجوا الى حيث انطلق الشعب بادئا الثورة الفرنسية .. واخذوا يحطمون كل شيىء بلا رحمة ولا شفقة ..


وانتقلت اخبار الثورة من باريس الى المدن الفرنسية الصغيرة .. حيث اشتعلت الثورة فى كل مكان .. وفى القرية التى يقع فيها قصر الماركيز ايفرموند .. تجمع الشعب واشعل النار فى القصر .. وخصوصا المسيو جابيل الذى كان يعمل وكيلا ومحصلا للضرائب لصالح عائلة الماركيز .. والذى استطاع ان ينجو من الموت والشنق بأعجوبة

وفى لندن كان بنك تلسون الذى يعمل به لورى العجوز مزدحما بالنبلاء الفرنسيين الذين حولوا اموالهم اليه .. وكان البنك بالتالى مصدرا مهما لاخبار الثورة التى اشتعلت فى فرنسا .. واصبح من الضرورى ان يسافر احد كبار موظفى البنك الى فرنسا .. ليحاول انقاذ سجلات ودفاتر فرع بنك تلسون بباريس .. وقرر مستر لورى العجوز ان يذهب بنفسه .. لانجاز هذه المهمة .. وحاول تشارلس دارنى ان يثنيه عن ذلك .. بسبب صعوبة الطريق ومشقة الرحلة الى باريس.. وسط القلاقل والاضطرابات والمجازر واعمال الشنق..التى سادت فى كل انحاء فرنسا ...


وفى هذه الاثناء ,, وقع تحت يد تشارلس دارنى خطاب .. موجه الى تشارلس سانت ايفرموند .. اى ان هذا الخطاب كان موجها اليه هو نفسه .. ولكن لا احد يعلم اسمه الحقيقى .. وقام تشارلس دارنى بفض هذا الخطاب .. وقراءته .. فإذا به يتضمن رسالة كتبها المسيو جابيل .. الذى كان يعمل وكيلا لعائلة ايفرموند .. يبلغه فيها انه مسجون الان فى سجن الابايى .. وينتظر الحكم باعدامه بين حين واخر .. الا اذا عاد تشارلس ايفرموند الى فرنسا وعمل على اظهار براءته واطلاق سراحه.. وفى نهاية الخطاب توسل المسيو جابيل .. وطلب من تشارلس ايفرموند ان يحضر على الفور لانقاذ حياته ..

ولهذا فقد قرر تشارلس هو الاخر ان يذهب لانجاز هذه المهمة ..ولكنه قرر ايضا الا يخبر احد بعزمه على هذا السفر الفجائى الى فرنسا .. حتى بالنسبة الى زوجته لوسى والدكتور مانيت ..

بعد ان وصل تشارلس ايفرموند الى فرنسا لاحظ على الفور ان الاحوال قد تغيرت تماما.. وان الثوار قد اصدروا قوانين جديدة .. تم بمقتضاها القاء القبض عليه وايداعه بسجن لافورس توطئة لمحاكمته واعدامه بتهمة انه ارستقراطى مهاجر ..

ولم يمر وقت طويل .. حتى فوجىء المستر لورى .. الذى كان قد وصل الى باريس قبل وصول تشارلس دارنى بيوم واحد .. بدخول الدكتور مانيت وابنته لوسى زوجة تشارلس دارنى اليه فى مكتبه بفرع بنك تلسون بباريس وذلك بعد ان وصلت اليهما بلندن اخبار القبض على مستر دارنى ..

كان الدكتور وابنته منزعجين وخائفين من المصير الذى يتوقعه المستر دارنى .. ومع ذلك فقد اعلن الدكتور مانيت بأنه قادر على انقاذ زوج ابنته .. باعتباره كان سجينا سابقا بسجن الباستيل .. الامر الذى سيجعله محل فهم وتعاطف مع الشعب الثائر ..

وكان الثوار يهاجمون قصور النبلاء والنبيلات ويعيثون فيها اعمال الحرق والهدم ..والنهب والقتل والابادة .. بل وكانوا يهاجمون السجون التى وضع بها افراد طبقة النبلاء تمهيدا لمحاكمتهم توطئة للاطاحة برؤسهم تحت نصل المقصلة .. ويقومون بقتل هؤلاء المسجونين من الرجال والنساء والاطفال.. ,, وسالت الدماء انهارا فى كل مكان تحت شعار.. الحرية .. الاخاء .. المساواة ..

نجح الدكتور مانيت بالفعل فى تقديم نفسه للثوار باعتباره سجينا سابقا بسجن الباستيل الرهيب ..
فاعتمد عليه الثوار ووثقوا فيه .. ومع ذلك فلم يتمكن الدكتور من اطلاق سراح زوج ابنته تشارلس ايفرموند..المدعو تشارلس دارنى .. ولم ينجح الا فى الابقاء عليه بعيدا عن شبح التهديد بالقتل.. الى ان تجرى محاكمته طبقا للقوانين الجديدة ..

ومر اكثر من عام والسجين تشارلس ايفرموند ينتظر المحاكمة فى سجن لافورس .. وفى اثناء ذلك وصل من انجلترا كل من مس بروس ومعها الطفلة لوسى الصغيرة ابنة تشارلس كما وصل ايضا المستر كارتون ...

واخيرا تمت المحاكمة وسط جو صاخب اشترك فيه جمهور غفير من الرجال والنساء ..
من احط طبقات الشعب فى باريس .. وكان هؤلاء الناس يصرخون فرحا كلما صدر حكم بالاعدام .. ويبتهجون بمرأى الرؤوس حين تطير من رقاب الضحايا وتنهمر سيول الدماء ...


ومع ذلك فبفضل الشهادات التى شهد بها كل من الدكتور مانيت والمسيو جابيل .. الذى اطلق سراحه اخيرا من سجنه .. برأت ساحة تشارلس ايفرموند .. من كل تهمة .. وصدر الحكم باطلاق سراحه فورا .. وكانت فرحة عارمة اشترك فيها الجميع ...

ولكن لم تمض سوى ساعات قليلة على الحرية التى حصل عليها تشارلس ايفرموند .. وبينما كان يجلس هانئا مع زوجته وابنته .. وصل رجال غلاظ مسلحون بالسيوف والمسدسات والقوا القبض على تشارلس ايفرموند المدعو دارنى مرة اخرى ..
وكانت تهمته هذه المرة انه عدو للجمهورية الفرنسية ..وانه من طبقة النبلاء وفرد من عائلة ايفرموند التى مارست اعمال الظلم بوحشية فظيعة ضد الشعب الفرنسى ...

اثناء المحاكمة ظهرت الكثير من الحقائق عن الفظائع التى ارتكبتها هذه الاسرة فعلا فى حق الناس .. بل وكان الدكتور مانيت نفسه احد ضحاياها .. حيث تسبب بعض افراد هذه الاسرة فى ادخالة الى سجن الباستيل بتهمة طالمة ملفقة .. وبعد تحقيقات واستجوابات مرهقة .. صدر حكم المحكمة باعدام تشارلس ايفرموند المدعو دارنى بالمقصلة فى ظرف اربع وعشرين ساعة ...


وخلال تلك الساعات الاربع والعشرين .. حدثت مجموعة من الاحداث الغريبة .. التى غيرت مجرى القصة تماما .. فقد تمكن المستر كارتون من التسلل الى الزنزانة التى سجن بها تشارلس دارنى .. وتبادل الاثنان ملابسهما وذلك بعد ان قرر المستر كارتون ان يضحى بحياته من اجل من يحب ..
وتمكن تشارلس دارنى و زوجته لوسى مانيت وابنته الصغيرة ومعهم الدكتور مانيت و المستر لورى من الهرب الى انجلترا ولحقت بهم ايضا مس بروس .. بعد ان وقعت بينها وبين المرأة المتوحشة مدام ديفارج معركة انتهت بمقتل المرأة النهمة التى تسببت فى الاطاحة بمئات من الرؤوس تحت نصل المقصلة .. وكان من نتيجتها ايضا ان فقدت مس بروس سمعها بفعل طلقة من المسدس الذى كانت تحمله مدام ديفارج .. فقد كانت الطلقة قريبة جدا من اذنها ..



- تمت -


أشكرك : عبدالعزيز

قمر
04-04-2010, 06:22 PM
سنيغورتشكا*" طفلة الثلج


في البيت القروي البسيط كانت بعض زواياه تلمع بالضياء القادم من النافذة ، حيث كان يدخل الضوء الأبيض و البارد لذلك الصباح الثلجي . لقد تعوّد كبيرا البيت على حب النور.
الجدّة "ماريوتشا" كانت تحيط القدر بالجمر ، كي يغلي الحساء على نار هادئة . وكانت الجدة حزينة فلقد مرت السنوات ، وأحنتها بأثقالها وبيّضت شعر رأسها بثلوج فصول الشتاء المتعاقبة .
لقد مرت السنوات وأخذت معها حلم العجوزين في أن يلد لهما طفل يملأ حياتهما بالسعادة.
أحضر الجدّ "يوتشكو" حزمة من الأغصان اليابسة ، ليطيل بها حياة النار في البيت. فامتلأ المطبخ بطقطقات الأغصان وهي تشتعل. وفي جوار البيت كانت تعلو فرحة الأطفال وهم يلعبون. أطلّ العجوز "يوتشكو" من النافذة فرأى الأطفال يرقصون ويضحكون ، وقد شكّلوا من أنفسهم جوقة كورال ليغنّوا وهم يحيطون بتمثال من الثلج .
وبحماس قال الجدّ:
" اسمعي ياماريوتشا تعالي وانظري إلى الدمية التي صنعها الأطفال " . وبدأ العجوزان بالضحك وهما يريان الأطفال يضحكون. كانت دمية الثلج سمينة و قصيرة القامة ، فيها شبه كبير من عمدة القرية إنها شيطنة أطفال!!
وفجأة كف‘ يوتشوكو عن الضحك وقال : " ماريوتشا تعالي لنرى إن كان بإمكاننا أن نصنع صغيرا !! ألا ترغبين ؟" . فردت عليه
= : "ماذا بك؟ ألا ترى أن الناس ستضحك منا ؟ لقد شِخْنا يا رجل على أشياء الصغار هذه!! ".
-: "لا يهم ! "._ وأصرّ يوتشوكو _ وأضاف: " سنتفادى أن يرانا أحد، سنشكل دمية صغيرة مثل طفلة صغيرة وجميلة جدا .
أخذت ماريوتشا القدر عن النار ، ووضعت شالا من الجلد وخرجت مع يوتشوكو وعندما مرّا بالصغار توقفا ، وأخذا يلعبان معهما ويقفزان ويغنيان بكل الفرح الطفولي ثم بدآ بالانسحاب رويداً رويداً ، وتوجها إلى دغل صغير كانت أشجاره عالية والثلج عليها شديد البياض.
ركع العجوزان على ركبتيهما وبدآ يجمعان الثلج ، ويشكلانه على هيئة طفل صغير ، شكلا الجسم ثم الرأس ، و وضعا كمية كبيرة من الثلج على الرأس وقالا:" كي ينبت شعر كثيف !!"، ثم أضافا حفنتين على الخدين وقليلا من الثلج للأنف ، وحفرا حفرتين كبيرتين للعينين .
:" آه ها هو بالضبط! " قالا , وتعانقا وهما ينظران إلى ما شكّلاه، لكن فجأة توقفا و صمتا ، فلقد شاهدا شيئاً غريباً ، فأخذا يقتربان شيئاً فشيئاً ، ثم تبادلا النظرات بصمت .
و بدهشة كبيرة جداً كانت الحفرتان في رأس الدمية قد أخذتا تمتلئان بلون ازرق ، ومنه خرجت عينان تنظران بثبات ، و لم يعد وجه الدمية ابيض والخدود أخذت تظهر و تتدوّر ، وبدأ يسري بها اللون الزهري وتحرك الفم في ابتسامة لذيذة . نفخة من الريح جعلت الثلج يهتز ، و يتحول إلى شعر طويل وملتف ، وعليه غطاء جلدي للرأس ، و فستان ابيض لا يمكن لناظره أن يفرقه عن ثلج المكان ، لقد تحولت الدمية الثلجية إلى طفلة رائعة !!.
تبادل العجوزان النظرات باندهاش كبير، وقالا سوية : " نعم إنها حقيقية !! لسنا نحلم فهذه طفلة إنها هنا إلى جانبنا قريبة منا جداً ، تتحرك وتمد ذراعيها و تنادينا !!".
فأخذاها ، فأحسا بدفء وبدآ يداعبانها بالقبل ، عندها شعرا أن الحياة انولدت من جديد في قلب كل منهما .
عانقا الطفلة وحضناها بين الذراعين ، وعادا بها إلى البيت وهما يرتجفان من شدة فيض عاطفتهما وسعادتهما .
في البيت وضعت الجدة ماريوتشا الطفلة على ساقيها و وراحت تهزهما وهي تردد أغنية حلوة للطفلة كي تنام .
ومن أعلى جدار المدفأة تدلى شال جلدي ، وبالقرب من وهج النار وضعا الحذاء الصغير الأبيض .
اقترب العجوز يوتشكو وقال بصوت منخفض: " اسمعي ماريوتشا !! لقد صار لنا طفلة صنعناها من الثلج ، وإنني أفكر بالاسم الذي سنعطيه لها فوجدت أن نسميها "سنيغورتشكا" هل يعجبك؟ ". هزت الجدة رأسها بالموافقة وهي تبتسم .
في تلك الليلة نام العجوزان وهما حائران بين فيض سعادتهما وخوفهما أن يكون كل شيء مجرد وهم أو حلم جميل قصير .
لكن في الصباح كانت الطفلة معهما ، وفي مكانها تضحك وتحكي تغمرها السعادة فلقد كانت تتكلم بطلاقة ، لقد صارت بهجة حقيقية للعجوزين .
في ذلك اليوم أقيمت حفلة كبيرة في البيت ، قامت الجدة ماريوتشا بتحضير كل أنواع الحلويات ، أما الجد يوتشكو فلقد دعا الموسيقيين وكل أولاد وبنات القرية ، ودارت السعادة وطالت الأغاني وامتدت الرقصات حتى ساعة متأخرة .
في تلك الليلة حلم الأطفال بـ"سنغوروتشكا" وبشعرها الذهبي وعينيها الزرقاوتين ، لقد بدت "سنغوروتشكا " ، وكأنها جاءت من إحدى الحكايات الجميلة ، وهي تلعب مع الأطفال ، أخذت تعلّمهم كيف يبنون قلاعاً وقصوراً من الثلج ، فيها صالات من المرمر و نوافير ماء كبيرة ، لقد بدا الثلج وكأنه يطيع مخيلة "سنغوروتشيكا" وهي تشكله بهيئات مستحيلة .
وعندما رقصت لتعلّم الصغار كيف يسقط ندف الثلج في البداية بشكل دردور . وفي النهاية بشكل بطيىء ، فلقد انذهل الأطفال جميعهم لقد كانت "سنغوروتشيكا" إحدى طفلات حكاية ثلجية. لكن فصل الشتاء بدأ بالرحيل ، والأرض المغطاة بالثلوج أخذت تعود إلى خضرتها ، بدأت الأشجار تكسو أغصانها بالنّوار ، والهواء يأتي محملاً بالدفء وأغنيات الربيع وأريجه ، ولمعت الشمس ناصعة .
في أحد الصباحات كانت الجدة ماريوتشا قرب النار ، تحرس القدر المحاط بالجمر ، والجد يوتشكو كان قد انتهى من تجميع حزمة الحطب إلى المطبخ .
لم يكن هذا الصباح مثل ذاك الصباح الشتائي الذي شاهدوا فيه الأطفال مجتمعين حول دمية الثلج ، فهذا الصباح كان حزيناً ، وذاك صار بعيداً بعد أن أبهج البيت والحياة كلها .
تقف سنغوروتشكا إلى جانب النافذة ، تنظر إلى المرج وقد أزهر و ازدان والأشجار اخضوضرت أوراقها .
حذّر يوتشكو من أن وجه سنغوروتشكا صار شاحبا ، وامتلأت عيناها بحزن غريب وسأل سنغوروتشكا :
" ما بك هل تشعرين بسوء؟ ".
"لا!! لا !! _ أجابته بحزن _ لكنني افتقد الثلج ، فأنا لا أقدر على العيش بدونه ، والعشب الأخضر ليس جميلاً ، إن أختي البيضاء الرائعة أكثر جمالا وروعة ، وبدأت سنغوروتشكا ترتجف.
وفي اليوم الثاني بدت أكثر شحوباً وحزناً فيما ينظر العجوزان إليها بهلع .
:" ما الذي حل بالطفلة؟ ". سألت ماريوتشا بخوف كبير ، ولم يجبها يوتشكو الذي أمال رأسه ، وأخفى علامات الألم ، ثم اتجه نحو ستغوروتشكا متظاهرا بالسعادة، وقال : " بماذا تفكرين يا صغيرتي ؟ لم لا تخرجين إلى اللعب مع الأطفال في الحقول؟أم انك لم تعودي تحبينهم؟ ".
:" لا اعرف ياأبتي يوتشكو ، لكنني أشعر هنا في داخلي إنني سأختنق كلما استنشقت الهواء الدافئ ، وقلبي يكاد يتوقف ".
: "هيا تشجعي وتعالي معنا ، سأحملك بين ذراعي ، ولن أدع الريح تصلك ، سترين الأزهار والورود الخلابة التي جلبها الربيع ".
أبعدت ماريوتشا القدر عن النار وخرج ثلاثتهم إلى الحقل ، يوتشكو يحضن سنيغورتشكا بين ذراعيه ليحميها من النسيم ، فلقد كان الهواء عليلاً ودافئاً ومعطراً بعبير الورود ، لكن سنغوروتشكا انقبضت ، وأخذت ترتجف ,شجّعها العجوزان وحملوها بين أذرعهما إلى دغلٍ مزهرٍ ،لكن ورغم المرور بمجموعة من أشجار وارفة فلقد جاءت حزمة من أشعة الشمس ، و وصلت إلى الطفلة فجرحتها كأنها سيف .
صرخت سنغوروتشكا بلوعة ومرارة ، ثم بدأت تخرج منها حشرجات ، جحظت عيناها ممتلئة بالدموع على مرأى من "يوتشكو" و "ماريوتشا" وهما مضطربان مذهولان .
لقد بدأ جسم الطفلة يتقلص ، وأخذ يتحلل شيئا فشيئا ثم ذاب ببطء حتى صار قطرات ندى على العشب ، وعلى الجبال كان الثلج يتحلل مع أول إشعاعات الشمس .




:

قمر
04-05-2010, 08:48 PM
في طريق الحيآة الواسع تجذبنا خيالات وأوهام ..!!
تصارع معها أحلآمنا وطموحنا الذي ولدنا به ..
وعبر طريقنا الطويل لابد من محطات نقف معها متأملينْ .. غَآلبًا مآ تُسمى مُذكرات
ومن الثآنوية كانت الإنطلآقة ،


الثآنوية مستوى تعليمي ، قليلآتْ من يرضينْ به ، ليس حُبًا في طلب العلم !
إنما لأسـبآبْ نعرفهآ جميعًا
قد يزعجكم هذا الرأي ولكنهُ الواقعْ الذي يشهد بالكثير من الأدلة
( وهُنآك الكثيرات أثبتن عكس ذلك ) ..
وعليه كآنْ من الأعراف أجتماعي أن أن ذهب مُختارة ومُجبرة ؛ لأجد نفسي
كالدمية تتقآذفهأ ( النسبة ) بين الأقسآم !
ولآ أٌخفيكم أني كُنتُ أحمل حلمًا كبيرًا قد سحقتهُ حُمى ( القبول ) ..!

فقد كُنت - ككل الفتيآتْ - أحلم بنسبة رقميّة أقودهآ خلفي لطمُوحي الذي أزعم
لكن كما السواد الأعظم من خريجات الثانوية ، قآدتني هذه الأرقآم خلفهآ !
( قسـم التربية الفنيّة ) لم يكن حلمي ، ولآ حتى جزءًا من ميولي
ولآ حتى في مُخيلتي .. ولآ ....!!
ولكن أفضل من التمتع بإجآزة طويلة !
واسـمحوآ لي أن أقفز بكم من هذهِ الذكريآتْ إلى يومي الآنْ ، أي بعد 7 أعوآمْ
ولكم أن تحسـبوهآ ؛ فهي 5 سـنوآتْ تحت وهم الحلم الإجبآري ، وسنتآنْ بعد التخرج
في فرآغ منهُ أعاني ، تصبح 7 سنوآتْ قُطعت من دفتر عمري وكياني ..!
بعد انتهآء فرض العُقوبة ومدتهآ 5 أعوام ألتفتُ إلى ذاتي لِ أجد نفسًا ضآئعة
مُهمـلة ، قد تهآوت منهمكة تبحث بشغفْ عن عن رقم مُهم في ( مُعآدلة الحيآة الصعبة ) !

أظنُ الكثيرآتْ الآنْ - وليس الكل - يشعرن بمثل هذا الشُعور ..!
والسؤآل الذي يطرح نفسه .. لمآذا ؟!
- الحظ السيء !
- الظروف الخآرجية !
- الدخول الإجبآري !
- الوآقع المُتدني !

هذهِ بعض الذرآئِعْ التي نتذرع بِهآ ، كي لآ نلومْ أنُفُسـنآ ، أو بِالأحرى كي لآ نُعآقبهآ
وكثيرونْ هُم المتفوقونْ فِي إثآرتهآ ..!
القليل جِدًا - وهُم المُتميزونْ - الذينْ يتغلبون عليهآ ويجعلونهآ تحديًا لـِ بلوغ النجآحْ
لذلك فأنا لآ أشك في صدقهآ ؛ فأنتِ لآ تكذبينْ على ذاتك عِندمآ تسـآوركِ
مثل هذهِ الأعذآر ؛ لكنك تكذبين بمهآرة الذي أعنيه والتحدي الذي رمزتُ له
تفوق الذآتْ وتحديهآ لكل شيء يعترضْ رغبتهآ وإصرآرهآ لإثبآتْ وجودهآ
وتحـقيقْ طُموحهآ ..!
إن اتكآئي على أريكة الحظ السيء ، واستسلآمي للظروفْ ستنجلي حتمًا ،
أو قد تخدمني لو أحسنت التصرفْ يومهآ ، أو استماعي بإنصآتْ لتثبيط الآخرينْ
غير النآصحينْ ، أو استمرآري في تخصص أُجبرتُ عليه ،
او استمآعي دون وعي بنقد الوآقع الذي أعيشه ..
كُل هذهِ ستخلقْ مني فردًا ضعيفًا لآ يخدم نفسه فضلاً عن خدمة مجتمعه !

إنهآ قنآعات سلبية كلما فكرنآ في اتخآذ القرآر ، ترسم لنآ الخوفْ والفشل والإحبآط
والسُـؤآل مرة أُخرى ، لمــآذا ؟!
لماذا لآ أٌفتش وبجدية عن حقيقة اهتمآمي ، وصدق طُموحي ومهآراتي وقُدرآتي ؟!
لماذا أسير خلف خطوآتْ غيري ؟ لماذا أعيش بأحلآم الآخرينْ ..؟!

إن عدم رضآك عن وضعك الحآلي لهو القوة بين جنبيك ؛ فاجعليهآ عآمل ضغط
يدفعك للتغيير ، وصنآعة الحيآة التي تحلمين بهآ ..
أرجوك .. كفى ضياعًا لسنوآتْ العُمر
لآ تترددي في تجريب كُل مآتهوآه نفسكِ ، لآ تكونِيّ أسيرة لِهذآ التخصص
أو ذآك الوآقعْ .. لآ تستسلمي لذلك الشُعور أو تلك الظُروفْ !
أنا أجزم أنكِ تملُكينْ - كمآ كُل البشر - قُدرآتْ خلآبة فلآ تتركيهآ تصدأ ، ويعلوهآ الغُبآر
إن القوة الحقيقية أن أصل إلى مآ أُريد أن أصلْ إليه وبِأعلى كَفآءة
وليس أن أصل إلى مآيُريدُه الآخرون بِأدني كَفآءة .
لن أعدد لكِ بعض المهآرات ؛ لأني أعلم أن لكِ إبدآعكِ الخآصْ ، وبصمتكِ الخآصة
التي لآ تنتظر مِنْ أحد تحديدهآ ..

قد تكونْ تجربتي مريرة عند أولئك المُهتمينْ بالدقآئقْ والثوآني من أعمآرهم ،
لكن هذا لآ يمنع إطلآقًا التحرُك بإيجآبية لآستدرآك مآبقي من العُمر المجهول !
يكفي أن تعلمي عزيزتي أنني طلقتُ ذلك القسم بـِ " الثلآثْ " ، ولآ زلت أعترفْ
بـِ فضله علي خآرج نطآق التخصُصْ ..!

بِصَـرآحة /..
إنهآ تجرُبة نآجحة ، فهل تفوتينْ على نفسكِ تجربة نآدرة كهذهِ ..؟!


إضَــآءة :
لآ يُوجد إنسـآنْ ضعيفْ ، ولَكِنْ يوجد إنسآنْ يجهل فِي نفسه موآطن القوة .





لـِ كآتِبتهآ ~
ظِلآلْ الهَجير

عائشه المعمري
02-07-2011, 10:53 PM
رحمة

من أين هبت العاصفة ؟! البارحة لم أعرف طعما للنوم ، ظللت أتقلب على الفراش كان سطح البيت يصدر أصواتا مرعبة أخافت الصغار.وفي ضوء القنديل الخافت، رحت أسرد عليهم القصة تلو الأخرى السندباد / بنت الوالي / علاء الدين / "الجني والعطبة" دون فائدة ..ظلوا يبكون في حضني حتى هدأت وسكن الرعد،لم يبق من ثورتها سوى القطرات التي تسقط الآن من شقوق السطح عبر الخشب المتهالك قطرة قطرة،وزعت بعض الأواني والقدور حولي حتى لا يبتل فراش الصبية ورحت أغطيهم جيدا خشية البرد ، ناموا جميعا وهم يحلمون بالمطر.


* * *

تشعل موقد الطبخ بعناية..تتناثرعيدان الكبريت من بين أصابعها.. علبة الزيت فارغة لن تستطيع إعداد البيض لهم ، جمعت ثلاثا منها فقط ، مدت يدها الحذرة تحت ريش الدجاج .فأطلقت صيحات احتجاج .. أيقظت الديك الأحمر..صفق جناحيه وصاح .
_ أمي ماذا تفعلين هل توقف المطر؟
_ نعم هيا قومي وأيقظي اخوتك .
قفزت من فراشها .. ألقت بالوسادة على يحيون .. ركلت رأس نصر ..جذبت ميا من جديلتها فصرخت متألمة : ماه
.
عالجت مزلاج الباب بكلتي يديها.. فانفتح. خرجت راكضة إلى البئر.. باغتها النسيم البارد فارتعشت كيمامة.
_ حاذري من الطين يا رحمة.
رأت صباحا مختلفا .. الزرقة تخيم على المكان .. الجبل يبدو متوضئا ..والساقية ممتلئة.لا حاجة لسوق الماء من البئر ..التربة رطبة .. وأوراق الأشجار طرية .. التيس (اللمبعبع) سيد قطيع الشياه قادهاباكرا هذا الصباح .. فاعتلت قمة الجرف الصخري ..وشرعت تلتهم براعم"الحميضة"
...يخرج أخوة رحمة.. يلاحقونها .ليبدأ السباق المعتاد إلى السدرة .. "المرجيحة"
في انتظار من يلاعبها .. تصل قبلهم..ترتقيها بسرعة،تتشبث بالحبل المفتول بذراعيها وتدفع الأرض برجلها لترتفع فيالهواء.
_ رحمة نزلي دورنا.. دورنا .
_ أول اتفقوا دور من .. بعدين أنزل .
تتركهم في حيرتهم .. ينشغلون بالتعارك .. و تستمر هي في اللعب .. تعلو بها (الرنجوحة) وتعلو وتعلو فتعلو معهاضحكاتها الصباحية الحلوة كمطر الشتاء ...يداعب "النفاف"
وجهها فتشدو عصفورة الشجر:" سيل سيل سيليه.. وحمامة فوق لوميه " .
من عرشها تستطيع رؤية بيوتات القرية أسفل الرابية على مرمى البصر.. الرجال بدءوا عملهم في حقول النخيل و"القت" والذرة .. النساء يطفن بصواني التمر والقهوة "والكميم"
..ترتفع رحمة عاليا ثم تنزلق بهاالأرجوحة..ينقطع الحبل فجأة.. فتسقط بقوة .. تسكن الأرض يتعفر وجهها بوحل لزج .. يتمزق ثوبها .. تتقيأ دما عبيطا للحظات ثم تحلق في السماء.


* * *

رأيتها بشعر أملس فاحم يصل حدالركبة .. ..تمشطها عجوز طويلة وسط جنائن الريحان، يراقص خصلاتها هواء بارد .
_آ آ آ ه.. البنية "مغصوبة" .
_ أخذوها أولاد الذين.....
دفنوها أمس .. عواش صاحت كثيرا .. صرخت .. حاولت منعهم من تكفينها .. قالت: إنها ستعود مع أبيها المغيب منذ سنين.


* * *

تضمهم في أحضانها .. تمسح دموعهم .. توصيهم بالهدوء والحذر من الغرباء (العجوز الطويلة التي رأيتها في المنام ,هي الحارس.. أختكم ما ماتت .. لكنها مغيبة .. وإذا قدرنا نقبض الظالم .. اينفك العمل وترجع مع أبيكم .. وإذا ظهروا قبالة البيت .. لا تخافوا .. اصرخوا بأعلى صوت..والباقي علي)


- * * *

عندما هبط الليل.. سقط المطرعنيفا.. قرقع السطح .. هاج الدجاج .. استغاثت الأغنام..علا نباح كلاب الوادي..تشاجرت القطط....أضاء البرق قمة الجبل .. وسدرة النبق.. قصف الرعد.. سمعت ميّا أنين "المرجيحة".. كأن رحمة لا تزال تتأرجح عليها.. نصر شم رائحة زعفرانها خلف "درس الهوش"

.. تململت وأصدرت ثغاء حزينا.. يحيون رأى من شق الباب وسط وميض البرق ظل شبحين قرب البئر.. كان الظل لرجل ضخم يمشط رأس بنت صغيرة ..تشبه رحمة..لم يخافوا .. احتضنوني بقوة .. سهروا معي ..طلبواالاستماع إلى قصصي كلها .. أشعلت النار في قطع الخشب .. تدفأنا جيدا .. مدوا أكفهم إلى حرارتها .. ثم دسوها تحت الأردية الثقيلة..جنبا إلى جنب.


* * *

في الصباح تبادل الأهالي التحاياوالتهاني بهطول المطر مع الغرباء.
_ كيف أنتم والرحمة؟
_" رحمة ساده وباده على عباده"
وأخذوا يرنون بأبصارهم ، صوب "العلاية" ، حيث بدا بيت عواش وأولادها ،وحيدا مسكونا بالصمت.


تمت

لـ القاص العماني : سمير العريمي

عائشه المعمري
04-12-2011, 10:15 PM
الصخرة

المغيّب..
كنت ألمحه بصفة يومية تقريبا .. يجلس على تلك الصخرة البنية العتيقة ..على جرف صخري داخل كحد السيف في البحر.. عجوز هرم غيبته السنون أنهكته حتى لم يبق منه سوى جسد حي ينتظر الفناء.
عمل بائعا للخواتم والأحجارالكريمة في سوق الساحل لكنها لم تكن مهنته الأم .. تضاريس وجهه وبقايا الآثار التيخلفها عمله الأصلي كانت تشي بأنه بحار قديم ، مات أصدقاؤه وأحباؤه ولم يعقب ذريةكما يبدو.. تبدل العصر من حوله وبقي هو وحيدا يصارع وقدة الوحدة ويتأمل الأمواج التي كان يركبها ذات يوم متحديا الأهوال.
فيما سبق من السنوات كان المغيب يجد من يستمع لحكاياته عن مغامرات السفن في أعالي البحار قرب سواحل أفريقياو"كيرالا" والعواصف والطوفان.. وقصص الغرقى والقراصنة ..وكان يردد دائما في زهو: أنا الناجي الوحيد من طوفان "مصيرة" .. رأيت أحبائي يغرقون..(المحمل) كله توارى في ثوان إنها إرادة الله.. وعندما كان يحس من جلسائه الشك كان لا يتوانى عن الحلف بأغلظ الأيمان على صدقه : والله العظيم ما كذبت .. البحر عدو في ثوب صديق .
لم يعد الناس اليوم يهتمون بقصصه لم يعد لديهم وقت لعجوز مثله يسعل أكثر من سبعين مرة في الدقيقة ..تركوه .. انصرفوا عنه ..ففضّل الاختلاء بهموم شيخوخته على هذه الصخرة ، يأوي إليها فيقعد ناظرا صوب البحر وأمواجه .. وطيور النورس تحيط به وكأنها تبادله الحديث.. أتراه يشتكي إليها ما أصبح يلاقيه منا من إعراض؟..أتراه يحسبنا أهملناه كسقط المتاع؟..
كثيرا ما كنت أراه يحاور نفسهمؤديا بيديه حركات غريبة تشبه تلك التي يستخدمها أمثاله من كبار السن في محاورة محدثيهم. الفرق انه كان يحادث البحر والساحل والنوارس والسماء ..وهي في نظره بلا شك أفضل من بني البشر ؛ لأنه لا ترفض الاستماع لحكاياته وأحزانه.
اقتربت منه ذات يوم علّه يحدثني ففاجأتني نظراته النارية الغاضبة من غريب افسد عليها متعة النظر إلى زرقة البحر وبياض النورس ثم ما لبثت يداه أن حلتا محل العينين في إبداء الانزعاج ؛ فأسرعت بالابتعاد ؛ لكني لم اغفل عن متابعته خلسة من سطح بيتي الذي كان لحسن الحظ قريبا من ذلك الجرف الصخري .
وكان من عادة العجوز أن يأتي إلى تلك الصخرة صباح كل يوم فيجلس على الظهيرة ثم ينصرف فلا يعود إلا مع الأصيل ليركن إلى صخرته يبادلها أشواقه و حكاياه ويظل كذلك إلى أن تظلم السماء فينسحب في هدوء ..حافرا بعصاه حفرا صغيرة في الرمال.
كثر الكلام عن شخصه .. فهو غريب عن البلدة وليس من أهلها..الشيخ جمعة رشيد الحارة رجح أنه عسكري البرج الذي اختفى منذ ثلاثين عاما في ظروف غامضة. وربيعة معلمة القرآن رأت انه قد يكون عبدا مباركا من أولياء الله الصالحين..أما حماديه مختن الصبيان فكان من رأيه أنه خادم أحد السادة الكبار وقد فر من بيت الموالي قبل عشرات السنين.
لم يكن أحد يعرف حقيقته على وجه الدقة ولذلك لقبوه بالمغيّب .الأطفال كانوا يخافونه وينسجون حوله القصص فمن قائل أنه ثقف يأكل أشواك الأشجار .. ومن قائل أنه يركب ضبعة في الليالي التي يختفي فيها القمر ويتوارى عن الأنظار ..وقد أقسم (علّوي المجينينة) أنه رآه طائرا على جناح نسرعظيم ذات ليلة فوق البحر.
وفي يوم من أيام يناير/ كانون الثاني الباردة لمحت العجوز المغيّب على صخرته الأثيرة وقد لف جسده بعباءة بالية يتقي بها برودة الطقس وكان سعاله المتواصل يتهادى إلى أذني فأشفق عليه ..وأعجب من إصراره على البقاء معرضا نفسه لنسائم البحر القاسية ..بقي العجوز كعادته ملتصقابتلك الصخرة حتى اسودّت السماء فحال بيني وبين رؤيته ظلام حالك وما كنت أشك في عودته إلى مخدعه كما اعتاد كل ليلة .. إلا أن الحقيقة التي عرفتها بعد ذلك أنه بقي ليلته تلك هناك لم يبرح صخرته قط رغم أن عاصفة ينايرية هوجاء هبت ليلتها وكانت قوة الريح من الشدة بحيث أثارت زوبعة بحرية أطاحت ببعض الأشجار المعمرة وأمطرت السماءليلتها كما لم تمطر من قبل .
في غبش الصباح التالي خرجت أتمشى صوب الجرف الصخري ..وآثار مطر البارحة لا تزال واضحة من حولي .وعندما اقتربت من صخرة العجوز وجدتها متشظية وبقربها بقايا عباءة وعصا .. بينما الأمواج تتلاحق والنوارس تطير.
تمت

لـ القاص : سمير العريمي

سارة النمس
06-16-2012, 01:28 PM
سيد عبد العزيز
إنها لمملكة رائعة يشرفنا أن نزورها و نرتوي من عذب الكلام هنا
لي عودة لقراءة باقي القصص
تحياتي القلبية لك

صالح بحرق
11-26-2012, 06:55 AM
تسكب الاماني في ذاكرته ذات الحنين\ وتتناسل الرؤى تمطر بوعودها الخفية فيه\ وهي مذ كانت نجمته و لحظة التشهي
والانطفاء \لحظة البوح الدفين\حين تمر على فجوات الروح
تتدفق بها تيارات الانين .
في الشارع استطاع ان يوظب الكلمات التي سيدفع بها اليها\هي بضع حروف\لكنها تبدو ثقيلة\ولربما غاصت به في اوحال الارتباك\ككل مرة يقف امامها\تسبقه الدموع\ والاماني المنكسرة في الفؤاد وبين الضلوع \لكنه هذه المرة استطاع ان يتصالح مع شجنه \وان يسيطر على الآهات ويكبتها او يسافر بها بعيدا عن القلب المتاخم للشجن ..
وهكذا صعد الطابق الثاني\ضغط على الزر\سمع صوتها من الردهة\للحظة يبقى منتصبا\يافعا\ يسدل يديه لتلامس خاصرته\يتحسسه\يهمي فيه الشجن من جديد\تطل عليه بقامتها الفارعة وابهتها \ كعادتها لاتبقيه طويلا على الباب
يجلس \يخفت فيه ذلك الشعور المازوم\يتناول الشاي\ببرودة ...
يقرأ ملامح وجهها\تضيع تلك الكلمات التي وظبها\تتلاشى\تقترب منه\تتحسسه\كان جسمه باردا جدا\وكانت روحه يعبرها هديل خاص\يهبط من ادغال محمومة بالشجن\واذ ذاك استفاق\وخطا الى اولى مهمته\وما زال جسده باردا \يبحث عن تلك الكلمات .

ساره عبدالمنعم
04-09-2014, 10:31 AM
حلم الراحل

أمسكت يده ونظرت إليه جددت الروح حين رمقت لمعانهما حدثت روحه أنه العمر الذي يجري معي، ابتسم وابتسمت ودار حديثاً طويلاً بيننا وكان يسرد بالحديث وفي داخلي بعض التمتمات، أشعل النار الذي يسكن داخل الروح فلقد ذهب بعيدا ولا أراه .. صرخت فيه وبّخته وفي عيناي نهرا يجري وفؤادي يلتهب.. ضممته ومرّرتُ أصابع الحب حتى أتحسس التفاصيل فالزمن أماتني وأحياني حين رأيته.. أحبك، وحيث الأمل لازال موجودًا والصبر يجري في العروق. تكلم حدثني عن أيامك عن مغامراتك عن وعن .. سكت ثم ضحك حيث انه يفهم لغة عقلي الساذجة وغيرتي التي تحرق همس يديه الباردة وعطره لم أنسَ عبقه وجنونه أمواجاً ترتطم فيني..
أحبك يا مجنونة - قالها لي- ثم هدهدئي فأخذ يمسح بدموعي وهو مبتسم ويردد: أنا مشتاقٌ إليك

ومضى بالمنبه يوقظني


--------

ساره عبدالمنعم
07-01-2014, 05:06 PM
أشعة الشَّمْس سَاقِطَة مِن نَافِذَة بلورية. وَقِصَاصَات وَرَق وَأَقْلَام مُتَنَاثِرَة وَجَسَد عَلَى الأَرْضِ،. أَدُقّ البَاب وَلَمّ يُجِيب أَحَد وَاِسْتَمَرّ وَلَم يَتَحَرَّكْ. ذَلِك السَّاكِن وَاِسْتَمَرّ رُبَّمَا يُجِيب وَبَعْد مُدَّة مِن اليَأْسِ. وَالاِسْتِمْرَار - ياخاله- الرَّجُل القاطن هُنَا نَوَّمَه ثَقِيل جِدًّا. لَا تَخَافِي فَلَم يَمُت بَعْدُ.. كَانَت طِفْلَة تَنْظُر إِلَيّ بِعَيْنَيْن وَثُغَر مُبْتَسِمٌ. قُلْت لَهَا رُبَّمَا أَنْهَكُه التَّعَبُ.. هُو لَا يَخْرُج مِن دَارِه فَقَط كُلّ لَيْلَة يَصْرُخ بِاِسْمِكَ. وَيَتَحَدَّث بِصَوْت مُرْتَفِع عَجَّزُوا عَلَى أَن يَفْتَح البَاب لَهُم وَلَكِنَّهُ. لايفتح.. اِسْتَدَرْت وَبِتَنَهُّد رَجَعْت لَدَقّ البَاب المُتَهَالِك لَكَثَّرْت المُنْزَعِجَيْن مِنْهُ. لَقَد تَوَرَّمَت أَصَابِعُي وَلَمّ يُجِيب وَلَكِنَي مُثَابَرَةٌ. خُطُوَات أَتِيه اِلْتَفَت رُبَّمَا أَحَد أَتَى لِيَقُول اِسْتَسْلِمِي فَلَن يَفْتَح لَكَ. لَكِن كَان هُو مَن يَفْتَح البَابَ.. نَظَرَت إِلَيْه وَحَبِيبَات العَرَق تَتَنَاثَر فِي مسام الجَسَد اغرورقت عَيْنِيّ لَا أَعْلَم لَمَّا؛. دَخَلْت وَأَغْلِق البَاب بِإِحْكَامٍ. كَان شَاحِبًا مُوَرَّم العَيْنَيْن وَأَوْرَاق كَثِيرَة بِأَلْوَان مُتَعَدِّدَةٍ. جُرْنِي إِلَيْه وَقَالَ:. اِحْتَضَنَّنِي كَطِفْل هِجْرَتُه أُمُّهُ. وَسَأَبْكِي دُون تَوَقُّف اِجْعَلِي ذِرَاعَيْك دَرْعَا أَحْتَمِي بِهُ. مِن أَلَم الزَّمَن اِمْنَحِينِي سقيى حِبّ وَأَمَانٌ. فَأَنَا اُحْتَضَرُ.. لَن أُعِيد الكُرْه أتوب مِن فَعْلَتِي فَلَن أَجِد اِمْرَأَة أُبِيت فِي حِضْنِهَا. فَأَمْنٌ..

رشا عرابي
12-09-2014, 10:19 AM
قصة قاضي البصرة والذباب
قصة من روائع أديب العرب وعملاق الكلمة، أبي عمرو عثمان بن بحر الجاحظ رحمه الله


ذكر أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في كتابه الحيوان هذه القصة :

كان لنا بالبَصرة قاض يقال له عبدُ اللّه بنُ سوَّار، لم يَرَ النَّاسُ حاكماً قطُّ ولا زِمِّيتاً ولا رَكيناً، ولا وقوراً حليماً، ضبط من نفسه وملَك من حركته مثلَ الذي ضبَط وملَك، كان يصلّي الغداةَ في منزله، وهو قريب الدَّار من مسجده، فيأْتي مجلسَه فيحتبي ولا يتَّكئ، فلا يزالُ منتصباً ولا يتحرَّك له عضوٌ، ولا يلتفت، ولا يحلُّ حُبْوَته، ولا يحوِّل رِجلاً عن رجل، ولا يَعتمد على أحد شِقَّيه، حَتَّى كأنّه بناءٌ مبنيٌّ، أو صخرةٌ منصوبة، فلا يزال كذلك، حتّى يقوم إلى صلاة الظهر ثمّ يعودُ إلى مجلسهِ فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى العصر، ثمَّ يرجع لمجلسه، فلا يزال كذلك حَتى يقوم لصلاة المغرب، ثمَّ رُبما عاد لى محلِّه، بل كثيراً ما كان يكون ذلكَ إذا بقي عليه من قراءة العهود والشُّروط والوثائق، ثمَّ يُصلِّي العشاء الأخيرة وينصَرف..

فالحق يقال: لَمْ يُقمْ في طول تلك المدَّةِ والوِلايةِ مَرَّةً واحدةً إلى الوضوء، ولا احتاجَ إليه، ولا شرِبَ ماءً ولا غيرَه من الشّراب، كذلك كان شأْنُه في طوال الأيام وفي قصارها، وفي صيفها وفي شتائها، وكان مع ذلك لا يحرِّك يدَه، ولا يُشيرُ برأسِه، وليس إلاّ أن يتكلم ثمَّ يوجز، ويبلغ بالكلام اليسير المعاني الكثيرة..

فبينا هو كذلك ذاتَ يوم وأصحابه حواليه، وفي السِّماطين بينَ يديه، إذْ سقَطَ على أنفِه ذَبَابٌ فأطال المكث، ثمَّ تحوّل إلى مُؤْقِ عينه، فرام الصَّبر في سقوطه عَلَى المؤق، وعلى عضِّه ونفاذِ خرطومه كما رَام من الصبر عَلى سقوطه عَلَى أنفِه من غير أن يحرِّك أرنبَته، أو يغضِّنَ وجهَهُ، أو يذبّ بإصبعه، فلمّا طال ذلك عليهِ من الذبَاب وشغَله وأوجعَه وأحرَقهُ، وقصدَ إلى مكان لا يحتمل التّغافُلَ، أطبَق جفنَهُ الأعْلى عَلَى جفنِه الأسفلِ فلم ينهض، فدعاه ذلك إلى أن وَالى بينَ الإطباقِ والفتْح، فتنحَّى ريثما سكنَ جفنُهُ، ثمَّ عاد إلى مؤقِه بأشدَّ من مرَّته الأولى فَغَمَسَ خرطومهُ في مكان كان قد أوهاهُ قبلَ ذلك، فكان احتماله له أضعف، وعجزُه عن الصَّبر في الثانية أقوى، فحرَّك أجفانَهُ وزاد في شدَّة الحركة وفي فتح العين، وفي تتابُع الفتْح والإطباق، فتنحَّى عنهُ بقدْرِ ما سكَنَتْ حركَتهُ ثمَّ عاد إلى موضِعِه، فما زالَ يلحُّ عليه حتى استفرغَ صبْرَه وبَلغَ مجهُوده، فلم يجدْ بُدّاً من أن يذبَّ عن عينيهِ بيده، ففعل، وعيون القوم إليه ترمُقه، وكأنّهم لا يَرَوْنَه، فتنَحَّى عنه بقدْر ما رَدَّ يدَه وسكَنتْ حركته ثمَّ عاد إلى موضعه، ثمَّ ألجأه إلى أن ذبَّ عن وجْهه بطَرَف كمه، ثم ألجَأه إلى أنْ تابَعَ بين ذلك، وعلم أنَّ فِعلَه كلّه بعين مَنْ حَضَره من أُمنائه وجلسائه.

فلمَّا نظروا إليه قال: أشهد أنَّ الذّباب ألَحُّ من الخنفساء، وأزهى من الغراب وأستَغفر اللّه فما أكثر مَن أعجبَتْه نفسُه فأراد اللّه عزّ وجلّ أن يعرِّفه من ضعْفِه ما كان عنهُ مستوراً وقد علمت أنِّي عند الناس مِنْ أزْمَتِ الناس، فقد غلَبَني وفَضَحَني أضعفُ خلْقِه ثمَّ تلا قولَهُ تعالى: " وَإنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَ يَسْتَنْقذُوهُ مِنهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ " .

نادرة عبدالحي
09-22-2015, 03:07 AM
قصة أعجبتني يُقال أنها واقعية
الإيمان والدعاء
خرج الطبيب الجراح الشهير (د : ايشان) على عجل إلى المطار للمشاركة في المؤتمر العلمي الدولي الذي سيلقى فيه تكريماً على انجازاته الکبيرة في علم الطب ,
وفجأة وبعد ساعة من الطيران أُعلن أن الطائرة أصابها عطل كبير بسبب صاعقة ، وستهبط اضطرارياً في أقرب مطار ،
توجه الى استعلامات المطار مخاطباً :
أنا طبيب عالمي كل دقيقة عندي تساوي أرواح كثير من ناس وأنتم تريدون أن أبقى 16 ساعة بإنتظار طائرة؟.
أجابه الموظف : يادكتور، إذا كنت على عجلة يمكنك إستئجار سيارة ، فرحلتك لا تبعد عن هنا سوى 3 ساعات بالسيارة .
رضي د / ايشان على مضض وأخذ السيارة وظل يسير وفجأة تغير الجو وبدأ المطر يهطل مدراراً وأصبح من العسير أن يرى اي شيء أمامه وظل يسير وبعد ساعتين أيقن أنه قد ضل طريقه وأحس بالتعب
رأى أمامهُ بيتاً صغيراً فتوقف عنده وطرق الباب فسمع صوتًا إمرأة كبيرة تقول:
- تفضل بالدخول كائنًا من كنت فالباب مفتوح
دخل وطلب من العجوز المقعدة أن يستعمل تلفونهآ
ضحكت العجوز وقالت : أي تيلفون ياولدي؟ ألا ترى أين أنت؟
هنا لا كهرباء ولا اسلاك لهاتف ولكن تفضل واسترح وخذ لنفسك فنجان شاي ساخن وهناك بعض الطعام كل حتى تسترد قوتك.
شكر د/ ايشان المرأة وأخذ يأكل بينما كانت العجوز تصلي وتدعي انتبه فجأة الى طفل صغير نائم بلا حراك على سرير قرب العجوز وهي تهزه بين كل صلاة وصلاة ،
استمرت العجوز بالصلاة والدعآء طويلاً فتوجه لها قائلًا:
- .... والله لقد اخجلني كرمك ونبل أخلاقك وعسى الله أن يستجيب لك دعواتك
قالت العجوز:
- ياولدي أما أنت ابن سبيل أوصى بك الله
و أما دعواتي فقد أجابها الله سبحانه وتعالى كلها إلا واحدة ، فقال د / ايشان:
- وماهي تلك الدعوة ؟
قالت : هذا الطفل الذي تراه حفيدي يتيم الأبوين ، أصابهُ مرضٌ عضال عجز عنه كل الأطباء عندنا ، وقيل لي أن جراحاً كبيراً قادر على علاجه يقال له د/ايشان ولكنه يعيش بعيداً من هنا ولا طاقة لي بأخذ هذا الطفل الى هناك وأخشى أن يشقى هذا المسكين فدعوت الله أن يسهل امري...
بكى د/ ايشان وقال : والله ان دعاءك قد عطل الطائرات وضرب الصواعق وأمطر السمآء ، كي يسوقني إليك سوقاً والله ما ايقنت أن الله عز وجل يسوق الأسباب هکذا لعباده المؤمنين بالدعآء
حينما تنقطع الأسباب لا يبقى إلا اللجوء إلى خالق الأرض والسماء .

وصدق الإمام الشافعي عندما قال:
أَتَهْزَأُ بِالدُّعَاءِ وَتَزْدَرِيهِ وَمَا تَدْرِي بِما صَنَعَ الدُّعَاءُ
سِهَامُ اللَّيلِ لا تُخْطِي وَلَكِنْ لها أمدٌ وللأمدِ انقضاءُ

فاضل العباس
10-03-2016, 04:09 PM
حكاية هواجس واحلام مليئه بالخيال اجمل شي احلام المحبين

سرالختم ميرغنى
10-13-2018, 06:28 PM
http://www.ab33ad.info/up/uploads/images/ab33ad.info-fdfb6dacc9.jpg
[SIZE="5"]من روائع الأدب العالمى

"دون كيشوت" للكاتب الإسبانى سيرفانتيس
--------------------------------------------
مقدمة
يُحكى أنه كان ببلاد اليونان عملاق جبار اسمه (أنثيه) . لم يستطع بطلٌ من الأبطال أن يثبت له في نزال . حتى ضجت الإنسانية من بطشه ، وحتى ضرع البطل المشهور هرقل إلى أبيه زيس كبير الآلهة أن يدله على وسيلةٍ يقهر بها ذلك المارد المخيف . واستجاب زيس لضراعة ولده ، فكشف له عن مصدر قوة (أنثيه) قائلا "أي ولدى هرقل إن أنثيه ابن إلهة الأرض وما دامت قدماه مستوثقتين منها فلن يقهره أحد ، لأنها تمده بقوتها . فما عليك إن أردت قتله إلا أن ترفعه عن الأرض ثم تُجهز عليه" . ورفع هرقل أنثيه بيده وطاح برأسه باليد الأخرى . فتخلصت الإنسانية من شروره . وهكذا نحن في الحياة ، لا بد لمن يريد أن يظفر منها أن يستوثق من الأرض بقدم ، وأن يلامس الواقع عن قرب . وأما المثاليون الذين يرفضون أن تدنس الأرض أقدامهم فمثله كمثل أنثيه وقد رُفع إلى الفضاء ، وما تلبث السيوف أن تذهب برؤوسهم .[/SIZE

دون كيشوت ، الفارس الجوال (1)[/COLOR]

سرالختم ميرغنى
10-14-2018, 04:54 PM
https://encrypted-tbn0.gstatic.com/images?q=tbn:ANd9GcQaOFAsQ3vjKB376p-bMM-zZi3X7CXdrLH9moFqcjmhTp7MbTfE2w

..ثم راح يفتش عن برذونة ، حصانه ، وعلى الرغم من أنه كان فيه من الأوجاع أكثر مما فيه من الأعضاء ومن العيوب أكثر مما كان فى فرس جونيلا . فكان جلدا على عظم ، فإنه تراءى له أن فرس الإسكندر الأكبر لا يجارى برذونة . ثم تذكر أن الفارس المغوار أماديس الذائع الصيت لم يقنع باسم أماديس الغالى فأضاف إسم بلده إلى اسمه فكذلك أضاف دون كيشوت اسم لامانشا إلى اسمه فعُرف باسم (دون كيشوت دى لامانشا) !

سرالختم ميرغنى
10-16-2018, 12:52 AM
[url[/url]
...فلما نظّف سلاحه من الصدأ وأعطى حصانه اسما ولنفسه التأييد من الكنيسة بأنه مسيحى أصيل اقتنع بأنه لم يعد ينقصه شيئ سوى أن يتخذ لنفسه عشيقة حسناء فاتنة إذ كان معروفا بأن لكل فارس جوال عشيقة وبدونها يصير الفارس كشجرة بلا أوراق وبلا ثمر وجسما بلا روح . وقال في نفسه "إذا صادفت ماردا فضربته ضربة واحدة بسيفى فاستسلم لى ، أما الأجدر ، كما يفعل الفرسان الجوالون ، أن أرسله إلى سيدتى ليعلن لها بأن عشيقها الفارس هو الذى هزمه ويركع أمامها لتتصرف فيه كما يحلو لها . وتذكر فتاة ابنة فلاحين في قرية مجاورة لقريته كان يحبها حينا من الزمن وهى لا تدرى عنه شيئا ولا يعنيها أمره فاختارها وبحث لها عن إسم ليس بعيدا عن اسمها الحقيقى ويتناسب مع اسمه وذى جرْسٍ وموسيقى فأسماها "دلنثيا دل توبوسو" نسبة لقريتها توبوسو .

نادرة عبدالحي
05-24-2019, 06:16 PM
قرر احد الملوك منع النساء لبس الذهب والحلي والزينة، فكانت ردة فعل النساء كبيرة حيث امتنعن عن الطاعة، وبدأ التذمر والسخط و الاحتجاج..وبالغت النساء في لبس الزينة والذهب و الحلي.
اضطرب الملك واحتار..فأمر بعمل اجتماع لمستشاريه و بدأ النقاش و اقترح أحدهم : التراجع عن القرار للمصلحة العامة، و قال آخر:لا ..التراجع مؤشر ضعف و خوف يجب أن نظهر قوتنا..وانقسموا لمؤيدين و معارضين ...
طلب الملك احضار حكيم المدينة حيث حضر وطرحت عليه المشكلة
حيث قال الحكيم للملك: لن يطيعك الناس إذا كنت تفكر فيما تريد أنت، لا فيما يريدون هم ..فقال له : الملك وما العمل؟ أتراجع إذن؟
قال الحكيم لا ..ولكن اصدر قرار الحاقى بمنع لبس الذهب والحلي والزينة للجميلات لعدم حاجتهنّ للتجمل..واستثناءً القبيحات وكبيرات السن بلبس الزينة والذهب لحاجتهن ستر قبحهن ودمامة وجوههن.
وصدر القرار ...وما هي إلا سويعات حتى خلعت النساء الزينة، وأخذت كل واحدة منهنّ تنظر لنفسها على أنها جميلة، لا تحتاج للزينة والحلي...
عندها قال الحكيم للملك لقد اطاعك الناس عندما فكرت بعقولهم وادركت اهتماماتهم من نوافذ شعورهم.
إن صياغة الكلمات فن...نحتاج لإتقانه...وعلم نحتاج لتعلمه .. لندعوا الناس إلى ما نريد من خلال ربط المطلوب منهم بالمرغوب لهم ... ومراعاة المرفوض عندهم قبل طرح المفروض عليهم ...وأن نشعر المتلقي بمدى الفائدة الشخصية التي سيجنيها من خلال اتباع المطلوب أو الامتناع عنه.
لا شيء يخترق القلوب..كلطف العبارة..وبذل الابتسامة ..ولين الخطاب..وسلامة القصد، قال تعالى : { وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ }...