المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : " الأعزل ".. حمزة الحسن


نور الفيصل
09-23-2006, 10:38 AM
الأعزل .. حمزة الحسن

نورس آخر من المحرومين من التحليق في سماء الوطن
أعزل من كل شئ ، ترك لريح الغربة حرية عبوره كيف تشاء
يتنفس هواء بغداد رغم نصف الكرة الأرضية الممتدة بينه وبينها كحبل مشنقة
لا زال وسيبقى يحلم بدفء شمسها ويتحسسه يلامس راحتيه رغم تراكم صقيع هذه البلاد على جدران الروح .

حمزة الحسن
إقتحمت عليه وحدته لأقتبس من وهج نوره وناره
فلم يمانع وكان الكريم كما دائما
منحني جواز عبور نحو نبض خطته أنامل يتقاطر منها العذاب المصفى

" اختي نور

تحية طيبة

شكرا لك على رسالتك الطيبة

تصرفي على راحتك مع نصوصي بدون العودة الي ثقة واعتزازا ودعما

لك مودتي

حمزة الحسن "

كل تقديم هنا لن يليق به
كل حرف سيكون أقل من أن يحكي هذه التجربة
لذا اترك هنا في هذا المتصفح بعضٌ من آثار روحه ، علّ العابرين هذا الوجع يتعلمون كيف تُبكي بعض الحروف
وعل البعض الآخر يتعلم أن الكتابة نادرا ما تكون على حقيقتها .. " إدماء " .. حين تبوح بكل المسكوت عنه .


" ـ أخرج من موت لكي أقع في آخر. هذا الصوت أعرفه منذ مئات السنوات الضوئية ولكني ضيعته يوما في حرب، في حلم، في شتاء قديم، في محطة سفر.

ـ أخرج من موتك أيها الطفل، أقول لكَ!

ـ لا، قلت لكِ لا، لا أريد، كي لا أقع في موت جديد، لقد انتهى كل شيء، وبلغت الرحلة غاياتها، والسفينة رفعت الحبل، والميناء خاو، وكل شيء مهجور حتى الحدائق والليل والرصيف والزمن. "*
..

بطاقة تنوح ببعضه

عبر حمزة الحسن حدود العراق الى ايران في 21/3/88

ـ سجن في ايران بعد سجون العراق وحرب سياسية وحرب دموية لمدة عام وهو تقليد للهاربين الجدد

ـ عبر الحدود الايرانية الباكستانية على قدميه في شتاء قارص بثياب ممزقة صيفية في 89/1/17

ـ قبض عليه في باكستان وسجن نصف سنة لعبوره الحدود "غير الشرعي!" كبضاعة مهربة لأن العراقي في زمن الفاشية صار المواطن اللقلق من اجل الحرية والبراءة أيضا

ـ في 4/10/89

ربط بالسلاسل بطلب من النظام العراقي مع اخرين من داخل سجن كويتة لتسليمهم بالقوة الى العراق. أحبطت الامم المتحدة المحاولة بعد ثلاثة أيام في سجن كراتشي وبحضور طائرة عراقية خاصة لنقلهم واعيد الى سجن كويتة في اقليم بلوجستان

ـ عاش متشردا في اسلام آباد سنتين ثم قبل لاجئا مؤقتا على ان يرحّل الى بلد ثالث ولا يبقى في الباكستان

ـ في 5/1/91 سُفِر الى النرويج عن طريق الامم المتحدة ومنذ ذلك اليوم وهو يعيش عزلة في بلدة أورستا الساحرة كذئب جريح يلعق جراحه بصمت حتى مجيء الموت المختبيء في القلب

ـ وهذه البطاقة صادرة من مكتب الامم المتحدة في اسلام اباد يوم كان سيرجيو دي ميللو يعمل هناك

http://www.wz63.com/up/uploads/153c052d2a.gif

.
.
* " رسالة إلى البنفسج " حمزة الحسن

يتبع

نور الفيصل
09-30-2006, 11:42 AM
http://almushahed.net/up-m/uploads/5660391a76.gif
.
.
صدرت رواية " الأعزل " سنة 2000 عن دار بيركمان النرويجية وهي أول سيرة ذاتية روائية عراقية. حكاية رجل أعزل ووحيد ومجرد من السلاح والأظافر تتحول حياته إلى وليمة نهب مشاعة في كل بلد يهرب إليه. لم يتركوا شيئا فيه قابلا للحياة، حبه، وعشقه، وحياته، وتوقه إلى الأمل والحنان والعيش الآدمي. لكنه يخرج من بين كل هذا الحطام بضمير صاف ونظيف.

نور الفيصل
09-30-2006, 11:58 AM
1

كان أول من عبر النهر في ذلك الصباح هو يوسف . لقد عبرنا النهر إلى الغابة. غابة كثيفة. غابة دغل وصفصاف وحلفاء وأحراش. كنت أرى الغابة عبر النهر. كنت أراها كسر من أسرار كثيرة تدور ولا أفهمها.لكن هذا الصباح لامست قدماي أرض الغابة ، يا للفرح.



وقفت مبهورا وخائفا. كنت أخاف أن أضيع. لكن وجود يوسف معي يكفي لكي لا أضيع. كان حارسا لهذه الغابة. كان وحده يدير هذه القطعان السود وهي تلمع تحت الشمس مبللة وهي تعبر النهر نحو الغابة في ذلك اليوم المشمس من أول ايام الصيف. تلك هي عادتنا في بداية كل ربيع: الذهاب إلى البراري المعشبة كي ترعى القطعان إلى ان يبدأ المطر وتظهر غيوم الشتاء فنعود إلى البلدة.



كان يوسف قد وضعني أمامه على ظهر جاموسة يحبها كثيرا اسمها وردة هادئة لا تشبه بقية القطعان لا في قرونها العالية الجميلة المهيبة ولا في مشيتها البطيئة. كانت بالنسبة ليوسف أكثر من حيوان. أول خطوة على أرض الغابة جعلتني اشعر بشيء غريب لا يشبه أي شيء آخر أعرفه من قبل. الخوف نفسه توارى قليلا خاصة والدنيا نهار، وحل محله شعور بالزهو والدهشة كما لو أنني أمشي لأول مرة على أرض.



هذه هي الغابة التي طالما حلمت بها وسمعت حكايات عجيبة عنها. هذه هي الأشجار العملاقة التي يقولون انها تتكلم في الليل وتفعل أفعالا لايفهمها كل البشر. هذا لايحدث إلا في الليل. في أعماق الليل. نظرت إلى الضفة الأخرى من النهر حيث البلدة تقع هناك وقطيع آخر يتهيأ للعبور. كنت أسمع صيحات ونداءات تأتي عبر النهر صيحات أليفة لأن بعض القطعان تعاني من متاعب العبور خاصة الصغيرة منها. وكانوا قد إحتاطوا لكل شيء بما في ذلك غرق العجول الصغيرة.



رأيت عبر الشمس ورذاذ الماء والدي يعبر على ظهر جاموسة. رأيت كذلك خنجر ثجيل يبرق ناقعا بالماء والشمس. ثجيل هذا أكثر ما يخيفني فيه عينه الحمراء وفمه المائل المعوج نحو اليسار والذي يغطيه دائما باليشماغ. ثجيل يعبر لوحده مع قطيعه. هكذا هو دائما وحده في كل مكان نذهب إليه أو نعود منه. قليل الكلام ولا يشبه أحدا. لا يشبه إلا نفسه.



بعد ذلك توالى عبور القطعان حتى إكتمل العبور وصرنا جميعا على أرض الغابة التي يقولون ان أحدا من قبل لم يدخلها أو دخلها ولم يخرج. الغابة إسمها ربيضة. هذا الإسم أعرفه من زمان. رأيت مدهوشا ان الرجال إنتظموا في صف واحد وصلوا بخشوع خلف يوسف أكبر القوم سنا وخبرة. لم يطلبوا مني أن أصلي فصمت. بعد الصلاة سمعتهم يرددون كلمات وأدعية لا أفهم منها شيئاً لكنها كانت عن المطر والعشب والأمان. كانوا قد إعتذروا لها، للغابة، لأنهم داسوها بأقدامهم لكنهم ذكروا لها ان ذلك من أجل الخير. حين هبت ريح خفيفة عبر النهر وإهتزت رؤوس الأشجار برقت عيون الرجال ببريق حاد وعلى وجوههم علت بسمة فرح وإمتنان: باركتهم الغابة.



اقترح يوسف أن نقدم ذبيحة وهو تقليد شائع منذ قديم الزمان بالنسبة لسكان ضفاف نهر دجلة الذي إختلطت فيه عبر العصور الدماء والطين والجثث والشعر والحب والحكايات. نهر مقدس يسقي هذه المناطق بالماء والويلات والأفراح والفواجع. وافق الجميع. وقع الإختيار على عجل صغير فذبحوه وهم يهللون ويكبرون ويرتلون كلمات ووجوههم مكسوة بطين النهر ومسحة من الخوف الممزوج بإيمان مبهم لكائنات غير مرئية لدرجة انني تصورت ان اشياءً كثيرة ستقع هذه الليلة أو بعدها.



تلك كانت أول ذبيحة على أرض ربيضة العذراء كما يقولون بفرح وهم ينفضون الطين الذي جف من ثيابهم المرفوعة حتى الركب المتسخة والكثيرة الخدوش. لم تكن هناك ركبة واحدة بلا خدش ولا يد أيضا ومن العيب أن تكون.



بعد الصلاة والذبيحة أقاموا موقدا كبيرا ووضعوا اللحم فيه بعد أن جلبوا أول الأغصان من الغابة. تلك كانت اول أغصان تحترق هذا الصباح. هذا اول لحم يشوى وأول كائن يذبح وأول مخلوق يصلي. يقولون ان الأشجار هنا تصلي. ربما مخلوقات أخرى سنتعرف عليها من بعد.



لم تعبر معنا ولا إمرأة عدا فاطمة زوجة ثجيل. بقية النساء، ومعهن أمي، وقفن عند حافة النهر ملوحات بأيديهن وعدن إلى المنازل في اطراف البلدة. فاطمة لم تكن كبيرة ولا صغيرة. كانت إمراة. هي الوحيدة التي تقترب من ثجيل وتتحدث معه إضافة ليوسف. فاطمة شجاعة ولا تخاف كبقية النساء من ثجيل. أنا أخاف منه. ربما بسبب عينه وفمه المعوج وخنجره الذي لا ينزعه حتى في النوم، تقول فاطمة. ينام وخنجره في حزامه.



شعرت ان هذا الصباح جميل ويختلف عن كل الصباحات السابقة. شعرت أيضا بالزهو لأنني الطفل الوحيد الذي عبر النهر ورأى الغابة.كم هي كبيرة هذه الغابة ومدهشة.



بدأ الرجال يأكلون وفاطمة توزع عليهم الطعام. لكنهم وقبل تناول الطعام مدوا أنظارهم نحو هامات الأشجار وربما نحو السماء الزرقاء البعيدة صامتين ، متمتمين أدعية بصوت خافت متهدج. حين بدأ يوسف الأكل واصل الجميع تناول الطعام إلا فاطمة التي ركعت في مكان بعيد تصلي وهي تنشج.قال يوسف بخشوع: إنها تنشد بركة الأرض ودعوتها مستجابة لأنها إمرأة. انها، اضاف يوسف، تصلي للأرض.



بهذه الصورة مرت لحظات هذا الصباح جديدة، وحارة، وباهرة على هذه الغابة العذراء. بعد الطعام نهضوا جميعا للعمل. كان أول شيء بدأوا به هو إقامة مساكن لهم بين الأشجار. توزعوا بحثا عن الأخشاب وعيدان الحلفاء والدغل الكثيف الذي سيكون سقوفا يمزجونها بالطين كما تعودت أن أراهم في أماكن أخرى. كل واحد منهم إختار بقعة تناسبه وتناسب قطيعه لكنهم ظلوا متجاورين إلا ثجيل فقد إنفرد لوحده كالعادة في مكان منعزل في أطراف الغابة وكان ذلك غير مستغرب من أحد. في كل مكان نذهب إليه يفعل ذلك.



نظر يوسف نحو السماء عبر يديه المعروقتين: كانت صحوا مشرقا والهواء ناعم وعذب وفي الأفق شمس مشرقة. راح يقطع الأخشاب بفأسه بقوة تترك رنينا حادا في أطراف الغابة ولم يكن ذلك هو الرنين الوحيد الذي أخذ يتردد. إرتفع صوت القطعان من أماكن متفرقة. هذه الأصوات الضاجة كانت تجعل المعدان يشعرون بفرح خفي لأنهم تعودوا عليها في الأماكن الكثيرة التي ارتحلوا إليها في حياتهم الشاقة كما سمعتهم يقولون ورايت بعضها بنفسي.



كانت دقات فأس ثجيل تأتي بعيدة، ناحلة، من طرفها الأقصى. هناك سيقيم بيته المنعزل الذي سيكون لغزا. خفت أول الأمر من المشي وحدي في الغابة. بدت الأشياء كلها غريبة ومثيرة ولا أستطيع تفسيرها لكنني تجرأت وخطوت خطوات قصيرة هنا أو هناك ووجدت نفسي بعيدا عن الأصوات. وجدت نفسي لوحدي. يا إلهي. هذه هي الغابة. هذه هي الحكايات والألغاز. هنا الأسرار. وأنا وحدي تحت كثافة الأشجار العملاقة التي تحجب السماء وتعزلني عن العالم وعن يوسف خاصة.



فكرت بالعودة. لكني فقدت الدرب. الدروب غير واضحة هنا. بل لاتوجد، وخطواتي هي أول الخطوات في هذا المكان. آثار أقدامي بدت كأثر قديم لإنسان أو حيوان.إذن تهت في الغابة. رحت أردد مع نفسي وقلبي يضرب بعنف وخوف. تهت في الغابة .

***

نور الفيصل
11-25-2006, 10:52 AM
.



بعد أعوام طويلة وقفت أمام غابة نرويجية في خريف متوهج ومشع بخضرة شاحبة لأعيش نفس الأحاسيس القديمة بدقة محيرة. غابة في بلدة أورستا orsta.

***

إهتديت إلى ضربات فأس. كان ثجيل عاري الجسد كأنه عجل ناقع بالماء والعرق والتراب. حين رآني اشاح وجهه وإستغرق في قطع الأخشاب. ثجيل لا يكلم أحدا لكنه حشرج بصوته الشبيه بصوت ذبيحة هذا الصباح بأن أسلك هذا الدرب. أشار بأصبعه. تلك اول إشارة اصبع تشير إلى الدرب وتلك كانت آخر مرة يشير رجل حقيقي بإصبعه نحو الدرب الصحيح حتى بعد أن كبرت وتقاطعت الدروب.



جاء وقت الغداء وتحلق الرجال حول الموقد الذي لم ينطفيء بعد. شرعت فاطمة تخدم الرجال إلا زوجها المنزوي مع فمه وحوله وخنجره في دغل بعيد أو تحت ظل شجرة. كانت تعمل صامتة والرجال يتكلمون في كل شيء. كانوا متعبين.أبي كان معهم.



كنت ألوذ بيوسف وتحت معطفه ورغم مرور عشرات السنين فإنني أستطيع إستعادة رائحة ذلك المعطف الذي كان اخر معطف بشري شعرت تحته بالأمان والدفء قبل أن أهاجر إلى التيه والمدن الاسيوية الشاحبة ومدن والثلج والضباب. قبل أن أضيع انا الآخر وفي غابة أخرى لكنها لن تكون كغابة ربيضة.

...

نور الفيصل
11-25-2006, 10:57 AM
***



في صيف نرويجي نادر كنت في رحلة طويلة عبر الجبال والخلجان حتى وصلت حافة المحيط الأطلنطي في مكان يقال له ستات وبلدة إسمها مولوي ، ورأيت للمرة الاولى هدير المحيط وسمعته بعيني وجلدي وتأثرت أكثر لوجود مقبرة قديمة شواهدها الحجرية تواجه المحيط الراعد وخلف المقبرة كنيسة تثقب ذلك النهار الصيفي النادر بقبتها الرشيقة كروح طالعة من الحجر. إستغرقني جدا تواجد هذه الكائنات الثلاثة في مكان واحد: المحيط والمقبرة والكنيسة. شعرت لأول مرة لا برغبة في الكلام ولا بعجز عنه بل وبلا جدواه أمام هذه الأبديات المتجاورة في سلام الأرض والبحر والموت. ولم أنبس بحرف واحد. هل كانت ذكرى الغابة تسرح في خاطري تلك اللحظة؟



***



شرب الرجال الشاي ودخنوا السكائر بعد أن لفوها بأيديهم وتمددوا على العشب . بعض تلك السكائر إسمها غازي ولوكس . تلك كانت أول مرة يتمدد رجال على أرض الغابة. يوسف وحده تمتم بشيء قبل أن يتمدد: كان يستأذن الأرض. يوسف هو قريبي. أكبر من جد.



اما الجاموس فقد إنطلق في المراعي العذراء المعشبة. شعر الرجال براحة داخلية وهم يرون قطعانهم تسرح وتمرح في هذه الأدغال العامرة الريانة. بين وقت وآخر يرتفع رغاء من هنا أو صرير إصطكاك قرون من هناك. تلك علامة إستقرار يعرفها الرعاة ويحبونها.تلك فورة حياة زاخرة بالطبيعة والعنفوان والوضوح.



كنت اسمع ان أحاديث الرجال المنطرحين على العشب تدور هامسة عن الليل. بدت لي كلمة ليل تشبه كلمة ضباع أو ذئاب وهي كثيرة في الغابة كما سمعت من قبل. لأول مرة تأخذ الكلمات معنى آخر غير الذي عرفته في حياتي السابقة قبل الدخول إلى ربيضة. صار الليل ليلا آخر، وصار الضبع ضبعا حقيقيا قد تواجهه في أية لحظة وخلف أية شجرة. الموت نفسه لم يعد إحتمالا بل صار واقعة. واقعة مليئة بالخيال والتحفز ومشاعر الخطر التي تجعل طفلا ينمو بسرعة في لحظات ويكبر على الأصوات السرية النابعة من الأرض ومن الظلام ومن المجهول.



سمعت يوسف يقول وهو منطرح كما لو انه يحدث نفسه: (عليكم بالنيران في الليل). لمع في خيالي ضبع في الظلام. سطع فجأة سطوع البرق عبر الأشجار. كنت اسمع ان الضباع تخاف من النار أو الضوء. لكن من يؤكد ذلك الآن؟ ضبع أو ذئب . لكن ضوء النهار لا يزال منتشرا رغم ان لون الغيوم آخذ في التبدل نحو اللون الأحمر الداكن. لون الغروب الصيفي على ضفاف النهر. إنه غسق آخر يختلف عن اي غسق آخر. غسق الأنهار العميقة الجذور. الأنهار التي تجري في دماء الناس هنا قبل أن تجري في التاريخ أو على الأرض. إنه غروب نهري فريد ينذر بولادة الحياة كما لو ان النجوم تشرق هذا المساء لأول مرة على البشر.

نور الفيصل
12-07-2006, 08:39 AM
في بودابست كان نهر الدانوب أشبه بلقية مدهشة. تمشيت طويلا على إمتداد النهر الشهير ورايت

الغسق ينبجس من خلف بنايات بودابست العريقة ولكنني لم أر غسقا مماثلا لذلك الغسق الساحر. غسق

الطفولة المقصية . كنت ذاهلا ومتلاشيا وسط الأنوار والمياه المنسابة بهدوء عبر الدانوب. حين وصلت

إلى جزيرة ماركيت وسط الدانوب شهقت دهشة: كانت ربيضة قد حضرت أمامي برائحتها، وعصافيرها،

ونجومها ، وأعشابها.


***

غادر الرجال للعمل قبل هبوط الظلام. أنا تبعت يوسف. كنت أعرف ان والدي يخاف من الضبع لكنه لا

يقول ذلك ويتظاهر بانه لايخاف. لم أكن مهتما. كان يوسف قد أكمل تقريبا بناء كوخ أو صريفة نوم. كان

قد فرش الأرض بالعشب ثم بسط فوقها حصيرة وفوقها فراش نوم مهتريء لكنه نظيف مع وسادة

طرزت عليها أزهار وردية. سد الثقوب في جدران القش كي لا يمر الهواء وعلق الفانوس في زاوية

ووضع صندوقه الخاص في الركن وكنس الأرض. شمل المكان بنظر فاحصة وسمعته يهمس لي أو

لنفسه:

كل شيء تمام. لنذهب الآن ونجهز المرابط.


العادة انهم يربطون الجواميس في الليل بأوتاد يدقونها في الأرض كي لا تذهب بعيدا أو تتناطح. هكذا

يفعلون في اي مكان.كان يوسف قد أكمل دق سبعة أوتاد في أرض صلبة وتأكد منها عدة مرات. كان

يبتسم لي بين وقت وآخر. لم تكن بعيدة عن صريفته رغم كثافة الأشجار والليل الآخذ في الإقتراب. ليل

كثيف لم أشهده من قبل.حين رفع رأسه نحو السماء رأيت حبات عرق ناعمة تسيل فوق جبهته وتنحدر

نحو شفتيه ولحيته وتسقط أرضا. ركز بصره في الأفق نحو شيء بعيد، بعيد جدا، لم أتبينه وصمت

طويلا: لا أدري هل كان يتمتم أم يفكر أم يصلي؟

...