المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عن وحدتي أحدثكم


تركي الرويثي
04-19-2009, 01:32 AM
عن وحدتي أحدثكم , أعبروا حصوني وتعالوا لأحدثكم , لا تقلقوا فهي لا تحمل من صفات الحصون إلا أسمائها , إنها البقية الباقية من ذلك الجزء الذي يسمى حصوني .
كانت في يوم من الأيام منيعة قبل أن تنخرها الوحدة , وتعيث فيها العزلة خرابا , إذا كانت سوسة النخيل الحمراء تنهش روح وجسد نخيلنا تحولها ببطء إلى أشياء خاوية لا تشبه الأصل , فالوحدة سوسة البشر القاتلة , تنخر أجسادنا , لنسقط فرادا , عضو يتبعه عضو , في طريقنا للذبول النهائي أو العزلة المبكرة , الوحدة قبر الدنيا ولحدهـــا.

تعالوا هنــا , في غرفتي الصغيرة , تجاهلوا الفوضى , لا تعيروها انتباها, لا تحكموا على الأشياء الكبيرة من توافهه الأمور , لا تكونوا كتلك المرأة التي حكمت على بتهوفن من أظافره , تركت موسيقاه واهتمت بأظافره قالت "كيف أستمع لموسيقاه وقد رأيت أظافره متسخة هكذا" , نظرة قاصرة خاطئة, أجلسوا حيث شئتم , لا شي غير كتبي ومجلاتي وتبغي لهذا التبغ قصة سوف أحدثكم عنها لا حقا , أجلسوا الآن .

يقول إبسن "الرجل القوي هو الرجل الوحيد" , تخيلوا لماذا الرجل الوحيد هو القوي ؟
أليست الجماعة قوة و "عزوة"؟
في الوحدة تظهر كل عيوبك , في الوحدة تكون أنت مع نفسك لا ثلاث بينكما , عندها لن تستطيع أن تخفي عيوبك عن نفسك, لن تسعفك الأحاديث التافهة ,ولا اليوميات العادية لا الأصدقاء ولا الأهل, عندها سوف تكون أنت فقط لا غير, عندها سوف ترى بواطن ضعفك وقوتك, سوف تنقب بروحك رغما عنك , وتلمس كل جراحك النائمة, لتستيقظ آلاف الجراح بل ملايين الجراح, كلها في وقت واحد سوف تصحوا , تخيلوا شدة الألم وقتها , تخيلوا كم لسان لابد أن تستعير لتصرخ آآه وكم آآه سوف تسعفك , لا تحاولوا , حاولت قبلكم وفشلت كان الألم لا يطاق والصراخ مستحيلا , حبالك الصوتية لن تتحمل حجم الصوت , ستتمزق , كما حصونك هي الأخرى ستتهاوى , تتحول إلى سراب يرى ولا يلمس , موجودة وغير موجودة, لا فائدة من وجودها ولا أمل منها.
لا تكونوا كالضفدع , فعندما يرى ثعبانا قادما , ينتفخ يتحول إلى كائن كبير, يصدر أصوات غليظة ليخيف الثعبان , الأمر الغريب , لا الثعبان خاف ولا الضفدع نجا , في كل مرة يتحول الضفدع إلى وليمة سهلة المنال رغم صوته ونفخته الكذابة, ماذا يحدث لو حاول الضفدع الهرب ربما نجا, لنهــرب إذا , ربما ننجو.
لنهرب ماذا تنتظرون ؟
بقية الحكاية , نعم لماذا الهرب, منذ ملايين السنين والثعبان يأكل الضفدع ,ولم يفكر هذا الأخير بتطوير أسلحته والهرب , لماذا الهرب, تريدون بقية الحكاية ,أسمعوا إذا :



عن وحدتي أحدثكم , عن ألمي أحدثكم, عن خوفي أحدثكم .
في وحدتي تعودت فعل كل سيء , تعاونت و خيالي علي , كنت ضعيفا , وسقطت, كان سقوطا مدويا , لم يسمعه أحد , حتى أنا, كيف كان مدويا إذا ؟, لأني تحولت بعده إلى أشلاء بقايا إنسان , كان يحلم بالارتفاع قبل السقوط , لكنه سقط وانتهى الأمر .
أترون هذا الدخان, لم أكن أدخن , الوحدة علمتني , في الوحدة بدأت أدرس من جديد تعلمت الحروف الأبجدية , ليست الألف بائية , حروف من نوع آخر , حروف الحياة, بدونها لا تستطيع التعاطي معها, كما لا يمكنك التعاطي مع الكتب بدون الحروف , ومع الحياة وحيدا , حاولت فعل ذلك , خطئي الكبير أني حاولت , هناك مناطق لا تجوز معها المحاولة , لأن الوقوع عندها لا رجعة فيه , مثل اللعب مع الموت , إن نجحت خسرت , وإن نجوت لن تعود كسابق عهدك , أما اللعب مع الوحدة فهو أشد وأقسى لأن النتيجة واحده, ليس الموت أحدها ولا الجنون أقساها , لكن الألم توأمها.

في الوحدة لا تخشى الأشباح , تصاحبها , لا بل تفتقدها , في الوحدة تبغض مبيد الحشرات فهو قاتل لأصدقائك , الحشرات صديق وفي في الوحدة , بل أوفى مما تتخيل , مع أنها مشاغبة بعض الأحيان حين تسبقك إلى طعامك , لكن لابد أن تعفوا عن صديقك مهما فعل , فما بالك لو كان الأمر طعاما لا أكثر.
أترون هذا الصرصار هو صديقي المفضل , أنظروا ما أجملة , بشاربة الطويل , وجسمه الممشوق , ابتعدوا عنه , أتركوه يأخذ ما يريد , فقد أخطأت عليه قبل زمن , قتلت حبيبته بالخطأ, أقسم على أنه كان خطأ غير متعمد , أتعذرت له , وقبل اعتذاري دون تردد , من يومها لم أغفر لنفسي .
استيقظت مبكرا في ذلك اليوم , تحركت بسرعة , سمعت صوت تهشم هو نفس الصوت الذي سمعته عند سقوطي , كانت هي أو بقاياها , راعني الموقف , أتى صديقي مسرعا معتذرا , هو من كان يواسيني , مضحك الموقف , أنا من يذنب وأنا من يواسى , هو من فقد وهو من يواسي .

تريدون قصتي لا قصة الصرصار , هي جزء من قصتي , فالنهر الكبير ليس إلا جداول صغيرة ناكرة لذاتها , تعطي حياتها ليكون هذا الكبير ,تتماها معه, تنتحر فيه مبتسمة, تريدونها من البداية , إذا؟
ملتبسة هذه الكلمة , لا أعرف عن أي بداية تتحدثون , ومتى تكون البداية , قبل أن نولد أم أثناء الولادة أو بعدها, عندما ينفجر حدث ما في وجهك ليحاول قتلك , هنا تكون البداية؟, وماذا يسمى ما كان قبلها؟ مقدمات ! ربما.

أعتقد بأن الوحدة بالنسبة لي لم تكن ضربا من ضروب الصدفة , ولا قدرا رميت في طريقي , وحدتي لازمتني منذ البداية , "لنأخذ المعنى الحسي لهذه الكلمة ", هناك في رحم أمي , حيث البداية الحسية للإنسان , كل واحد منا كان هناك وحيدا , رغما عنه , لنخرج إلى الحياة ونصبح اجتماعيين , البعض منا يفشل وأنا أحدهم , أقر بأني فشلت , أتخيل بكائي عند خروجي من رحم أمي , أتخيله جيدا لم يكن من أجل الأكسجين ولا بكاء الدهشة , بل كان صراخ من أفتقد شيئا ويريده , وأنا أفتقد وحدتي وكنت أريدها.
من هنا كانت البداية ربما.


أنا شاب يعيش في الخيال, أكره في الخيال, أضحك في الخيال, أهرب في الخيال, وأقتل فيه, في الخيال تستطيع أن تكون ما تريد , وتفعل ما تريد , لا أحد يطاردك , ولا أحد يسألك , في الخيال ما أسهل التملك , "هذا الوطن غير متاح إلا في الخيال",
فيه ننتقم, نصرخ,نسافر, فيه يقدر أحدنا أن يتزوج من يريد , نختار عيشتنا كما نريد ونشتهي.
في الخيال تتحرر أفكارنا وكأنها طيور جملية , بكل الألوان , لا قفص يسجنها ولا سور , لا يُختار لها ما تأكل ومتى تأكل وأين تأكل , تتغذى بما تريد وما تشتهي , تنتقل من شجرة إلى أخرى من زهرة إلى وردة , تنخفض وترتفع كما تحب, هي ملك نفسها وملكنا فقط , لا تعترف "بالريموت كنترول" وبكل تقنيات التحكم عن بعد.
الخيال رائع وجميل, لكنه قاتل , فعلا قاتل.
الخيال ينشط في الوحدة فيها يعمل بكل طاقته جنونه حلاوته , الخيال مغري , يغري بالارتفاع لأن الخيال يسكن بعيدا عن الأرض , هناك حيث النجوم والأشياء الجميلة , النزول منه مستحيل , لا يسمى نزولا بل سقوطا , وسقطت , كان سقوطا مدويا , لم يسمعه أحد , حتى أنا, كيف كان مدويا إذا ؟, لأني تحولت بعده إلى أشلاء , بقايا إنسان , كان يحلم بالارتفاع قبل السقوط , لكنه سقط وانتهى الأمر .

تريدون بقية الحكاية اذهبوا إلى خيالي البعيد وابحثوا عن حكايتي , هي هناك وليست هنــا , هنـا لا يسمح بالخيال , الخيال هنـا ممنوع من التجول, أحذروا الخيال هنـا , فهـو مهلك.
لا تريدون الذهاب , لمــاذا؟
أنا لا أستطيع ألم أقل لكم بأني سقطت , حاولت العودة , لكني فشلت , الجدران هنـا ملسـاء لا تسمح بالصعود , السقوط هـو توأمها .
تريدونها من ذاكرتي, لكنها مثقوبة , ثقبت بعد سقوطي , أحدهم فتش ذاكرتي وأستخرج منها ما يعجبه و أحرقة أمامي, تخيلوا أحرق أمامي ذاكرتي , أصدقائي أحلامي مبادئ أحرق كل شي لم يترك لي شيئا , ختم ذاكرتي بالشمع الأحمر مع تحذير بعدم لمس الشمع أو العبث فيه , ترك لي كما يقول المسموح من الخيال , أمرني أن أذهب لأقرب مركز تفتيش ليتأكدوا من أن ذاكرتي سليمة , ولم أطور خيالي , لكن الخيال مثل النهر , النهر يجد له طريقا آخر, وخيالي وجد طريقا , الجدران الملساء تحبس جسدي لكن خيالي استعصى عليها , لكني خفت , أمرته بل ترجيته أن يعلن سباته لأعيش " نحن لا نعيش ولكن نحاول" واستجاب بعد رجاء طويل, أتركوا خيالي , أبحثوا عما تريدون بعيدا عنه , وعدني بأن لا يصحوا أبدا , كلامكم يغريه , اذهبـــوا رجاءا أريد أن أعيش , أكل الخبز , وأشرب الماء, أتزوج وأنجب أولادا محدودي الخيال , لا يرون إلا الجدران الملساء , الخبز والماء.

ما هذه الصور , كيف أتيتم بها ومن أين , أرجوكم لا تحالوا , دعوتكم لأحدثكم عن وحدتي , ما الذي أتى بالحديث إلى هنــا , أنه الخيال , الخيال يجد طريقة إلي دائما.
لقد أستيقظ المارد ولا ينفع ردعه الآن, تحملوا عواقبه , فالخيال معدي ولا يعترف بالقوانين.

للخيال نصعد درجة درجة , ومنه نسقط.
من هنـا صعدت أرأيتم تلك الصورة , منها بدأت رحلتي إلى الخيال.
- نعم أتصفح كتبا.
الكتب هي الدرجات التي صعدت بها للخيال , مع كل كتاب قرأته , أخطو خطوة , وكل خطوة درجة, الكتب سبب هلاكي.
كان أول كتاب أقرأه لمصطفى لطفي المنفلوطي رواية "ماجدولين أو تحت أشجار الزيزفون" أذهلتني , بكيت مع كل صدمة كان يتعرض لها استيفن, لم أنم لأيام على موت ماجدولين كان موتها فاجعة لي , وكأني فقدت حبيبة , ألم أقل لكم بأني شاب يعيش في الخيال.
قبلها لم تكن لي علاقة بالكتب وبالتالي بالخيال, في الجامعة كنت, أعيش مثل بقيه الناس , أكل الخبز وأشرب الماء, أنام وأستيقظ , كانت حياة رتيبة, لا كانت ككل حياوات البشر من حولي , كنا طبيعيين , لا أعلم أين الخلل فينا أم في الخيال, لكنها كانت طبيعية لا نشكو من شي , ونأكل, هكذا تقيس أمي حالتنا الصحية والنفسية , المهم أن يأكل أولادها , ما دمنا نأكل فنحن بخير, و الويل كل الويل لمن لا يأكل , عندها تحكم قبضتها عليه لتحشر الأكل في فمه .
- 5 لقمات وبس .
- لا شبعت بس يمه
- ما فيه , والله لا أعلم أبوك عليك.
وبعد صراخنا المتكرر , يحن قلبها.
- هذه اللقمة وبس.
لابد أن تكون هناك لقمة أخيرة , لابد أن يشبع البطن ويمتلئ فهذا الامتلاء دليل الصحة , وعقولنا يا أمي , من يشبعها , أين كنتم؟ تركتموني أهيم في الخيال وحدي, أصعده درجة درجة على مرأى منكم , أأريتم حقا صعودي ؟ لماذا إذا لم تعيدوني , الخيال أملني , صعدته ولم أبالي, كان طعمه حلوا كالشهد, كنت أبني مدنا في خيالي , دولا في خيالي , لا مساكين فيها ولا فقراء لا ظلم فيها ولا سرقة , كل شي منظم , الكل يملك نفس الحظ , نفس الفرص, نفس الحقوق, ذهبت بعيدا فيه , مع كل كلمة أقرأها لأحد العظماء أصعد درجة.
- "لا أبالي إذا لم يكن على رأسي تاج , مادام في يدي قلم" فولتير.
درجة
- "حكمت, فعدلت, فأمنت, فنمت" رسول قيصر الروم يقصد عمر بن الخطاب.
درجة
- الحق يحتاج إلى رجلين .. رجل ينطق به ورجل يفهمه. (جبران خليل جبران)
درجة
- لا أحد يستطيع أن يركب ظهرك إلا إذا كنت منحنيا "مارتن لوثر كنج"
درجة
-
بعد هذا يا أمي ماذا تريدين مني أن أقبل الخبز والماء فقط, وقد قرأت , يقال الجاهل عدو نفسه, خطأ بل من يعرف عدو نفسه, وأنا علمت, مشكلتي أني علمت, فوق ما أتحمل علمت, وحلمت, وصعدت درجة درجة, حتى سقطت , سقطت لأني عشت الواقع بعد الخيال , عشت مدن الواقع, أنا الآن فيها, لا تشبه مدني , لا النظام هو النظام ولا الحقوق هي الحقوق ولا الفرص متساوية, هنا كل شي مختلف متخلف , أين الخلل هنـا أم هنـاك.
رأيتم هذه الصورة هنـا أبي كان ينصحني بأن أذاكر و"أشد حيلي" لأكون طبيبا يرفع الرأس , نعم والدي يريدني دكتورا لأرفع رأسه , فقط أرفع رأسه , ليتباهى بي عند أصدقائه , ولدي صار دكتورا, وخيبت أمله, في الواقع خيبت أمله, هناك أصبحت طبيبا , أعالج كل شي في خيالي , عالجت الايدز والسرطان , في خيالي , هيا يا أبي أنظر إلي دكتورا لا يضاهى في الخيال, لكني سقطت يا أبي , ماتوا مرضاي بل تلاشوا , وبقيت أنا لا دكتورا بل خيالي فاشل.
لماذا لم ترضى بي كما أنا , بكل أخطائي حسناتي,ولدك الذي لم يصبح طبيبا , كنت أريد أن أكون شيئا آخر , لم أصبح هذا الشيء
أحد الخياليين مثلي قال
يا خذني بشوكي وردي .....يا رد غصني علي وطير...."خالد الردادي"
من يرضى بالغصن كما هو يا خالد, الكل يريد الورد , لا أحد يحب الشوك,لا أحد يحب سلبياتك, يردونك ضاحكا باسما ودودا بشوشا, لا إنسانا تغضب تبكي وتحزن, أنا كنت كالغصن , نُتِف وردي وبقي شوكي , أدميت يدي , أنا من تأذى بشوكي, شوكي أذاني وحدي, لم يعجبهم غصني حاولت الطيران بعيدا عنهم , ونجحت , وصلت إلى أعلى القمم مبتسما, صعقتني الأسلاك الشائكة ,و وهويت , رأيت وردي يتساقط , وردة وردة, وبقي شوكي , بشع هو شكل الغصن بشوك فقط عندها لم يردني أحد حتى أنا , فاعتزلتهم , وآذيت نفسي , وأفرحتهم, فأفرحـــوا , لقد سقط الورد وبقي الشوك, ولم يأخذه أحد.


هل كنت أطارد سرابا..؟
نعم, أعترف بذلك , أمامكم أعترف, أمام الصحراء اعترفت أمام نخل بلادي الشامخ أمام الطين والمطر والبترول.
السراب هذا الكائن اللذيذ , تتبعه بجهد ليبتعد وتتبعه , في دوران لا ينتهي , لا تصل ولا تيأس , تركض على أمل "السراب أمل يؤجل " ,أما الواقع محبط شديد الانحدار لا يعرف للارتفاع طريق , تنحدر وتنحدر إلى أن تذوب كالشمعة تحاول ملء الكون نورا , ولا نور يخرج منها , وماذا تفعل الشمعة الصغيرة بهذا الظلام الكبير ألا يقال في المثل الصيني "أن تشعل شمعه خير من أن تلعن الظلام" لكنها وحيده , حاولت محاربه الظلام وحيده , أنطلق نورها خجولا لم يضئ شيئا بل أضاء موتها لترى موتها بعينيها , لم يصل نورها موتها الذي وصل , من نورها أتى موتها , من حلمها أتى موتها , وماتت دون أن تحقق شيئا , هذا هو الواقع , لا نحتاج الشمع هنا نريد شمسا حارقة لا تبقي ولا تذر , تحرق الميكروبات والجراثيم وكل الكائنات الليلة وتحرقني أيضا.

أنظروا إلى تلك المجموعة , هذي صوري وأنا أتبع السراب ,هنا كنت أصنع سرابي بيدي وهنا كنت أركض , وركضت وراءه , ركضت حتى كدت أصل ولم أصل , كنت أستمتع بفعل الركض دون النظر إلى النتائج , كان الركض لوحده يغريني , فالأمل موجود ما دمت أركض و الموت مع الوقوف ولم أتوقف , لم أتوقف أبدا, بل سقطت,و كان سقوطا مدويا , لم يسمعه أحد , حتى أنا, كيف كان مدويا إذا ؟, لأني تحولت بعده إلى أشلاء بقايا إنسان , كان يحلم بالارتفاع قبل السقوط , لكنه سقط وانتهى الأمر, حاولت أن أجعله لا ينتهي , أن أكمل مسيرتي لكن الموت قادم من الحلم من داخلي , من دواخلنا يكمن موتنا نحن من يزرع الموت فينا , موتنا قادم من هنــا من أحلامنا, أنزعوا أحلامكم فالحياة بدونها ممتعه وهادئة .
في نهاية الأمر نمل الركض , فالحلم كلما تأجل مللناه ما أجمل النجاة عندما تأتي بموعدها لا تتقدم ولا تتأخر , تأتي لتنتشلنا عندما نتعب , وأنا تعبت من الركض , في البداية استمتعت بالركض لكنه أتعبني وأرهقني, أن تتبع السراب معنى ذلك أن تتحدى الريح والصحراء والجاذبية الأرضية وأنا فعلت كل ذلك , واجهتهم جميعا , دفعتا واحده واجهتهم ولم أبالي في بادئ الأمر , كنت مغرورا متهورا أو أحمق لم أعد أبالي , دفعتهم عني وانطلقت جهتي السراب , شاهرا سيفي , قلمي سيفي , أثخنتهم ضربا ولم أبالي, هل كنت كـ كيكازادا الذي لقب نفسه بـ دون كيشوت دي لاماناش في رائعة سارفانتس , هل كنت مثله أتوهم البطولة , أطارد الأشرار , أبارز الطواحين ,أقتل العمالقة من أجل حبيبتي ومبادئي وخيالاتي .
هل أنا دون كيشوت , لا أعلم , كل ما أعلمه بأني تعبت, ولم أستطع التحمل حينها كان الألم فضيعا , مؤلم أن ترى أحلامك تبتعد عنك ولو كانت سرابا , وأنت تشاهد ولا تملك لوصالها طريقا, فقط تشاهد , كمن يرى موته قادما إليه , كمن يودع النهار الآمن ليستقبل ليلا سرمديا لا نجوم فيه ولا قمر.
حتى في الحب تبعت السراب , كانت تسمي نفسها سراب , وكانت كالسراب بالنسبة لي , يال حظي العاثر ماذا هذا السراب الذي يطوقني , من أين يأتي إلي , هل يلاحق البشر مثلي أم أنا وحدي الضحية ؟ مضحكه هذه الكلمة حولت نفسي إلى ضحية , أنا المجني عليه وهو الجاني, بل أنا المجني عليه و الجاني والقاضي والجلاد , لكنه أستسلم سلمني مفاتحيه وتركني أهيم على وجهي فيه , يتحمل الخطأ مثلي , لماذا لم يردعني أو يعطيني , لا أعلم ماذا أقول المهم أني ناقم على السراب والحياة والخيال وعلى نفسي.
ســراب , رفقه حلم وأنيسة مسرى , كوكبي الذي خرج عن خط سيرة ولم يعود , في تلك الصورة أراني أتبعها , ولم تبالي , وكيف تبالي ولم تعلم , كنت خجولا , لم أبادر باعتراف , ولم تستنتج , أو ربما استنتجت ولكنها تريد اعترافا " كم تهوى حواء الاعتراف" , ولم أعترف وضلت سرابا وتهت بصحرائها , في هذه المجموعة من الصور كنت معها أراها كل يوم حبيبه ولا تراني إلا زميلا منطويا على ذاته يلوك كتبه وأفكاره دون ملل , تتحرك كالفراشة في حقل زهور , وأنا كحيوان مفترس كسرت مخالبه على حصونها ولم تعد صالحه إلا لحرث التراب, كنت أخشى أن تضييع مني ,تصدني أو تسخر من مشاعري, اكتفيت بأن تكون حبيبتي من ليالي الشتاء الطويلة , في هذه الصورة هطل المطر كان الطقس جميلا وكئيبا في آن, كأنه تآمر مع السماء ليظهر العاشق بعيني , تراه متجسدا بنظراتي لها , قالت بصوت ملائكي :
- الجو حلو , ما هو جو عمل
أجبتها وعيناي إلى الأفق, ومطر أختلط بمطر
- أتعلمين أي حزن يبعث المطر ؟
وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر ؟
و كيف يشعر الوحيد فيه بالضياع؟
،بلا انتهاء_ كالدم المراق، كالجياع
كالحب كالأطفال كالموتى - هو المطر
قالت بصوت طفلة فوجئت بهدية لم تتوقعها:
- أوه , وشاعر بعد
كنت أحمقا حين قلت
- لا هذا مقطع من قصيدة لبدر شاكر السياب أسمها أنشودة المطر
واعترفت يا لي من أحمق , لماذا لم أقل لها بأنها لي , سوف يسامحني السياب , كيف لا وهو من حُرِم الحب حتى أعترف بذلك أمام الملأ كان اعترافا تاريخيا مؤلما
"أحبيني... فإن جميع من أحببتهم قبلك ما أحبوني"
- ما أعرفه, مع إني أحب الشعر الفصيح, أحب غازي القصيبي
- بدر شاعر عراقي من رواد شعر التفعيلة , وهو شاعري المفضل , بشكل عام أميل لشعراء العراق ولبدر بالخصوص.
قالت بصوت اعتذاري لا يليق إلا بالملائكة:
- ما أعرف من شعراء العراق أحد , ما عليش
تعتذر, لا أريدك أن تعرفيهم اعرفيني أنا , شاب جاءك وحبك فانوسه في ليالي السهد الطويلة, لم يعرف قبلك أحد ولا بعدك , حتى أنا لم يحبني من أحببتهم قبلك فأحبينـي, سأكون غازي القصيبي .
سألتها لأطيل الحديث , أو ربما لأستعرض ثقافتي العالية كما أعتقد ما أسخفنا نحن من نعتقد أننا نعلم نقول ولا نسمع كأننا محور الكون كل الأشياء تدور حول ما نعرف.
- غازي القصيبي مو بس شاعر , روائي بعد قريتي رواياته.
أجابت إجابة مقتضبة كأنها تقول لماذا تتعمد إحراجي فيما أعرف.
- لا
يــاه كم أنا غبي , كلما تذكر هذا الحوار , أكتشف كم كنت متعجرفا ومدعيا , قالت أحب غازي القصيبي الشاعر فليكن شاعرا فقط , ما دخل الروائي هنا , أليس هو الوزير و السفير والشاعر لا ينقصه إن شطبنا ولو مؤقتا الروائي من سيرته الذاتية .
- لغازي القصيبي روايات كثيره , أشهرها العصفورية وهي كما يقول الطيب صالح رسالة الغفران لهذا العصر " ورسالة الغفران ألفها أبو العلاء المعري ردا على رسالة ابن القارح" , وأيضا من رواياته شقة الحرية وآخرها الجنية .
ردت بغضب حسناء جرحت في كبريائها
- شكرا على المعلومات أيها المثقف.
بل الشكر لغبائي سيدتي , بل الشكر لكل هؤلاء الذين علموني كيف أحلم ولم يعلموني كيف أحب , كيف أعامل حسناء .
ابتسمت وقتها , اعتقدت بأني أرغمت منافسي على الاعتراف بأفضليتي , يــاه كم كنت ساديا في حضورها , فأصبحت مازوشيا في غيابها , فمن أين يأتي الخلاص قــولوا لي , ألم ترغموني على الحديث , حدثتكم ببقية قصتي فأين يكمن الحل بنظركم .
سنــوات طوال وأنا أبحث عنه , فهل يكون الحل بهذه البساطة , كلمتان منكم وينتهي كل شي ؟ لا
فاصمتوا وأسمعوا .

أين ذهبتم , اختفيتم
البشر لا يخترقون الجدران , تعالوا
أقول لكم تعالوا لأكمل الحكاية , لا ترحلوا هكذا
بدأت الحياة تسري في عروقي , عودوا لا تتركوني وحيدا , خيالي بدأ ينمو ويثمر
خيالي فعلها
خدعني هذا الخيال
كيف أمكنه فعل ذلك
كيف راوغ السواد الذي يطوقني
لا يهم المهم أن سر الحياة عاد
فنعد أيها الخيال
تعال لنكمل المسيرة
لنحول هذه الجدران الملساء سلالم نحو القمة
نحو المجد والثريا
لنفعلها أيها الخيال
لنفعلها..!

د. منال عبدالرحمن
04-19-2009, 10:40 AM
كانَت روحُ الكاتِبِ هنا تتسلّقُ سلالمَ الواقعِ درجةً درجةً , تُمسكهُ أرواحُ الآخرينَ المتناميةُ في داخلهِ من أطرافِ خيالِهِ , حتّى يصلَ لحافَةِ اصطدامِهِ بذاتِهِ المتجرّدةِ من كلِّ شيءٍ إلّا ذاكرتَهُ .. و لا يسقط !

:

شُكراً أستاذ تركي .

عائشه المعمري
04-20-2009, 03:21 PM
تركي الرويثي ،
صُدقاً ، كنت أنتظر قصة جَديدة وعودة أجمل
ولم تُخيب ظني أيها المبدع ،


فـ دعني أحدث العابرين من هُنا قليلاً :
هذه القصة تتخلها حكم كثيرة ، لا يقصدها الكاتب عُنوه ولكنها أضافت لـ معنى القصة الكثير من الأناقه في اللفظ والدلاله ،
مما يدل بلا شك على سعة إطلاع الكاتب وثقافته المُتفرعه فلم يبقي بتهوفن ولا أظافره ولا سوسة النخيل الحمراء ولا علاقة الضفدع بـ الثعبان ،ولارواية المنفلوطي ولا الأمثال ولا وبدر شاكر السياب وأنشودة مطره إلا وأتى بها وهذا ما
يحتاجه القاص على العموم أن لا يَكون أديباً فقط ، بل يَكون مُثقفاً بالمعنى الأصح ومُطلعاً على أقسام العلوم والفنون والآدب ،

الأسلوب :
إسلوب سردي راقي وفريد منذ البداية ،
يُدخلك في عمق عوالم ما يود أن يُخبرنا به ، ونحن نُريد وبـ شغف ،
يُحدث نَفسه ، بقصد مُحادثنا
وهو ما يَجذب القارىء على المُتابعه في القراءة بـ مهل ، حتى لو إستطرد الكاتب في القصة ،
وكرر مَقطعاً فـ هذا لا يَشوب القصة بل يَزيدها قوة في العاطفة وسهولة في إيصال الفكرة ،

* بروز الحوار الداخلي ( منالوجيا ) وهو الأكثر إرتباطاً بـ الذات وما يَدور في عوالم الفكر الخفية ، إذ أن موضوع الخيال المُقترن بالحديث بـ صيغة الأنا ، هو السائد في ذلك ،

،

إلتقاطات تَصلح لأن يُشار لـ كاتبها ، ونقول ، قالها تُركي الرويثي يَوماً :
1- هناك مناطق لا يجوز معها المحاولة ، لأن الوقوع عندها لا رجعة فيه ، مثل اللعب مع الموت
2- أنا من يُذنب وأنا من يواسى ، هو من فقد وهو من يواسي
3- النهر الكبير ليس إلا جداول صغيرة ناكره لـ ذاتها
4- عندما ينفجر حَدث ما ليُحاول قتلك ، هُنا تكون البداية
5- في الخيال ما أسهل التملك
6- الخيال رائع وجميل ، لكنه قاتل ، فعلا قاتل
7- نحن لا نعيش ولكن نُحاول

تركي ،
هَل الخيال إمتلاء
، أم إملاء فراغ؟

و ما الفرق بين أن نعيش الخيال قبل الواقع ، وبين أن نعيش الواقع قبل الخيال

هي ليست أهلة بالإجابة ، لأن قصتك أوفى من كُل الإجابات ،


شُكراً لـ أنك هُنا
بُورك هَذا الحُضور ، والنور

تركي الرويثي
04-26-2009, 01:58 AM
أهلا منال

بل الشكر لنورك سيدتي

سعد المغري
04-27-2009, 10:39 AM
..

تركي الرويثي..
أعتبر هذه القصة
مدرسة قصصية بديعة الـ.سردية والـ.حبكة ..
هنا مقدرة مميزة ولون مـ.ختلف...
قرأتك فــ.أحببت هذا النفس العالي..
تحية لـ.ك يامبدع..

تركي الرويثي
05-08-2009, 11:52 PM
أهلا عائشة

أعتقد بأن كل كاتب يتمنى رد مثل هذا
يعطي النص بعد آخــر

فشكــرا لك عليــه

عبدالله العويمر
05-09-2009, 08:48 PM
تركي
لِحَدِيْثك مُتْعة لاتُقَدّر بِشيء

شَاهِق الحَرْف ِ والفِكْر

تركي الرويثي
05-22-2009, 09:35 PM
أهلا سعد


حضورك هو المميز سيدي
فشكـــرا لك