المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله


سلطان ربيع
09-28-2006, 08:31 AM
http://www.alitantawi.com/images/basis.jpg



كان دائماً ما ينظر إلى ساعته اليدوية التي تلبسها طاولته البسيطة، حتى لا يتجاوز الوقت المحدد له، من قبل المشرف «على مائدة الإفطار» الرمضانية. ويتفقد أيضا جهاز تسجيل صوته العتيق، حتى يكون شاهداً عليه بعد انتهائه من كل حلقة، وكان حديثه عفوياً، وكأنه فردٌ من كل بيت في السعودية، فبرهة يسند ظهره للكرسي، خاصة عند ابتسامه أو ضحكه أو سرده لقصة أو طرفة ما، فإذا ما انتهى منها ضغط بيديه على طاولته، وعاد يقرأ محاور حديثه أو رسائل متابعيه، الذين لا يكتمل إفطارهم في رمضان، إلا بسماعه ومشاهدته، وكان افتتاحه لأي حلقة من برنامجه الشهير في رمضان، يتم بكل سهولة وأريحية، بينما يجبره منفذ البرنامج، في الغالب، على ختم حلقاته، وهو يتحدث بأن المخرج أشار إليه بانتهاء الوقت، كان الوقت شاغله الأول، رغم أنه عاش 90 عاماً في القرن الماضي.

في فجر الـ 12 من يونيو (حزيران) 1909، وفي دار صغيرة في حارة العقيبة «حي الأوزاعي قديماً»، إحدى حارات دمشق القديمة، صرخ الشيخ علي بن مصطفى بن أحمد الطنطاوي، أي قبل سقوط الدولة العثمانية بخمسة عشر عاماً فقط، ونشأ في أسرة متدينة ومتعلمة، تنحدر أصولها من طنطا عاصمة إقليم الغربية في مصر، وانخرط في التعليم والمقاومة تجاه الفرنسيين منذ سنّ مبكرة، حيث خطب وعمره 14 عاماً ضد استقبال المفوض الفرنسي الجنرال ويفان، وفي 1928 دعاه خاله محب الدين الخطيب للقدوم إلى مصر للصحافة والدراسة، غير أنه لم يكمل دراسته في كلية دار العلوم المصرية، لكنه اقتحم عالم الكتابة في الصحافة، فعاد إلى الفيحاء ليلتحق بكلية الحقوق، التي تخرج فيها عام 1933، انتقل بعدها إلى العراق ليعمل مدرساً، ثم قاضياً شرعياً في دمشق، إلى أن حاز أعلى المناصب القضائية في سورية، عقب ذلك هاجر إلى السعودية في عام 1963، فكان مدرساً في كلية اللغة العربية وكلية الشريعة في الرياض، ثم انتقل إلى التدريس في كلية الشريعة في مكة المكرمة، بعدها تفرغ لتقديم البرنامج الإذاعي اليومي «مسائل ومشكلات»، إلى جانب برنامج تلفزيوني أسبوعي حمل عنوان "نور وهداية" في عام 1967، وكتب الطنطاوي في مجلات «الزهراء» و«الفتح» و«الرسالة» و«المسلمون» و«حضارة الإسلام»، وألّف في أدب الطفل والكتب المدرسية وعالم القصة، وحقق بعض كتب التراث، وكان له دور في صياغة قانوني الأحوال الشخصية والإفتاء في سورية، وكان من أبرز زملائه دراسياً ميشيل عفلق، وحصل على جائزة الملك فيصل العالمية في مجال خدمة الإسلام عام 1990.


ابو البنات


رزق الشيخ علي خمساً من البنات، منهن بنان التي اغتيلت في مدينة آخن الألمانية، فأصبحت المرأة كل ما يملك في الدنيا، ولذا كان يحترمها ويدافع عنها، وكان يردد دائماً: «ان الدرجة للرجل على المرأة درجة واحدة، وليست سلماً»، وكان يتمتع بالفكاهة والبساطة أمام الشاشة، من خلال الابتسام والتعليق وسرد الطرائف والقصص، وتبسيط الأحكام والأقوال، الأمر الذي مكنه من دخول العقول والقلوب بلا استئذان، فكان لا يقل أهمية عن التمر والماء والإفطار للصائم في رمضان، لا سيما في السعودية.


ذكر في يومياته عن قصة مقتل ابنتة بنان وهي قصة أليمة جدا ذكرها الشيخ في يومياته عليه رحمة الله حيث قال:

إن كل أب يحب أولاده، ولكن ما رأيت ، لا والله ما رأيت من يحب بناته مثل حبي بناتي... ما صدقت إلى الآن وقد مر على استشهادها أربع سنوات ونصف السنة– الآن يقصد عام 1404 هـ ،، وأنا لا أصدق بعقلي الباطن أنها ماتت، إنني أغفل أحيانا فأظن إن رن جرس الهاتف، أنها ستعلمني على عادتها بأنها بخير لأطمئن عليها، تكلمني مستعجلة، ترصّف ألفاظها رصفاً، مستعجلة دائما كأنها تحس أن الردى لن يبطئ عنها، وأن هذا المجرم، هذا النذل .... هذا .......يا أسفي ، فاللغة العربية على سعتها تضيق باللفظ الذي يطلق على مثله، ذلك لأنها لغة قوم لا يفقدون الشرف حتى عند الإجرام، إن في اللغة العربية كلمات النذالة والخسة والدناءة، وأمثالها.

ولكن هذه كلها لا تصل في الهبوط إلى حيث نزل هذا الذي هدّد الجارة بالمسدس حتى طرقت عليها الباب لتطمئن فتفتح لها ، ثم اقتحم عليها على امرأة وحيدة في دارها فضربها ضرب الجبان والجبان إذا ضرب أوجع ، أطلق عليها خمس رصاصات تلقتها في صدرها وفي وجهها ، ما هربت حتى تقع في ظهرها كأن فيها بقية من أعراق أجدادها الذين كانوا يقولون ،

ولكن على أقدامنا نقطر الدما
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا


ثم داس الـ .... لا أدري والله بم أصفه ، إن قلت المجرم، فمن المجرمين من فيه بقية من مروءة تمنعه من أن يدوس بقدميه النجستين على التي قتلها ظلما ليتوثق من موتها ،، ولكنه فعل ذلك كما أوصاه من بعث به لا غتيالها ؟؟؟؟؟؟؟؟؟

دعس عليها برجليه ليتأكد من نجاح مهمته ، قطع الله يديه ورجليه ،

لا ،

بل أدعه وأدع من بعث به لله ... لعذابه ... لانتقامه ... ولعذاب الآخرة أشد من كل عذاب يخطر على قلوب البشر ...

لقد كلمتها قبل الحادث بساعة واحد ، قلت :أين عصام ؟ - يقصد عصام العطار زوجها – قالت : خبَّروه بأن المجرمين يريدون اغتياله وأبعدوه عن البيت ، قلت وكيف تبقين وحدكِ ؟قالت : بابا لا تشغل بالك بي أنا بخير ، ثق والله يا بابا أنني بخير ، إن الباب لا يفتح إلا إن فتحته أنا ، ولا أفتح إلا إن عرفت من الطارق وسمعت صوته ، إن هنا تجهيزات كهربائية تضمن لي السلامة ، والمسلِّم هو الله .

ما خطر على بالها أن هذا الوحش ، هذا الشيطان سيهدد جارتها بمسدسه حتى تكلمها هي ، فتطمئن ، فتفتح لها الباب .

ومرّت الساعة ... فقرع جرس الهاتف ... وسمِعْتُ من يقول : كَلِّمْ وزارة الخارجية ... قلت نعم.

فكلمني رجل أحسست أنه يتلعثم ويتردد ، كأنه كُلِّف بما تعجز عن الإدلاء به بلغاء الرجال ، بأن يخبرني ... كيف يخبرني ؟؟؟ ثم قال : ما عندك أحد أكلمه ؟ وكان عندي أخي . فكلّمه ، وسمع ما يقول ورأيته قد ارتاع مما سمع ، وحار ماذا يقول لي ، وأحسست أن المكالمة من ألمانيا ، فسألته : هل أصاب عصاماً شيء ؟؟ قال : لا ، ولكن .... قلت : ولكن ماذا ؟؟ قال : بنان ، قلت : مالها ؟؟ قال ، وبسط يديه بسط اليائس الذي لم يبق في يده شيء ....

وفهمت وأحسستُ كأن سكيناً قد غرس في قلبي ، ولكني تجلدتُ وقلت هادئاً هدوءاً ظاهرياً ، والنار تضطرم في صدري : حدِّثْني بالتفصيل بكل ما سمعت. فحدثني ... وثِقوا أني مهما أوتيت من طلاقة اللسان ، ومن نفاذ البيان ، لن أصف لكم ماذا فعل بي هذا الذي سمعت ....

كنت أحسبني جَلْداً صبوراً ، أَثْبُت للأحداث أو أواجه المصائب ، فرأيت أني لست في شيء من الجلادة ولا من الصبر ولا من الثبات......)

((كتابه الذكريات الجزء السادس))

وقد قال احد مشاهدي برنامجه اليومي في رمضان

جاءته رسالة من أحد المشاهدين...وكانت الرسالة تذكره بابنته ..بنان التي اغتالتها يد الحقد والطغيان

وهي في ألمانيا مع زوجها ..الداعية الكبير ..عصام العطار.....

أتدرون ماذا فعل ...الشيخ الجليل ..يرحمه الله ..لم يستطيع إكمال البرنامج فقد ..بكى...

والله انه بكى أمامنا على الشاشة الفضية ..بكى في الرائي كما كان يسميه رحمه الله ...

ولم يستطيع أن يكمل فقال و الله بهذه اللهجة ..اللهجة الشامية ..ووالله إنها لا تزال ترن في أذني كلما تذكرتها....

( خلاص يا ابني ما بدي اكمل ...يكفي ) فقطع الإرسال.....


يتبع ....

سلطان ربيع
09-28-2006, 08:33 AM
http://www.asharqalarabi.org.uk/images/md-tan.jpg

وصية الشيخ علي الطنطاوي لإبنته



يا بنتي انا رجل يمشي الى الخمسين قد فارق الشباب وودع احلامه واوهامه ، ثم اني سحت في البلدان ولقيت الناس وخبرت الدنيا فاسمعي مني كلمة صحيحة صريحة من سني وتجاربي لم تسمعيها من غيري، لقد كتبت وناديت ندعو الى تقويم الاخلاق ومحو الفساد وقهر الشهوات حتى كلت منا الاقلام وملت الالسنة وما صنعنا شيئا ولا ازلنا منكرا بل ان المنكرات لتزداد والفساد ينتشر والسفور والحسور والتكشف تقوى شرّته وتتسع دائرته ويمتد من بلد الى بلد حتى لم يبق بلد اسلامي - فيما احسب - في نجوة منه حتى الشام التي كانت فيها الملاءة السابغة وفيها الغلو في حفظ الاعراض وستر العورات قد خرج نساؤها سافرات حاسرات كاشفات السواعد والنحور.. ما نجحنا وما اظن اننا سننجح ، اتدرين لماذا؟ لاننا لم نهتد الى اليوم الى باب الاصلاح ولم نعرف طريقه ، ان باب الاصلاح امامك انت يا بنتي ومفتاحه بيدك فاذا امنت بوجوده وعملت على دخوله صلحت الحال ، صحيح ان الرجل هو الذي يخطو الخطوة الاولى في طريق الاثم لا تخطوها المراة ابدا ولكن لولا رضاك ما اقدم ولولا لينك ما اشتد انت فتحت له وهو الذي دخل ، قلت للص تفضل .. فلما سرقك اللص صرخت اغيثوني يا ناس سرقت ..... ولو عرفت ان الرجال جميعا ذئاب وانت النعجة لفررت منهم فرار النعجة من الذئب ، وانهم جميعا لصوص لاحترست منهم احتراس الشحيح من اللص0 واذا كان الذئب لا يريد من النعجة إلا لحمها . فالذي يريده منك الرجل أعز عليك من اللحم على النعجة ، وشر عليك من الموت عليها ، يريد منك أعز شئ عليك : عفافك الذي تشرفين ، وبه تفخرين ، وبه تعيشين ، وحياة البنت التي فجعها الرجل بعفافها ، أشد عليها بمئة مرة من الموت على النعجة التي فجعها الذئب بلحمها ... إي والله، وما رأى شاب فتاة إلا جردها بخياله من ثيابها ثم تصورها بلا ثياب. إي والله ، أحلف لك مرة ثانية ، ولا تصدقي ما يقوله بعض الرجال ، من أنهم لا يرون في البنت إلا خلقها وأدبها، وأنهم يكلمونها كلام الرفيق ، ويودونها ود الصديق ، كذب والله، ولو سمعت أحاديث الشباب في خلواتهم ، لسمعت مهولا مرعبا ، وما يبسم لك الشاب بسمة ، ولا يلين لك كلمة ، ولا يقدم لك خدمة ، إلا وهي عنده تمهيد لما يريد ، أو هي على الأقل إيهام لنفسه أنها تمهيد. وماذا بعد؟ ماذا يا بنت؟ فكري. تشتركان في لذة ساعة ، ثم ينسى هو ، وتظلين أنت أبدا تتجرعين غصصها ، يمضي (خفيفا) يفتش عن مغفلة أخرى **** منها عرضها، وينوء بك أنت ثقل الحمل في بطنك ، والهم في نفسك ، والوصمة على جبينك ، يغفر له هذا المجتمع الظالم ، ويقول : شاب ضل ثم تاب ، وتبقين أنت في حمأة الخزي والعار طول الحياة ، لا يغفر لك المجتمع أبدا. ولو انك إذ لقيته نصبت له صدرك ، وزويت عنه بصرك ، وأريته الحزم والاعراض ... فإذا لم يصرفه عنك هذا الصد ، وإذا بلغت به الوقاحة أن ينال منك بلسان أو يد ، نزعت حذاءك من رجلك ، ونزلت به على رأسه ، لو أنك فعلت هذا ، لرأيت من كل من يمر في الطريق عونا لك عليه، ولما جرؤ بعدها فاجر على ذات سوار ، ولجاءك _ إن كان صالحا _ تائبا مستغفرا ، يسأل الصلة بالحلال ، جاءك يطلب الزواج. والبنت مهما بلغت من المنزلة والغنى والشهرة والجاه ، لا تجد البنت أملها الاكبر وسعادتها إلا في الزواج ، في أن تكون زوجا صالحة ، وأما موقر’ ، وربة بيت . سواء في ذلك الملكات و الاميرات ، وممثلات هوليود ذوات الشهرة والبريق الذي يخدع كثيرات من النساء . وأنا أعرف أدبيبتين كبيرتين في مصر والشام ، أديبتين حقا ، جمع لهما المال والمجد الادبي ، ولكنهما فقدتا الزوج فقدتا العقل وصارتا مجنونتين ، ولا تحرجيني بسؤالي عن الاسماء إنها معروفة!! .

الزواج اقصى اماني المراة ولو صارت عضوة البرلمان وصاحبة السلطان ، والفاسقة المستهترة لا يتزوجها احد، حتى الذي يغوي البنت الشريفة بوعد الزواج ان هي غوت وسقطت تركها وذهب- اذا اراد الزواج- فتزوج غيرها من الشريفات لانه لا يرضى ان تكون ربة بيته وام بنته امراة ساقطة

والرجل وان كان فاسقا داعرا اذا لم يجد في سوق اللذات بنتا ترضى ان تريق كرامتها على قدميه وان تكون لعبة بين يديه إذ لم يجد البنت الفاسقة او البنت المغفلة التي تشاركه في الزواج على دين ابليس وشريعة القطط في شباط طلب من تكون زوجته على سنة الاسلام

فكساد سوق الزواج منكن يا بنات لو لم يكن منكن الفاسقات ما كسدت سوق الزواج ولا راجت سوق الفجور .. فلماذا لا تعملن ، لماذا لا تعمل شريفات النساء على محاربة هذا البلاء ؟ انتن اولى به واقدر عليه منا لأنكن اعرف بلسان المراة وطرق افهامها ولانه لا يذهب ضحية هذا الفساد الا انتن : البنات العفيفات الشريفات البنات الصيّنات الديّنات

في كل بيت من بيوت الشام بنات في سن الزواج لا يجدن زوجا ، لان الشباب وجدوا من الخليلات ما يغني عن الحليلات ، ولعل مثل هذا في غير الشام ايضا ... فألفن جماعات منكن من الاديبات والمتعلمات و مدرسات المدرسة و طالبات الجامعة تعبد أخواتكن الضالات الى الجادة، خوّفنهن الله ، فان كن لا يخفنه فحذرهن المرض ، فان كن لا يحذرنه فخاطبهن بلسان الواقع ، قلن لهن : انكن صبايا جميلات فلذلك يقبل عليكن الشباب ويحومون حولكن ولكن هل يدوم عليكن الصبا والجمال ؟ ومتى دام في الدنيا شئ حتى يدوم على الصبيّة صباها وعلى الجميلة جمالها ؟ فكيف يكن اذا صرتن عجائز محنيات الظهور مجعّدات الوجوه من يهتم يومئذ بكنومن يسأل عنكن ، اتعرفن من يهتم بالعجوز ويكرمها ويوقرها ؟ اولادها وبناتها وحفدتها وحفيداتها ، هناك تكون عجوز ملكة في رعيتها ومتوجة على عرشها على حين تكون الاخرى ... انتن اعرف بما تكون عايه.فهل تساوي هذه اللذة تلك الآلام ؟ وهل تشتري بهذه البداية تلك النهاية ?. وأمثال هذا الكلام لا تحتجن الى من يدلكن عليه، ولا تعدمن وسيلة الى هداية أخواتكن المسكينات الضالات ، فإن لم تستطعن ذلك معهن فاعملن على وقاية السلمات من مرضهن ، والناشئات الغافلات من أن يسلكن طريقهن .

وأنا لا أطلب منكن أن تعدن بالمرأة المسلمة اليوم بوثبة واحدة إلى مثل ما كانت علية المرأة المسلمة حقا، لا، وإني لأعلم أن الطفرة مستحيلة في العادة ، ولكن أن ترجعن إلى الخير خطوة خطوة ، كما أقبلتن على الشر خطوة خطوة ، إنكن قصرتن الثياب شعرة شعرة ، ورققتن الحجاب ، وصبرتن الدهر الاطول تعلمن لهذا الانتقال ، والرجل الفاضل لا يشعر به ، والمجلات الداعرة تحث عليه ، والفساق يفرحون به ، حتى وصلنا إلى حال لا يرضى بها الاسلام ، ولا ترضى بها النصرانية ، ولم يعلمها المجوس الذين نقرأ أخبارهم في التاريخ ، إلى حال تأباها الحيوانات. إن الديكين إذا اجتمعا على الدجاجة اقتتلا غيرة عليها وذودا عنها ، وعلى الشواطئ في الاسكندرية وبيروت رجال مسلمون ، لا يغارون على نسائهم المسلمات أن يراهن الاجنبي ، لا أن يرى وجوههن ...ولا أكفهن...ولا نحورهن... بل كل شيء فيهن!! كل شيء إلا الشيء الذي يقبح مرآه ويجعل ستره ، وهو حلقتا العورتين ، وحلمتا الثديين.....

وفي النوادي والسهرات (التقدمية) الراقية ، رجال مسلمون يقدمون نساءهم المسلمات للاجنبي ليراقصهن ، يضمهن حتى يلامس الصدر الصدر ، والبطن البطن، والفم الخد، والذراع ملتوية على الجسد ، ولا ينكر ذلك أحد ، وفي الجامعات المسلمات شباب مسلمون يجالسون بنات مسلمات متكشفات باديات العورات ، ولا ينكر ذلك الآباء والامهات المسلمات ، وأمثال هذا!!. وأمثال هذا كثير لا يدفع في يوم واحد ، ولا بوثبة عاجلة ، بل بأن نعود إلى الحق ، من الطريق الذي وصلنا منه إلى الباطل ، ولو وجدناه الآن طويلا، وإن من لا يسلك الطريق الطويل الذي لا يجد غيره لا يصل أبدا، وأن نبدأ بمحاربة الاختلاط غير السفور ، أما كشف الوجه، إن كان لا يتحقق بكشفه الضرر على الفتاة والعدوان على عفافها فأمره أسهل ولعله أهون من هذا الذي نسميه في بلاد الشام حجابا ، وما هو إلا ستر للمعايب ، وتجسيم للجمال ، وإغراء للناظر.

السفور إن اقتصر على الوجه كما خلق الله الوجه ليس حراما متفقا على حرمته، وإن كنا نرى الستر أحسن وأولى ، وكان ستره عند خوف الفتنة واجبا. أما الاختلاط فشيء آخر ، وليس يلزم من السفور أن تختلط الفتاة بغير محارمها، وأن تستقبل الزوجة السافرة صديق زوجها في بيتها، أو أن تحييه إن قابلته في الترام ، أو لقيته في الشارع ، وأن تصافح البنت رفيقها في الجامعة ، أو أن تصل الحديث بينها وبينه، أو أن تمشي معه في الطريق ، وتستعد معه للامتحان ، وتنسى أن الله جعلها أنثى وجعله ذكرا ، وركب في كل الميل إلى الآخر ، فلا تستطيع هي ولا هو ولا الاهل الارض جميعا ، أن يغيروا خلقة اله ، وأن (يساووا) بين الجنسين ، أو أن يمحوا من نفوسهم هذا الميل. وإن دعاة المساواة والاختلاط باسم المدينة قوم كذابون من جهتين : كذابون لانهم ما أرادوا من هذا كله إلا إمتاع جوارحهم ، وإرضاء ميولهم ، وإعطاء نفوسهم حظها من لذة النظر ، وما يأملون به من لذائذ أخر، ولكنهم لم يجدوا الجرأة على التصريح به ، فلبسوه بهذا الذي يهرفون به من هذه الالفاظ الطنانة ، التي ليس وراءها شيء : التقدمية، والتمدن ، والفن ، والحياة الجامعية ، والروح الرياضية ، وهذا الكلام الفارغ (على دويه) من المعنى فكأنه الطبل.

وكذابون لان أوروبة التي يأتمون بها ، ويهتدون بهديها ، ولا يعرفون الحق إلا بدمغتها عليه ، فليس الحق عندهم الذي يقابل الباطل ، ولكن الحق ما جاء من هناك : من باريس ولندن وبرلين ونيويورك ، ولو كان الرقص والخلاعة ، والاختلاط في الجامعة ، والتكشف في الملعب والعري على الساحل ، والباطل ما جاء من هنا : من الازهر والاموي وهاتيك المدارس الشرقية ، والمساجد لاسلامية ولو كان الشرف والهدى والعفاف والطهارة ، طهارة القلب وطهارة الجسد. إن في أوروبا وفي أمريكا ، كما قرأنا وحدثنا من ذهب إليهما ، أسرا كثيرات لا ترضى بهذا الاختلاط ولا تسيغه ، وإن في باريز (في باريس يا ناس ) آباء وأمهات لا يسمحون لبناتهم الكبيرات أن يسرن مع الشاب ، أو يصحبنه إلى السينما ، بل هم لا يدخلونهن إلا إلى روايات عرفوها ، وأيقنوا بسلامتها من الفحش والفجور ، اللذين لا يخلو منهما مع الاسف واحد من هذه (التهريجات) و الصبيانيات السخيفة التي تسميها شركات مصر الهزيلة الرقيعة ( الجاهلة بالفن السينمائي مثل جهلها بالدين ) تسميها أفلاما!!يقولون : إن الاختلاط يكسر شرة الشهوة ، ويهذب الخلق ، وينزع من النفس هذا الجنون الجنسي . وأنا أحيل في الجواب على من جرب الاختلاط في المدارس ، روسيا التي لا تعودإلى دين ، ولا تسمع رأي شيخ ولا قسيس ، ألم ترجع عن هذه التجربة لما رأت فسادها؟

وأميركا ، ألم تقرؤوا أن من جملة مشاكل أمريكا مشكلة ازدياد نسبة (الحاملات) من الطالبات؟ فمن يسره أن يكون في جامعات مصر والشام ، وسائر بلاد الاسلام مثل هذه المشكلة. وأنا لا أخاطب الشباب ، ولا أطمع في أن يسمعوا لي ، وأنا أعلم أنهم قد يردون علي ويسفهون رأيي ، لأني أحرمهم من لذائذ ما صدقوا أنهم قد وصلوا إليها حقا ، ولكن أخاطبكن أنتن يا بناتي . يا بناتي المؤمنات الدينات ، يا بناتي الشريفات العفيفات ، إنه لا يكون الضحية إلا أنتن ، فلا تقدمن نفوسكن ضحايا على مذبح إبليس ، لا تسمعن كلام هؤلاء الذين يزينون لكن حياة الاختلاط باسم الحرية والمدنية والتقدمية والفن والحياة الجامعية ، فإن أكثر هؤلاء الملاعين لا زوجة له ولا ولد ، ولا يهمه منكن جميعا إلا اللذة العارضة ، أما أنا فإني أبو بنات ، فأنا حين أدافع عنكن أدافع عن بناتي ، وأنا أريد لكن من الخير ما أريده لهن . إنه لا شيء مما يهرف به هؤلاء يرد على البنت عرضها الذاهب ، ولا يرجع لها شرفها المثلوم ، ولا يعيد لها كرامتها الضائعة ، وإذا سقطت البنت لم تجد واحدا منهم يأخذ بيدها ، أو يرفعها من سقطتها ، إنما تجدهم جميعا يتزاحمون على جمالها ، ما بقي فيها جمال ، فإذا ولى ولوا عنها ، كما تولي الكلاب عن الجيفة التي لم يبق فيها مزعة لحم !

هذه نصيحتي إليك يا بنتي ، وهذا هو الحق فلا تسمعي غيره ، واعلمي أن بيدك أنت ، لا بأيدينا معشر الرجال ، بيدك مفتاح باب الإصلاح ، فإذا شئت أصلحت نفسك وأصلحت بصلاحك الأمة كلها.

يتبع ...

سلطان ربيع
09-28-2006, 08:35 AM
وفاته


توفي الشيخ علي الطنطاوي رحمة الله في يونيو (حزيران) 1999 . حيث فقدنا بموته شيخا جليلا وعالما كبيرا
رثى نفسه ذات مرة، عندما تعرض لمحاولة غرق في سيف البحر في بيروت، فكتب: «مات علي الطنطاوي، وليس عجباً أن يموت، والموت غاية كل حي»، لكنه لم يمت في بيروت، بل دفن في ثرى مقابر العدل في مكة المكرمة يوم الجمعة، الثامن عشر رحمة الله رحمتا واسعه وغفر له ذنبه وجمعنا به في جنات النعيم ..

سلطان ربيع
09-28-2006, 08:36 AM
مؤلفاته رحمه الله


قصص من الحياة

الموسيقي العاشق، الخادمة، قصة أب، في حديقة الأزبكية، هذيان مجنون، العجوزان، من صميم الحياة، اليتيمان

من حديث النفس

ذكريات، في لج البحر (الشيخ علي الطنطاوي يرثي نفسه)، مشروع مقال، شهادة ليسانس للبيع، قصة معلم، مما حدث لي

قصص من التاريخ

حكاية الهميان ، عشية وضحاها ، وديعة الله (جديدة)

مع الناس

الوعد الشرقي

رجال من التاريخ

شاعر يرثي نفسه

صور وخواطر

أعرابي في حمام

من غزل الفقهاء

قصص إيمانية مع المتقين

بركة التقوى مع الغافلين

لا تتزوج ملكة جمال

ذكريات ( 1- 8 )

فتاوى

تعريف عام بدين الإسلام

أبو بكر الصديق

أخبار عمر وأخبار عبد الله بن عمر

الجامع الأموي في دمشق

هتاف المجد

في سبيل الإصلاح

دمشق (صور من جمالها، وعبر من نضالها)

فكر ومباحث

بغداد (مشاهدات وذكريات)

فصول إسلامية

مقالات في كلمات

في إندونيسيا (صور من الشرق)

من نفحات الحرم

صيد الخاطر للإمام بن الجوزي، تحقيق الطنطاويين

حكايات من التاريخ (جابر عثرات الكرام، المجرم ومدير الشرطة، التاجر والقائد، قصة الأخوين، وزارة بعنقود عنب، ابن الوزير)

أعلام التاريخ (عبد الرحمن بن عوف، عبد الله بن المبارك، القاضي شريك، الإمام النووي، أحمد بن عرفان الشهيد)

قصة حياة عمر

من شوارد الشواهد

القضاء في الإسلام

يا بنتي ويا ابني

ارحموا الشباب

طريق الجنة وطريق النار

صلاة ركعتين

قصتنا مع اليهود

طريق الدعوة إلى الإسلام

موقفنا من الحضارة الغربية

تعريف موجز بدين الإسلام

المثل الأعلى للشاب المسلم

وله مئات من البحوث والمقالات في عشرات من الصحف والمجلات

سلطان ربيع
09-28-2006, 08:38 AM
كأنه قبضة من أرض الشام، عُجنت بنهري النيل والفرات، لوحتها شمس صحراء العرب، فانطلقت بإذن ربها نفساً عزيزة أبية، تنافح عن الدعوة وتذود عن حياض الدين.ـ

ذلكم هو العلامة الكبير، الفقيه النجيب، والأديب الأريب الشيخ علي الطنطاوي الذي فقدته الأمة قبل فترة، لتنثلم بذلك ثلمة كبيرة، ضاعفت آلامنا وأدمت قلوبنا.ـ

كان الشيخ الطنطاوي قوة فكرية من قوى الأمة الإسلامية، ونبعا نهل منه طالبو العلم، والأدب في كل مكان، كان قلمه مسلطا كالسيف سيالاً كأعذب الأنهار وأصفاها، رائعة صورته، مشرقا بيانه، وفي ذلك يقول عن نفسه


((أنا من "جمعية المحاربين القدماء" هل سمعتم بها؟ كان لي سلاح أخوض به المعامع، وأطاعن به الفرسان، وسلاحي قلمي، حملته سنين طوالاً، أقابل به الرجال، وأقاتل به الأبطال، فأعود مرة ومعي غار النصر وأرجع مرة أمسح عن وجهي غبار الفشل. قلم إن أردته هدية نبت من شقه الزهر، وقطر منه العطر وإن أردته رزية حطمت به الصخر، وأحرقت به الحجر، قلم كان عذبا عند قوم، وعذاباً لقوم آخرين)).ـ


من بعض ماكتبت عنه مجلة الأسرة

خالد صالح الحربي
09-28-2006, 12:51 PM
*
الأديب.. العلاّاامة.. الشيخ:. (علي..الطنطااوي)..
رحمه.. الله.. رحمةً.. واسعة../. وأسكنه.. فسيح.. جنّااته..
هذا.. العلَم.. العِلم../. الإنساان.. فصيح.. اللساان..
وحدهُ.. من.. أثبت.. لنا.. أنَّ.. بإستطاعة.. الموسوعة.. السير.. على.. قدَمين..
ووحدهُ.. أثبت.. أنَّها.. تتعرَّض.. للوفااة.. أيضاً..!

**
أُسلوبهُ جذّااب.. وشيّق..
جميل.. العباارة.. حلو.. التعبير.. لغتهُ.. بقدر.. ماهي.. سهلة.. وبسيطة..
إلا.. أنّها.. عميقة.. الأثر.. والتأثير..
ألفااظهُ.. مُنتقااه.. بدقّة.. وعنااايةٍ.. فاائقة..
يُخااطب.. الجميع.. الأمّي.. والمُتعلّم../. بلغةٍ.. أشبه.. بالسحر..
لا.. أزاال.. أتذكّرهُ.. وهو.. يُطِل.. عبر.. شااشة.. التلفاز.. كلَّ.. يوم.. جمعة..
في.. برناامجه .. الشهير.. (نور..وهدااية)..
لاازاال.. أذكر.. إطلاالتهُ.. المحبَّبة../. وملامحهُ.. التي.. تشع..بالنور..
وغُترتهُ.. (البيضااء)../. تمااماً..كقلبه..
لا.. أزاال.. أذكر.. مدى.. تأثره.. بما.. يقرأه.. من.. رساائل..
خصوصاً.. التي.. تضم.. في.. طيّااتها.. ألماً.. وحزناً../. ما..
لا.. أزاال.. أذكر.. إطلاالته.. عبر.. برناامجه.. الرمضاني..
( حديث.. الإفطاار).. والذي.. كاان.. وجبةً.. روحاانية.. قيّمة..
لا.. أزاال.. والله.. أتذكّر.. بعضاً.. من.. كلاامه.. نصيّا ً..
فهوَ.. حكيمٌ.. لا.. تُستغرَب.. منهُ.. الحكمة../. وصااحبُ.. تجربةٍ.. ثريَّة..
هي.. نتااج.. عُمْر.. عرَفَ.. صااحبه../. كيف.. لا.. يُضيعهُ.. عبثاً..

خالد صالح الحربي
09-28-2006, 01:11 PM
ـــــــــــــ
قصّة :العجوزان.. للشيخ علي الطنطاوي
ــــــــــــ

أغلق الشيخ الباب فتنفس أهل الدار الصعداء.
وأفاقوا إفاقة من يودع الحلم المرعب ، أو الكابوس الثقيل ،
ثم انفجروا يصيحون ، يفرغون ما اجتمع في حلوقهم من الكلمات التي حبسها
وجود الشيخ فلم ينبسوا بها ، وانطلقوا في أرجاء الدار الواسعة.
والأولاد (صغار أولاد الشيخ وأحفاده ) يتراكضون ويتراشقون
بما تقع عليه أيديهم من أثاث الدار ، ويتراشون بالماء ،
أو يدفع بعضهم بعضا في البركة الكبيرة التي تتوسط صحن الدار ،
فيغوص الولد في أمواهها ، فتعدو إليه أمه أو من تكون على مقربة منه
فتخرجه من بين قهقهة الصغار وهتافهم وتقبل عليه لتنضو عنه ثيابه
وتجفف خشية المرض جسده ، فإذا هو يتفلت من بين يديها ،
ثم يركض وراء إخوته وأبناء عمه ليأخذ منهم بالثأر ،
والماء ينقط من ثيابه على أرض الدار المفروشة بالرخام الأبيض
والمرمر الصافي التي أنفقت الأسرة ساعات الصباح كلها
في غسل رخامها ومسحه بالإسفنج ،حتى أضحى كالمرايا المجلوة أو هو أسنى.
وعلى السجاد الثمين الذي يفرش القاعات الكثيرة والمخادع ،
وهم ينتقلون من غرفة إلى غرفة ، ومن درج إلى درج ،
ويفسدون ما يمرون به من الأغراس التي لم تكن تخلو من مثلها دار في دمشق،
من البرتقال والليمون والكباد والفراسكين والنارنج والأترج (الطرنج)
وقباب الشمشير والياسمين والورد والفل ، تتوسط ذلك كله الكرمة (الدالية)
التي تتمدد على (سقالة) تظلل البركة تحمل العنب (البلدي)
الذي يشبه في بياضه وصفائه اللؤلؤ ،
لولا أن الحبة الواحدة منه تزن أربع حبات مما يسمى في مصر والعراق عنبا…
والجدة تعدو وراءهم ما وسعها العدو
تصرخ فيهم صراخا يكاد من الألم يقطر منه الدم :
((ولك يا ولد انت ويّاه …يقصف عمري منكم …وسختم البيت …
يا ضيعة التعب والهلاك … الله يجعل عليّ بالموت حتى أخلص منكم ))..
فيختلط صراخها بصياح الأولاد ، وضحك الضاحكين منهم وبكاء الباكين،
وهم يتضاربون ، ويسقطون ما يعثرون به من الأواني الكؤوس …
ولا يصغي لنداء الجدة أحد منهم …
* * *
ويلبثون على ذلك حتى ينادي المؤذن بالظهر ،
فتنطفئ عند ذلك شعلة حماستهم ، وتخافت أصواتهم
ويحسبون بدنو ساعة الخطر ، فينزوي كل واحد منهم في ركن من أركان الدار
ينظر في ثيابه يحاول أن يزيل ما علق بها من الأوساخ ،
أو أن يصلح ما أفسد منها ، كيلا يبقى عليه أثر يعلن فعلته ،
ويتذكرون ما هشموا من أثاث المنزل حين عاثوا فيه مخربين،
فيجمع كل واحد منهم كل ما يقدر عليه من حطام الأواني
فيلقيه في زاوية الزقاق في غير الطريق الذي يمر منه الشيخ ،
ويرجع النسوة إلى أنفسهن فيسرعن في إعداد الطعام وإصلاح المنزل .
وتدور العجوز لتطمئن على أن قبقاب الشيخ في مكانه لم يزح عنه شعرة ،
لا تكل هذه (المهمة) لكنتيها ولا لبناتها ،
لأنها لم تنس طعم العصي التي ذاقتها منذ أربعين سنة …
في ذلك اليوم الذي وقعت فيه الكارثة ولم يكن قبقاب الشيخ في مكانه،
وضم إليها القدر مصيبة أخرى أشد هولا وأعظم خطرا ،
فتأخر صب الطعام عن موعده المقدس (في الساعة الثامنة الغروبية)
عشر دقائق كاملات …
وللشيخ حذاء (كندرة) للعمل ، وخف (صرماية) للمسجد،
و(بابوج) أصفر يصعد به الدرج ويمشي به في الدار ، (وقبقاب) للوضوء ،
وقد تخالف الشمس مجراها فتطلع من حيث تغيب ،
ولا يخالف الشيخ عادته فيذهب إلى المسجد بحذاء السوق ،
أو يتوضأ ببابوج الدرج …

وتعد العجوز قميص الشيخ ومنديله ،
وتهيئ (اليقجة) التي تضع فيها ثياب السوق بعد أن تساعده على نزعها
وتطويها على الطريقة التي ألفتها وسارت عليها منذ ستين سنة ،
من يوم تزوج بها الشيخ وكان في العشرين وكانت هي بنت ست عشرة ،
وهي لا تزال تذكر إلى الآن كيف وضع لها أسلوبه في الحياة
وبين لها ما يحب وما يكره ، وعلمها كيف تطوي الثياب وكيف تعد القبقاب،
كما علمها ما هو أكبر من ذلك وما هو أصغر وحذرها نفسه وخوفها غضبه
إذا هي أتت شيئا مما نهاه عنه ،
فأطاعت ولبث العمر كله وهي سعيدة مسعدة طائعة مسرورة
لم تخالف إلا في ذلك اليوم وقد لقيت فيه جزاءها ،
ونظرت العجوز الساعة فإذا هي منتصف الثامنة ، لقد بقي نصف ساعة…
ففرقت أهل الدار ووزعت عليهم الأعمال ،
كما يفرق القائد ضباطه وجنده ويلزمهم مواقفهم استعداد للمعركة ،
فأمرت بنتها الكبرى بإعداد الخوان للطعام ،
وبعثت الأخرى لتمسح أرض الدار التي وسخها الأولاد ،
وأمرت كنتيها بتنظيف وجوه الصغار وإبدال ثيابهم
حتى لا يراهم الشيخ إلا نظافا … ثم ذهبت ترد كل شيء إلى مكانه ،
ولكل شيء في هذا الدار الواسعة موضع لا يريمه ولا يتزحزح عنه ،
سنة سنها الشيخ لا تنال منه الغيرة ولا تبدلها الأيام ،
فهو يحب أن يضع يده على كل شيء في الظلمة أو نور ،في ليل أو نهار،
فيلقاه في مكانه ، ولما اطمأنت العجوز إلى أن كل شيء قد تم ،
نظرت إلى الساعة فإذا هي دون الموعد بخمس دقائق …
فاستعدت وغسلت يديها و وجهها ولبست ثوبا نظيفا
كعهدها ليلي عرسها لم تبدل العهد، واستعد أهل الدار بكبارهم و صغارهم.
فلما استوى عقرب الثامنة أرهفوا أسماعهم
فإذا المفتاح يدور في الباب إنه الموعد
ولم يتأخر الشيخ عن موعده هذا منذ ستين سنة إلا مرات معدودات
عرض له فيها شاغل لم يكن إلى دفعه سبيل .
فلما دخل أسرعوا إليه يقبلون يده وأخذت ابنته العصا فعلقتها في مكانها
وأعانته على خلع الحذاء وانتعال البابوج الأصفر ،
وسبقته زوجته إلى غرفته لتقدم إليه ثياب المنزل التي يتفضل بها .
غاضت الأصوات، وهدأت الحركة، وعادت هذه الدار الواسعة إلى صمتها العميق،
فلم يكن يسمع فيها إلا صوت الشيخ الحازم المتزن ،
وأصوات أخرى تهمس بالكلمة أو الكلمتين ثم تنقطع ،
وخطى خفيفة متلصصة تنتقل على أرض الدار بحذر وخوف …
وكانت غرفة الشيخ يؤثرها على يمين الإيوان العظيم
ذي القوس العالية والسقف النقوش الذي لا تخلو من مثله دار في دمشق ،
والذي يتوجه أبدا إلى القبلة
ليكون لأهل الدار مصيفا يغنيهم عن ارتياد الجبال في الصيف ،
ورؤية ما فيها من ألوان الفسوق ،
يشرفون منه على الصحن المرمري وأغراسه اليانعة وبركته ذات النوافير …
وكانت غرفة الشيخ رحبة ذات عتبة مستطيلة
تمتد على عرض الغرفة التي تعلو عن الأرض أكثر من ذراع
كسائر غرف الدور الشامية ،
تغطيها (تخشيبة) مدّ عليها السجاد
وفرشت في جوانبها (الطراريح) : الوسائد والمساند ،
وقامت في صدرها دكة أعلى ترتفع عن (التخشيبة) مقدار ما تهبط عنها العتبة.
وكان مجلس الشيخ في يمين الغرفة يستند إلى الشباك المطل على رحبة الدار،
وقد صفّ إلى جانبه علبة وأدوات ،
وهن حق النشوق الذي يأخذ منه بيده ما ينشقه من التبغ المدقوق
الذي ألفه المشايخ فاستحلوه بلا دليل حتى صاروا يشتمونه في المسجد
كما حرموا الدخان بلا دليل …
وإلى جنب هذا الحق علبة نظارات الشيخ ومنديله الكبير
والكتابان الذي لا ينتهي من قراءتهما : الكشكول و المخلاة ،
وفي زاوية الشباك أكياس بيضاء نظيفة مطوية
يأخذها معه كل يوم حينما يغدو لشراء الطعام من السوق
فيضع الفاكهة في كيس واللحم في آخر ،
وكل شيء في كيسه الذي خصصه به ،
وهذه الأكياس تغسل كل يوم وتعاد إلى مكانها .
وعن يساره خزانة صغيرة من خشب السنديان المتين
أشبه الأشياء بصندوق الحديد، لا يدري أحد حقيقة ما فيها من التحف والعجائب،
فهي مستودع ثروة الشيخ وتحفه ،
ومما علم أهل الدار عنها أن فيها علبا صغارا في كل علبة نوع من أنواع النقد:
من النحاسات وأصناف المتاليك والمتاليك
وأمات الخمسين وأمات المائة والبشالك
والزهراويات إلى المجيديات وأجزائها
والليرات العثمانية والإنكليزية والفرنسية، كل نوع منها في علبة من هذه العلب،
فإذا أصبح أخذ مصروف يومه الذي قدره له يوم وضع (ميزانية الشهر)،
ثم إذا عاد نظر إلى ما فضل معه ، فضم كل جنس إلى جنسه ،
وفي هذه الخزانة (وهي تدعى في دمشق الخرستان) ،
الفنار العجيب الذي كان يخرجه إذا ذهب ليلا
(وقلما كان يفعل) يستضيء به في طريق دمشق التي لم يكن بها أنوار
إلا أنوار النجوم ومصابيح الأولياء وسرجهم،
وأكثر هذه السرج يضاء ببركة الشيخ عثمان ويطفأ ليلا …
وفيها الكأس التي تطوى …
والمكبرة التي توضع في شعاع الشمس فتحرق الورقة من غير نار …
وفيها خواتم العقيق التي حملها الشيخ من مكة ،
فأهدى إلى صاحبه قسما منها وأودع الباقي خزانته …
وفيها الليرات الذهبية التي كان يعطيها الأطفال فيأكلونها
لأن حشوها(شكلاطة)..وكانت هي عجائب الدار السبع!
وأمام الشيخ (الرحلاية) وفوقها (السكمجاية) ،
وهي صندوق صغير فيه أدراج دقيقة ومخابئ وشقوق للأوراق ،
وبيوت للأقلام في صنعة لطيفة، وهيئة غريبة، كانت شائعة يومئذ في دمشق،
موجودة في أكثر البيوت المحترمة …
والويل لمن يمس شيئاً من أدوات الشيخ أو يجلس في مكانه .
ولقد جنى الجناية أحد الأطفال مرة فعبث بلعبة النشوق
فأسرعت أمه فزعة وأخذتها منه وأبعدته وأعادتها إلى مكانها ،
فانزاحت لشؤم الطالع عن موضعها مقدار أنملة وعرف ذلك الشيخ،
فكان نهار أهل المنزل أسود ، وحرموا بعده من الدنو من هذا الحمى!

يُتْبَع..

خالد صالح الحربي
09-28-2006, 01:14 PM
.
.

كان الشيخ في الثمانين ولكنه كان متين البناء شديد الأسر،
أحاط شبابه بالعفاف والتقى ، فأحاط العفاف شيخوخته بالصحة والقوة ،
وكان فارع الطول عريض الأكتاف ، لم يشكُ في حياته ضعفا ،
ولم يسرف على نفسه في طعام ولا شراب ولا لذة ،
ولم يحد عن الخطة التي اختطها لنفسه منذ أدرك .
فهو يفيق سحرا والدنيا تتخطر في ثوب الفتنة الخشعة والخشوع الفاتن،
والعالم ساكن لا يمشي في جوانبه إلا صوت المؤذن وهو يكبر الله في السحر
يتحدر أعلى المنارة فيخالط النفوس المؤمنة فيهزها ويشجيها ،
يمازحه خرير الماء المتصل من نافورة الدار يكبر (هو الآخر)
ربه ويسبح بحمده ، {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} ،
فيقف الشيخ متذوقا حلاوة الإيمان ،
ثم ينطق لسانه ب(لا إله إلا الله) تخرج من قرارة فؤاده المترع باليقين،
ثم ينزع ثيابه وينغمس في البركة يغتسل بالماء البارد ما ترك ذلك قط طوال حياته،
لا يبالي برد الشتاء ولا رطوبة الليل .
وكثيرا ما كان يعمد إلى قرص الجليد الذي يغطي البركة فيكسره بيده
و يغطس في الماء ثم يلبس ثيابه ويصلي ما شاء الله أن يصلي،
ثم يمشي إلى المسجد فيصلي الصبح مع الجماعة
في مجلس له وراء الإمام ما بدله يوما واحدا ، ويبقى مكانه يذكر الله حتى تطلع
الشمس وترتفع فيركع الركعتين المأثورتين بعد هذه الجلسة،
ويرجع إلى داره فيجد الفطور معدا والأسرة منتظرة فيأكل معهم اللبن الحليب
والشاي والجبن أو الزبدة والزيتون والمكدوس،
ثم يغدو إلى دكانه فيجدها مفتوحة قد سبقه ابنه الأكبر إليها ففتحا ورتبها .
والدكان في سوق البزازين أمام قبر البطل الخالد نور الدين زنكي.
وهي عالية قد فرشت أرضها بالسجاد وصف أثواب البز أمام الجدران،
ووضعت للشيخ وسادة يجلس عليها في صدر الدكان ويباشر أبناؤه البيع والشراء
بسمعه وبصره ، ويدفعون إليه الثمن ، فإذا ركد السوق تلا الشيخ ما تيسر من
القران أو قرأ في (دلائل الخيرات ) أو تحدث إلى جار له مسن حديث التجارة،
أما السياسة فلم يكن في دمشق من يفكر فيها أو يحفلها،
وإنما تركها الناس للوالي والدفتردار والقاضي والخمسة أو الستة
من أهل الحل و العقد ، وكان هؤلاء هم الحكومة (كلها…)
وكان الشيخ مهيبا في السوق كهيبته في المنزل،
تحاشى النسوة المستهترات الوقف عليه، وإذا تجرأت امرأة فكشفت وجهها أمامه
لترى البضاعة ، كما تكشف كل مستهترة ، صاح فيها فأرعبها وأمرها أن تتستر
وأن تلزم أبدا حدود الدين والشرف
وكانت تبلغ به الهيبة أن يعقد الشباب بينهم رهانا، أيهم يقرع عليه بابه ،
ويجعلون الرهان ريالا مجيدا أبيض ، فلا يفوز أحد منهم.
وكان الشيخ قائما بحق أهله لا يرد لهم طلبا، ولا يمنعهم حاجة يقدر عليها،
ولكنه لا يلين لهم حتى يجرؤوا عليه ، ولا يقصر في تأديب المسيء منهم ،
ولا يدفع إليهم الفلوس أصلا. وما لهم والفلوس وما في نسائه وأولاده من يخرج
من الدار ليشتري شيئا ؟ ومالهم ولها وكل طعام أو شراب أو كسوة أو حلية بين
أيديهم ، وما اشتهوا منه يأتيهم ؟ ولماذا تخرج المرأة من دارها،
إذا كانت دارها جنة من الجنان بجمالها وحسنها،
ثم فيها كل ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين ؟
يلبث الشيخ في دكانه مشرفا على البيع والشراء حتى يقول الظهر: (الله أكبر)،
فينهض إلى الجامع الأموي وهو متوضئ منذ الصباح ،
لأن الوضوء سلاح المؤمن ، فيصلي فيه مع الجماعة الأولى،
ثم يأخذ طريقه إلى المنزل، أو يتأخر قليلا ليكون في المنزل
عندما تكون الساعة في الثامنة. أما العصر فيصليه في مسجد الحي ،
ثم يجلس عند (برو العطار) فيتذاكر مع شيوخ الحي فيما دقّ وجل من شؤونه..
اختلف أبو عبده مع شريكه فبجب أن تألف جمعية لحل الخلاف…
والشيخ عبد الصمد في حاجة إلى قرض عشر ليرات فلتهيأ له…

أي أن هذه الجماعة محكمة ، ومجلس ، بلدي ، وجمعية خيرية إصلاحية
تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. وكان (برو العطار) مخبر اللجنة ووكيلها
الذي يعرف أهل الحي جميعاً برجالهم ونسائهم، فإذا رأى رجلاً غريباً عن الحي
حول أحد المنازل سأله من هو؟ وماذا يريد ؟
وإذا رأى رجلاً يماشي امرأة نظر لعلها ليست زوجته ولا أخته،
ولم يكن في دمشق صاحب مروءة يماشي امرأة في طريق فتعرف به
حيثما سارت ، بل يتقدمها أو تتقدمه ويكون بينهما بعد بعيد،
وإذا بنى رجل غرفة يشرف منها إلى نساء جاره
أنبأ الشيخ وأصحابه فألزموه حده. وإن فتح امرؤ شباكا على الجادة سدّوه،
لأن القوم كانوا يحرصون على التستر ويكرهون التشبه بالإفرنج،
فالبيوت تبدو من الطريق كأنها مخازن للقمح لا نافذة ولا شباك،
ولكنها من داخل الفراديس والجنان. فكان الحي كله بفضل الشيخ وصحبه
نقيا من الفواحش صيناً، أهل كأهل الدار الواحدة لا يضن أحد منهم على الآخر
بجاهه ولا بماله ، وإذا أقام أحدهم وليمة ، أو كان عنده عرس أو ختان،
فكل ما في الحي من طباق و(صوان) وكؤوس تحت يده وملك يمينه .
* * *
مر دهر والحياة في هذه الدار سائرة في طريقها لا تتغير ولا تتبدل ولا تقف.
مطردة اطراد القوانين الكونية ، حتى جاء ذلك اليوم …
ودقت الساعة دقاتها الثمان ، وتهيأ أهل الدار على عادتهم لاستقبال الشيخ
لكن العجوز الطيبة والزوجة المخلصة لم تكن بينهم،
وإنما لبثت مضطجعة على الأريكة تشكو ألماً شديدا لم يفارقها منذ الصباح.
وأدار الشيخ مفتاحه ودخل فلم يرها وهي التي عودته الانتظار عند الباب،
ولم تحد هذه العادة مدة ستين سنة إلا أيام الوضع
ويوم ذهبت لتودع أباها قبل وفاته ،
فسأل الشيخ عنها بكلمة واحدة أكملها بإشارة من يده،
فخبرته ابنته وهي تتعثر بالكلمات هيبة له وشفقة على أمها، أنها مريضة.
فهز رأسه ودخل ، فلما وقع بصره عليها لم تتمالك نفسها
فنهضت على غير شعور منها تقبل يده ،
فلا مست أصابعه أحس كأنما لمسته جمرة ملتهبة،
وكان الشيخ على ما يبدو من شدته وحزمه وحبه للنظام، قوي العاطفة،
محبا لزوجته مخلصا لها ، فرجع من فوره ولم يأكل،
ولم يدر أحد في المنزل لماذا رجع ولم يجرؤ على سؤاله
واكتفوا بتبادل الآراء لتعليل هذا الحادث الغريب،
الذي يشبه في أنظارهم خروج القمر عن مداره .
ومضت على ذلك ساعة أو نحوها ، فدخل الشيخ وصاح روحوا من الطريق)،
فاختبأ النسوة ليدخل الضيف ، غير أنهن نظرن من شق الباب _ على عادة نساء
البلد _ فأبصرن الطبيب وكن يعرفنه لتردده على المنزل
كلما تردد عليه المرض …وكان الطبيب شيخا وكانت بينه وبين العجوز قرابة،
ومع ذلك أمر الشيخ العجوز بلبس ملاءتها وألا تظهر منها
إلا ما لابد من إظهاره ، ثم أدخله عليها ، فجس نبضها ، وقاس حرارتها،
ورأى لسانها . وكان هذا منتهى الدقة في الفحص في تلك الأيام ،
ثم خرج مع الشيخ يساره حتى بلغا الباب ، فودعه الشيخ وعاد ،
فأمر بأن تبقى العجوز في غرفتها وأن تلزم الحمية
وأن تتناول العلاج الذي يأتيها به …
* * *
مرت أيام طويلة والعجوز لم تفارق الفراش ، وكان المرض يشتد عليها
حتى تذهل عن نفسها ، وتغلبها الحمى فتهذي …(( صارت الساعة الثامنة…
يلاّ يا بنت ، حضري الخوان … والقبقاب؟ هل هو في مكانه …)) ،
وتهم أحيانا بالنهوض لتستقبل زوجها،
وكانت بنتاها وكنتها يمرضانها ويقمن في خدمتها
فإذا أفاقت حدثتهن وسألتهن عن الشيخ هل هو مستريح؟ ألم يزعجه شيء؟
والدار؟ هل هي كعادتها أم اضطربت أحوالها؟
ذلك همها في مرضها وفي صحتها ، لا هم لها سواه .
وحل موسم المعقود وهي مريضة فلم تطق على البقاء صبراً ،
وكيف تتركه وهي التي لم تتركه سنة واحدة من هذه السنين الستين التي عاشتها
في كنف زوجها ، بل كانت تعقد المشمش والجانرك والباذنجان والسفرجل،
منه ما تعقده بالسكر ومنه ما تعقد بالدبس، وكانت تعمل مربى الكباد واليقطين،
فيجتمع لها كم أنواع المعقودات والمربيات والمخللات (الطرشي)
ومن أنواع الزيتون الأسود والأخضر والمفقش والجلط
وأشكال المكدوس معمل أمقار(كونسروة) صغير تقوم به هذه الزوجة المخلصة وحدها صامته،
ولا يعيقها ذلك عن تربية الأولاد ولا عن إدارة منزلها وتنظيفه
ولا عن خياطة أثوابها وأثواب زوجها وبنيها، بل تصنع مع هذا كله البرغل،
وتغسل القمح تعجن العجين .
حل الموسم فكيف تصنع العجوز المريضة…؟
لقد آلمها وحز في كبدها ، وبلغ منها أكثر مما بلغ المرض بشدته و هوله،
فلم يكن من ابنتها وكنتها الوفية إلا أن جاءتا بالمشمش فوضعتاه أمام فراشها
وطفقتا تعقدانه أمامها ، وتعملان برأيها فكان ذلك أجمل ما تتمنى العجوز.
واشتدت العلة بالمرأة وانطلقت تصيح حتى اجتمع حولها أهل الدار جميعاً،
ووقفوا ووقف الأطفال صامتين وحبهم لهذه العجوز الطيبة
التي عاشت عمرها كلها لزوجها وبنيها يطفر من عيونهم دمعا حارا مدراراً،
وهم لا يدرون ماذا يعملون ، يودون لو تفتدى بنفوسهم ليفدونها. ثم هدأ صياحها،
وجعل صوتها يتخافت حتى انقطع، فتسلل بعض النسوة من الغرفة،
ووقف من وفق حائراً يبكي .
ولكن العجوز عادت تنطق بعد ما ظنوها قضت، فاستبشروا وفرحوا،
وسمعوها تتكلم عن راحة الشيخ وعن المائدة والساعة الثامنة والبابوج والقبقاب..
بيد أنها كانت يقظة الموت، ثم أعقبها الصمت الأبدي. وذهبت هذه المرأة الطيبة،
وكان آخر ما فكرت فيه عند موتها،
وأول ما كانت تفكر فيه في حياتها : زوجها ودارها …
ارتفع الكابوس عن صدور الأطفال حين اختل نظام الفلك ولم يبق لهذا الموعد
المقدس في الساعة الثامنة روعته ولا جلاله،
ولم يعد يحفل أحد بالشيخ لأنه لم يعد هو يحفل بشيء .
لقد فقد قرينه ووليفه وصديق ستين سنة فخلت حياته من الحياة،
وعادت كلمة لا معنى لها ، وانصرف عن الطعام وأهمل النظام،
فعبثت الأيدي بعلبه وأكياسه ، وامتدت إلى(الخرستان) السرية التي أصبح بابها
مفتوحاً ، فلم تبق فيها تحفاً ولا مالاً،
وهو لا يأسى على شيء ضاع عد ما أضاع شقيقة نفسه .
وتهافت هذا البناء الشامخ ، وعاد ابن الثمانين إلى الثمانين،
فانحنى ظهره وارتجفت يداه ووهنت ركبتاه، ولم يكن إلا قليل
حتى طويت هذه الصفحة، فختم بها سفر من أسفار الحياة الاجتماعية في دمشق
كله طهر وتضحية ونبل..

نـــجد
09-29-2006, 02:15 AM
من نوادر الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله وتغمده بفسيح جناته

--------------------------------------------------------------------------------


قال الشيخ في كتابه "من حديث النفس" في المقطع المعنون " مما حدث لي":
لما كنت أعمل في العراق سنة 1936 نقلت مرة من بغداد إلى البصرة إثر خصومة بيني وبين مفتش دخل علي الفصل فسمع الدرس. فلما خرجنا (نافق) لي وقال أنه معجب بكتاباتي وفضلي. (ونافقت) له فقلت إني مكبر فضله وأدبه. وأنا لم أسمع اسمه من قبل. ثم شرع ينتقد درسي فقلت: ومن أنت يا هذا؟ وقال لي وقلت له..

وكان مشهدا طريفا أمام التلاميذ.. رأوا فيه مثلا أعلى من (تفاهم) أخوين، وصورة من التهذيب والأخلاق. ثم كتبت عنه مقالة كسرت بها ظهره، فاستقال و (طار) إلى بلده، ونقلت أنا عقوبة إلى البصرة.

وصلت البصرة فدخلت المدرسة، فسألت عن صف (البكالوريا) بعد أن نظرت في لوحة البرنامج ورأيت أن الساعة لدرس الأدب. توجهت إلى الصف من غير أن أكلم أحدا أو أعرفه بنفسي.

فلما دنوت من باب الصف وجدت المدرس، وهو كهل بغدادي على أبواب التقاعد، يخطب التلاميذ يودعهم وسمعته يوصيهم (كرما منه) بخلفه الأستاذ الطنطاوي، ويقول هذا وهذا ويمدحني... فقلت: إنها مناسبة طيبة لأمدحه أنا أيضا وأثني عليه ونسيت أني حاسر الرأس وأني من الحر أحمل معطفي على ساعدي وأمشي بالقميص بالأكمام القاصر، فقرعت الباب قرعا خفيفا، وجئت أدخل. فالتفت إليّ وصاح بي ايه زمال وين فايت؟ (والزمال الحمار في لغة البغداديين) فنظرت لنفسي هل أذني طويلتان؟ هل لي ذيل؟… فقال: شنو؟ ما تفتهم (تفهم) أما زمال صحيح. وانطلق بـ (منولوج) طويل فيه من ألوان الشتائم ما لا أعرفه وأنا أسمع مبتسما.

ثم قال تعال لما نشوف تلاميذ آخر زمان. وقف احك شو تعرف عن البحتري. حتى تعرف إنك زمال ولاّ لأ؟

فوقفت وتكلمت كلاما هادئا متسلسلا، بلهجة حلوة، ولغة فصيحة. وبحثت وحللت وسردت الشواهد وشرحتها، وقابلت بينه وبين أبي تمام وبالاختصار، ألقيت درسا يلقيه مثلي.. والطلاب ينظرون مشدوهين، ممتدة أعناقهم، محبوسة أنفاسهم، والمدرس المسكين قد نزل عن كرسيه وانصب أمامي، وعيناه تكادان تخرجان من محجريهما من الدهشة، ولا يملك أن ينطق ولا أنظر أنا إليه كأني لا أراه حتى قرع الجرس..

قال: من أنت؟ ما اسمك؟ قلت: علي الطنطاوي!!!

سلطان ربيع
10-20-2007, 03:35 AM
مقالة رائعة جداً للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله

فهلا قرأناها وإتعظنا بها، والسعيد من إتعض بغيره، والتعيس من إتعظ بنفسه





كتب الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله مقالة نشرت سنة 1956 في مجلة الإذاعة تقول :

نظرت البارحة فإذا الغرفة دافئة والنار موقدة، وأنا على أريكة مريحة، أفكر في موضوع أكتب فيه، والمصباح إلى جانبي، والهاتف قريب مني، والأولاد يكتبون، وأمهم تعالج صوفا تحيكه، وقد أكلنا وشربنا، والراديو يهمس بصوت خافت، وكل شيء هادئ، وليس ما أشكو منه أو أطلب زيادة عليه.

فقلت " الحمد لله "، أخرجتها من قرارة قلبي، ثم فكرت فرأيت أن " الحمد " ليس كلمة تقال باللسان ولو رددها اللسان ألف مرة، ولكن الحمد على النعم أن تفيض منها على المحتاج إليها، حمد الغني أن يعطي الفقراء، وحمد القوي أن يساعد الضعفاء، وحمد الصحيح أن يعاون المرضى، وحمد الحاكم أن يعدل في المحكومين، فهل أكون حامدا لله على هذه النعم إذا كنت أنا وأولادي في شبع ودفء وجاري وأولاده في الجوع والبرد؟، وإذا كان جاري لم يسألني أفلا يجب علي أنا أن أسأل عنه؟

وسألتني زوجتي: فيمَ تفكر؟، فقلت لها.

قالت: صحيح، ولكن لا يكفي العباد إلا من خلقهم، ولو أردت أن تكفي جيرانك من الفقراء لأفقرت نفسك قبل أن تغنيهم.

قلت: لو كنت غنيا لما استطعت أن أغنيهم، فكيف وأنا رجل مستور، يرزقني الله رزق الطير، تغدو خماصا ًوتروح بطاناً؟

لا، لا أريد أن أغني الفقراء، بل أريد أن أقول إن المسائل نسبية، وأنا بالنسبة إلى أرباب الآلاف المؤلفة فقير، ولكني بالنسبة إلى العامل الذي يعيل عشرة وما له إلا أجرته غني من الأغنياء، وهذا العامل غني بالنسبة إلى الأرملة المفردة التي لا مورد لها ولا مال في يدها، ورب الآلاف فقير بالنسبة لصاحب الملايين؛ فليس في الدنيا فقير ولا غني فقرا مطلقا وغنىً مطلقا، وليس فيها صغير ولا كبير، ومن شك فإني أسأله أصعب سؤال يمكن أن يوجه إلى إنسان، أسأله عن العصفور: هل هو صغير أم كبير؟، فإن قال صغير، قلت: أقصد نسبته إلى الفيل، وإن قال كبير، قلت: أقصد نسبته إلى النملة..

فالعصفور كبير جدا مع النملة، وصغير جدا مع الفيل، وأنا غني جدا مع الأرملة المفردة الفقيرة التي فقدت المال والعائل، وإن كنت فقيرا جدا مع فلان وفلان من ملوك المال..

تقولون: إن الطنطاوي يتفلسف اليوم .. لا؛ ما أتفلسف، ولكن أحب أن أقول لكم إن كل واحد منكم وواحدة يستطيع أن يجد من هو أفقر منه فيعطيه، إذا لم يكن عندك - يا سيدتي- إلا خمسة أرغفة وصحن " مجدّرة " ( وهو طعام من البرغل أي القمح المجروش مع العدس )، تستطيعين أن تعطي رغيفا لمن ليس له شيء، والذي بقي عنده بعد عشائه ثلاثة صحون من الفاصوليا والرز وشيء من الفاكهة والحلو يستطيع أن يعطي منها قليلا لصاحبة الأرغفة والمجدّرة..

والذي ليس عنده إلا أربعة ثياب مرقعة يعطي ثوبا لمن ليس له شيء، والذي عنده بذلة لم تخرق ولم ترقع ولكنه مل منها، وعنده ثلاث جدد من دونها، يستطيع أن يعطيها لصاحب الثياب المرقعة، ورب ثوب هو في نظرك عتيق وقديم بال، لو أعطيته لغيرك لرآه ثوب العيد ولاتخذه لباس الزينة، وهو يفرح به مثل فرحك أنت لو أن صاحب الملايين مل من سيارته الشفروليه طراز سنة 1953- بعدما اشترى كاديلاك طراز 1956- فأعطاك تلك السيارة.

ومهما كان المرء فقيراً فإنه يستطيع أن يعطي شيئا لمن هو أفقر منه، إن أصغر موظف لا يتجاوز راتبه مئة وخمسين قرش، لا يشعر بالحاجة ولا يمسه الفقر إذا تصدق بقرش واحد على من ليس له شيء، وصاحب الراتب الذي يصل إلى أربعة جنيهات لا يضره أن يدفع منها خمس قروش ويقول " هذه لله "، والذي يربح عشرة آلاف من التجار في الشهر يستطيع أن يتصدق بمئتين منها في كل شهر.

ولا تظنوا أن ما تعطونه يذهب بالمجان، لا والله، إنكم تقبضون الثمن أضعافا؛ تقبضونه في الدنيا قبل الآخرة، ولقد جربت ذلك بنفسي، أنا أعمل وأكسب وأنفق على أهلي منذ أكثر من ثلاثين سنة، وليس لي من أبواب الخير والعبادة إلا أني أبذل في سبيل الله إن كان في يدي مال، ولم أدخر في عمري شيئاً، وكانت زوجتي تقول لي دائماً: " يا رجل، وفر واتخذ لبناتك داراً على الأقل "، فأقول: خليها على الله، أتدرون ماذا كان؟!!

لقد حسب الله لي ما أنفقته في سبيله وادخره لي في بنك الحسنات الذي يعطي أرباحا سنوية قدرها سبعون ألفا في المئة، نعم: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ}، وهناك زيادات تبلغ ضعف الربح: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ}، فأرسل الله صديقا لي سيداً كريماً من أعيان دمشق فأقرضني ثمن الدار، وأرسل أصدقاء آخرين من المتفضلين فبنوا الدار حتى كملت وأنا - والله - لا أعرف من أمرها إلا ما يعرفه المارة عليها من الطريق، ثم أعان الله برزق حلال لم أكن محتسبا فوفيت ديونها جميعا، ومن شاء ذكرت له التفاصيل وسميت له الأسماء.

وما وقعت والله في ضيق قط إلا فرجه الله عني، ولا احتجت لشيء إلا جاءني، وكلما زاد عندي شيء وأحببت أن أحفظه وضعته في هذا البنك.

فهل في الدنيا عاقل يعامل بنك المخلوق الذي يعطي 5% ربحاً حراماً وربما أفلس أو احترق، ويترك بنك الخالق الذي يعطي في كل مئة ربح قدره سبعون ألفا؟، وهو مؤمن عليه عند رب العالمين فلا يفلس ولا يحترق ولا يأكل أموال الناس.

فلا تحسبوا أن الذي تعطونه يذهب هدراً، إن الله يخلفه في الدنيا قبل الآخرة، وأنا لا أحب أن أسوق لكم الأمثلة فإن كل واحد منكم يحفظ مما رأى أو سمع كثيرا منها،

إنما أسوق لكم مثلا واحداً:

قصة الشيخ سليم المسوتي رحمه الله، وقد كان شيخ أبي، وكان - على فقره - لا يرد سائلا قط، ولطالما لبس الجبة أو " الفروة " فلقي رجل يرتجف من البرد فنزعها فدفعها إليه وعاد إلى البيت بالإزار، وطالما أخذ السفرة من أمام عياله فأعطاها للسائل، وكان يوما في رمضان وقد وضعت المائدة انتظاراً للمدفع، فجاء سائل يقسم أنه وعياله بلا طعام، فابتغى الشيخ غفلة من امرأته وفتح له فأعطاه الطعام كله!!، فلما رأت ذلك امرأته ولولت عليه وصاحت وأقسمت أنها لا تقعد عنده، وهو ساكت ..
فلم تمر نصف ساعة حتى قرع الباب وجاء من يحمل الأطباق فيها ألوان الطعام والحلوى والفاكهة، فسألوا: ما الخبر؟، وإذا الخبر أن سعيد باشا شموين كان قد دعا بعض الكبار فاعتذروا، فغضب وحلف ألا يأكل أحد من الطعام وأمر بحمله كله إلى دار الشيخ سليم المسوتي، قال: أرأيت يا امرأة؟

وقصة المرأة التي كان ولدها مسافراً، وكانت قد قعدت يوما تأكل وليس أمامها إلا لقمة إدام وقطعة خبز، فجاء سائل فمنعت عن فمها وأعطته وباتت جائعة، فلما جاء الولد من سفره جعل يحدثها بما رأى ..
قال: ومن أعجب ما مر بي أنه لحقني أسد في الطريق، وكنت وحدي فهربت منه، فوثب علي وما شعرت إلا وقد صرت في فمه، وإذا برجل عليه ثياب بيض يظهر أمامي فيخلصني منه ويقول " لقمة بلقمة "، ولم أفهم مراده، فسألته عن وقت هذا الحادث وإذا هو في اليوم الذي تصدقت فيه على الفقير، نزعت اللقمة من فمها لتتصدق بها فنزع الله ولدها من فم الأسد.

والصدقة تدفع البلاء ويشفي الله بها المريض، ويمنع الله بها الأذى، وهذه أشياء مجربة، وقد وردت فيها الآثار، والذي يؤمن بأن لهذا الكون إلها هو يتصرف فيه وبيده العطاء والمنع، وهو الذي يشفي وهو يسلم، يعلم أن هذا صحيح، والملحد ما لنا معه كلام.

والنساء أقرب إلى الإيمان وإلى العطف، وإن كانت المرأة - بطبعها- أشد بخلا بالمال من الرجل، وأنا أخاطب السيدات وأرجو ألا يذهب هذا الكلام صرخة في واد مقفر، وأن يكون له أثره، وأنت تنظر كل واحدة من السامعات الفاضلات ما الذي تستطيع أن تستغني عنه من ثيابها القديمة أو ثياب أولادها، ومما ترميه ولا تحتاج إليه من فرش بيتها، ومما يفيض عنها من الطعام والشراب، فتفتش عن أسرة فقيرة يكون هذا لها فرحة الشهر.
ولا تعطي عطاء الكبر والترفع، فإن الابتسامة في وجه الفقير ( مع القرش تعطيه له ) خير من جنيه تدفعه له وأنت شامخ الأنف متكبر مترفع، ولقد رأيت بنتي الصغيرة بنان - من سنين - تحمل صحنين لتعطيهما الحارس في رمضان قلت: تعالي يا بنت، هاتي صينية وملعقة وشوكة وكأس ماء نظيف وقدميها إليه هكذا، إنك لم تخسري شيئاً، الطعام هو الطعام، ولكن إذا قدمت له الصحن والرغيف كسرت نفسه وأشعرته أنه كالسائل ( الشحاذ )، أما إذا قدمته في الصينية مع الكأس والملعقة والشوكة والمملحة ينجبر خاطره ويحسّ كأنه ضيف عزيز.

ومن أبواب الصدقة ما لا ينتبه له أكثر الناس مع أنه هين، من ذلك التساهل مع البياع الذي يدور على الأبواب يبيع الخضر أو الفاكهة أو البصل، فتأتي المرأة تناقشه وتساومه على القرش وتظهر " شطارتها " كلها، مع أنها قد تكون من عائلة تملك مئة ألف وهذا المسكين لا تساوي بضاعته التي يدور النهار لييعها، لا تساوي كلها عشرة قروش ولا يربح منها إلا قرشين!

فيا أيها النساء أسألكن بالله، تساهلن مع هؤلاء البياعين وأعطوهم ما يطلبون، وإذا خسرت الواحدة منكن ليرة فلتحسبها صدقة؛ إنها أفضل من الصدقة التي تعطى للشحاذ.

ومن أبواب الصدقة أن تفكر معلمة المدرسة حينما تكلف البنات أو تصر على شراء الدفاتر الغالية والكماليات التي لا ضرورة لها من أدوات المدرسة، أن تفكر أن من التلميذات من لا يحصل أبوها أكثر من ثمن الخبز وأجرة البيت، وأن شراء الدفاتر العريضة أو " الأطلس " أو علبة الألوان نراه نحن هينا ولكنه عنده كبير، والمسائل - كما قلت - نسبية، ولو كلفت المعلمة دفع ألف جنيه لنادت بالويل والثبور، مع أن التاجر الكبير يقول: وما ألف جنيه؟! سهلة! سهلة عليه، وصعبة عليها، كذلك الخمس قروش أو العشر سهلة على المعلمة ولكنها صعبة على كثير من الآباء.

والخلاصة يا سادة: إن من أحب أن يسخر الله له من هو أقوى منه وأغنى فليعن من هو أضعف منه وأفقر، وليضع كل منا نفسه في موضع الآخر، وليحب لأخيه ما يحب لنفسه، إن النعم إنما تحفظ وتدوم وتزداد بالشكر، وإن الشكر لا يكون باللسان وحده، ولو أمسك الإنسان سبحة وقال ألف مرة " الحمد لله " وهو يضن بماله إن كان غنيا، ويبخل بجاهه إن كان وجيها، ويظلم بسلطانه إن كان ذا سلطان لا يكون حامداً لله، وإنما يكون مرائيا أو كذاباً.
فاحمدوا الله على نعمه حمداً فعلياً، وأحسنوا كما تحبون أن يحسن الله إليكم، واعلموا أن ما أدعوكم إليه اليوم هو من أسباب النصر على العدو ومن جملة الاستعداد له؛ فهو جهاد بالمال، والجهاد بالمال أخو الجهاد بالنفس.


ورحم الله من سمع المواعظ فعمل بها ولم يجعلها تدخل من أذن لتخرج من الأخرى .

عاصفة الشمال
10-23-2007, 08:22 AM
مُتابعــــة و مُنهمكة في قراءة هذه السيرة العذبة


عن شخصية إسلامية فذّة رحِمه الله و أسكنهُ فسيح جناته


مع جزيل الشكر لكم .