المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : جسدٌ خمري


ثائر العلامي
05-22-2009, 05:50 PM
جسدٌ خمري
- قصة -


هذا الشعور بالقرف ما عاد يُحتمل، وأشلاءُ الشمس التي تحرق جباه الطُرق، أصبحت لا تُطاق أكثر.. لم يمسح عرقهُ هذه المره، بل انتظرهُ أن يسيل من رأسهِ المُشتعل الى جبينه الصديء حتى حاجبيه الكثيفين، ومن ثم ليتقاطر من على أنفه، فأحياناً يسقُط على الأرض وأحياناً أخرى على شفتيه..
كان يشتعلُ غيظاً ويتحرّقُ غضباً فهذا الشعور بالقرف فاق كُل تصور. رديئة هذه الحياة يا الله، انها بالفعل رديئة كان هذا ما يساورهُ طيلة النهار الذي يتخلله اكالة مجموعة فريدة ومبتكرة من الشتائم الى كُل شيء يصادفه، جماداً كان أو انسان، فكُلّهم سواسية في نظره..
كُلهم يستحقون الكُره. للوهلة الأولى قد يبدو كُل هذا بغيظاً الى حدٍ كبير، ولكن ان تمعنّتَ في كومة النحس الملتصقه على ظهره كما كان يُحب أن يسميها، وما هي الا حدبة بحجم ثمرة جوز الهند، تتوسط ظهرهُ النحيل، لو تأمّلت وجهه بشكلٍ مُكثف، ولو أطلت النظر الى كتفيه وعنقه وقدميه ويديه ومنزله والشارع الذي يقطن فيه والحي الذي يسكنه والدولة التي يُعتبر (بكل ذل) أحد مواطنيها الكرام، فلن تستطيع القاء مقدار (بنس) واحد من اللوم عليه.
بل وقد يرق قلبك الصلف وتدمع عيناك الحجريتان وتصطك اسنانُك اللؤلؤ وتُطرق حزيناً باكياً على الحال التي آلت اليها حالتهُ السقيمة العفنة.
صديقنا الحقير هذا، اسمه نُعمان. يعمُل في أحد المقاهي التي لم أستطع ان أجد لها عنواناً في هذا المساء، ولنفترض عبثاً أنها تقع في أحد الدول العربية المُتسخة بهذيان الفِكر والعاطفة، الغارقة في بحرٍ من الوحل حتى أخمص قدميها، لنفترض جزافاً أن هذه الدولة تقعُ قريباً من البئر الآسن لهذه الحياة الرديئة –التي يلعنها نُعمان- والفصلُ شتاء.
في كُل صباح، يخلعُ نعمان النُعاس عن عينيه، يُبلل وجهه بالماء البارد ويصلي.. يقرأ المعوذات، ودعاء النظر في المرآة ثم يخرجُ من المنزل متوجهاً نحو عمله.
- أهلا، أخيراً شرفت يا باشا
- الساعة لسا 6 الصبح
- شو رأيك تيجي على الساعة 10 يا سيادة الوزير!
- لا العفو، مش هيك القصد
- طيب روح انقلع على شغلك، اليوم عنا شغل كثير
- (نعمان هامساً) .. اختك، مهو كل يوم شغل كثير
يغسلُ اباريق الشاي بعناية فائقة، ثم ينحني يغسل الاكواب وفناجين القهوة، ثم يُلمع الطاولات جميعها، ويمسح أرضية المقهى عن بكرة أبيها، يُشمر عن ساعديه المتيبسين وينظف الواجهة الزجاجية، يمسحُ الشبابيك ويشتُم كُل من يلمحُ عليه رائحة للراحة. يستغفر ربه بعد كُل شتيمه، وما يلبث ان يكيل الى مارٍ آخر شتيمه من نوع مُختلف أقذع من التي سبقتها ويعاود الاستغفار.

زبائن الصباح، من العجائز المترهلين،والذين أنهكهم قرف الحياة قبل أن تساور الشكوك قلب نعمان البريء بأن الحياة رديئة تسحقُ من هم كمثله بشكلٍ لا يليق حتى بالذُباب.
كان يُقلب صفحات وجوههم باحثاً عن ثغور اللذة، في وجه أحدهم ندبة طغى الزمان عليها فاندثرت تحت لحيته البيضاء الخفيفه، هذا ما يبعث سروراً في نفس صاحبنا المنكوب، وفي وجه ذلك العجوز قدر لا بأس به من المُعاناة، أكلت وجه نعمان ابتسامة آثمة يشوبها خجلٌ خبيث.. (لستُ وحدي).. هذا ما دار في خاطره.
انتهى اليوم بلا منغصات كثيرة، أو بلا منغصات تستحق الذكر، توجه نُعمان الى منزله في الحادية عشرة مساءً، تجول في السوق أثناء طريق عودته، واجه محل الحلويات الشّامية، تحسس جيبه فلم يُسعفه.. واصلَ المسير.
فتح باب المنزل ليشتم رائحة العفونة التي طغت على ذكرياته، أصبحتَ اليوم غريباً يا نُعمان، ليس اليوم بل كُل يوم، فهذة الحياة لم تُخلق لمن هُم في سنك.
نُعمان يبلغ الثالثة والخمسين من العُمر، لا يقرأ ولا يكتب، لا يفقهُ شيئاً في أسس المعاملات البشرية، ولم يتذوق في حياته لا النبيذ الأحمر ولا لحم الضأن المشوي.
عجوزهُ تبكِ على باب الهِلال.. بادرها بظرة لا يشوبها اهتمام، فقد اعتاد على دموعها التي تنعى الحال شبه الميسور، وأرخى بجسدهِ على الكرسي القريب منها، منتظراً العظه اليومية بضرورة تحسين أحواله المعيشية، والبحث عن عمل آخر.
لازمت صمتها والدموع، لم تنبس ببنت شفه.. وهو ألقى بعينيه نحو دوامة النوم اللذيذة.
سألتهُ باقتضاب وبصوب متهدج ان كان يريد منها تسخين طعام العشاء، فنهرها.
مستمتعاً الى أقصى حد بتذكر وجوه اولئك الذين تصفح وجوههم اليوم، غاص في نومٍ عميق.
استيقظ في الصباح التالي، لبس البنطال نفسه، والقميص المهترئ ذاته وتوجه نحو المقهى.. ما ان انتهى من الجدل البسيط العقيم الذي يزدرده في كُل يوم، هو وصاحب المقهى.. حتى انتصبت امامه العجوز زوجته كالصخر.
تلعثم ببضع كلمات لصاحب المحل، وانطلق نحوها مؤنباً اياها على قدومها في مثل هذا الوقت، وما الذي جائت تريده..
- وليد يا نُعمان
- مالو وليد على هالصبح
- عمل مشكله مع ابن الجيران، وشكلو ايدو مكسورة
شتم نُعمان في هذه اللحظة كُل ما يعرفه عن الحياة، وكُل ما استطاع ان يراه بأم عينيه، وما سمع عنهُ ايضاً.. لعن الساعة التي ولد فيها جارهم والساعة التي فيها تزوج واللحظة التي جامع فيها زوجته فحملت بذلك القرد المدعو بابنه وغاضباً انطلق نحو منزله تتبعهُ عجوزهُ التي لا تدري ما الذي سوف يحدث بعد قليل.
انطلق نُعمان مُحملاً بكُل طاقات الغضب التي تفيض من بين جنبيه، طرق باب جاره بشكل عنيف الى أن فتح الباب وظهر صاحب المنزل بوجهه الدائري ورأسه الأصلع، وكرشه مترامي الأطراف..
- وينو هالكلب ابنك
- هدي اعصابك يا ابو وليد، بيظلو ولاد
- بلا ولاد بلا ...، يا رجل انت فش عندك دم؟
- لو سمحت يا ابو الوليد احترم حالك، وبلاش الموضوع يكبر
- ... اختك و... اخت الموضوع سواء كبر أو صغر
ووجه نُعمان لكمة الى وجه الرجل، ازاحت مقلتيه من محجريهما، ثم انهال عليه صفعاً وسباً الى أن خارت قواه.
سحبته عجوزه نحو المنزل، اتكأ عليها محاولاً الرقود على السرير بشكل لا يؤلم ضميره.. وطلب اليها ان تأخذ وليد الى العيادة الخيرية التي تقع بجوار السوق، ودس في يدها مبلغاً بسيطاً وقال:
- خذي وليد لمحل الحلويات اللي بالسوق.
حاول نعمان جاهداً ان يدفع بفورة الدم تلك التي اختلجت وجهه، وعبثاً حاول كتم بعض الدموع الأولى، قبل أن يجهش بالبكاء. ولم يستطع الوصول الى تفسير منطقي وحيد دفعه للبكاء في تلك اللحظه، لكنه كان يحتاج الى اي شخص ليحتضنه.
قفز عن السرير مفزوعاً، وتراجعت كُل الدموع الى داخل جسده المهزوز.. تذكر المقهى وصاحب المقهى وأباريق الشاي وفنجاين القهوة، وانطلق يسبق القدر..
لكم يكره نعمان هذه اللحظات التي سيضطر فيها الى الاعتذار الف مرة، عدا عن التملق واستجداء شفقة صاحب المقهى، لكنه اليوم قرر ان يسلك مسلكاً آخر.. قرر بعزم أن يكون الحلقة الأقوى، أن يجابه هذا الحقير السمين صاحب المقهى.
- شو بشوفك شرفت يا دكتور
- اه شرفت، شو مش عاجبك
- اوف، صاير قوي
- اذا عندك شي بدك تحكيه، تفضل. اذا ما عندك خليني اشوف شغلي
- اي شغل قصدك؟
- شو اي شغل، شغلي
- اسمع يا روح امك، وجهك بديش اشوفه هون بعد اليوم، الله معك
- شو الله معك هاي، وين بدي اصرفها
- مش انت صرت زلمه، وصرت تعرف تمد ايدك على الناس، روح بلكي حدا غيري يشغلك، او روح ظل نايم بحضن مرتك
- ما تجيب سيرة مرتي على لسانك
- ليش خايف عليها (نيكول كيدمان) تبعتك
- انت واحد واطي، وسافل وبدك ترباية
هذا الغضب المعتمر في نفس نعمان، اصبح لا يطاق ابداً.. تناول كوب شاي فارغ موضوع على أحد الطاولات ووجهه نحو رأس صاحب المقهى، وصدرت من هذا الأخير صيحه تنم عن ألم بالغ.. فاندفع بعض العاملين في المقهى، في محاولة لصرف نعمان وامساكه عما يريد.. لكن البريق الظاهر في عينيه ثناهم عن ذلك، عروقه النافره في عنقه اصبحت أغلظ، وطغت على جبينهِ حُمرة ظاهره..
قفز نعمان ممسكاً بعنق الحقير السمين صاحب المقهى، واختلط وجهُ هذا الأخير بالزرقة.. فقد كان نعمان مصمماً على (تعليمه الأدب) حسب ما ادعى فيما بعد. أصبح الموقف من الخطروة بمكان، وضرورة التصرف السريع لتجنب كارثه قد تحصل خلال لحظات، دفع بأحد العاملين الى أن يتناول عصا طويلة من داخل المطبخ الذي يعد فيه الشاي والقهوه والاعشاب المنقوعه، وعالج نعمان بضربة على رأسه، أفقدته وعيه..
طُرد نعمان من عمله، واتفق على أن نعمان اصبح متهوراً خطيراً، وأنه لابد قد اصيب بخلل في عقله، دعاه الى ارتكاب ما ارتكبه في ذلك اليوم، من ضرب جاره ومحاولة قتل معيله وولي نعمته صاحب المقهى..
خمسون يوماً مرت، ونعمان بلا عمل.. لا يجد سوى رغيف الخبز والقليل مما يقتات عليه هو وأهل داره كصدقة مقدمه من بعض فقراء الحي الآخرين الذين تقاسموا قليلهم مع نعمان هذا الذي افقده الجوع صوابه.. الكثيرون منهم تجنبوا النظر الى نعمان في عينيه حينما يمر من امامهم، كانت هذه النظره ستعتبر بمثابة اقرارهم بفعلة نعمان الشنيعة، كانت ستعتبر خيانة عظمى. والقليل الذي كانوا يتقاسمونه معه كان يجد طريقه الى دار نعمان تحت اجنحة الظلام.
سوف انطلق نحو الجبل، صرخت عجوز نعمان يتملكها الذهول بشكل عارم: (الى الجبل يا نعمان)، صرخت وهو يحدثها بأنه ما عاد يطيق الحياة على هذا النحو، ويخبرها بأن صوت عظام وليد التي (تقرقع) في بطنه، اصبحت تشكل له كابوساً يومياً، وألما لا يستطيع عصره أكثر.. وليس من حل لهذه الى المشكله الا بأن يتوجه نحو الجبل، علّهُ يجد عملاً هُناك، قد يقترب من الحلال في أحد اطرافه.
الجبل هذا، كان مأوىً للمهربين، ولأصحاب السوابق، ولكل أولاد الزنا. ونعمان قرر ان ينطلق في ركبهم، ومن المؤكد ان الله سوف يغفر له. لابد وأن الله سوف يغفر له، فالله لن يرضى ان يبقى الحال على ما آل اليه، والله سوف يغضب بالتأكيد على نعمان، لانه يترك هذا الصغير في ظل حالة التقشف هذه، اذا فذهابه الى الجبل قد يعتبر في احد الاوجه واجباً عليه.
تجاهل كُل تحذيرات ام وليد، وتجاهل كُل الهواجس التي تغتال تفكيره، كان مصمماً على الذهاب. في صبيحة أحد الايام الندية، استيقظ مبكراً قبل صلاة الفجر، رتّب امتعته القليله، وودع عجوزه.. قبّل وليد، وذهب في طريقه.
أحداً لم يلتفت الى غياب نُعمان، ومع الوقت لم يعد يذكر احد قصته، واستمرت المعونات بالوصول الى منزل نعمان، دون ان يعرف احد مصدرها، ودون ان يعرف احدهم كيف يعيش اهل ذلك البيت.
لم تكن الحياة هناك سهلة بالمعنى المقصود، ولكن كان للمجهود ثمار، هال نُعمان ما رآهُ من خيراتٍ تُنسبُ لله وتتكدس فوق بعضها البعض، واستغرب كيف أن جميع معايير الحرام التي كان أشد ما يحرص على تجنبها قد اجتمعت سوياً على هيئة يدٍ عظيمة، جذبتهُ بقوة من عُنقه وهزتهُ هزاً عنيفاً حتى أفاق.
هُناك، على الجبل تعرّت الحياة بكل دنائتها لتري نُعمان ما خفي عليه من عوراتها.. ولكن هُناك أيضاً استطاع نُعمان ان يخلد الى سرير دافئ، ليضاجع الحياة متى شاء، وليخلع عنها أوسمة الطُهر المزيفة، متنكراً لدينهِ ومتحللاً من غضب الاله.

سعد المغري
05-24-2009, 09:17 AM
..

ثائر الـ.علامي..
فقر..ألم ومعاناة
قصة شدتني بـ.كل تفاصيلها
وكأن الأحداث أراها الآن..
كانت قطرة الـ.يأس من الفقر
كافية لـ.جعل هذا الـ.نعمان بدلاً من الـ.بحث عن رغيف الـ.حلال,
يقتات من الـ.جل حلوى الـ.حرام..
أسلوبك بديع وسردك مشوق..
وصدقني ياثائر مثل هذه الـ.قصة لاتحتاج لا لـ.تعقيب
فقط الـ.قراءة بـ.صمت والـ.تصفيق لـ.كاتبها..
فـ.أهلاً بك وبـ.قلمك يامبدع في أبعاد..

عطْرٌ وَ جَنَّة
05-26-2009, 08:43 PM
ثَائِر الْعَلامِي .
هَذا الاسم فِي الْذَاكِرة جِداً ..
تماماً كحكايا ..قِيل أنْ تَصديقها : يَجلب الْمَطر .. لِذا هِي مَحشُورة دائماً فِي عرّق ..
الْمُخ ..حيثُّ أول الْصَباحاتِ يَكُون وَجهها ..وأول الْيَقظة .

مُدْهِشٌ وَ مُمْتِع
ذَكِيٌ ومُتَكاثِرٌ والله ,

http://www.qamat.net/vb/images/smilies/a36.gif

عائشه المعمري
05-27-2009, 11:46 PM
ثائر العلامي



قصة بـ تواتر كـ هذا ،
ليست بـ قصة فقط ،
هي أعجوبة ، تُشعرنا بأن النعمان ليس كُتلة ثورة ضد كُل شيء .
بل هو ثورة على نفسه المُخبأة خلف سور الفقر المُعتاد وقواعد الحلال التي يتبعها ولا يعرف إلى أي بوصلة تُشير .

يا ثائر ،
أنت لست مُدهش فـ حسب ،
فـ تحويلك لـ الأفكار العادية والمشاهد اليومية ،
عجائب فكر ، وصناعة لـ قصقصة جميلة .
واضحة وشفافة بلا تعمية .


لا زلت أحاول تقريب خطوط الضوء إلى بعضها بين النص والعنوان .



،


ثائر
أهلا بك في أبعاد ،
طابت لنا مُصافحتك .

ثائر العلامي
06-12-2009, 01:34 AM
سعد المغري، عِطر وجنة
لكم الشكر مع التقدير

عائشة المعمري
بالنسبة للقصة وعنوانها
كان استخدام العنوان للدلالة على الجسد الذي يكتسحه الغضب، ذلك الغضب الغامق بطريقة قد تكون غير تقليدية.
الهدف كان الاشارة الى كيفية تحلل نُعمان من عقدة غضب الرب، الى تفجر طاقات الجسد الطاهرة أو الخبيثه منها.
ولحالة الخُبث هذه، استخدمت اللون الخمري كدلالة.

كل الشكر