المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أتعبْتَ الصَحْبَ بعدك!


مبارك الهاجري
08-14-2009, 04:25 AM
استلقيتُ على فراش الوالد كما وصمته أميّ مراراً حينما تلج إلى حجرتي، وتشاهد هذا الفراش الذي منذ أن قطنّا هذا البيت وهو على بقعةٍ من الأرض لا يفارقها لا في هيئة ولا في امتداد لطرفيه ـ سمح به تعاقب الزمن ـ طولياً كان أم عرضيّا، عدا ما تفعله به تقلّباتي أثناء نومي، إلا أن ذاك لا يهدم وفاءه مع تلك البقعة.
ابتسمتُ حين أن تذكّرت قول أمّي إذ إنَّه أصبح من المأثورات بالنسبة لعائلتنا، وحاولتُ أن أواري ذلك التعب الذي امتلك مفاصلي جرّاء اثني عشرة ساعةً متواصلة من العمل، ولا أعلم كيف أنّ وزارة العمل تجهل أو تغفل عن شركةٍ يمتد عمل موظفيها إلى نصف يومٍ بالفعل .!
حاولتُ أن ألفظ كل تأوّهاتي الحسيّة والمعنويّة عبر تنهيدة تفضي بي إلى الاسترخاء، غير أنّي لم أنجح .!
استدنتُ برأسي على مسندٍ باقيةٍ من أرائك قديمةٍ لنا ـ مؤكداً أثريتي ـ فمددتُ ساقيّ شاداً قدميّ رافعهما إلى الأعلى، فسمعتُ شكوى جسمي عبر آهةٍ هي أقرب إلى الصيحة منها إلى الزفرة .!
لا أظنُّ أن لي موعداً مع النوم في ساعتي تلك، غير أنّي أخذتُ أمرر يدي فيما يلي فراشي، باحثاً عن جهازي تحكم التلفاز والرسيفر علّي أمرر تلك الساعة في ما يقرّبني من النوم، ويبعدني عن هم العمل. لم أكن من النشاط بحيث أن ألتفت برأسي إلى جهة البحث، أو أدير جسمي إليها، فاكتفيتُ بتحسس يدي، لتقع بدايةً على مبيدٍ للحشراتٍ ملقى؛ استعرته من أهلي ساعة أن شاركتني ذبابةٌ المبيت في هذه الغرفة لما يقارب الأسبوعين، منغّصة عليَّ الاستمتاع بالتأمل في سقف الغرفة، أو في قراءة بعض الكتب، أو في مشاهدة بعض البرامج. دفعته ممتعضاً حين تذكرتها، فاصطدمتْ كفّي بهاتفي الجوّال، فتذكّرتُ بأنّي لم أعدّه للتنبيه لاستيقاظي غداً، فقرّبته من وجهي مستلذاً بحال التعب التي تملّكتني، وإذا بي انتفضُ انتفاضةً وكأني لم أتعب أو أستلقِ أو أسلُ النوم شيئاً قبلها، بل وكأنَّ بي مارداً يهتزّ طرباً حينما سمع مزماراً .
كدتُ أن أقذف الهاتف بأقوى ما أستطيع لحظة أن رنّ تلكم الرنّة مقلقاً عليّ خلوتي بغفلتي، فتأهبتُ للصمود إزاء ذلك، لأتفحّص اسم المتصل، لأكيل عليه أنواعاً من الشتائم لم يسمعها لا من قبل ولا من بعد، فإذا بي أرى رقماً بلا اسمٍ مُخزّنٍ، فتوجّستُ شيئاً من الغرابة؛ ولكنني من الذين يهتمون بكل اتصال حتى وإن كان الرقمُ غريباً أو مجهول الصاحب، إذ إنني أجدُ في ذلك أملاً إلى شيء لا أعلم كنهه. ضغطتُ بأصبعي على زر بدء المكالمة، لأسمع المتحدث أولاً، ولأحتفظ بشيء من الهيبة، فما علمتُ باستلقائي إلا جلوساً، وما رأيتُ عضلاتي المسترخية إلا وقد شدّت .!
صوتٌ قد أخذتِ الموسيقي عهداً على أن يكون نغمةً من أنغامها، ولا عزاء إلا للبلبل والعندليب ولكل من يشدو في ذلك !.
أجل هو ناعمٌ، وكأنّه في نعومته تقبيل قطراتِ المطر لغرّة الأرض، بل وكأنّه في شحذه للمسامع سحرٌ لا تملك فيه نفس ، ولا كلّ ما يمتُ لوجودك .
صوتٌ هو النفثات في العقد، بل هو الصوت الذي لا عشتَ إن لم تنظّف به أذنيك دوماً .
كأنّ بينه وبين الأخذِ حسب، ومنه إلى الفتنة سبب .
لم أميّز متى تحدّثتُ حينما سمعتها تشدو :
ـ السلام عليكم، أستاذ محمد بالنسبة للخصخصة في …………….
أذكرُ أنّ هناك قصديراً لعلاجٍ لي أخذتُ أقلّب فيه النظر مأخوذاً شَجِناَ إبّان شدوها، فلم أتيّقن أنّها قالت شيئاً إلا حينما أعادتُه بنبرة المعيد في ذلك النغم:
ـ أستاذ محمد، ما بالك ؟ .. أنا أتحدّثُ معك !
فُقتُ من سكرتي، ويا ليت أنّي لم أفق، قاومتُ نفسي فقلتُ لها بنشوةٍ جعلتها الألحان شفّافةً عذبة:
ـ لستُ محمداً، أنتِ مخطِئةٌ في الرقم !
أجابت بعد برهةِ صمت :
ـ حقّاً !، أنا آسفة، أعتذر، أرجو أن تقبل اعتذاري، لم أكن أدري، مع السلامة !
بودي لو قالت إلى اللقاء، ولم تقل مع السلامة، إذ إنِّي لا أثقُ بسلامتي إلا مع مثلها .
حاولتُ أن أعدّ التنبيه مرّة أخرى، فلم أجد لذلك نفساً مقبلةً ولا راغبة .
أعدتُ جسمي إلى ما كان عليه قبلا ، وهممتُ بأن أفتح التلفاز. لا بد أن أفعل شيئاً في ليلتي تلك، وإلا غلبَ عليّ النكد، فلا يكون لي حظٌّ فيما أخذتُ على نفسي عهداً فيه بألا أحزن لما ليس بأهلٍ حزنه، فالدنيا لا تساوي بأكبرها أصغر قيمنا. هذا ديدني، عدا أنّي بشر، فمهما حاولت أن أختلف عمّن يقول غير ذلك في شيء، أو تأثّرتُ بكتب الفلاسفة يوماً، فإنني ما زلتُ على وجه هذه البسيطة أنهل منها شئت أم أبيت، ولا حظّ للفلاسفة فيما قالوه أصلاً؛ لأنهم وإن عادوا من مرقدهم، لن يزيدوا عنّا في هذه الحياة في شيء، فلأتركهم وكتبهم، علّهم يجدون لها قارئاً ومتقبلا. ولأسبح في خيالاتِ ما افتتنتُ به منذ أن عرفتني شابّاً، وأظنّ أنّ هذا هو الوقتُ الأنسب، فلا صخب في الفضاء، ولا دعة في النفس بعد ذلكم الصوت، فما لي إلا أن أطفئ النور، وأغطّي رأسي بذلك اللحاف، فاستعرض جميع الوجوه التي افتتنتُ بها في حياتي؛ لأؤلف معها قصة شبيهة بقصص شهر زاد، إن لم تزد عليها، فعصرنا باعثٌ على الزيادة في كل شيء حتى في البدع، ولأبدأ بتلك الشادية .
نهضتُ من فوري إلى زر النور، بعد أن ألهبتني خواطري، فإذا بنغمة تصدحُ من جوالي، إشارةً منها على استقبال رسالة. هممتُ أن أطفئ النور فعلاً بعدما خمّنتُ بأنها رسالة من نوع ادفع وإلا سنقطعُ رأسك؛ عفواً وإلا سنقطعُ عليك الخدمة، فتمضي حياتك بأن تتحسر على أن لم تشترك معنا، وتندب حظّك متى بخلت علينا بمالنا، فأنتَ وضميرك !
إلا أن الفضول عادة محببة إليّ، فقصدته حينما علمتُ بأني لن أخسر شيئاً إذا أنا شاهدتها لمجرد المشاهدة، ربما تكون مختلفة، من يدري؟ .
فإذا فيها:
(( أعتذرُ حقاً عن خطئي ، لم أكن ممن يتلاعب على الهاتف ..
أرجو أن تقبل عذري )) .
لم أحكم نفسي إزاء هذا العرض، فرأيتُ أصابعي تجري على أزرار الأحرف، لتكتب لها:
(( لا داعيّ للاعتذار، وإن كنتُ أتمنى أن تكرري ذلكم الغلط )) .
ثم هي خمسٌ دقائقٍ مرت على رسالتي، حتى رأيت منها أخرى تقول فيها بإيجاز :
(( ولِمَ تريد منّي تكرارَ الغلط؟ )) .
فأجبتها :
(( لأصحح مسار حياتي بالتعرف إليكِ، والتقرّب منكِ، وأن أكونكِ وتكونيني )) .
لم يمضِ على رسالتي كثير وقتٍ، حتى رأيتُ شاشة هاتفي تضيء بذات الرقم، فابتسمتُ ناقراً بيدي على زر جعلِ الرنين صامتاً؛ لأطلبها أنا؛ بحكم أنّي من له الحاجة في ذلك .
انتظرتها على الطرف الآخر، ولم يدم الانتظار أكثر من مرور رنتين، لأسمع نشيدها على الضفاف الآخر من ذلك النهرالعذب. كانت تقول:
ـ ها ، ما بك لا تتحدث ؟
ـ أرجوكِ لا تتوقفي عن الحديث. أنا مستمع فقط، لا أجيد غير ذلك.
ياه، هي ضحكةٌ تلك، أم أنها تغريد. لا زلتُ مشدوهاً حين قالت :
ـ أنت تجيد معسول الكلام ، لا أدري أهو يتقاطرُ منك، أم أنت من يتقاطر منه !
قلتُ بعد أن ابتسمت ابتسامةً لم يشاركني في مرآها أحد :
ـ لستُ وحدي، تأكدي؛ لكنني معذورٌ، فأنا أتحدثُ إلى القمر !
ـ كيف تثق بجمالي، وأنت لا تعرفني !
ـ ومن قال لكِ بأنّ القمر جميلٌ !
أردفتُ بعد أن لم أجد منها رداً :
ـ القمر تشدّنا وحدته وبعده، ومحال وصولنا إليه، وما اكتسبَ الجمال إلا من ذلك، ألا توافقيني ؟!
ـ معذرة، أنا تلميذةٌ بالنسبة إليك، يبدو أنّي لم أخطئ حينما قلت في بداية حديثي يا أستاذ، إن لم أكن أخطأتُ في الاسم أيضاً؟!.
ومضيتُ ليلتي وتلوها من ليالٍ وأيّام وأسابيع، أتمرّغُ في نعيمٍ لا حياةَ للعشّاقِ إلا به، ولا ممات إلا على فقده، وإحالة المفقود إلى أرشيف الذاكرة لا غير .
قدمّتُ لها نفسي على صفحةٍ بيضاء، لا كذب ولا مراء ولا خداع فيها. بدايةً من اسمي وسني،وعملي وهواياتي، وكل ما له علاقة بي على هذه البسيطة .
وكأنني في حلمٍ لم أطمع تحققه لي متعدداً لستُ بالملول من الانغماس في شهواتي مع أنصافي في الحياة كما تعرف، إلى أن أتتني الطامة .
وما أكبرها من طامّة، لم يبتكر خيالي يوماً مثل ذلك الحادث، ولا فكّر في ابتكاره، ولا خمّن وجوده بالقرب منه، وإن كان في بعده ما بين تشككٍ وازدراء مني.
آه يا ليتني لم أسهر ليلتي تلك، ولم أرفع هاتفي ألبتة. يا ليت أمّي لم تلدني قبل يومي ذاك، لا أعرف كيف أن آتي بها فضلاً عن أن أقولها .
كالعادة رأيتُ الرقم مجدداً على شاشة جوّالي؛ ولكن كان المتحدّث هذه المرّة صوتٌ ألِفَتْه أذناي، واستطابت لحديثه روحي، بل تآلفت مع روحه، حتى صارتا واحدة في جسدين، لا أرى إلا بعينه، ولا يسمع إلا بأذني !
والله لا أذكر خلال مدة المكالمة تلك ـ وقد استمرت ربع الساعة ـ إلا هواجسي مع نفسي: فيمن تكونُ تلك، وهل علم، ربما أنّه اتصّل من ذات الرقم ليبلغني من بعد بأنّه قد أتى على احتيالي، وأنا الذي ما عهدتني في أمري ذاك محتالاً ولا خائناً .
لم تكُ تلك المرأة إلا أختَ أعزّ صاحب ليٍ، بل هو الأخُ الوحيد الذي ظفرتُ به من الأصحاب، ما زلتُ حائراً في ظنوني، تمنيّتُ أن تكون تلك أي شيء عدا أن تكون أخته، ثم دار في خلدي أنّه ربما يعرف ذاك، ولا أَقْدَمَتْ هي على فعلتها إلا بأمرٍ منه؛ بغياً للزواجِ مني؛ خصوصاً وأن علاقتي به اتخذت منحى الحديث مع أقرب أهلنا عن بعضنا، بتفاصيل لا يقصها صاحبٌ لصاحبه، وتفكيري في الزواج من أخته سابقاً في سمرة ليست بقديمةٍ مع شقيقتي يقرب صحة ذلك التخمين؛ ولكنني لا أنفي أني من الصدمة بحيث أن لم أعد معه كسابق عهدي، ليس فيما ظهر على أديمي، ولكن فيما ما توارى في جوفي، وأخشى أن يكون قد أحسّ بذلك.
لم أشعر بطعم الخيانة فيما سبق إلا بقلب من وقعت عليه، لا بضمير من صدرت منه، ولكنني رغم ذاك ما زلتُ على البر. أنا لستُ خائناً. أنت تصدقني، أليس كذلك؟، لذا ليس في جهدي سوى أن أستر على ما حدث باسم صداقتي به، وكأنّ شيئاً لم يكنْ.
ثم إنّي لم أجد غيرك يا صاحبي وأنت الأديب الأريب، بأن تبلغه بأمري، في معرض قصةٍ من قصصك التي تكتبها، خصوصاً وأنّه لا يفتأ يقرأ لك كلُّ شيء. أنا من أوصاه بذلك. ها ما رأيك .
أجبته بعد أن عدلّت من جِلْسَتي، فقلت :
ـ موضوع إنساني جميل . حسناً سأكتبُ له ما تريد .
ـ وهل ستتدخل في النص؟
ـ أبداً ؛ ولكنه إن كان أريباً حذقاً، سيفهم كتابي من عنوانه .

من مجموعتي القصصية: رسالة إلى جارتي العزباء

عائشه المعمري
08-15-2009, 06:59 AM
مبارك الهاجري


أهلا بك

أتعلم ؟
أن هذه القصة
أخذت مني يوماً كاملاً لـ أن وصلت إلى ما أريد أن أصل إليه
وإلى ما تريد انت
يبدو أنني لست حذقه إلى ذلك الحد :)

جميلة فكرة القصة فيما بعد نهايتها ـ




سأعود ،

جــوى
08-17-2009, 09:47 PM
مختلفة هذه القصة
ومتعتها تبقى لفترات طويلة بعد الانتهاء
مدهش يا أستاذ مبارك ويختارك الغيث مكمن
حكاياته وأسراره .

مبارك الهاجري
08-22-2009, 03:46 PM
أهلا بك

أتعلم ؟
أن هذه القصة
أخذت مني يوماً كاملاً لـ أن وصلت إلى ما أريد أن أصل إليه
وإلى ما تريد انت
يبدو أنني لست حذقه إلى ذلك الحد

جميلة فكرة القصة فيما بعد نهايتها ـ

أنا بانتظار عودتكم يا عائشة!.

مبارك الهاجري
09-01-2009, 09:06 PM
مختلفة هذه القصة
ومتعتها تبقى لفترات طويلة بعد الانتهاء
مدهش يا أستاذ مبارك ويختارك الغيث مكمن
حكاياته وأسراره

شهادةٌ تسعدني يا جوى!,
كوني بخير!.