المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : "بازارٌ تاريخيّ"


الوليد بن محمد
08-28-2009, 03:21 AM
"بازارٌ تاريخي"


بَيْنما كُنْتُ جالِسًا أمامَ شاشَةِ التلفازْ، أشاهِدُهُ ولي فَمٌ يأكُلْ وفَمٌ لا يَحْكي،

وَحالي ليْسَ كَحالِ أيْ مُواطِنْ عَرَبي..!

فأنا مُواطِنٌ حَياتَهُ سَهْلَةِ الإدارَة ولَيْسَ بِها شَيءٌ مُعَقّد،

شِعارَهُ بِالحياةِ: الحُلْم الزّائد، يُطْمِعُ بِكَ الجاهِلُ قَبْلَ العَدُو.

لِذلِكَ لَمْ أبْذِلْ حُلْمًا لِمُتابَعَةِ إعْلانِ المُسَلْسَلِ المُدَبْلَج: إيزابيلا وريدريجو

الذي سَيَأتينا في تَمامِ السّابِعَةِ مَساءً بِتَوْقيتِ مَكّةَ المُكَرّمَة !!

-كَرّمَها الله عن رِجْسِ الاثْنَيْنِ إلى يَوْمِ الدّينْ-

فَغَيّرت المَحَطّة إلى ما يَليها

وكانَتْ بالصّدفة قَناة إعلانِيّة، يَمُرّ عَليْها جهاز التَحكّمَ عَشْوائيّا دونَ إرادَةٍ منّي

وأوْشَكْتُ أنْ أكْمِلَ مَسيرةَ التّقلّبَ على مضاجِعِ المحَطّات

حَتّى أشْرَقَ بِالقناةِ الآنِفَةِ الذّكْر إعْلانٌ عَجيبٌ غَريبْ

إعْلانٌ خَلْفِيّتُهُ أثَرِيّة .. وكأنّها اقتُطِعَتْ مِنْ عَصْرِ مَقاماتِ الخيّامْ ..

يَصْدَحُ بِها المُعْلِنْ ..

بَصَوْتٍ فَصيحٍ جَهوري عَنْ:

"بازارٍ تاريخي"

لَمْ يُفْصِحْ عَنْ بِضاعَتِهْ !!

عَلى الفورِ وعلى ظهْرِ أقرَبِ قُرطاسْ ..

سَجَلتْ عُنوانْ البازارْ ..ويَوْمِ افتتاحِهْ ..وساعاتِ اسْتِقْباله..

وَسَبْعَةُ نَقْراتٍ على قفا الخُليْوي ..

أطْلُبُ بِها رفيقَ الدّرب لِمُرافَقَتي ..

لَنْ أكْشِفَ لَكُمْ سِرّا، فَهُوَ لَيْسَ رَفيقَ الدّرْبِ ولا هُمْ يَحْزنون!

كُلْ ما في الأمْر أنّهُ ظلّ يَقيني رمقات أهلَ الفُضول

استجابَةِ لبرستيجٍ نَقَشَهُ هذا الزمان، يَرْجُمُ الوِحْدَةَ والخُلوة!

تَواعَدْنا ..وفي اليومِ المَوعودِ "للبازارِ" ذَهَبْنا

وكانت الساعة تَمام الثّامنة مساءً ..


أقْبَلنا وإلا ولَوْحَةٌ كبيرَةٌ مَنْصوبَةٌ أمامَ المَكانِ المَعلومِ تَسْتَقْبِلُنا

وَقَدْ خُطّ عَلَيْها:

" ثَمّةُ ما يُريدُ أصْحابُ البازارِ إظْهارَهْ، وثَمّةُ ما يُريدونَ تَخْبِئَتِهْ"

أوْمَأتُ لِصاحِبي قائِلاً:

التّاريخُ مجالِسُ المُؤرّخينَ ..والمَجالِسُ أمانات!

وكَأنّي أحادِثُ نفسي ..

استشفّيتُ ذلك من انبلاجِ أشْداقِهْ!!

وبَعْدَ ثَوانٍ مَعْدوداتْ أوْشَكْنا بها أنْ نَدْخُلَ مِنْ بَوّابَةِ البازارِ

فقالَ صاحِبي:

أدْخُلْ باليَمينِ منسيّا!

أجَبْتَهُ:

ولِمَ هذا التّقديس يا صاحِبي؟! أمَسْجِدٌ هُوَ نوشكُ دُخولَهْ؟

ع العمومْ؛ ذكّركَ الله بالشّهادتين!

وَمَنْ بِهِ عَوْقٌ يَصْبِرُ على كيّ حماقَةِ مَنْ في بالي!

باليَمينِ خَطَوْنا داخِلَ البازارِ المُقدّس ..

وبِما أنّهُ بازارٌ تاريخيّ.. فاللهمّ إنّي أعوذُ بِكَ مِنَ الخُبْثِ والخَبائثْ

وبَدَأ التسوّق في سوقٍ لا يَحوي بَضائِعْ

وبِجيوبٍ خاويَةٌ مِنَ الدّراهِمْ!

لِتَتَوالى الَمشاهِدْ ..



(1)

دَخَلْنا في أوّلِ دُكّانٍ قابَلَنا في الوَجْه، مَكْتوبٌ على جَبينِهْ:

هُنا نَبيعْ شِعاراتٌ طازِجَة!

وما هُوَ إلاّ دُكانٌ مُتَخصّصٌ في ِتصْميمِ شعاراتٍ للمظاهراتِ والثّوراتِ والتّجمّعات

ومِنَ المُسْتَغْرب فيه..!

يَقْبَعُ في رُكْنِهِ الأيْمَنِ أشباهٌ لِمشاهيرٍ لا نَرى بَعضهُم إلا في الكُتب والمَراجعْ القديمَة!!

نَدَهْتُ على صاحِبِ الدكّان وقلتُ له (مُتَهكّمًا):

لو سَمَحت يا سيّد، أنا بصَدَدِ ثَوْرَةٌ أنشُدُ مِنْ خلالها الحريّة

هَلْ لي بِشعاراتٍ لَدَيْكَ جاهِزة ؟!

فقال:

بضاعتي طازجة ..

وذَهَبَ وَجَرْجَرَ أشخاصٌ بِشَكلٍ غير لائقْ..

هَهْ .. كَأني أعْرِفُهُم ..!

نِيلْسون مانديلا/إتشي جيفارا/ المهاتما غاندي

وَوَضَعَ وَجْهَ كلّ منهم على سَطحِ الماسِحَةِ الضوئيّة ..

ومن النّاحية الأخرى للماسِحَة ..

خرجتْ: قمصانٌ وقبعات ولافتات وبادجات ..

مُزيّنة بِصورِهِمْ وحولها كلماتٌ ترجِمُ العبوديّة وتنْشِدُ الحرّية!

قلتُ في نفسي ..

هكذا بكلّ سهولةٍ نُحيلُ عِظامَ العِظام إلى رُفاتٍ لِقَضايانا!!

صاحَ صاحِبي بِصاحِبِ الدّكانْ:

إنّك تُعاني مِنْ خَلْطِ بالأمورْ وتلبّكٌ في أمعاءِ عقلك!

وغَمَزَ لي: حُلوَة أمعاءِ عقلك ..صَحْ؟

أشرْتُ لهْ بيدي وهيَ تكْنِسُ هواءَ مَزْحِهِ الثّقيلْ.. قائلا:

أكْمِلْ بَسْ أكمِلْ.

لِيُكمِلْ:

وما دَخْلُ غاندي بالحريّة ووجَعِ رأسِها أيّها السيّد ؟!

فاستفهمَ مِنْه البائِعُْ: كَيْف؟

فأجابَ صاحبنا المتفذلِكُ:

لَنْ أستعيرَ مِنْكَ غاندي إلا لِحملِةٍ دعائية للريجيم!

فَهُوَ صاحِبْ أشْهرْ ريجيم في التّاريخ ..!

دَفَعْتُ صاحبي دَفْعًا لخارجِ الدكّان ..

لكيْلا يَلْفُظنا بازارِ التاريخ من البدايةِ بِسَبَبِهْ..

وَهُوَ بلسانِ الثائرين يُوجّهُ لي كلامه

وقد كان في حالة تجلّي لُقمانيّة لكن بلسانِ غاندي:

إنّ القوّة ليسَتْ العُنْف..

وأنّ العُنف ليْسَ في آخرِ المطافِ سوى ضُعْفٌ بكثيرٍ مِنَ الضّجّة

الهُوينا يا منسيّا !! الهُوينا يا أخي!!



(2)

فجاءتنا مُهرْوِلةٌ من بعيدْ ..

فتاةٌ يبدو أنّها كانت تَرْقُبنا منذ مجيئنا!

فتاةٌ خَرَجَتْ مِنَ نورِ التّاريخِ الغاوي ..

فتاةٌ أقولُ فيها كما قالتِ العَربْ:

تاهَتْ بِحُسْنِ قدّها، وَزَهَتْ بِوَرْدِ خَدّها،

وابْيَضّ سَوادُ الليلِ من لؤلؤِ وجْهِها ونورِ حُسْنِها!

اقْتَرَبَتْ منّي ..وَهَمَسَتْ:

هل أحضرت شهيتك معك سيّدي ؟

.. .. نَعَمْ !!

أيّ شَهِيّة يا هذه؟!

فوَشْوَشَتْ: وَهَلْ يَمْلِكُ الرّجالِ شَهيّةً يُمارونَ بها ..غَيْرَها؟

حَقّ من قالَ بأنّ الجمالَ كَلِمَةٌ لا نَقْرَأها بالعيونْ !

تقافزَ مَخبولي قائلا: أنا شهيّتي ذاتَ فاقَة وجُيوبي فَوّارة.. بِكَم؟!

هُنا أصْبَحْتَ أينشتاين أيها الملعون ..تَفكك الطلاسِمْ وتُترجِمْ الشفراتِ؟

أمامي أمامي ..

توكّل عَلى رَبّك هُوَ حَسيبي وَحَسيبك

تركناها وَمَضَيْنا.. وَيَدي مِنْسَأةٌ تَؤزّ صاحِبي مِنَ الخَلْفِ

وَهُوَ يَرْجوني: إكْرامًا للتّاريخِ وبازارِهْ احْتَرِمْني منسيّا!



(3)

بَدَأَ الزّحامُ يَشْتَد ..

ورأينا جُمهورٌ مُتَحَلّقٌ على نَصْبٍ عَظيم

أها ..إنّهُ تِمْثالْ لـِ مُصْطَفى جَمال الدينِ أتاتورك

ربّ العلمانية وابنُ رَحِمٍ دونَميّةٍ يَهوديّة!

سَألْتُ صاحبي:

أتَعْرِفُ مَعْنى العلمانيّة؟

فأجابني: قَدْ أحِطْتُ بِها خبرًا، عبر لَحْنٍ حُميني يَماني

يَقولُ بيته: أهل السّلا في سَلاهُمْ// وأهْلِ العبادة يصلّون!

زادَكَ الله بَسْطَةً في العلْمِ والجِسْم!

نَعَمْ ..نَعَمْ .. فـَ الحِكمةُ يَمانيّة!

صَهٍ صَهٍ ..

واسْمَعْ بَسْ..

أذْكُرُ تَوْصيفًا أطلقَهُ المفكّرُ الإسلامي محمد عمارة على (شَخْصِ العلماني)

عندما نَعَته بَأنّهُ: مُثقَفٌ مُخَنث!

.."وكانَ صَوْتي عاليًا بآخرِ كلمتينْ"

التفتَ علي كُلْ من كانَ واقفًا عند النّصْب ..

وهُمْ بظَنّهم أنَي أنْعُتُ صاحبي بهذا النّعتْ ..

فاشْمَئزوا منّي ..واحتقروا صاحِبي

وهذه المّرة هُوَ مَنْ جَرْجَرني ..

وأنا أكادُ أتعثّر من دفعهْ ..

هوّنْ عليك يا صاحبي

والله لا أقْصِدُكْ ..

إلاّ بالمُناسَبَة : هَلْ أنتَ سالي أمْ مُتديّن؟

فأجابَني :

أقْسِمُ بالله أنّ بيتي يَقَعُ بجانبِ المسْجِدْ !



(4)

ومَضَيْنا إلى ناصِيَةٍ أخرى ..

وَدخلنا إلى أحَدِ المحلات تَبيعُ رَبْطاتِ العُنُقْ ..

وسألتُ صاحبي: بربك هل تُجيدْ ربْطها؟

أجابني: ألبَسُها جاهزة ..

مَربوطةٌ محبوكةٌ من البائع المُتفرْنِجْ ..

وليس علي سوى أن أدلّي رَقَبتي بها!

وبربّك هل ترتاحُ بها؟

قالَ : ليسَ مهمّا.

والمفارقة أن البائع كان الأديب صاحب أولاد حارتنا

الذي لم يلبس يوما ربطة عنق ..

سلمتُ عليه باسِمًا: طبّاخُ السّم لا يتذوّقه أستاذي!

ردّ عليّ ضاحكًا: لم تصل الأمور إلى عند هذا الحد.

فعاجلته بالقول:

أجبني بربك..

فقاطعني (دُغري) وهُوَ يُقَهْقِهْ:

أيّ ربّ تقصد؟ ربّ الحارَةِ أمْ رَبّ هذا الكَوْن؟!

تَبَسّمْت ابتسامَة صَفْراء ..

وكأني تحصّلْتُ على اعترافٍ ضِمنيّ يُدينُهْ بِتُهْمَة تَهرّبَ مِنْها كَثيرًا ..

المهم أكملتُ سؤالي:

كَمْ رَبْطةِ عُنُقْ قَطَعَتْ رَأسًا أيّها الأديبُ الأريبْ؟

فأدْبَرَ عَنّي وهُوَ يَخْشى على سوقِهِ أنْ يَبورْ!

وفَمُهُ يتموج بالتّهكّمْ:

الحُريّة كلنا نَعْشَقُها ..

لكنّنا لا نُسوّقُ إلا العُبوديّة!!



(5)

خَرَجْنا مِنْ عِنْدِ سَيّدِ الحارَة ومَن ضلّلَ أوْلادَها ..

وهذِهِ المَرّة يَدي بيدِ صاحِبي ..

وَقَدْ صادَفْنا في الطّريقِ ..

أميرٌ مليارْديريّ نَجْديّ ..

سلّم علينا بِنونةٍَ هلاليّة وسِنّ ضاحِكَة، قائلا:

أيّ مساعدة يا شباب؟

التاريخُ وصفحاته تحتَ أمركم،، أي خدمة ؟

سلامتك سمو الأمير!!

ولسانُ حالي يحكّ شعيراتُ رأسَي ..قائلا:

ليسَ العجيب من فقيرٍ يتودّدْ بَلْ مِنْ غَنِيّ يَتَحَبّبْ!!

اهْرُبْ.



(6)

مازالتْ شهيتك في خبرِ كان ؟

أشرقت لا أعلمُ أم أظلمت مرة أخرى .. تلك الفتاة!

وهي تهمسُ لي بمَلاحَةٍ وإغاظة:

مازالت شهيتك في خبر كان ؟

فسحبتها من يدها، لأضعها في الجهة الخلفية المظلمة من الممر

حتى لا يرانا أحدٌ ونحنُ معها.

وهي تقهقهُ قائلة:

هل تُخبئني عنهم؟ أم تخبئهم عني؟

بل أخبئ سيرتي عن لسانِ التاريخ الأفاك ..

بـ كَمْ؟

شَهَق صاحبي:

الملعونُ أنتَ والله ..تصرفني عنها في البداية

لتحظى بها في النهاية ..!

وتَتَبَخْتَرْ هِيَ:

سُبحانَ من ألانَ الحديد! وأحالَ شَهْوتكَ فينا طَبَقَا مِنْ ثَريدْ ؟

دَعْني أُكْمِل يا عَجِلْ ..

وانْبَكمي أنتِ ..

كَمْ تأخذين لِتَنْصرفي وتَغْرُبي عَنْ وَجْهِنا ؟!

وكأنّها ربّةُ العفافِ وقد طُعِنَتْ في خاصِرَة الطُهرِ ..تَركَتْنا وَمَضَتْ!



(7)

وتَجاوَزْنا المَكان قليلاً وتَعَمّقْنا أكثر في داخلِ البازار ..

وإلا باحةٌ كبيرةُ فيها الميادين والمَصاطِبُ كُثُرْ

مكتوبٌ على لافتتها: مَعْهَدٌ للصغارِ فقط!

وندهنا على أحد العاملين في تلك المدرسة نسأله عن طبيعة ما يَقْدّمُهُ هذا المعهَدْ

للصغارِ من علومْ ..!

فقال:

إنّهُ مَعْهَدٌ سياسيّ ..

يُعلمُ الصغار فنون القتالِ بالسّلاح الأسودِ قبل السّلاح الأبيضْ

وسألهُ صاحبي:

وما هو السّلاح الأسْود يا تُرى؟

رَمَقْتُ صاحبي ..

وكأنّي أكافئه على نَجابَتِهْ لأوّلِ مَرّة لِطَرْحِهِ هذا السّؤالْ ..

فأجابَهُ:

فنون القتال بالسّلاح الأسود ..

هي تعليمهم الخدع والحِيَل والمكائد التي تُنيرُ دهاليزَ الحُكْمِ والسياسة !

أها .. وأردَفَ صاحبي بالقولِ هامِسًا بأذني:

اسمع ولا تشي بما سأقولُ لك!

كلي آذانٌ صاغيَة ..يا داهيَةِ .. يا خليفةَ مُعاوية !!

ولم يلتفت لكلامي وأكمل:

إنها مدرسة للطابورِ الخامس الشيطاني

مخصصة لأطفالِ الحكام ..!

فاستفسرت متغابيًا:

وهل افتتحت يعني برعاية الحكام يعني؟

فأجابَ حازِمًا: طبعا لا

فاستدرت وأنا أحوْقِلُ بأعياني ..

إذًا ..لا يوجد أحسن من أطفالنا بأخذ ثأر والدينا منّا

(وانظرْ حَولك في بلاطِ حُكّامِنا)



(8)

وفي القربِ من المَدْرَسَةِ لَمَحنا دُكّانٌ لبيعِ الأحذية ..

ويَجْلِسُ بِهِ إسكافيّ غيرُ مُريحَ المنظَرِ ..

سلّمنا بتحيّة الإسلامِ ..

وأحجمَ عن الرّد ..

وقلتُ: سُبحانَك أنتَ السّلام ومنك السلام تباركتَ يا ذا الجلال والإكرامْ

أكْرِمُ اسمُكَ عن مواطنِ اللئامْ ..

ولا تعليق!

فقد كانتْ مَلامِحَهُ متَجمّدة، ولا يكادُ يَسْتبينُ رضاها من سُخْطِها

وسألتُهُ: ما هُوَ أغلى حذاءٍ في دُكانه ؟

فأجابني:

إنّهُ حِذاءُ ستالينْ!

وليْسَ ذاكَ بسببِ أنّي والده..

ولكن لأنّّهُ هُوَ من اكتشفَ استخدامًا مُذهلا للحذاءْ ..

وهِيَ رَكْلَةٌ على رأسِ كُلّ مُعارِضْ للسلطة!!

فسألته: وهَلْ حازَ هذا الحذاء على رَواجٍ في العالم؟

وأجاب: فَقَطْ في الثالثِ منه!



(9)

وداهَمَتْني حاسّتي السّابِعَة، وهِيَ التي تَختصّ بالكَوارِثْ ..

وكَـ المَجنونِ طافَ علَيْنا طائِفٌ بِسُرعَةِ الرّيحِ ..

لِيُصدّقً حَدْسي ..

فَقَدْ كانَ يَحْفُرُ الطّرقاتِ بهَرولته وترنّحهْ

شعْرُهُ منكوشْ، ممسوحُ الشّفاه، وعُيونُه قَدْ خيطتْ واستضاقتْ بوجههْ،

وعلى عِطْفيْهِ عباءة تُساعدُهُ أكثر في إثارةِ الرّيحِ والغُبارْ

وما لَفَتَ انتباهي أكْثَرْ ..

هُوَ ما كانَ يحْمِلَهُ بِيَده

كأسٌ ذّهبيّ تُزيّنُهُِ نقوشٌ ذَهبيّة يَرْجِعُ للعصرِ الفاطميّ !!

وكانَ طوافُ هذا المجنونِ لغايَةٍ خبيثة ..

حيثْ أنّهُ يتَعَمّد أنْ يَضربَ بكأسهِ الفاطمي كلّ كأسٍ يحمِلهُ أيّ زائرْ

اقْتَرَبَ منّا ..

ولما أحسّ صاحبي بأنّي سأناديهْ، جَفَلَ ولكَزني بخاصرتي ..وقالَ:

دقّتْ عقاربُ الساعة معلنة الثانيةَ عشرَ بعد منتصفِ الليل

لِنَرْحلَ منسيّا ..!

صَرَخْتُ بوجْههْ:

أسندريلا من بناتِ عُمومتِكْ ؟! صَهٍ ..

فَنَدهتُ على صاحبِ الشعرِ الغجري والفكْرِ الحجري

وقُلْتَ لَهْ:

لماذا أنتَ تَصْنَعُ ما تصْنعهْ في كؤوسِ الزوّارْ ؟

فقال: لن أجيبك حتى تُبرز لي أنتَ وصاحِبُكَ كؤوسَ شرابكما!

قلتُ: لم نشترِ شرابًا بعْد!

فضحك بَهستريا معلقًا:

نَعَمْ أنتم تشربون من الآبارِ النفطيّة ولا حاجةَ لكم بالكؤوس!

لَيْتها بِمتناولِ يدي آباركم!

ها ها ها ضحكنا أنا وصاحبي بسماجة ..

وأقسمتُ عليه أنْ يُخبِرني ..

فقد كانَ المهيبْ مليحُ الطّبع متقلّب المزاج، يُرعدُ صيًفا يختلّ شتاءً

فترقرق وتحنّنَ علينا وقال:

إنّي أقْرَعُ الكؤوس بـِ كأسي الفاطمي لأحرّمُ ما بِها ..

استرحت؟!

فمضيْنا عنه وأنا أوشوش بأذنِ صاحبي:

كأنَ المسيخْ خَرَجَ في إحماءٍ مُبكّرْ !!



(10)

وأقبلْنا على دكانٍ آخر في ناصيةٍ ليْسَتْ بالبعيدة..

يَفوحُ منها عَبقٌ خنينْ وفَوْحٌ أصيلْ ..

عطّر رواقَ البازارِ بأسْرِه ..

وأطلّينا بداخلِ الدكّانِ ..

وإلا وكُتُبُ الشّعر وقَدْ شكّلَتْ عَرْشا لأميرها شَوْقي ..

سَلْمتُ عليهِ ..

وقبّل جبينَهُ صاحبي، عندما عَرّفْتُهُ بأنَهُ أميرُ الشعراء ..

"صاحبي يَعشَقُ الشعر ويحفَظُ كلّ شيلات فن المُحاورة"

ممكن طَلبْ يالأمير؟

صاحبي بلهجتهِ المحكيّة فَرَشَ بساطهُ الأحمدي في بلاطِ الأميرْ ..

تفضّل بُني ..نُطيعُ بقدْرِ ما نَسْتَطيع ؟

ممكن مَوّالْ ؟

نَعَمْ ؟!؟!

وتَداركٌ لموقفِ عجّت بهِ رائحةُ أبو جهل الأدب

تواكبت مع خمْسَةِ أصابعْ صافحت بِعنْفٍ ظهرَ صاحبي

فرّ منها فَزِعا خارجَ الدكّانِ ..ولم يُعقّبْ!

قلتُ لـِ شوقي:

كيف تقبلُ بالشّعرِ إنْ طَرَأ عَلَيْهِ أيّ تَغييرْ يا أميرَ الشّعَراء ؟

فأجابْ:

أقْبَلُ بتغييرٍ حَنونٍ فقطْ بنبرة قوافيهْ!

فعلقتُ متحسّرًا:

قد أدخلوا طبولَ الحرِبِ في الوزنِ والقوافي ..

تبسّم بسمة عربيّة، واعتدلَ بثقَةٍ عصمليّة، وأهْداني هذه الكلمات:

النصح ثقيل فلا تجعله جدلا ولا ترسله جبلا.

خَرَجْتُ مِنَ الدكّانِ، وصاحبي في انتظاري..

وما انفكّ يلومَني:

منسيّا أنتَ كذلك تُهينُ ذكائي

والله تُهينُ ذكائي!!



(11)

وتَعثّرنا بالفتاةِ الحسناءِ مرّةً أخْرى ..

وغَمَزتْ لي:

لَمْ تَدْفَعْ ثَمَنْ وَجبَتَك !

بـِ ويْلُكِ ..صرختُ بها!!

وهَلْ تَذوّقْتُ منْكِ شيْئا يا أنتِ؟

فشدّ على يدي صاحبي:

ما بْكْ أيّها الأخْرٌقْ ؟ إنّها تَغْويك ..

ويُكمِلُ هُوَ أيَضًا بِغَمْزة ..

ليُلطّف أجواءَ جملته الشاتمة!

صَدَقَ من قال بأنّ الألفَةُ مَجْلَبَةٌ للاسْتِخْفافْ

طيّب ..

قُلتُ لهُ :تصرّفْ معَها ..

كيْلا أهينُ ذكائك بَعْدَ اليوم ..

حُبّا وكَرامة ..

ذَهبَ لها ..

وعَرَضَ عليْها عَرضًا بأنْ يؤجّر لها عامود إنارة تَقف عِنْده خارجَ البازارْ

وفُستان مجازيّ .. يشفّ ولا يَسْترْ

ومُحاميّ للضروراتْ

وَطبيبٌ لوِقايَةٌ تدرأُ عِلاجًا!

فشتمتْ صاحبتي بكلمَةٍ قبيحة ..لا أتذكرها

اتخذتُ بعدها عَهْدًا على نَفسي بأن لا أهينَ ذكاءَه!



(12)

ومَرَرْنا بِقاعَةٍ ضَخمةٍ أنيقة، ومُقامٌ بها مُنتدى فكريّ سياسي ..

والجمعُ غفير ..

والجوّ سكونٌ رهيبْ ..

وإلا ونحنُ نَرى لسانَ الثورة ومؤرّخ الجزيرة الحالي

الأستاذ محمد حسنين هَيكل ..

ووراءه تَقبع صورة للمسجدِ الأقصى..

والمُحاضرة بعنوان: أكذوبة هيكل سُليمان عند اليهود!

فَقلتُ لصاحبي:

أعرفُ وجه الشّبهِ بين هيكلنا المفكّر وهيكلِ سليمان؟

مطّطَ شدقهُ مرة ثانية بـ حُروفِ

هـَ يـ كَـ لِ

الله المستعان ..لا يا فالح

وجه الشبه بأنّ كلاهما صُنعا مِنْ كذبَة!



(13)

لِنَلْمَحَ خارجِ تِلكَ القاعة مَسرَحًا باللونِ الأبْيَضِ والأسْود ..

وفيهِ رشيقُ الحركةِ خفيفُ الظلّ

شارلي بن شابلن ..

حيّاك حيّاك ..

يا سَلامْ ..ما هذا؟!

كأنّهُ زِئبَقٌ في تملّصِهِ وسُرعته!

جادَ بهذا التعليق صاحبنا مِنْ هُنا ..

وشارلي بنُ شابلن سَقَطَ من خشبةِ المسرحِ مِنْ هُناك!

وامطري لؤلؤا سماءَ سرنديبْ ..

عيون عربيّ تُحيلُ رياضُ الفرنجة لـِ (صمّانِ) نَجد

قامَ شارلي سالما وقُطيرات دمٍ من أنفه تساقطت ..

وهُوَ يقول قولته الشهيرة:

كيف نخافُ مِنْ مَنظَرِ الدّمِ مَعْ أنّهُ يَجري في عُروقنا؟

وماذا تَبيعُ هُنا سيّد شارلي؟

كًنتُ أبيعُ فنّا ..والفنّ يا سائلي كَشْفُ المعاني

أما الآن فَـ تَفَضّلوا ..

فَهُناكَ مَشرَبْ وهُناكَ مَقهى ..

مشربٌ يبيعُ فيمتو من دماءِ نانسي ..

وأرجيلة من قطران شعبان !

هذا فنك ..؟! أيّها الخائبْ ..

السوقُ عبدٌ لأمزجةِ روّادهْ !!

وفيفي في الطريقِ أيضًا ..

فهيَ ملكةُ فنونِ البازار بأكمله ..


مَلكة؟!


بانوا على أصلكم بانوا

والساهي يبطل سهيانه

أيوه يا روح أمك ملكة ..!

ابتدأ فاصل الردح مع فيفي وهيَ تمشي في موكبِ زينتها

وكأنها حفيدة قارونَ ووريثة أملاكه ..وقامتْ تُعاركُني كلماتها:

ولي مع اليزابيث ملكة الإنجليز قواسم مشتركة ..

فأنا نجمة كبيرة في شاشة صغيرة

وهيَ نجمة صغيرة في شاشة كبيرة

وهيَ كبريتها يُضيء

وأنا كبريتي بيولّعْ

وكلنا سيدات وبنتنهّدْ !

فانخرطَ صاحبي مع الموكبْ وتركني وحيدًا ..

ليدخلوا بصالةٍ أنْسٍ عملاقة أنوارها جمْريّة تَتَوقّدْ

فَهَمَمْتُ أنْ أدخُل في أثرهم ..

(استكمالا لما تبقى من جولتي في البازار التاريخي)

لعلّي أصطادُ أحدًا من عِلْيَةِ القومِ التاريخيين ..

فاعترضتْ طريقي (يالله العجب)

الفتاة الحسناء مرة أخرى ..

وقالت:

= مَمْنوعٌ دُخولِ الرّجالِ المُحْترمين بَعْد الثّالثة =

لكنّي مِنَ الرّجال العاشقينْ ..

هَهأ .. فليغادرنا العاشِقْ

وليأتِ لنا المُشْتاقْ !!


فغادَرْتُ البازار تَمامَ الثالثة فَجْرًا ..

وحيدًا

لأهدي صاحبي في ظهرِ الغيْبِ موّالا يختزِلُ البازارَ وأهلهْ:

يا لال يالالاللّي ..!

وَيَوْمٌ كأخلاقِ المُلوكِ تَلوّنا ... فَصَحْوٌ وَتَغييمٌ وَطَلّ وابلٌ

أشْبَههُ إياك مِنْ صِفاتَهُ ... دُنُوّ وإعْراضٌ وَمَنْعٌ وَنائلُ

د. منال عبدالرحمن
08-28-2009, 12:43 PM
الكتابة السّاخرة فنٌّ يجيدهُ القلّة و عندما تكونُ بهذهِ الدّقّة التّصويريّة و البلاغة
فإنّها تتحوّلُ إلى خيالٍ كاملٍ للقارئ ينقلهُ إلى الأماكنِ الّتي أرادها لهُ الكاتبُ الفنّان
بجملٍ تختصرُ الحشوَ من السّردِ و الزّائدَ من التّصوير .
بازارٌ تاريخيّ ..
قراءةٌ غايةٌ في الواقعيّة لحاضرٍ يأخذُ من ماضيهِ النّاقصَ فلا يكمله و الكامل فينتقصُ منه .

شُكراً أيّها الفنّان .

راكان العنزي
08-28-2009, 06:35 PM
بين ضحكـ وبكاء ..
خرجت من هنا ..




الوليد .




سلمت

عائشه المعمري
08-28-2009, 09:05 PM
لا بُد أنك تَسردُ ذاكرةً أخرى لـ التاريخ
بـ خيال ،
يَجعلنا نُعيد النظر في مفهوم التَخيل الذي كُنا نَظنه ،

،

الوليد : من أي ذاكرة أتيت .

مُبدع حد الدهشة
في كُل جملة أو اسم

تَرَانِيْمٌ الْهَائِمَةٌ
08-29-2009, 05:18 PM
[ الْوَلِيد بَنْ مُحَمَّد ] ..
دَخَلتُ مَعْكَ رَحَلَـة تَارِيخِيَّة
فَ دَخَلْتُ كُلَّ دُكَّن مِنْ بَوْابِه الْتَّارِيخ !
سَافرتُ مَعْكَ فِيْ الْأَسْفار ..
وَهَلْ هُنَاكَ رَوْعَةُ كَرَوْعةِ تَارِيخُ الْمَلاحِمْ وَالمَشَاهِيرْ ! ؟
سَافرتُ [ وَ طفْتُ بِالْأَسَاطِير وَالْمَعاجِمُ ] ..
هَربْتُ مَعْكَ مَنْ مُسَلْسلِ الْثَّوابِ وَالْعِقابِ ..!
نَسَيْتُ صِيغةُ النَّسْيَانُ هُنـا
فَكنْتُ منْسِيَّا وَكُلَّ مَا تَحْمِلهُ طَرائِقُ مَنْسِيَّا ..!
حَاولْتُ أنْ أُقرّبُ الْمَسَافَة مِنْ صَقِيعُ الْكَلامُ وَدِقةُ المَلْفوظِ وَصَرامَة الْأَداةُ .
كَانْت كِتابَة سَاخِنَة كَالْأَهَازِيجُ والْأَلْوانُ وَ الخَرْبَشاتُ وَالْمُلْصِقاتُ وَمَواوِيلُ الْسَّاحاتِ ،كتَابَة دَافِئَة تَحْضِرُ فِيها الْلُغَة مُبْتَهِجَة بِكَيْنُوْنةِ الْلفظِ
فَ لَمْ أَجدُ مَا يَمْنعُ الْوَقُوْفُ طَوِيلاً أمَامَ التَخْطِيْطاتُ الْتِيْ تَركها لنا نَصُ [ بَازَارُ الْتَّارِيخِيْ ] وَالْدَخُولَ فِيْ أَخَادِيد قَوة الأفْكارِ وإِشْراقِها .
شٌكْراً لكَ

الوليد بن محمد
08-30-2009, 02:16 AM
يقولُ الرئيس الأميركي السابق ترومان:
إنّ الأمور التي لا تعرفها هيَ التّاريخ الذي لمْ تَقْرَأه
الأمسُ واليومُ والغدِ شقائقٌ مِنْ أبٍ واحدْ ..وأمّهاتٍ كُثُرْ :)
منال عبدالرحمن
أنا الممتن لحضورك الناقـد
تحية تليـق

الوليد بن محمد
08-31-2009, 04:24 PM
لأنّ "شرّ البلايا ما يُضحِكـْ" ..ربما!
راكان العنزي
سلّمكَ الله وأبقاك بابتسامة :)
تحية تليـق

فرحَة النجدي
09-01-2009, 04:12 AM
ربما أًصبح واقعنا لا يحتمل إلا السخرية .!
ما يخفف وطأتها الإتيان بها في شكلٍ جميل و سردٍ مُمتع ..

الوليد /
شكرا لك http://www.muddn.com/vb/images/smile/soso.gif

جــوى
09-01-2009, 08:47 AM
ياللفضاء الفضّي
الذي يخرج من رأسك
/ أين كنت قبل ذلك ؟!

الوليد بن محمد
09-02-2009, 05:28 PM
"أتيْتُ من ذاكرةٍ لا تَرْحَمْ ولا تُرْحَمْ"
:)
عائشه المعمري
اقرؤا التاريخ إذ فيه العِبَر
.. .. ضلَّ قومٌ ليس يدرون الخَبَر
بضعف الدهشة أيتها الكريمة أنا ممتن
تحية تليـق

الوليد بن محمد
09-12-2009, 02:13 AM
نملِكُ الكثير من التاريـخ، إلا إنهُ وُضِعَ بين دفتي إفك!
لذلك قمتُ بتشييد بازار وعطرته بالنعناعِ والليمون الطري
وبالرغمِ من ذلك
ضاقَ صـدري بالأخـير!
تَرَانِيْمٌ الْهَائِمَةٌ
لكِ تحية ببتلاتِ ورد غض ولا تكفي
شكرًا للغوص
تحية تليـق