المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ×|.. مـلاء و خـلاء ...!


علي آل محفوظ
09-13-2009, 10:35 PM
فجيعة لا تضاهيها أيةّ فجيعة آخرى , أن تشرع إلى منامك آملاً بغدٍ آخر ملؤه أحلام مؤجلة .. تستيقظ على نفس الوجوه و العبارت و الكلمات و التحايا . نفس الأصوات و الطرق و الأساليب .. نفس الأفكار و الأراء و القناعات .. كل شيء كل شيء , صورة مكرره من الأمس و سابقـه .. لا يوجد شيء جديد أو مختلف .
يركض بي الزمن أوطاناً من الضجـة و الصخب . يركض بي ممتداً بين ثناياه أياماً لا تُحصى ولا تُعـد . يكفهّر المكان في وجهي بكل عبوسٍ و برود , يغتالني يقيناً مؤكـد بكل التفاصيل الدقيقة التي سوف تحصل بعـد ساعة من الآن , حتى الأحداث المهمشة و التي لا تنال مِنا إلا الخذلان و اللامبالاة أعرفها .. كل شيء .
إننا نمتلئ كل يوماً عبئاً وئيداً من الخواء , تسعفنا بالونات لا يحويها إلا الفراغ المتراكم , نحقن رؤوسنا بأحلام ممتئلة بالأناة , نعيش من أجل غدٍ نحصـد به زرعاً ليس إلا لنا .. و لكن ماذا إن كان الغـد هو ذات اليوم ؟
يحفر العمر بي وجهاً تنهكه التجـاعيد و الحبوب المتآكله . آكـره نفسي . نعم يزداد كرهي لنفسي كل يوم مقدار ألف سنة لعمري الذي أودعته في خزنة ملابس و عشت كما لم أحب أو أريد . عشتُ عمراً للناس فقط . عشت عمراً ألهث وراء ألسنتهم .. وفقاً لِمَ يرون إنه الأمر المثالي لعالمنا المطلي بالمثالية الفائقـة , لا الأمر الذي يريحني و سوف يثير بسمتي و فرح من أحب , عشتُ عمراً وفقاً لقناعاتهم و أرائهم الهمجيـة و الي تبعتها ببصيرة عمياء .. حملتُ حزمة من العادات و التقاليد . كبرتُ بها حتى شبت . أودعت عمري في إيديّ جلاديّ و قتلتيّ .. أعطيتهم صندوق ذاكرتي و ماضيّ المظني بالتعاسة .. أعطيتهم الحرية في الوقت الذي لم أفهم ماهي الحرية اصلاً .. أعطيتهم الصلاحية في التحكم و التهكم في حياتي .. و حتى في قتلي .. زحف موتهم البطيء الرشيق يغتالني ببطء .. ببطء .. أنتظرُ ساعة أستيقظ فيها و أرى الوجوه كلها راضيةً عنّي , مهما كانت و مهما كانت المصلحة و العلاقة .. آآهٍ من البطء! .. آبنتهم بروح الذليل الخاضع المسكين المستكين .. بروح المشمول من رحمتهم .. رحمة وثنيّ .. أوثـان العادات و التقاليد , و التي عبدتها لأسجـد لها في سبيلي أن أعيق والدّي , و أنهك ستر الغير في صالح مصلحتي . و كيف لا ؟ و نحن نئن بأعلى أصواتنا أن أفجعونا بسفك قناعاتنا الموحلة و أرائنا المؤجلة . بإنتهاء أضغاث أحلامنا الخالية من الملاء .. شاب رأسي الفاحل بالبيـاض و لم تكبر أحلامي , ظلت أحلامي نفسها منذ الطفولة .. لأنني لم أحقق أيّ حلم لي اصلاً , فكيف لي أن أربّي أحلاماً لن أحصد زرعـها ..!

في كـل يوم ...!
وجوهٌ ملونة بكل الألوان و الأقنعة , تتناحر على فضيلة و معروف , يغدقهّا قلباً أسود مولع بأبجدية [ مهما أملك , عيوني على ما يملكّه غيري ] . تنتاهى إلى مسامعي ذات الأصوات الملمعة بالطيبة و المحبة , تخفي في داخلها عتمة حالكة بالظلام .. صوت مغلول يمخر بي من غابة القمع و الإستبداد , إنه آنين حياةٍ قد رحلت مِنا و فرت . هربت عنّا لأننا لا نزال نغني ذات الأغنية التي تسجل هزائمنا المتتاليه تحت مشنقة العدم , و آمالنا التي كلّت منّا و نحن لا نزال نحلم بيومٍ آخر تتحقق به نبوءات الأمس . ما زالت الأرض نفسها لا تنال مِنا غير الإجحاف و التصدي , بعد زرعٍ أخضر ننال منه قوتنا و نبعٌ حار نتسنشق الحياة بهِ من جديد .. ما زالت السماء ذاتها تهدينا شمساً دافئة ساطعة بالنور , وكرد أعتبار لها لا تنال منِا إلا القذف و القدح .. ! إنه نكراننا بكل بسـاطة من كل شيء !!
وجهٌ مترع بالصمت , جسدٍ بالٍ مترهل , تفجره عشرات الكيلوات من الشحوم واللحوم , ثمة بالونة أسفل بطنه تتبعها مؤخرة كالجلّي, تنتاب نظراته تعالٍ ممشوخ الوقى , أسفل نظارة سوداء .. يحمل معاملة يريدنيّ أن أخلصها له . صوته يشبه فتحة بابٍ عتيق قد صدئ ..يتفحصني و كأنه مرتاب بشكلي , تغزوني نظراته السامة وهو يقترب مني , يغمض عيونه فجأة و يفتحهـا من جديد ..
- أبـو مهنـا ؟
- نعم معك أبو مهنا , أعتذر لكني لم أعرفك !!
- أنـا حسن ولد الملا مطلق ..
و أضـاف :
- ألا تذكر , كنت أنا و وإبنك مهنـا أصدقاء طفولة ..
- آآآه , ذكرتك .. والله كبرت ياحسن و أصبحت رجل ..
- كلنا نتغير و العمر يركض .. مثلاً أنا لم أتوقع إنك ما زلت عائش , ظننتك مِت .. إلا كم عمرك يأبو مهنا ؟
لم أمت .. لم تذبحني إلا تلك الكلمات التي تئن بزفيرها سهاماً تغتالني ألف مرة .. لقد كبرت .. لقد كبرت .. لقد كبرت .. أيعني الكبر إنتهاء الصلاحية ؟ إنتهاء العطاء ؟ إنتهاء القدرة على إستنشاق ذرات الأكسجين ؟ إنتهاء القدرة على الكلام ؟
- سبعة و سبعون ..
أنخرقت شرنقة بؤبؤته عن عينيّه ..
- ما شاء الله .. ما شاء الله ..
لم يقل لي شيء , لم يعلق .. لكن بعد هذا العمر المديد بتُ اقرأ مافي العيون , من الحب و الكره و حتى الدهشة .. إلا العيون فهي لا تكذب .. قال لي بالحرف الواحد الممتلئ غيظاً : جميع من هم في سنك قد ماتوا .. و أنت ما زالت رجلك اليسرى في الدنيا و الآخرى في القبر ..
عمـوماً .. لن أحزن لو مت , لأن هكذا ينتهي الإنسـان .. لن أتعجب لو مت بعد ساعة .. بعد يوم .. بعد أسبوع .. لأنك بالنسبـة لي قد مت ..
أقسى مافي الأمر أنا نحاول أن نعذر الناس , أن نعذر ضمائرهم .. أن نعذر قناعاتهم .. أن نعذر ما شابوا عليه و قد أدركوا محال تغيره .. أن نعذر ضحكاتهم علينا .. ولكن أوليس الضحك على الآخرين يمثل قمة التكبر و التعالي , لأننا ننظر إليهم دون تفكيرنا !!
أنموت كلنا خوفاً من الموت قبل أن نموت فعلاً ؟ تعود في مخيلتي البريئة قصة الإستسلام الثالث لغابرييل ماركيز , حينما مات في تابوته .. لم يتوقف نفسه بعـد .. و لكننا نموت في اللحظة التي نعتقـد فعلياً إننا قد أنتهينا ..! تماماً كما قد تجحف الذاكرة موتانا .. و تٌذبّل الأشخـاص في مزهرية الماضي , فتسجل عقولنا .. إنهم قد أنتهوا فعـلاًَ .
كيف يكون الإحسـاس حينما ندرك إننا قد ورينا في مقبرة النسيـان .. و رغم كل ما نقـدمه , يؤمن الغير إننا لا شيء .. لا شيء أي لا شيء ..
أكبر ذنوبي .. أني أحلم بحرية , خالية من البشر , أغلق كل الستائر من حولي .. و أتحرر من أغلالهم .. أنال سعادة قد فرّت ..
ألم يحن الوقت كي نؤمن إننا لا نفهم شيء , و حين نفهم شيء نكتشف في الغد إننا لم نفهم شيء اصلاً ؟

أنتكس الطبيب من حوله وهو يشاهد تحاليل الدم و البول و البراز .. تقوس حاجباه و علت مفاهيم الحزن تغزو تضاريسـه .. حاول أن يقول لي بكـل هدوء ..
- أعذرني يأبو مهنـا , الورم يتكاثر في خلايا جسـدك ..
و أضاف بحنكة و لهجة باردة جداً ..
- قد لا تطول مدة حياتك أكثر من شهر !!
شكرته بـهدوء و سحبت أوراقي ..
خرجت من الطبيب , و سعادة لم أشعر بها من قبل تمسك يديّ .. أردت أن أطير , أحلق .. أغني بصوت عال .. و اخيراً فهمت مالم أفهمه طوال سبعة و سبعين سنة .
- لو كان الغـد آخر يوم في حياتي .. سوف أعيشه كما أحب و أريد .. سوف أستمتع و لن أدع فرصة للغد كي أقول : لقد خسرت يوماً أو عمراً كان بإمكاني أن أستمتع بـه .

عائشه المعمري
09-21-2009, 03:41 AM
علي آل محفوظ

أهلا بك ..

كُنت أحاول أن أملىء الهواء حولي بما يقول أبو مهنا عن نفسه
عل العمر يسمعني
او يد الموت التي ترقبنا كل لحظة

ليت العمر شيء ملموس
نقبضه وقتما شعرنا بـ تهوره في قيادة الزمن
ليت له اذن تصغي لـ صراخنا الذي لا يبلغ الصوت

غصة وكفى
وبعدها الزمن لا يتوقف
لا يآبه بـنا
ولا بـ أحلامنا التي لا تتحقق

ويمشي الموت بـ محاذاته
ومن يسبق الآخر ؟

/
،
قصتك يا علي
عميقة النظرة إلى دواخل النفس الإنسانية


شُكراً لك