المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : موعـد مع ..." زانيـة "..!


زهير يونس
09-30-2009, 10:48 PM
موعـد مع ..." زانيـة "..!

( قصـة )
...
( بعض مما جره القلم معه..يأبى الخروج..و كثير مما خرج.. أبى أن يكون دلالة و رمزا..و للصراحة في أكثر من موطن..فضيلة و فضيلة )

- زهير يونس -

***

عندما تشرق الشمس.. يحدث في "شاطـئ النخيـل" عكس ما يحدث في الطبيعة عادة..!

فالحياة التي كانت قائمة بالليل.. تخلد للنوم في الصباح، و يفتح الصمت أجفانه ينظر في الأوجه التعيسة نظرة الآمر الناهي.. و كل الذين تبصرهم عينك و هم يتجولون بالقرب من الشاطئ، غرباء عن المكان.. و أهل المكان.. يغطون في نوم صيفي دائـم ..
مدينة بحجم علبة الكبريت.. تتناثر حولها "فيلات" فاخرة، و شقق راقية، لا يُعرف أصحابها إلا من أسمائهم..
و أزقة ضيقة.. يتفصح منها صمت التجار القلائل المتعبين و هم يجتهدون في فتح دكاكينهم الصغيرة و رش الأرصفة المجاورة لها بأنابيب الماء في محاولة يائسة منهم بث الحياة في مساحات متداخلة قد أتى عليها رمض حارق، في صيف مندلع على غير العادة.

و بين الركن و الآخر.. فنادق تكاد لا تفرق بينها و بين تلك الشقق الباهظة الثمن..

في شاطئ النخيل.. نوعان من الناس.. أولئك الذين اتخذوا من القمر شمسا لهم، فلا تكاد طلعة فجر تلحقهم حتى يتواروا في منازلهم و تتوارى معهم ملايين الدنانير التي كان حسيسها يختلط بموسيقى الملاهي الليلية و يمتزج بهمسات الرجال في آذان المارقات اللواتي أعلن الشرف عليهن حربا..
و آخرون.. تحت حد القدرة على العيش.. يكابدون الشقاء زحفا على البطون، و قد أتى عليهم الدهر من حيث لم يحتسبوا.. فنحت منهم اللصوص و صنع منهم المارقين و الشواذ و المحتالين..
حتى الأطفال.. لا تكاد ترى في أعينهم غير بريق الترصد لضحية هنا.. أو ضحية هناك.

أما أنا .. فلعلي الذي أضاف إلى شذوذ المكان ضربا من الخصوصية.. إذ زدت على كوني الرجل الذي يصارع شظف الحياة و يغالب الحظ المستبد بذراع لا تفارق شطارتها شبكة الصيد التي يملك.. فيذيقه الشقاء مرارة العيش حتى تختلف أضلاعه من الوهن و الضنى.. كوني الرجل الذي قد وجد الفساد إلى قلبه طريقا و ترك فيه فعل النظر ما تترك الليمونة الحامضة في آخر الحلق .. لذة تتجدد في الأوصال دون توقف و تجتاح جسدي النحيل الملتهب في كل دقيقة و لحظة..

كنت دائما جمرة متقدة.. لا يهدأ لها بال إلا بعد أن تلامس جسد امرأة مبلل، لتنطلق منها لذة أخرى في ملامسة جسد امرأة مبلل.. آخر.
و هكذا .. بين اللذة الذائبة على شفتي سمراء عسلية.. و لذة يستحضرها الكاعب المنحوت..سفرات سريالية حدودها الكون الواسع اللامنتهي.

و "عمر الصياد" .. يموت ألف ميتة عيش ضاغن .. و تحييه قبلة واحدة و هو بين يدي امرأة..

لا شيء يشغل بالي عندما تلقي الشمس بأول خصلة لها على شاطئ النخيل.. غير تلك اللحظة التي تتكرم فيها الشمس نفسها باستجماع خصلاتها عند الغروب عائدة من حيث أتت.. لتسحب الظلالَ من تحت الأشياء، داعية خيوط الظلام لتسدل عالمها الذي بعده بساعات قلائل.. يبدأ عرض اللذات و المتع.. في عالم الشقق المموهة والفنادق المغدورة.. و قصص الخديعة و الخيانة على الأسرّة المفروشة بالأموال..
لليل رائحة الأشياء المبطنة .. و أنا أعشق النظر باحتقار في كل متعجرف يحدق بي ساخرا.. و هو لا يدرك أنني تركت على صدر زوجته أثري .. و أنني بتّ سندبادا لخرائط الأجساد الأنثوية.. و مُدًى تقطع تترى أعراض الفتيات من دون أن تستشير صوت الأنـا.

***

قبل سنة تقريبا، توفي والدي بعد أن أصابه أحد الفتيان الطائشين بدراجته المائية "جات سكي" و هو يمارس هواية الإستعراض البهلواني أمام عيون المستلقيات بأجسادهن المدهشة على شاطئ النخيل.. فشطر مخه إلى نصفين..
ولم يكن شاطئ النخيل بالذي يزن البسطاء في ميزان الوجود..حتى يتكرم الإسعاف الثقيل جدا بوضع اعتبار لحياة هؤلاء.. و لأنه أيضا مكان تحرسه أعين تجتهد فقط في خدمة الأثرياء الحبلى جيوبهم بنعم الله.. فقد ابتاع أبي موته بالمجان، و عاد الطائش لطيشه يمارس هوايته المفضلة على بعد أمتار قليلة من رؤوس المصطافين السابحين على طرف الشاطئ و قد زاد من عنجهيته أن الأصابع التي تنهاه عن فعل ذلك... مبتورة..!!

و مع ذلك.. و لأنني رجل لا يملك وقتا للأحاسيس و قد أجل المجون في ذاتي كل آدمية حية، فقد كان حزني على أبي عابرا كسحابة صيف..
و هكذا يفعل البؤس بالبؤساء.. يمنحهم مفهوما آخر لمعنى الزمن.. يكون فيه نسيان المآسي... فرض عين.. و يجعل ساعاتهم البيولوجية تعيد ضبط نفسها بسرعة .. على إيقاعات الحال المنحوسة.. لغد يحنط المجهولُ ملامحه.

لكن سخطي على الفتى الطائش الذي وضع حدا لحياة أبي لم يكن يوزن بمقدار.. كيف لا، و قد خلف لي التافه مسؤولية مزدوجة و جعلني أرث " ربـاب "، الزورق الذي كان أبي يصطاد به كل يوم.. ليتضاعف العبء الثقيل الذي أنوء بحمله و يتقلص في ذات الوقت حجم الساعات التي كنت أركن فيها للهدوء..!
هدوء فوق سطح زورقي " ميمونة ".. كنت أخلو فيه في فترات الفتور إلى جوالي، لأرتع في عالم المواعيد الغرامية الليلية.. و أجعل " عمر الصياد " يبتعد قليلا عن زوجته "ماريـا" و ابنته " خلود ".. و أمه التي يذكره مجرد النظر فيها أنه ولد عاق و مقصر و مفرط.

لم تكن "ماريـا" صعبة المراس.. و ربما هذا ما أجج رجولتي أكثر.. و جعلني أمارس ديكتاتوريتي المهذبة عليها.. و لأنها هادئة كعروس على ضفة بحيرة ساحرة.. منهمكة كليا في مصارعة الأيام الصلفة القاهرة، و مجاراة الزمن الذي أقام عليها حجة الزواج بي، فلا وقت لديها لتتنفس الصعداء و تفكر فيما قد أكون صنعته.. حتى عندما أغيب عنها بالليل، فهي تلتزم الصمت شريعة لها، لأن الأيام لقنتها أن الحديث مع شخص مثلي.. عقيم في كل الحالات.. و خلود باتت هاجسا يتنامى في ذهنها، و مذ أعلنت أنها تريد زيارة " روما " لرؤية أجدادها، اختلط الخاثر بالزباد، و ازداد مقتها لي عندما رفضتُ قطعا أن أعطيها المال الكافي لإتمام إجراءات جواز السفر، الذي لم أكن أرى له ضرورة حتى ذلك الوقت.. على الأقل.

مازلت أذكر صائفة تلك السنة التي عرفت فيها ماريا.. قبل واحد و عشرين سنة.. عندما جاءت مع أهلها من روما إلى شاطئ " شينوة " فـي " تيبازة " الساحرة في زيارة سياحية.. و كنت أنا هنالك من أجل صفقة تجارية لبيع السردين..

عند أول موعد لنا.. حدثتني ماريا - و هي التي تتقن الفرنسية جيدا - عن أهلها.. وعن أختها " مونيكا ".. التي نذرت نفسها لخدمة المسيح في كنيسة " ماريا ماجوري " في روما ..و هي إحدى أكبر الكنائس في إيطاليا، و أنها تنحدر من أسرة عريقة، يصنع فيها الإلتزام الديني تقاليدها المقدسة من إقليم " لاتسيو " الذي لا أعرف عنه سوى أنه اسم لنادٍ كروي.. و أن جدها "بابـلو" خدم كنيسة " مار بطرس ".. التي هي أكبر كنيسة في العالم.. العمرَ كله.. كما أنها لم تجد حرجا في أن تفصح لي أن عائلتها مع خصوصيتها الدينية البحتة، تختلف بعض طقوسها عما تنتجه الكنائس العصرية من أحداث.. و أن الإخلاص و الوفاء رموز ثابتة.. ضاربة في تاريخ العائلة ضرب الجذور في غمرات التراب.. و العبادة منبع روحي لا يمكن العيش من دونه، و أن جدها كان دائما يقول : " إن الروح بحاجة دائمة إلى إنعاش، فإذا أردت أن تنعش روحك لتحييها، فامتثل أمام المسيح، و تعبد و لو مرة واحدة في اليوم".

على عكسي أنا .. فالله غير موجود بالمرة في حياتي .. و لا يعدو اسمه أن يكون زخرفة بالخط "الديواني" على أحد جدران منزلي.. و الإخلاص .. كلمة هاربة من قاموس الظرف العفن.. لاجئة دون أدنى شك... إلى العنوان الخطأ..! و الأذن عضو لا يشتغل إلا عندما تلامسه سماعة الجوال.. و لو أن المئذنة التي تجاور منزلي رفعت صوت الآذان لصلاةٍ مدفوعة الأجر ألف مرة في اليوم.. ما كنت لأستجيب للنداء.
و هكذا شاطئ النخيل .. يسلخك من كل مروءة .. و الله كغيره من المفاهيم.. نازل في بطائح النسيان.. موضوع - بكل عظمته - في لفافة من اللامبالاة، ملقى على طرف من العمر.. أتنكر لوجوده مثلما أتنكر للموت الذي نجوت منه أكثر من مرة في عرض البحر الهائج.. فلا أذكره إلا عند تلك اللحظة الغريبة التي ينتحر فيها الشبق على سرير امرأة.. ليولد شعور غامض بالندم الآني، و يسري في الدواخل صوتٌ واهن القوة باهت البحة ينادي من عميق أن : - يا عمر .. ما الذي تفعله ؟! .. قبل أن يتوارى في غيابة الروح و يستيقظ بعدها بقليل شغف جديد .. زاحفا من تحت أظافري، ليلتهم كالموج على شواطئي كل آدمية متبقية.. قبل أن ينسحب تاركا إياها خالية.. إلا ... من الحقيقة..!

و مع هذا ..فقد عشقتْ ماريا البلد .. و لم يكن هذا بالأمر العجيب .. فشاطئ واحد في بلدي يكفي بأن يُنـزل كل رهبان الدنيا من صوامعهم.. و تنهي نظرة واحدة على جمال هذا الساحل المذهل.. اعتكافهم الأبدي.
و هكذا.. تزوجتُ ماريا.. لأنسخ أيام عزها و مجدها بأيامي المتورمة و سنيني المخدوعة مذ أينعت بالغا.. و تبدأ معي أيام الشقاء التي أولها .. عدم اكتراثي بها بعد أن أيقنتُ أنها صارت لي.. و تتأكد هي مع مرور الأيام أنْ ليس بالضرورة يهب جمالُ التربةِ .. جمالَ الروح.

***

لم تكن صبيحة اليوم عادية .. بل إنه لا يمكنها أن تكون كذلك.. فأخيرا.. افتككت الموعد الذي نسجت له الجدائل منذ سنتين..
الموعد الذي لفقت من أجله كل الأكاذيب.. و مارست لأجله كل ألوان المكر و النفاق.
أخيرا.. ليلة صيفية هادئة مع فتاة داهية.. عصرت لفائف مخي لأستدرجها إلى حيث استدرجت ألف امرأة في ألف ليلة، حتى لكأن في رأسها دماغان تفكر بهما.. من حيث راوغتها وجدتها محترسة كأرنب.

لكن المال يشتري الذمم الرخيصة.. و شاطئ النخيل.. يعرض لك الجمال في سوق الظروف القاهرة التي تظطر صاحبة الجمال لأن تبيع يوما من أيامها مقابل ثمن تقبضه في ظلمة ليل حالكة.. و يعلمك في الوقت نفسه كيف تتمرس على المشي هامشا عندما تسكن الريحُ جيوبَك، و يتسلطنُ الفراغُ على أكفك، و كيف تتقن الصمت في حضرة الأسياد الذين يحترفون أبجدية أخرى.. حروفها من معادن النقود!

سنتان.. و " مروة ".. أميرة الجوال التي ترافقني في كل مكان أبحر فيه عندما اصطاد السمك، يسمعني هديلها في الدواخل وحوحةً موسيقية لافحة، و توقد في بطانة الذات فتائل الهوى، و تخصب في روحي الملتهبة كل رغبة تدق ناشدة عظم الصدر في دواخلي.. منتفضةً تبتغي الخروج.

رهان العمر ..لم أكن أنا لأتركه يمضي من دون أن أفعل شيئا..خصوصا عندما دلتني على باب منزلهم، لأجد الطائش هناك صدفة يدفع دراجته النارية ليدخلها إلى البيت.. قبل أن يرمقني بنظرة احتقار فاسدة.
عندما أفصحت لصديقي "مهدي" المبلغ الباهظ الذي طلبته مني مروة من أجل ليلة واحدة في "بيت المواعيد" المشهور، الذي لست أدري إلى يومنا، لماذا تتعمد السلطات غض طرفها عنه.. لم يكن ليستطيع تلبية طلبي و هو الثري الذي طالما ألفت منه يدفع كل الليالي التي قضيناها معا من ماله الخاص، ليجعلني في كل ليلة أقفز من عالم البؤس و الشقاء إلى عالم الترف و البذخ.. و يصنع مني الإستثناء الأوحد في ذلك المكان.. فقررت أن أبيع " ربـاب " لأدفع ثمن " مروة "، ثم أدعي أن حادثا أصابه، حتى لا تكثر أمي حوله الضجيج و اللغط ، و تؤنبني لأنني أهملت الميراث الوحيد لأبي.

ميراث زهيد.. لم أكن لأقدّر قيمته أكثر مما هو عليه، و قد وزنته في ميزان الهوى.. و مروة أمست تلح علي باللقاء عند كل مكالمة.. لأنسف كل ثمين، و أتجاوز غير آبه كل غصة تجترح الحلق.. و أمضي إلى لذة استعبدتني حتى نسيت أجفاني من أجلها كيف تلتقي.

عندما هممت في تلك الصبيحة بالخروج من منزلي.. وضعت ورقة مائتي دينار كما ألفت فعل ذلك.. تحت وسادة خلود التي كانت تغط في نومها الصيفي الدائم و على رأسها المنديل الإنجليزي الأزرق الذي تشد به دائما شعرها الأشقر الجميل، و أخبرت ماريا أن لا تنتظرني في المساء لأنني لن أدخل البيت لأمر يتعلق بصفقات الصيد كما كنت دائما أكذب عليها.. لتهز رأسها بحركة خفيفة ينطق منها الرضا المقبور.. مثلما تنطق منها الدراية بأكذوبتي.

عندما توغل في الشقاء .. تمنحك المحن القدرة على استقراء العيون.. و يهبك الزمن استنطاق الشيفرات المدسوسة في الملامح التي لا تملك الجرأة على أن تتفصح.. أو تلك التي تتهرب دائما خوفا من إدانة نفسها.. لكنه قد يهبك أيضا صمت المستنقعات الراكدة.. و يجعلك - إن كنت طيبا بالفطرة - .. تحفر لنفسك قبرا في كل مرة يعقد لك فيها موعدا مع أحدهم.. و هكذا.. كانت ماريا تموت كل ليلة في صمت.. عندما كنت أغيب عن البيت.

و أنا أقفل الباب .. سمعت " خلود " تصرخ في وجه ماريا و قد أيقظها حديثنا قبل لحظات.. قائلة لها:
- هذه المائتي دينار .. فليضعها أبي في كأس خمرة و ليشربها مع نقوده النجسة الفاسدة.. لا أطال الله عمره.. صديقتي "نجوى" تزور باريس كل سنة، وذهبت إلى أمستردام ثلاث مرات، و أنا جدي في روما و لم أره منذ ولدت ؟!!

كنت أعلم حجم نقم خلود عليّ.. و حسرة ماريا التي فاقت كل الحدود.. فكانت تجعل شجّتها تبرأ في كل مرة على وَكس (*) ..!

لكنها قوانين العالم الذي ارتضيته لنفسي.. و الذي لم يكن يقبل غير الذاتية أميرة على عرشه.. و قبل أن تهمس الكبد التي في جوفي بهمسات حنان تجاه خلود فأرضي رغبتها.. هناك ألف "شبق" مجمد في ثلاجة ذهني، ينتظر أن أنتزعه بقوة، لأشفي غليلي اليومي من أحلام أولها هنا.. و آخرها عند الخط الذي يتعانق فيه الأزرقان.
لذا .. كانت هموم البيت.. آخر همومي.

عندما احتجبت الشمس خلف البحر الكبير، حملت جوالي و اتصلت بـ " مروة " لأتأكد من ساعة الموعد، ثم اتصلت مباشرة بعدها بصديقي " مهدي " حتى يقلني بسيارته إلى " بيت المواعيد " المخفي مباشرة خلف أحد الفنادق..

رتبت كل شيء على حسب الخطة المتفق عليها، و كنت في الصبيحة قد قبضت ثمن " رباب " من أحد الشباب الفارين بجلودهم من البلد، و الذي ما إن وضعت نقوده في جيبي، حتى دفع برباب إلى عرض البحر، و ركب هو و أربعة من أصدقائه على ظهره و معهم أمتعة غريبة، و قال لي بوجه يتضرج بالأسى: - أدع لي الله يا عمر.. إن قدّر " المكتوب ".. أن نصل إلى ضفاف إسبانيا بهذا الزورق، فسأذكرك طول حياتي هناك..
قلت : - و لكن هذا الزورق للصيد، و لا يمكنه الصمود كل تلك المسافة، أنتم..لم تجازفون بحياتكم هكذا ؟
ابتسم الفتى و قال بثقة ساخرا : - قد مضى غيرنا إلى ضفاف أوربا على ألواح من خشب بالٍ.. و الآن فات الوقت على هذا الحديث يا عمر.. حاول أن لا يكون ابنك طالبا في الجامعة، حتى لا يجد نفسه يوما على ظهر قشة في ماء.. مثلنا.

كم تعيس أن تنظر إلى وجوه الموتى.. و هم بعد لم يدفنوا.. و كم تعيس أن يحدثك من يتغشاه الموت كمدا قبل أن يتغشاه حقيقة.. !
يحدث للواقع عندما يكون فيه الحرمان سيدا.. أن يقلب الطبيعة على رأسها .. فيصنع في الأذهان التي استبد بها، قواميسَ من عجل .. يكون فيها الحلم بذرةً تنمو في حياد من مكابرة و عناد.. بمعزل تام عن معنى الموت.

عندما دخلت إلى " بيت المواعيد " .. كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر مساء، و قد تبقى على الموعد ساعة بالضبط..
ساعة كنت أستحضر فيها اللذة قبل أن تتفتق من أوصالي، و أستثـير فيها جسدي بكل ألوان الإثارات.. أنبه رأسي بجرعات خفيفة من " الويسكـي" البارد، و أنتظر عفراء الليل أن تطلّ من خلف الباب..
ساعة سكن السحر ثوانيها.. و ألبست الرعشة دقائقها معنى التسلي في حضن الهوى، و زاد الإنتظار على سكرة الرأس.. نشوةَ الفرح التي تجتذب الرضيع بقوة عندما يهتز صدر أمه معلنا قدوم الحليب.
ساعة سلّمت فيها نفسي للقدر.. الذي خِلـتُني في لحظة أنني صنعته..
لكنها لم تكن بالساعة التي اكتمل نصابها من الإنتظار .. عندما انقطع عني فجأة أثير التفكير و شدني إليه دق خفيف جاء كالهمس من بعيد.. و صوت صاحب البيت من خلف الباب قائلا : - عمر .. وصلت أمانتك..
و فتحت الفجيعة باب الغرفة، و قد سبقها في الولوج كل شماتة و خزي.. لتقف في صمت مميت على عتبة السرير، و على رأسها منديل إنجليزي أزرق .. يشد شعرها الأشقر الجميل.


- زهير يونس -

***

(*) : الوَكْــس : المِدَّة و القيح في الجرح، يقال : برأت الشجة على وكس، أي أنتج الجرح قشرا كأنه برأ، و لكن من تحته ما يزال القيح و المدة، من الأمثال العربية الفصيحة.

.
.

سعد المغري
10-07-2009, 08:32 AM
.


زهير يونس..
هذه اللمسات الـ شاعرية
والعنوان اللاذع , شدني أكثر للإستمتاع في الـ قراءة.
واعجبني جداً دقتك في زرع الـ تفاصيل .
يازهير هذه الـ قصة لاتحتاج لـ شكر فقط
بل لـ دراسة من الـ شكر والثناء عليها.
تحية لك مع الــ ورد والتمني بـ العودة .

سـ/ـماء غازي
10-07-2009, 11:59 PM
أهديتني قراءةً لم أكن أحلم بها ليومي هذا ..
شكراً يا زهير / عليك .

فرحَة النجدي
10-08-2009, 04:01 AM
يـ الله .!
المنديل الإنجليزي الأزرق .!!!




جداً ممتعة و رائعة بكل ما حوته من غصات و تفاصيل أُخر بين السطور ،
و لغة النص بحد ذاتها صيغت بجمال منقطع النظير .!

رائع يا زهير ،
شكرا تمتد بلا حد ..

عائشه المعمري
10-12-2009, 10:57 AM
وحدها خلود .. كانت الـ [ صَدمه ]



أستاذي القدير : زهير يونس ..

أنت مُحترف قصصي ولا جدال في ذلك ..

مشعل الحربي
10-12-2009, 02:28 PM
.
.

القديـر .. زهيـر ؛

هناك براعة في التصوير ، وفي التنقل السلس ، كما أن المفردة أتت مواكبة للمعاني المبثوثة بشعور عميق ..


أنت بارع ..
لذا مزيداً من الهطول .

زهير يونس
10-13-2009, 01:37 AM
.

زهير يونس..
هذه اللمسات الـ شاعرية
والعنوان اللاذع , شدني أكثر للإستمتاع في الـ قراءة.
واعجبني جداً دقتك في زرع الـ تفاصيل .
يازهير هذه الـ قصة لاتحتاج لـ شكر فقط
بل لـ دراسة من الـ شكر والثناء عليها.
تحية لك مع الــ ورد والتمني بـ العودة .

***

الحبيب .. الحبيب .. سعد المغري

كل الرضا و الفخر لوجودك هنا أيها الفاضل الكريم.

الشكر موصول دائما لكم على حضوركم المتألق و إشراقاتكم البهية على النصوص بآراءكم.

***

لك فيض التقدير و الكثير الكثير من الإحترام



زهير يونس

.
.

زهير يونس
10-15-2009, 10:23 PM
أهديتني قراءةً لم أكن أحلم بها ليومي هذا ..
شكراً يا زهير / عليك .

***

سـ/ـماء

هذا و ربي .. غاية المنـى

الشكر موصول لك .. على كرم الحضور الجميل

تقديري

زهير يونس

.
.