المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ظِل كافافيس ..


سحر الناجي
05-10-2010, 12:16 PM
http://www7.0zz0.com/2010/05/09/16/772813699.jpg (http://www.0zz0.com)


قصة قصيرة

* ظل كافافيس
قلبه الذي يكتظ بالحزن .. كان يمتشق خفقة جامحة ويلقيها زفرات على هامة الضجر .. قلبه المنصاع دومآ للألم .. وهذا الهاجس بالإنكسار .. والشتات , قلبه والوجع .. هاهو يغوص بين حناياه ويستكين .. يتغلغل في تجاويف صدره حتى الإختناق , فإذا ما صفق الألم في أعماقه , أخذ يدندن بأنشودة قديمة عن البحر وعواصف الزمان ..
كان " أحمد " يعد لنفسه شطيرة وكوب من العصير حين داهمته الذكرى .. كان يمني نفسه بقضاء أمسية خالية من صخب الجنون حين باغته الماضي في وقوفه وبدون مقدمات فارتعشت أنامله وسابق لهفته في المغادرة حيث ترك شهيته ملقاة على جدران المكان وخرج ..
بدون تخطيط استلقى على أريكته وراح في شرود عميق .. أخذ يئن ويتنهد .. كاد أن يستجيب للكزة من النحيب .. لكنه لملم ترنحاته .. وبقايا صموده , ثم نكس طرفآ على الأرض كان يبعثر من خلاله شموخآ لا يسقط إلا بالهزيمة ..
من حنجرته تهطل الأنفاس تباعآ .. تنهدات .. ثم زفرة ألم .. وشهقات .. شهقات متشظية بحفنة من الآهات , آهات باكية .. ناعية .. عمر مضى واهترأ .. عمر اخضر ذات جموح بأمنيات عذبة .. ثم ذوى وشحب بين أطلال الزمان .. عمره بات مجرد كائن لا يرى ويحتضر فوق مساحات الندم ..
في الجهة الأمامية من حجرته , كان ثمة لوحة ضخمة تتصدر الجدار لكواكب ونجوم .. ومخلوقات فلكية تنزلق على واجهة الصورة بتراصف فوضوي لأجرام أندروميدا .. وأسفل منها تلوح مكتبة مهترئة بجانب الجدار الرخامي .. وعلى رفوفها المنحنية كانت تتناثر الكتب والمجلدات , بينما تبعثر فوق الرف العلوي كثيرآ من الملفات العتيقة والمذكرات البالية التي تروي حكاية اغتيال الأمل في أوج تألقه ..تسرد المعاناة الرمادية التي تجمرت في عروقه , في حين توارى الرف السفلي تحت أكوام من المجلات التاريخية والكتب المترجمة ..
فجأة اقترب من المكتبة ووقف قبالتها ساهمآ .. تأملها مليآ .. فالملل يشبعه برغبة عنيدة كي يستفئ بروابي الإبداع , امتدت يده بآلية شديدة تتخير عنوانآ ساطعآ , فتلقفت أصابعه كتيبآ كان منحشرآ بين الكتب العملاقة , كتيب أزال عنه الغبار ونفخ في غلافه الأصفر , وعاد به الى مجلسه حيث أريكته تتهاوى تمزقآ وبلى بجوار النافذة المشرعة , وهناك لطمته نسمة باردة من أنفاس الليل .. فأشعلت في روحه قناديل الهم .. وأججت بوادر يقظة لامتعاض يجهد لتحاشيه ..حدث هذا بينما كان يطالع البدر الذي توارى وراء قطيع من السحب المارة على سماء المدينة .. فراح يقلب الكتاب بين يديه بعد أن استلقى باسترخاء ..الى أن استقرت أحداقه على القصيدة الأولى منه ..
كافافيس الرمز لرزايا قد عفا عنها الزمن .. شاعر يصوب نحو مدائن الإبداع باقة ضوء .. هاهو يطل من أبياته مكتنزآ بأحلامه .. أمنيات تضج بحبو القوافي .. كان أحمد في العشرين من عمره ويرفو قصائد هشة هتكتها مخالب الفشل ..ينقش النزوات المثقلة بمراهقته الفتية .. المنثورة بطلاسم لا تنجلي إلا بأحلام تضاهي الوهم ..
والصبا بإشراقاته وهفواته كان يحلق به حول الحلم الخالد في مروج الزمان .. يتوقف هنيهة عن القراءة ويتذكر .. يستجلب وجوه رفاقه وتعليقاتهم الحارقة والمنصبة على حواسه .. لسان أحدهم يلوك بقسوة كل مطره الذي لون به فجر الإبداع .. قال له ضاحكآ :
- " أتعتزلنا من أجل أن تختبئ في قصائدك ..؟"
أجابه وقتذاك وهو يرمق أحرف قصيدته : " إنكم لا تفقهون شيئآ " ..
وذات مساء ساخن زجره أبوه غاضبآ : " كن رجلآ .. ودع عنك هذه التفاهات "
استهواه العناد .. فتمادى في إشعال الحروف , واختار ليلة زفافه لتكون ملعبه الذي يمارس فيه نصره .. الملهمة عروسه .. وهو الشاعر , اقترب منها حيث كانت تتنفس خجلآ ,, ليلتها أطلق كل قوافيه الغزلية بصوت حالم .. ينظر إلى محياها ولا يرى سوى معاني وامتعاض .. كانت الفتاة تبكي في مقعدها وتسأله بحياء : " لماذا تفعل معي ذلك .. لماذا الآن ..؟ "
صرخ لا يصدق ما يسمعه : " أفعل ماذا ؟ "
" كلام غريب .. ووقت أغرب لقوله "
أجابته ملهمته ببرود .. فهتف يضيق ذرعآ بالدنيا :
" أيتها الحمقاء .. هذا شعر .. أنا أحدثك بصوت العشق ألا تستمعين ! "
رمته بنظرة حانقة .. ودخلت حجرة أخرى وهي تتمتتم :
" شعر بلا معنى ولم أفقه منه شئ .. هل هذا وقته ..!"
كافافيس وأمواج التاريخ الهادرة حيث تلطم للتو خموله .. نزفه المندلق من كفي الأسطورة ..والشجن .. شجن يغويه بلمس الجراح , كافافيس وحده من يحيله إلى ركام من العناد المتمخض بالعجب .. طيف يلمحه على واجهة الورق .. وأهدابه التي تتهجى تفاصيل الحكاية , تحثه على التغلغل في الصفحات بشغف أرعن . فيتوقف به العنوان عند الصفحة العاشرة .. عند مرحلة تتلبسه .. تأخذه أسرارها إلى غياهب الألم .. ذاك المنفجر في انصهار الليل ..
" رجل عجوز مع جريدة ..
يجلس متكومآ على طاولة هناك ..
إنه يفكر قانطآ بمخاوف العمر
هو يفهم أنه عجوز .. إنه يفهم
لكن زمن الفتوة مايزال يتقد ".. * (1)
ما بقلبك غير عيون ترمق النهاية .. ما تملك سوى بقايا فأل , سنوات تجاوزتك على طرقات الوهن .. والوهم .. والوجل , كان الموت يحصد ذات صيف أرواحآ متوالدة منك .. هكذا جاءتك البداية .. أنت تغفو في فراشك منتفخآ بالقصائد والكرى , محتضنآ حلم يجعلك شاعر .. بينما عائلتك تقضي على الطريق .. أتاك الخبر بالنذير .. وبأجساد مدفونة بالنعوش , أشلاء زوجتك وأولادك .. فإذا بالصحو يتفجر بين عينيك .. وإذا بالكارثة تصفعك بالصراخ والعويل .. أيام مرت تليها أيام .. وأعوام , أوقات كالهجير .. وروحك التي توشحت بالذعر .. الملثمة بالسواد .. راحت توغل بك إلى شواطئ الهروب .. إلى مناخات وتضاريس بعيدة .. إلى "نيوجرسي" .. تلك المدينة الملغمة بالكآبة ..تلك التي أضاعت ملامحك .. وابتلعت أرتال من عمرك , ولكنك انطلقت تجمع ماتبقى من روحك وتعود .. بعد أن لفظتك تلك الشقية المتمردة .. بعد أن رفضتك .. تعود مهزومآ .. حسيرآ .. كسيرأ
" قلت سأذهب إلى بقعة أخرى
فوق بحر آخر ..
ستتراءى لي مدينة أروع من هذه
هنا اللعنة تلاحقني ..
شاهد من شواهد القبور يخيم على قلبي
في كل مكان .. أينما نظرت ..
لا أرى من دنياي سوى سوادها
هنا أقمت .. وكل شئ محطم ..
كل شئ مقرف " .. * (2)
ظل كافافيس يتنامى في ليلك ..يتشرذم .. ويتحول إلى حزمة من الظلال الوهاجة .. ظل ينهمر بظل .. فيمطر الفراغ حولك غيوث من الأطياف الغريبة , كافافيس كان يرحل إلى إنجلترا .. نازحآ باليتم وهواجس الموت , الموت الذي رحل بأبيه الى البرزخ , كان يصحبه الى مدينة مغايرة .. طرقات عشقها حتى الثمالة .. أجواء تشرب أنسامها .. تلك كانت " الإسكندرية " , لكن " نيوجرسي " كانت أشد ضراوة , نيوجرسي بدروبها الملتوية , وغاباتها الكثيفة .. حتى بهيكلها المتوارى خجلآ بجانب العملاق " نيويورك " ,, كانت أزقة تلتهم قواك وتمتص حيويتك , كانت تصدح بصخب ليل قد سرق طموحك .. كانت تفلسك من تفاصيلك .. وثراؤك الى أن ألقتك شريدآ على نواصي الأرض , هاهو كافافيس يعود الى الإسكندرية , وتبارح أنت نيوجرسي إلى الرياض .. هاهو يخط بسيرته تجربتك .. ودقائق همك , كافافيس كان مثلك يشق دربه فوق الرمال البيضاء .. والسواحل .. والقبور , كان على شاكلتك يغويه هدير العصيان , فيخترق الأحياء النائمة متسكعآ بين الحانات وشوارع الليل التي تفوح منها روائح الفرنج والغرباء . أولئك الذين حملوا أوطانهم في جيوبهم وراحوا ينعقون بالفساد على المسارح .. وأندية المدينة الغافية تحت وطأة الهذيان ..
" سأضيع في هذه الشوارع ..
سأشيخ في هذه الأحياء
وتحت السقوف سيشيب شعري
ستنتهي خطاي ".. * (3)
حين تراخى على أريكته متهاديآ إلى الوراء , كانت الساعة تشير إلى الثالثة فجرآ , أخذ يستمع إلى تكات الساعة وكأنها آتية من بعد آخر .. القصائد فقط ما تغري وعيه في رحيل الوقت , الآن كل الأحداث تتوقف عند "بومبي " , قربان الاسكندرية الأعظم , بومبي كان ينساب بالفزع بين قوافي " ثيودوتوس"*(4) .. بومبي ورأسه المقطوع على المذبح .. يسكب دماء القتيل على وجه الأسطورة , حكاية دسها كافافيس في قصائده , حيث يغادر التمثال قاعدته متسربلآ بالثأر كل مساء ..يغادرها ليجوب السبل ويداهم المنازل كرمز للرعب الذي يسفك الدماء ويقضي على الأرواح , ليعود في إنبلاج الصباح إلى مكانه كتمثال برئ من هول الجرائم , بومبي ..والهلع ..وأشباح لقيصرون وكليوباترا .. وأقنعة , أقنعة هائمة في الخواء ولا زالت تخدش رأس الزمان .. زمان غابر تناثرت نهاياته في إنهيار بيزنطة وروما .. وفي بداية عهد جديد ..
الصبح أخذ يتنفس في المدى وهو لا يزال ماكثآ على جلسته , ثمة حافز يشده الى النهاية , نهاية كل الخرافات , ورغم ولادات التعب .. والإرهاق .. ومع هبوط النعاس الذي بدأ يغزو جسده رويدآ رويدآ , إلا أن ظل كافافيس بقي مهيمنآ على إدراكه , كان يقلب صفحة الكتاب الأخيرة , ويقرأ بعينين قد خضبهما الذبول , عندما فقد قدرته على التركيز , كل ما كان يعيه أحمد قبل أن يستسلم لهمسات الكرى .. أن ظل كافافيس كان يتجول في إنتباهته ولا يتركه أبدآ ,,

بقلم : سحر الناجي

**هوامش
* (!) مقاطع من قصيدة " رجل عوز " للشاعر قسطنطين كافافيس
*(2) قصيدة من ديوان " وداعآ للإسكندرية التي تفقدها " لنفس الشاعر
*(3) من قصيدة " المدينة " لكافافيس
*(4) " ثيودوتوس " إحدى قصائد كافافيس الشهيرة

تحياتي ******