المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الغروب .. قصة لفيصل الزوايدي


فيصل الزوايدي
05-13-2010, 04:34 PM
الغـــروب ..

أَنا مَن هَدَّه الشوق إليَّ ، و أَخذه الـهمُّ بعيدًا بعيدًا عَني .. و أَلزمَني زمَني ما لا أُطيق ..
فلَيْتَ أَنسى .. وكيفَ أنسى وذا فحيحُ ذِكرى أَطلَقت سـمومَها فـي دِمائي فَلا تـجدي مَعَها الأمصالُ و إِنْ جَرَّبتها ..و ذا هُم أَحِبَّةٌ صَدَقوا ولَكِن رَحَلوا ، بِالـمَوتِ اعتَذَروا ، و ما تُـجدي ، عِنْدَ الرحيلِ ، الـمعاذيرُ..أُفيقُ و تُفيقُ مَعي الذكرى موجِعَةً كالقَهرِ أَو كَالـمَوتِ نَفسِهِ ، أَحسِرُ عَنـي لِـحافًا بَسيطًا كانَ ليُطرُدَ البردَ و الـخوفَ عنّي .. أسيرُ نَـحوَ الـمِرآةِ فلا أرى إلا وَجهَهُ بِفَيْضِ ابتِسامَتِهِ الغامِرَةِ و الشيبِ الذي جَلَّلَهُ وَقارًا .. كانت الشعراتُ البيضاءُ بَيارِقَ الرحيلِ يَومَ اِلتَمَعَت فـي رأسِهِ تُؤذِنُ بِوَداعٍ مَـحتومٍ .. أجابَنا لا أَدري جادًّا أَمْ عابِثًا يَوْمَ سَأَلْناهُ عَن ذَلِكَ اللونِ الـجديدِ : هِيَ الشمسُ لا تَـمَلُّ شُروقًا و غُروبًا .. كَم أَشرَقَت و كَم غَرُبَت .. أَنْتَزِعُني مِن أَمامِ الـمِرآةِ فَقَد وَمَضَ بَريقٌ فـي عَينيَّ .. أَسيرُ وَجِلا إلـى الـمغسَلِ فأَغسِلُ وَجهي عَجٍلا ، مُتَجَنِّبًا النظَرَ إلى الـمِرآةِ الـمُواجِهَةِ خِشيَةَ أَنْ أَجِدَهُ قبالتي لَكِن يَدي تَـجَمَّدَت على مِقبَضِ الـحَنَفِيَّةِ ، فَقَد كانَت يَدُهُ الـمَعروقَةُ هِيَ التي تُـحكِمُ إِغلاقَ الـمِقبَضَ بِـحِرصِهِ الشديدِ على الـماءِ ، أَقتَلِعُني بِعُنفٍ و أَتَـحَرَّكُ مُتَعَثِّرًا أو مُتَبَعثِرًا.. أُغادِرُ الـمَكانَ و أُسرِعُ إلى غُرفَتـي و لَكن يَبدو أَنَّني قَد تُـهتُ إِذْ وَجدتُني فِي غُرفَتِهِ هُوَ .. كانَت رائِحته الـمُمَيَّزَةُ ما تَزالُ عَطِرَةً في الـمَكانِ .. هذا مَضجَعُهُ و تِلكَ ثِيابُهُ وذاكَ مَكتَبُهُ .. ما زالَ دفتَرُهُ مَفتوحًا على الطاولةِ ،كما تركَهُ في تلك الليلةِ فَقَد كانَ يُسَجِّلُ كل يوم أحداثَ يَومِهِ.. ترددت في مسامعي شَكواه الدَّائمَةَ مِن الزمَنِ .. ما لـي مِنْ عَدُوٍّ غيره .. قالَ هذا لـي يومًا وقد كان يُرَدِّدُهُ دَوْمًا .. أَقرَأُ فـي الصفحةِ الـمفتوحةِ أَمامي :" إِنَّـما تقتُلُنا الـحَسرَةُ .. وما جَدوى أَنْ تُسجِّلَ هزيـمَتَكَ ؟" لا أَجرُؤُ على قولِ أي كلامٍ .. تَـمامًا مِثلَ ذلكَ اليومِ .. إِذَا يَهوي الأحبَّةُ إلى الترابِ فَما كَلامٌ يُسلّيني .. أُحاوِلُ الهربَ مِنَ الـحسرَةِ خِشيَةَ أَنْ يَـمضي الوقتُ ، لا أَبـحَثُ عَن ساعَةٍ و لا أحاولُ البَحثَ عَنها فانأ اعلم أنني لن أجد واحدة .. قَد كانَ يَكرَهُ الساعاتِ بُغضًا ، يَكرَهُ حَرَكَتها لا تَتَوَقَّفُ ولا تستَريحُ و لا تَعودُ مَرَّةً .. يَكرَهُ اِستِنـزافَها الـمريرَ لِلعُمرِ .. تَزيدُ لِيَنقُصَ ، هَكذا تَقولُ الأحجِيَةُ .. هل اِعتَقَدْتَ يَومًا أَنْ تَكونَ حَياتُكَ أُحجِيَةً ساذجَةً يَرويها الصبيانُ بِتَفَاخُرٍ ؟؟؟
أُحاوِلُ الفكاكَ مِن هذه الـمتاهةِ فَأُغادِرُ الـمكانَ نَـحوَ آخر .. إِذَا كانَ الزمانُ يَأْبـى الثبات فالأماكِنُ تَأبـى الـحَرَكَةَ .. أَسيرُ نَـحوَ غرفةِ نَومي مـرةً أخرى و أَنا أَتَوقَّعُ أَن أَجِدَها فـي مَكانِـها ، لا أَدري كَيفَ وَجدتُ نفسي في غُرفَةِ الـجلوسِ أُجيلُ البَصَرَ في أَشيائِها الـمُبَعثَرَةِ كأَحاسيسي ،الـمُشوَّشَةِ كَأََفكاري .. على صَدرِ الـحائطِ لَوحةٌ كبيرةٌ مَارَسَ الزمنُ نزواتِهِ العجيبةَ على إِطارِها الـمُذَهَّبِ فَأَحالَهُ باهِتًا .. كانتِ اللوحةُ صورةَ الفَقيدِ .. الـجاذبيةُ عنيفةٌ اِقتادَتْنـي إلـى تَأَمُّلِها بِشَغَفٍ كأنـي لا أَعرِفُ صاحبَها ..
أَقِفُ أمامَ صورَتِهِ و لَكِنّـي أَنظُرُ إليه بِإِشفاقٍ وَ حَسرَةٍ كَأَنـي أَعرِفُهُ .. أَتَأَمَّلُ عَيْنَيْهِ العَميقَتَيْنِ بِتِلكَ النظرَةِ الغائِمَةِ ... أَنظُر في الصورَةِ طَويلا و أَرحَلُ بَعيدًا بَعيدًا عَنّـي، إذ أَنسى العالـمَ مِن حَولـي و أَنسى كثيرًا مـما ظَنَنْتُ أَنـي لا أَنساه ..و لكننـي أعودُ بَغتَةً لأُفيقَ فَإذا بـالصورةِ لَـم تَكُن إلا صورَتـي أَنـا ..

سحر الناجي
05-27-2010, 03:24 PM
فيصل الزوايدي
إنحناءة لدهشتي تتكور على جوهر نسج خطوط السلاسة .. حتى ينفلت منها إلى سفح الإمعان ..
سرد جعل للموت والنفس وجهان لصورة لا يجيدها إلا مداد مسرف بالاحتراف
وشيخوخة الألم .. تسربت من تفاصيل الزمن لتكون بوابة للروح
قرأت هنا كثيرا .. بقيت ولم أرغب في الرحيل
لكن لابد من أدعك تخلو بحكاية تختلس إليها الذكرى على مرأى منا ومسمع
سلم قلمك متوهجا

فرحَة النجدي
05-27-2010, 10:23 PM
تذهلنا الحياة عن أنفسنا حتى إذا ما إنكفأنا على أنفسنا ذات موتٍ / يأس ،
نكتشف كم أن الحياة سرقت من عمرنا / نضارتنا / حيويتنا الكثير مما لا يمكن تداركه !



فيصل ،
جميلة كـ زهر الربيعِ هي لغتك ..
شكراً لك كثيراً

:icon20:

فيصل الزوايدي
02-04-2012, 03:25 PM
فيصل الزوايدي
إنحناءة لدهشتي تتكور على جوهر نسج خطوط السلاسة .. حتى ينفلت منها إلى سفح الإمعان ..
سرد جعل للموت والنفس وجهان لصورة لا يجيدها إلا مداد مسرف بالاحتراف
وشيخوخة الألم .. تسربت من تفاصيل الزمن لتكون بوابة للروح
قرأت هنا كثيرا .. بقيت ولم أرغب في الرحيل
لكن لابد من أدعك تخلو بحكاية تختلس إليها الذكرى على مرأى منا ومسمع
سلم قلمك متوهجا

يسعدني رأيك كثيرا اخت سحر و اعتز بها و انا ممتن لهذا التفاعل الراقي ..
دمت في الخير

فيصل الزوايدي
02-04-2012, 03:26 PM
تذهلنا الحياة عن أنفسنا حتى إذا ما إنكفأنا على أنفسنا ذات موتٍ / يأس ،
نكتشف كم أن الحياة سرقت من عمرنا / نضارتنا / حيويتنا الكثير مما لا يمكن تداركه !



فيصل ،
جميلة كـ زهر الربيعِ هي لغتك ..
شكراً لك كثيراً

:icon20:

أعتز برأيك في القصة كثيرا اختي الكريمة و قد اسعدني اهتمامك و تفاعلك
دمت في الخير

عبدالناصر السديري
02-06-2012, 10:26 PM
فيصل الزويدي
سنظل نلتفت الى الماضي وأقدامنا حسره تسير بنا الى شيخوختنا
لا شي يدل على طفولتنا سوى أساطيرنا التي لا نبرحها أبدا

ولكل منا أساطيره التي تسكنه

دمت جميلا

عبدالإله المالك
02-10-2012, 03:52 AM
هذا أنت يا فيصل
تعرفنا عليك من خلال هذا الغروب الممتد من رحم الأنا ..؟!
لغة راقية ونظيفة وشفيفة
أحييك

إيمان محمد ديب طهماز
02-10-2012, 11:27 AM
أخي الفيصل :

أن تحاورك أفكارك على هذا النحو الجميل
هي قدرة تكمن في عظمة نفسك وجمال اطلالتها على الحياة من شرفات الفلسفة

حقيقة هي هذه الصور التي صورتها لك ذاتك
وكانت صلة الوصل بين الحياة والموت هي لغة اخترتها بإتقان الصور

نص رائع ولغة جميلة
تقديري