المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : [ هَـاتـفٌ ولعْنتَـــان ]


عائشه المعمري
07-14-2010, 04:23 PM
- " هذا المَساء مثخنٌ للغاية ، لم أعد أحتملُ تَمددَ البَرد كـظل، وأَنكمشُ لسببٍ تافهٍ كفراقه، ياه ، لم تَعدْ سِيجارةٌ وَاحدة كافية لاستحضارِ الدفء
كعادتي القديمة "

وَضعتْ القلمَ ، ونَهضْت مِن سَريرها الذي لَم يَحتمل جُلوسَها المُثقل بالذنوبِ عَليه، فَوحده الذي أنصتَ لكلِ خِيانَاتِهَا المُتكررة، وتَشَرب بين أسفنجهِ
المُهتَرئ في ساعاتٍ مُتَأخرةٍ من الليل كُلَ أَحَادِيثِها الرَخيصة فِي الهَاتف، مع أشخاصٍ مُختلفي الأَفكَار والرُتبِ والمكانة الاجتماعية، ولكنهم يَتشابهون
حَتماً في هدفِ اتصالهِم بها .
... سَريعاً مَا تُطفئْ سِيجارتِها لتَتَخلصَ مِنها فَور سَماعِها صوتَ جَرسِ المنزل، تَرميها في المِرحاض، وتُلقي عَليها لعنتين قبلَ أَن تَبتَلعها المِياه، تَهرعُ
لإشعالِ فحمةٍ صِناعيةٍ تَضعها في المبخرِ الذي أَهداها زوجُها المُتوفَى حِينما عَادَ من صلالة قبل بضعةِ أعوام، وتضعُ اللبانَ فيه، ثم تَفتحُ النَافذةَ لتطردَ
مَا تَبقى مِن رَائحة السَجائِرِ، بِهذه الطَريقةُ تَضمنُ عَدمَ معرفةِ أَي كَائِن بشري بَأمرِ التدخين إلا طِفْلَها الذي لا يَفقهُ مِن تمازجِ هَذا الدُخَان شَيءٌ،
سوى أَنه هُو السَبب الرَئِيسِي لاخْتِنَاقِه.

تتجه بتثاقلٍ نَحو البَاب، تُحدق فِي ثَقبه، تَرى وجهَ صَديقتِها العَابسِ يظهر بهيئةٍ أَكثر تبرماً هَذه المرة، تَتذكرُ أَنها قَد اقْتَرضَت مِنها مَبلغاً كَبيراً قَبل
أسبوعٍ، فَمن المُؤكدِ أَنها قادمةٌ لاسترجاعِه، كَعادتها لا تَنْتَظِر طَويلاً بِما أَنَ الأمرَ يَتعلقُ بالمال، ولكن "حميدة" لا تَملك إلى الآن سِوى وُعودِ مُحْدِثيها
الليلين بالمالِ ولم يصلْهَا شيئاً بَعد.

تَعودُ إلى غُرفتها مُخْتنقةً وحَانقةً من رَثاثةٍ حَالها وقَذَارتِه، "هَكذا الضَمير فِي دَواخلنِا، دَائماً مَا يَكون خَارج التَغطية، وعند شعورنا بالضعفِ، نَظنُ
أَننَا مَظلومون في هذه الحياة، فنُعمِلُ الضَمائرَ لِصالحنَا وكَأننا مَغفورٌ لَنا مَهمَا أَذنَبنَا". حَميدة لا تُطيلُ التَفكير في إيجادِ الحلول، لأنها لا تفكر في مَدى
صواب الحَلِ ونتيجته مستقبلاً، مَا يَهم أَن يَكونَ حَلاً يعود بنَتائجٍ سريعة ومثمرة فِي الوَقت نَفسه.

لا زَال جَرسُ البيتِ يَرنُ، وفِي نَوبةِ الصَخَب هَذه ، تَتَصلُ عَلى صَاحبِ أَغنَى رَقم مِن مَجْمُوعَة "مزبلة" فِي هَاتفها، تَتَهيأُ لمُحَادَثتِه كَسَافرةٍ، وتَرمي
بِنفسِها عَلى السَرير، وبعد أَن يَرد عليها، لا تَبتدئُ المُكالمةَ بِتَحَايَانَا التي اعْتَدنَا عَليها أَو أَي كَلمةٍ أُخرى، بَل تُطْلقُ أَولَ تَأوهَاتِهَا بِطَريقَتِهَا المُعتَادة فِي
الحَديثِ مَع أَرقامِ المَجموعة ذَاتها، لَكنَ الصَوت الذي جَاءَها مِن بَعيد لَم يكُن صَوت أَبو سُليمان صاحبَ الفُندق، ولا صَوت نعيمة المُسترجِلة التِي
تَعرفْت عَليها فِي النَادي الصِحي قَبل شَهر أو أكثر، ولم يكن صَوتَ مَاجد المُراهق الذي سَرقَت رَقمَه مِن إحدى المواقع الإلكترونية حِينما أغْرَتها
صُورته الجَذابة، لم يَكن صَوتَ أَي واحدٍ آخر مِن المَجموعة تِلك على اعتِبار أَنْهَا اختَارت رَقماً أخراً غَير رَقمِ أَبو سُليمان بِالخَطَأ، كَان الصَوتُ مألوفاً
جداً بالنِسبةِ لَها، ولَكنه كَـالصَاعِقَةِ التِي انْفَجَرَت فِي أُذنِها، فَتَصلبَتْ أَطرافُها كَمنَ أُصيبَ بجلطةٍ دماغيةٍ فَجأة ، الصَوتُ هو ذَاتهُ الذي فَارَقَتْهُ قَبل
ثَلاثةِ أَعوامٍ مِن الآن ، لَم يَزِدْ عَليها بِأَكثرِ مِن كلمةٍ واحدةٍ فَقَط :
- " خائنة " .

وَصَدى الكَلمةِ يَتردَدُ في المدى والأرجاء، الصَوتُ ذاته هُو صوتُ زَوجِها المُتَوفَى في كَارثة "جونو"، قَفزَ فِي وَجْهِهَا ولا تَدري مِن أَين أَتى، أَخذَ
يَلفُ يَديه حَولَ رقبتِها كإلتِفَافَةِ ثُعبان ، ويَصرخ بِصوتٍ أَعلى من قَبل " خَائنة "، وَطِفلها الذي يَرقد على مسافةِ مِترين مِنها، يَكبرُ فَجأَة ويَمشي
باتِزَانٍ مُهيب ويَحملُ فِي يَدهِ حَفنةً مِن الحَشراتِ الغَريبة، يَنْثرهَا على وَجهِهَا وَيَنْطقُ كَمن يَفقهُ كُل شَيء : " أنتِ وحدكِ مَن قَتَلْتِ أبي ..." !
تَصرخُ : - " لا ، لَم أقْتلُه ، لم أقتله ، صَدقني لَقد مَاتَ غَرقاً " .

وتظل تصرخُ كطنينٍ لا يَهدَئ ، وُبكاءُ طِفلها الذي لا يَزال فِي سَريره يَستيقظُ عَلى صُراخِها.

هَدَأت قَليلاً وتَأكَدت بِأَن مَا حَدث لَيس إِلا كَابوساً زَال سَريعاً، تَحسَسَتْ رَقَبتَها بحذرٍ شديد، لَم يكُن ثعبانٌ هُناك ولا حشرات، هَرعَت إِلى
الخَارج كـالبَرق ، لَم تَجد سيارةَ زَوجِها، عَادَتْ تَلهَث إِلى طِفلِها الذي أَوهَنَهُ البُكاء، لَم تَقوى عَلى حَملِه أَو مُداعَبته أو حَتى الابتِسَام فِي
وَجهِه ليَسكُت، تَركته يَبكي وَجَلسَتْ مُتكورةً، تَسندُ ظَهرهَا إلى خَشبةِ السَرير وَتَغرزُ رَأسَها فِي صَدرِها الفَارغَ مِن كُلِ شيء والمَليء بِكلِ شَيء
فِي الوَقت ذَاته، وتَبكي
بِحُرقَة ، رَفَعَتْ رَأسَهَا بِإرَادةٍ، وَأمسَكَتْ بِهَاتِفِهَا وحَاولت الاِتصال عَلى رَقم زَوجِها كَتَصرفٍ يُعَبرُ عَن الفِكرةِ الطَائشةِ الأُولَى لأي كَائنٍ يُمكن
أَن يَرفعَ رَأسَهُ بَعد بُكاءٍ طَويل، لَم تَكن تَودُ الاعتِذَار مِنه وَلا التَبرير لَه عَن كُل خِيانَاتِها التي لَن تَجد لَها مُبرراً حَتماً، رُبَما كَانت تَود أَن تَتَأكدَ
إِنْ كَان حَقاً قَد مَات.
- " عَفواً ، تَعذرَ الحُصول عَلى المُشتَركِ المَطلوب .. "

تَستمرُ فِي الاستِمَاعِ إلى صوتِ المُجيبِ الآلي، وَذهنها شاردٌ إلى مَا هُو أَبعد، "هَكذا نَحن حِينَما نَغرقُ فِي التَفكيرِ نَفقدُ قُدرتَنا عَلى السَمعِ أو الرُؤية؛
لأن مَن نَسمعهُ أًو نراهُ فِي أَذهانِنَا يَأخذنا إلى مَا هُو أبعدُ مِن أَبعادِنَا القَريبة والحَقيقية".
وَيَأتي صَوتٌ مِن بَعيد : ( قَادمٌ إليكِ يَا خَا... )
تَرتَعدُ مِن جديد ، تُغلقُ الهَاتفَ سَريعاً قَبل أَن يُنهي هَذا الصَوت جُملتَه.
- " كَيف للأموات وَهُم فِي القَبرِ يُجيبون عَلى هَواتِفِهم، ويَتَحدثون بِألسنةٍ طَويلة، لا يَرحموننا نَحن مَن نَعيشُ فِي قَبرٍ أَضيق".

هَكذا أَصبحَتْ تُثرثرُ دَائماً كُلما بَاغتَها كَابوسُ زوجِها وصَوتِه باللفظة المتكررة " خَائِنَة "،
ظَلَت كَمن لا رُوح لَه، فَقدت قُدرتَها عَلى الحَركة، غدت مَسلوبةَ العَقلِ، وشَبحُ الصَوتِ "خائنة" يَنهشُ تَفكيرَها وَجَسدَها النَحيلَ تِباعَاً، لَم تبقْ إلا
فِكرةً واحدةً، فِكرة واحدة فقط .

احتضنَتْ طفلَها بِشغفٍ لأولِ وآخر مَره بِطريقةٍ كَتلك، وهَاتفت أُمها فِي سَاعةٍ مُتأخرةٍ مِن الليلِ دُون أَن تَنتبه لِفارقِ التَوقيت، وكَتبَتْ رِسالةً نصيةً
قصيرةً أَرسلَتْها إلى جَميعِ الأرقام في قائمة "مزبلة " قَالت فِيها :
"سَأموت، لا أريدُ مَالاً هَذه المرة ولا مَوعِداً فِي سَاعةٍ مُتأخرةٍ من الليل، كُل مَا أرجوه أَن تَمسحوا صُوري مِن هَواتفكم، وتَجعلوني أَنام بسلام ..
وَدَاعاً " .
ابتلعَت حَبات المُخدر الذَي كَانت تَدسه لزَوجِها بِطرقٍ مُتَعددة قَبل أَعوامٍ قليلةٍ مِن الآن ، ابتلعَتْ العُلبةَ كاملةً، ووضَعت طِفلها إلى جَانبها ،
لَيس بِبعيدٍ هَذه المَرة، وفَتحَتْ دَفترَ خَواطِرهَا العَريق عَلى صَفحتِه الأَخيرة بِطريقةٍ وَاضحة، وَتمددت بِطَريقتها الاسْتِثنَائية، ثُم نامت.


تمت

* قصتي الفائزة بالمركز الثالث في الملتقى الأدبي السادس عشر 2010م

فرحَة النجدي
07-14-2010, 11:03 PM
هذه المشاركة تسجيل اعجاب فقط أما البقية فقد وصلتك مسبقاً :)
في العام المقبل ستحلين في المرتبة الأولى بإذن الله ..

وفقك الله يا حبيبتي :icon20:

علي السعد
08-07-2010, 01:47 AM
ان يرقى هكذا نص الى ما يتخطى حدود الذائقة فهذا شئ طبيعي في ادبنا النسائي الجميل , وان كنت لا اميل للتسميه فالادب ادب
سواءً كان رجاليا ام نسائيا , لكن اقصد بالادب النسائي هو ما يتعدى الكتابه من قبل النساء او للنساء وانما وكما فعلت اختنا
عائشة المعمري الى الحديث عن مشاعر النساء , وهو ادب لم تخلُ منه الساحة العربيه لكن كان التركيز فيه على مشاكلهن
اكثر من وصف مشاعر(هنَ) , ما قدمته الاخت عائشه لم يكن مشكلة لنقاش حلها رغم اهمية ذلك ولم يكن استعراضا لنهايات
ممكنة او مطلوبه ولم يحمل فيه طياته غير الشكوى , تلك الشكوى التي تجعلنا ندرك حجم الالم والتي هي النزيف الذي نستشعر
من خلاله حجم الجرح , لا اقف هنا لاناقش مشكلة او لاتطلع لحل وانما اقف لاتامل شجرة مثمرة تتطلع الى سقيا .

عائشة :
ايمانا مني بعدالة التحكيم ارى ان النصين الاول والثاني لابد وان يكونا من الروائع بحيث تمكنا من منافسة( هاتف ولعنتان)
ولحسن حظهما لم اكن في لجنة التحكيم والا لاعطيت المركز الاول لـ (هاتف) والمركزين الثاني والثالث لـ ( لعنتان) مع
استحداث جائزة خاصة لحرف العطف الذي يربط بينهما .
ان تكتبي بهذه السلاسة وهذه الذائقة هي جائزتك الحقيقية التي مُنِحتِها وانشالله المركز الاول المسابقه القادمه

عائشه المعمري
08-28-2010, 05:16 PM
هذه المشاركة تسجيل اعجاب فقط أما البقية فقد وصلتك مسبقاً :)

في العام المقبل ستحلين في المرتبة الأولى بإذن الله ..


وفقك الله يا حبيبتي :icon20:



صديقتي الأجمل : فرحة ..

شُكراً لأنكِ تأتين كـ المطر ، والبساتين ،
تحومين بجانبي كـ الفراشات التي أحب ،
أن لا أهتم لـ رقم المركز ، كما أهتم أن يٌرضيني ما أكتب في مرحلة ما ..
أنا أتعلم .. فحسب ..
والمشاركة بحد ذاتها كانت انجازاً بالنسبة لي ..


شُكراً لكِ يا فرحة ..
شُكراً

وشـــاح
09-01-2010, 07:04 AM
ما يجعلنا نمسك حياتنا بكف الندم, هوَ ما كنّا نغلو فيه قبل الندم ..
حياة هذه المرأة عقدة النص, وحلّها

جميلة جدًا وتستحقيها يا عائشة
.

سهى العلي
09-02-2010, 01:05 PM
الكاتبة القديرة \ عائشة المعمري



الانتحار نهاية سيئة وخاطئة لا تُعدلْ بداية خاطئة من الممكن تعديلها
صدقاً لم أشفق عليها بقدر إشفاقي على الطفل المسكين
نأتي بالمصائب.. وهم يدفعون الثمن..

لقد تأثرتُ بالقصة جداً

كتابة قوية من كل الزوايا
تعلقُ في الذاكرة..

مبدعة

دمتِ بكُل خير

سعد المغري
09-15-2010, 02:18 PM
..

هذه ليست قصة ..
هنا عمل ضخم عظيم ومتكامل .

عائشه المعمري
12-17-2010, 02:02 AM
ان يرقى هكذا نص الى ما يتخطى حدود الذائقة فهذا شئ طبيعي في ادبنا النسائي الجميل , وان كنت لا اميل للتسميه فالادب ادب

سواءً كان رجاليا ام نسائيا , لكن اقصد بالادب النسائي هو ما يتعدى الكتابه من قبل النساء او للنساء وانما وكما فعلت اختنا
عائشة المعمري الى الحديث عن مشاعر النساء , وهو ادب لم تخلُ منه الساحة العربيه لكن كان التركيز فيه على مشاكلهن
اكثر من وصف مشاعر(هنَ) , ما قدمته الاخت عائشه لم يكن مشكلة لنقاش حلها رغم اهمية ذلك ولم يكن استعراضا لنهايات
ممكنة او مطلوبه ولم يحمل فيه طياته غير الشكوى , تلك الشكوى التي تجعلنا ندرك حجم الالم والتي هي النزيف الذي نستشعر
من خلاله حجم الجرح , لا اقف هنا لاناقش مشكلة او لاتطلع لحل وانما اقف لاتامل شجرة مثمرة تتطلع الى سقيا .

عائشة :
ايمانا مني بعدالة التحكيم ارى ان النصين الاول والثاني لابد وان يكونا من الروائع بحيث تمكنا من منافسة( هاتف ولعنتان)
ولحسن حظهما لم اكن في لجنة التحكيم والا لاعطيت المركز الاول لـ (هاتف) والمركزين الثاني والثالث لـ ( لعنتان) مع
استحداث جائزة خاصة لحرف العطف الذي يربط بينهما .

ان تكتبي بهذه السلاسة وهذه الذائقة هي جائزتك الحقيقية التي مُنِحتِها وانشالله المركز الاول المسابقه القادمه



قرأت ردك أكثر من مرة ..
حفظته جيداً .. يا علي
وأدركت الفرق .. بين من يقرأنا بحكمة ،
وبين من يحكم القراءة بحدود ..

،

شُكراً يا سيدي