المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قانون الصدود


عبد الله العُتَيِّق
09-01-2010, 05:36 PM
حكم المحبة ثابت الأركان
ما للصدود بفسخ ذاك يدان
ابن قيِّم الجوزية

من القوانين التي من المهم الالتفات إليها، و التعرُّف عليها، ووزنها بميزان الاعتدال و الاتزان، قانون الصدود، ففي حياتنا الكثير من الأشياء التي لا تروق لنا و لا تُعجبنا، إما لذاتها و إما لآثارها و نتائجها، وهنا نكون في حالة من الصدود عنها و الإعراض، والانصراف إلى غيرها مما له أهمية مَّا في حياتنا، و له عائدة كبرى على أمور معيشتنا. الصدود أنواع، إما صدٍّ منَّا، و إما صدٍّ عنَّا، و كلاهما في حاجة إلى إيقاف أنفسنا على ذوق التعامل الراقي اللائق بأنفسنا و كذلك مع غيرنا.
الصدود حالة سلوكية، منبعثة من حالة نفسية داخلية، تحصل عادة حينما لا يروق لنا الشيء، و يحصل دائما عندما نكون مقبلين على شيء أهم من الذي صددنا عنه.
الصدود منا يكون على أحوال، فمنه الصدود الجميل الممدوح، وهو صدود الذات عن سفاسف الأشياء، و تكمن أهمية ذلك حينما يُواجِه الإنسان شيءٌ من الكلام من جاهل، فالصدود عن سفاهة الجاهلين، و حماقة المغفلين من سمات العقل و أدب النفس، و لهذا كان الأمر الرباني لسيد الكمال الإنساني، صلى الله عليه و سلم : " و أعْرِضْ عن الجاهلين "، و كان ذلك نعتاً حميداً لأرباب الكمال حينما يقولون السلام للجاهلين، هذا الصدود نحتاج إليه كثيرا في حياتنا، خاصة حينما نكون مؤمنين بشيء لا يُدركه أولئك المنتقدون. و أيضا منه الصدود عن الدنيِّ من الأخلاق و الآداب، و ارتقاءٌ بالنفس عن الساقط من التعاملات. فليست كل الأخلاق حسنة، و لا كل الآداب مُستحسنة، فالصدود عن الرذائل من الكمائل، كما الإقبال على الفضائل منها.
وهذا صدود يكون مذموما حينما نقوم به عندما نكون في محلِّ الخطأ و يكون الناقد في محلِّ الصواب فنصُدُّ عنه، و هو داخل ضمن الأحوال المنقودة المذمومة " إعجاب ذي رأيٍ برأيه "، فالصدود هنا يأتي بالوجهين، و على الصورتين.
يحصل الصدود في العلاقات مع الناس، و خاصة مع من نعرفهم، فيكون الإنسان مع صديق له، أو شخص تجمعهما معرفة، فيحدث من الصديق صدود مفاجئ، أو رُبما ممهَّد له، قد تُعلم أسبابه و قد لا تُعلم، و غالب الناس لا يُبيِّن أسباب الصدود، و قد يكون ذلك بموجبٍ مقبول مُقنع و قد لا يكون، يُقبل الإنسان على ذاك الصديق الصادِّ فلا يجد منه إقبالا عليه، فيجد في نفسه شيئا، إما تساؤلات كثيرة عن ذاك الصدود، و إما أسفا و ضيْقا على تصرف صديقه و صاحبه، على أن الأدب حينما يحصل من الشخص صدود عن صاحب له أن يُبيِّن له سبب ذلك حتى يكون عن بينة، فهذا من التثبت المأمور به في أدب الشرائع. لمثل الشخص المصدود عنه يقال: عندما يحدث من أحد صدٌّ عنك، فاطرق باب الوصال ثلاثاً فإن كان الوصال بالإقبال و إلا فالإعراض إكرام للنفس و صوناً لها من المهانة التي لا تليق، و الله كرَّم الإنسان غاية الإكرام، ومن جملة ذاك الإكرام أن جعله أصلاً في حياته لذاته و بذاته، وتحقيق ذلك الإكرام في حالة الصدود أن يصون نفسه من تتابع الطرْقِ لباب الصادِّ، فهو استئذان لثلاث مرات، فإن كان المأمول حاصلاً فخيرٌ، و إلا فالانصراف أجدى. يُضاف إلى ذلك أدبٌ راقٍ آخر، وهو أنه حين حدوث الصدود الأول يجب أن يكون حذراً من أن يقع، فإن وقع صدود آخر فالانصراف خيرٌ، و لا إقبال على مُدبرٍ. على أدبِ " لا يُلدغُ المؤمن من جُحْرٍ واحد مرتين ". فالأدب مع النفس أهم من الأدب مع الآخرين، و صون النفس و حفظ كرامتها خيرٌ من صون غيرها، فحين يكون إدبار الإنسان يجب على من أُدبر عنه أن يُتمَّ سيره، و لا يلتفت إلى خلفه مرتقباً إقبال الصادِّيْن، و لا يقف منتظرا، فمن يريده سيلحق به، ومن لا فلا يمنح حياته لمن ليس أهلا لها. و لأجل هذا أقول للبعض: سِر في طريقك، فمن يريدك بصدق فليسبقك لتكون رائياً إياه وأنت سائر في طريقك، و لا تنظر إلى من بجانبك واقفا أو مسايرا، و لا كذلك من يكون خلفك، لأن السائر إلى الأمام لا يلتفت جنباً و لا خلْفاً.
هذا الصدود في العلاقات كثير الحدوث، و كثيرا ما يقع المصدود عنهم في حيرة من الأمر، أيقفون لأجل ما في القلب من مودة و محبة، أم يُتمون سيرهم لاغتنام حياتهم فيما يعود عليهم بالنفع والإنتاج.
من الأدب اللائق بالصدود، أنه لا يلزم من الصدود، سواءً منَّا أو عنَّا، أن تُفكَّ أواصر أدب العيش، و لا أن تُساءَ أخلاق الحياة، فالصدود يحدثُ بسبب أشياء، قد نُدركها، و كثيراً منها لا نُدركه، فالإبقاء على أصل أدب المعيشة، و خُلُقِ المعاشرة، من صميم الأدب في الصدود، كما هو ذاك في قانون الاختلاف، فقوانين التضادِّ لا يلزم من وجودها حدوث التنافر، و إلا فإن غاية الحكمة و العلة التي من أجله كان الإنسان تكون غائبة مُعطَّلة، و هي غاية و علة التعارف بين الناس التي بها تتحقق حِكَم الخلْقِ.
عندما نفهم قانون الصدود على وجهه الصائب، و نضعه في موضعه المناسب، و نقوم به على أدب الكون المُقرَّرِ بأدب الشرائع و الأخلاق نكون قد حَظينا بالكثير من الإيجابية و الهدوء في حياتنا، و نكون قد لمحْنا أسرارا كثيرة في حياتنا، فقانون الصدود يقتضي أن تُصان الذات، و يُرتقى بالفكر من أن يكونا عُرضَةً للإهانة و عدم الإكرام ممن لا يعرف قيمتهما، فذاك واجبٌ لازمٌ على الإنسان أن يقوم به، و إلا فإنه سيكون مُهينا لشيءٍ أُنيل إكراما من الخالق تعالى. لكننا حينما نُهمله، كما هو الشأن مع قوانين كثيرةٍ في الكون، فإننا سنعيش اضطرابات كثيرة تُقلقُ أنفسنا و تُشتت حيواتنا، و يكون مُضِيُّ كثير من الأعمار في هباء لا طائل منه و لا فائدة.
الكلام عن قانون الصدود يحتاج فُسحة أكثر، و الكفاية بإحاطة السوار بالمِعْصَم، و في أحوال الحياة ما يكشف الكثير من أسرار هذا القانون.

ألق
09-02-2010, 04:21 AM
فلسفة جميلة
لكن الصدود في العلاقات يخضع لتفسيرات متباينة لأن العلاقات "مَوجيّة" بطبيعتها تندفع وتهدا, تعطش وتشبع وتتراجع وهكذا, البعض يتصرّف تجاه "حقيقيّة سلوكك" والنموّ الطبيعي للعلاقات باعتبارها صدود غير معلومة أسبابه وثمّ لا يسيء الأدب لكنّه يثقلك بالعتب والدراما العالية ويصوّر نفسه الشهيد لمجرد رغبته(الأنانيّة) في دوام العلاقة على الهيئة التي ألفها أو بدأها بها.

عبد الله العُتَيِّق
09-02-2010, 05:41 PM
فلسفة جميلة




لكن الصدود في العلاقات يخضع لتفسيرات متباينة لأن العلاقات "مَوجيّة" بطبيعتها تندفع وتهدا, تعطش وتشبع وتتراجع وهكذا, البعض يتصرّف تجاه "حقيقيّة سلوكك" والنموّ الطبيعي للعلاقات باعتبارها صدود غير معلومة أسبابه وثمّ لا يسيء الأدب لكنّه يثقلك بالعتب والدراما العالية ويصوّر نفسه الشهيد لمجرد رغبته(الأنانيّة) في دوام العلاقة على الهيئة التي ألفها أو بدأها بها.


ألق. أهلا بك.
ملاحظة رائعة. أن الصدود قد يكون بسبب التغير النمائي. و أما من يضع نفسه، مع صدوده، بتلك الصورة (الأنانية) فهذا، على سوءه، إلا أنه حضر لنراه و نسمعه، فهو أفضل ممن ذهب و لم سُرَ.
شكرلك.

سماح عادل
09-03-2010, 04:42 AM
تبارك الرحمن ,,
مقال رائع بالفعل
أثرت الفكر بمزيد من التأمل في هاته الفلسفه