المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سرداب التاجوري


مريم الضاني
03-12-2012, 03:06 PM
عندما كنت صغيرة ، كنت أسكن مع أسرتي في بيت من بيوت التاجوري .
وأذكر أنني كنت أجد كلامي ، وضحكي بل وأنفاسي تختبئ بين طوب البيت القديم .
وكنت أركض حافية القدمين في دهاليزه الطويلة فتدخلني برودة الطبطاب من أسفل قدميّ وتُذهب قيظ الصيف. وفي الصباح اعتدت أن أغسل مع أمي درج البيت المتآكل بمكنسة من جريد النخل ، وعند ما ننتهي يجفف الدرجَ الهواءُ الذي يتخلل البيت من النوافذ والأبواب . وكنت أحب بعد ذلك أن أسترخي على بسطة الدرج ، وأضع خدي على الأرض الرطبة الندية ، وأشم رائحتها فتدغدغ مشاعري ، وقد يسرقني النوم هناك فتحملني أمي وتضعني في فراشي . وبعد العصر تجتمع بنات الجيران في بيتنا ونجلس على ( الدكَّة ) القريبة من باب البيت مع عرائسنا القماشية المحشوة بالقطن والمزينة بالشرائط الملونة والأزرار والكشاكش ، ثم نخرج من هذا العالم إلى عالم العرائس وقصصهن المشوّقة ، ونصنع لهن بيوتا ودواليب وأسرّة من بقايا الصناديق الخشبية الملقاة في زوايا الحارة . وحين تنعس العرائس وتنام تنصرف البنات مع عرائسهن . أحببت كل مكان في بيتنا : ( القاعة ) و ( الديوان ) و( المقعد ) والحجرات الأخرى ، خلا مكان واحد هو ( السرداب) ، وهو مكان معتم مجهول في الطابق السفلي ، مغلق بباب خشبي مشروخ ، وكنت أخشى رؤية بابه فكيف لو أنني دخلته ؟ .
بعض جيراننا قالوا : إنه نفق ضيق مهجور يربط التاجوري ب (المناخة ) وبعضهم قالوا : إنه مسكن للجن ، أما أمي فكانت تملّ من أسئلتي الكثيرة عن السرداب ولا تجد جوابا فتقول لي :
إنه نفق طويل يمتد كالعروق في جسد المدينة المنورة .
فأسألها : وإلى أين يذهب ؟ .
ـــ إلى قلب المدينة الذي يحبنا ونحبه .
فأصمت حينئذ ولا يبقى في نفسي شيء سوى تخيّل تلك العروق المتصلة بالقلب ، فيقشعر جسدي ويغمرني إحساس مبهم لا أعلم ماهيته . وفي المساء كانت أمي تعبئ ( السطل ) بالماء من الطابق السفلي وتصعد الدرج المؤدي إلى سطح البيت الترابي،
فترشُّ التراب بالماء ثم تفرش بعض الحصير ،و تضع فوقه أبسطة ، وفُرُشاً ، ووسائد لننام عليها .
كانت حكايات أمي تتفتح فوق السطح كالأزهار وأنا أحدق في النجوم البعيدة في السماء ، وأصغي إلى حكاياتها عن بلدتنا الصغيرة في فلسطين ، وعن بيوت تلك البلدة التي يحتضن كل بيت فيها ساحة صغيرة مزروعة بأشجار البرتقال والزيتون ، وعن رائحة تلك الأرض التي تتشبث بجذور الأشجار بقوة ، وعن لون ترابها الطيب الخصيب . وكانت تصف طرقات تلك البلدة التي تمتد كالأذرع القوية وتضم البيوت ، وعن سمائها الصافية ، وهوائها العليل ، وبيت جدي القديم وأثاثه المرتّب ، والسلال المنسوجة من الجريد الممتلئة بخيرات تلك الأرض ، وخبز جدتي الشهي الساخن الذي تعجنه بيديها وتخبزه في التنور. وحين تنتهي أمي من حكاياتها تبلّل دموعها خدي فتتحرك في نفسي لواعج الشوق إلى رؤية تلك البلدة . وذات مرة سألت أمي :
لو أن اليهود خرجوا من بلدتنا فهل نرجع إليها ؟ .
ــــ بالطبع يا حبيبتي ! ، أهلونا وبيوتنا ومزارعنا وسماؤنا كلهم يتحرقون شوقاً إلى رؤيتنا ، ونحن أيضا نحلم بذلك اليوم.
ــــ ولكنني يا أمي أحب بيتنا هذا .
فصمتت أمي ولم تقل شيئاً.
وذات يوم استيقظت من نومي فرأيت والديّ يعدان حقائب السفر ويحزمان متاع البيت ، و قالا:
الحمد لله ! ، خرج اليهود من بلدتنا .سنرجع إلى أرضنا و أهلينا ومزارعنا .

فذهبتُ إلى الطابق السفلي ، وفتحتُ باب السرداب المشروخ . هربتُ مع عروستي ، و اختبأتُ في ذلك المكان الممتلئ بالأخشاب والمتاع القديم والتراب والرطوبة .

ــــــــــــــــــــــــــــ
التاجوري والمناخة هما من الحارات القديمة في المدينة المنورة .
قصتي هذه هي من ضمن قصص مجموعتي القصصية الأولى( سرداب التاجوري ) التي صدرت عن دار المفردات في 1428ه

إيمان محمد ديب طهماز
03-12-2012, 05:56 PM
سرد جميل ياعزيزتي

واسلوب له ايحاءات عميقة

تكتبين بمشاعر تتأرجح بين واقعية وخيالية ممايعطي اسلوبك الجذب الجميل

تقديري لنبضك الجميل يامريم

إبراهيم بن نزّال
03-13-2012, 06:00 PM
أسلوب الجذب لمواصلة هذا السرد مشوق جدا،
سأبحث عن الـ ( مجموعة القصصية ) فحتما سيكون لي بها متنفسا كبيرا كما هنا،
تستحق التميز ،، http://www.ab33ad.com/vb/Traidnt/ab33ad/images/rating/rating_5.gif
شكرا لكِ، وسأعود حتما لمواصلة هذا النهل السردي الأنيق،
تحياتي

حياه
03-14-2012, 01:17 AM
..

قد تجدين قصصا أخرى بين سرداب و ظلام!
و تفتحين للأمل بابا من خلال الجن .. فالإنس قد قتلهم الأنس و النسيان الكلي لأمر السرداب
و طريق النور المتجه نـحو المدينة ..

يا مريم قصتك تجعلني أتخيل أمورا أخرى . قد أكتب قصة أخرى لوحدي ، فلتصدقها عرائسنا وحسب!

أهلا بك أهلا وشكرا لمَ كتبتِ من جمَال

هدب
03-14-2012, 11:03 AM
مريم الضاني
قصة جميلة وحوار مشوق وممتع
اهلا بكِ وبقلمكِ
بـ أنتظار القادم
لكِ كل الود :34:

مريم الضاني
03-14-2012, 10:25 PM
سرد جميل ياعزيزتي

واسلوب له ايحاءات عميقة

تكتبين بمشاعر تتأرجح بين واقعية وخيالية ممايعطي اسلوبك الجذب الجميل

تقديري لنبضك الجميل يامريم

عزيزتي إيمان : شكرا جزيلا لك لتفاعلك مع القصة وتعليقك المفعم بالجمال .

مريم الضاني
03-14-2012, 10:29 PM
أستاذ إبراهيم آل لباد : شكرا جزيلا لك لمنحك قصتي وسام التميز ولتعليقك المشجع . يشرفني التواجد في منتداكم الراقي ويسرني اطلاعكم على قصصي الأخرى التي سأنشرها هنا بحول الله وآمل أن تنال استحسانكم .

مريم الضاني
03-14-2012, 10:31 PM
عزيزتي ندى : ندى تعليقك علق بكلماتي ومنحها الجمال والنداوة . سعدت لأن القصة فتحت في روحك نافذة خفية وفتحت شهيتك على الكتابة . تسلمي لي .

مريم الضاني
03-14-2012, 10:33 PM
أستاذة حنين : ممتنة لك لثنائك على القصة . دمت متألقة .

عبدالإله المالك
03-15-2012, 05:15 PM
يا مريم

كتابة مشوقة وحبك وسبك يفوق الواقع إلى جنح الخيال
سابحث عنه لدى ذالك الأحمدي

عبدالرحيم فرغلي
03-16-2012, 12:06 PM
الفاضلة مريم .. مرحبا بك هنا في منتداك .. مرحبا بجمال قصصك
وحضورها الذي يسرد حقبة جميلة عشناها في المدينة المنورة ، وما
زالت رغم تقادم عهدها حاضرة في أرواحنا .. وكلما أوغلنا في تقدمنا
شعرنا أننا نلتفت للوراء كثيرا .. فإن غاب عن عيوننا لم يغب
عن قلوبنا .. تشرفت باقتناء مجموعتك القصصية وهي
في ركن اثير في مكتبتي .. بعض تفاصيل قصصك غابت
عني .. وبعضها جعلتني أعيشه وكأني أراه .. جمعتنا
طيبة بعطر حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم .. جمعتنا بطيبها وأريجها ووردها ونعناعها .. بنسائم الصحابة
الذين مشوا على ارضها وتركوا لنا إرثا من أرواحهم ..
وتجمعنا أبعاد بإبداعها وجمال كتابها .. فمرحبا بك ثانية .. ألف تحية وتقدير

مريم الضاني
03-17-2012, 05:29 PM
أستاذ عبد الإله : آمل أن تعجبك بقية قصص المجموعة وروايتي الجديدة ( أيام العطش ) . شكرا جزيلا لك لتفاعلك مع القصة .

مريم الضاني
03-17-2012, 05:37 PM
( جمعتنا
طيبة بعطر حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم .. جمعتنا بطيبها وأريجها ووردها ونعناعها .. بنسائم الصحابة
الذين مشوا على ارضها وتركوا لنا إرثا من أرواحهم )
مرحبا بك أستاذ عبد الرحيم ومرحبا بكلماتك المرحبة التي تحمل الهوية الحقيقية لكل إنسان ولد وعاش في طيبة الطيبة . كلماتك تحتوي على ال( الخلطة السرية ) التي عجنت بها أرواحنا وقلوبنا في المدينة ولن يعرف سرها من لم يعش في المدينة . المدينة أم حانية تضم كل أبناءها من شتى الأصول والألوان إلى حضنها الدافئ الحاني . قريبا بحول الله سأنشر خواطري حول زيارتي للمعالم التاريخية في المدينة مع رابطة أديبات المدينة وستجد فيها هذه الخلطة السرية التي لا يستطيع من لم يعش في المدينة أن يقلّدها . أخي الكريم ذكرت في تعليقك أن هناك قصصا علقت بذهنك من مجموعتي فيسرني أن أعرفها : ماهي القصص التي أثرّت فيك ؟.

عبدالرحيم فرغلي
03-19-2012, 12:44 PM
الفاضلة مريم
قرأت مجموعتك من زمن .. لم تزل قصتين تعلق في ذهني ..
القصة الأولى بعنوان أسبرين .. والأخرى صباح الدم ..
وفقك الله لكل خير .. ولا حرمنا من عطر طيبتنا ويرزقنا
حسن الأدب فيها .. كل التحايا والتقدير