المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فرح في قمعستان


سُلاف
04-10-2012, 12:10 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

اسمي فرح،
و ليس لي من اسمي نصيب، وُلدت في بلد يدعى بقمعستان و كلُ بلادنا قمعستان، ككل القصص التعيسة بدأت حياتي بيتم و فقر و زوجة أب، فقط ليتها استمرت هكذا،

الفصل الأول: فرح

” و ها نحن كما كُنا يا عزيزتي، قلوبٌ لا تتوقف عن النزف، و أرواحٌ أُستبيحت..”

وُلدت لأسرة ريفية ، أبٌ قاسيٍ و جاهل يعتبر المرأةَ أمةً و تابعةً للرجل و لا يمل تذكيري و أمي بأفضاله علينا أن وضع الخبز بأفواهنا الجاحدة الناكرة للجميل، و لأم أمية لا تختلف كثيرًا عن بقية النساء القرويات من حيث انقيادها و ضعف شخصيتها و إيمانها اليقيني أن المرأة نصف دابة و نصف إنسان و أن المرأة ليس لها إلا رجلها ليستر عليها، كما لو أننا معاشر النساء لا نُستر إلا برجل أو بظل رجل، و لي أخ يصغرني بنحو 4 سنوات يدعى سعيد، كان أبي يأخذ اللقمة من فمي و يضعها بفمه، كونه الوريث الوحيد لإرث عائلتنا التعيس الذي لا يهتم به و لا يذكره أحد، حتى نحن.

لا أذكر أني سمعت أمي يومًا تقول لأبي لا أو تناقشه بأي شيء، حتى عندما كانت تُصفع أو تُهان و حتى عندما كان يعاقبها على أخطائه كانت تبُدي له السمع و الطاعة و تخفض رأسها كما العبد أمام السيد، رأسها لم يكن مرفوعًا يومًا، لم تكن تملك من أمرها شيئًا، كانت دومًا مُهانة مِطواعة منقادة، منزوعة الإرادة و الرأي خاضعةً أبدًا للرجل و لظل الرجل و لبصاق الرجل على وجهها المليئ بالتجاعيد، عندما يعود و قد بدد كل أموالنا، عفوًا أمواله، في لعبة قمار قد خسرها، فيكون الذنب ذنبها و لا تسألني كيف، لكنها عنده و عندها قد استحقت تلك اللطمات و الشتائم التي تبعتها بصقة على أكرم ما وهبها الله، وجهها.

لم تعش أمي طويلاً، ليس بسبب كمية القهر و الظلم التي تشربتها و كمتتها بصدرها، مذ كانت طفلة ببيت سيدها الأول جدي، إلى أن استحالت عبدةً في بيت سيدها الثاني أبي، فأمثال أمي من النساء، يعشن و يتعايشن مع القهر و الذُل، كأنما هما و المغزل و جدر الطهي رفقة دربها و خلانها، يرثنه من أمهاتهن و يورثنه لبنتاهن، و لأن أمي ماتت و أنا صغيرة فلم أرث منها تركة الذُل و القهر، و لتعاسة أبي فقد وُلدت ببيته فتاة مرفوعة الرأس، عصية!

لكن أمي لم تمت ميتةً هادئة على سريرها، و لم تمرض بمرض عضال أنهكها و أزهق روحها، لم يأتِ لها الموت مُختارًا بل قيد إليها، سحبه أبي من قرنيه و رماه أمامها، قصة موت أمي، تحكي و تنبئ برخص حياة المرأة عند أمثال أبي، أن كيسًا من الطحين أو رغيفين من الخبز يعدلانها قيمةً و يزيدان، أن المرأه ماهي إلا سريرٌ و متاع إن عطب أُستبدل بغيره، كأنما دماؤنا دماء الأرانب و أرواحنا أرواح البغال!

في عاميّ الثامن، أصيب أخي سعيد بداء الكوليرا الذي انتشر بتلك السنة في قريتنا و القُرى المجاورة و قتل الكثيرين، و لأن أهل ناحيتنا كانوا فلاحين فقراء لم تهتم الحكومة ببناء مستشفى أو مستوصف واحد لنا، و أقرب منشأة طبية كانت مستوصفًا بيطريًا يبعد عنا 180 كيلو مترًا، فالبغال و الأبقار و الخراف كانت صحتها أهم من حياتنا عند حكومة مصاصي الدماء التي كانت تحكمنا، و نحن أحياءً او أمواتًا ستؤخذ من ظهورنا الضرائب و من أفواهنا فتات الخبز، لتجمع و ترمى تحت أقدام راقصةِ في عرس ابن مسؤول حكومي لم يعرف الجوع مثلنا.

أخذ أبي سعيدًا إلى كوخ بعيدِ في أقصى مزرعتنا ريثما تصل المساعدات الطبية، التي لم تصل يومًا، و طلبَ من أمي أن تبقى معه لتطببه و تقوم على شؤونه، بينما ظللت أنا مع أبي في المنزل كي أقوم على خدمته و تنظيف ملابسه و ايصال الزاد لأمي و سعيد، تلك الأيام لن أنساها ما حييت! رغم أني لم أكن أفهم سبب عزل أمي و سعيد بعيدًا عنا، و سبب حرق جثث أهل قريتنا، و سبب لعن أبي لحكومة الكلاب و اللصوص الذين تركونا نموت و انشغلوا بمهرجانات رياضية، يزورها وفود من خارج بلادنا ليروا بأعينهم مدى التطور عندنا، رغم كل هذا إلا أنني كنت أشتم رائحة الموت قرب الكوخ القَصيّ، أكاد ألمح طيف الموت يدور حوله و يحتار مع نفسه، أيدخل الآن أم غدًا؟ هل الأم أولاً أم الصبي؟ أموت مرير؟ أم موت سريع؟ و يبدو أن الموت لم يحتر طويلاً، فقد أخذ روح سعيدٍ الذي لم يحتمل جسده النحيل الصغير هذا الوباء القاسي، لكن سعيدًا لم يمت إلا و قد ترك لأمي ما سيلحقها به قريبًا، فظلت أمي بذاك الكوخ إلى أن ماتت.

يتبع، إن أذن المولى

إبراهيم بن نزّال
04-10-2012, 01:24 AM
لمثل هذه النصوص نحن بأمس الحاجة لنرتوي من حقيقة القصة.
هنا الواقع وإن خالطه الألم بغزارة، بيد أن أسلوب السرد القصصي هنا كان فاخرا جدا،
وبحق أقولها للمرة الأولى أنعم بهكذا أسلوب قصصي يغرف من بطن الألم حروفا - في صفحة النت-.
سُلاف، لن أكتفي بهذا المرور سآتي كثيرا لأقرأ بقية القصة، فاستهلاليتها تبعث على الحضور اللازم للارتواء.
تستحق التقييم الفاخر. فشكرا لكِ، تحياتي

إيمان محمد ديب طهماز
04-10-2012, 02:36 AM
سلاف : قصة موجعة وسرد جميل

حلقت بها بعيدا جدا

فرأيت العالم من زاوية الوجع العقيم

ورجعت مع تنهدات لا تُحصى

بالتوفيق يا سلاف

ابنة الظلال
04-10-2012, 08:38 AM
صباحك سكينة..

يا لكم هذا الوجع القاتل....!

سردك للأحداث بسلاسة وبساطة يوحي للقارئ أنه ليس مجرد سرد..

بل كأنه تأريخ لحياة معاشة....

بدءا من العنوان اللافت وانتهاء بالجملة " يتبع إن أذن المولى"

فكلها فيها جذب وتشويق....

سأنتظر الأجزاء اللاحقة حتما...

نص مكتوب بحرفية عالية

احترامي

عبدالإله المالك
04-10-2012, 07:16 PM
سُلاف ..

نحن أمام قامة باسقة مثلك ..
كاتبة مبدعة بلاشك تواجدها وقلمها علامة فارقة ..
بدءًا من العنوان إلى سرد القصة .. حقًا أبداع

حييتِ أخيّة

سُلاف
04-11-2012, 06:40 AM
سيدي: ابراهيم العنزي،

ما الكاتب الا مرآة لمجتمعه، مرآة مكسورةٌ، نعم، تفرض ما تريد، نعم، تتغاضى عما تريد، فهي تختار، نعم.. لكنه بالنهاية صنيعةُ ما يرى و ما يسمع فليس الكاتب يصنع واقعه لكن الواقع يفرض نفسه على الورق، بشكل او بأخر.
شكرًا للطفك

سيدتي: إيمان محمد ديب،

لستُ أرى بهذا العالم الا التوجع و الألم، و ان تواريا خلف برقةِ المظاهر أحيانًا، و لا اكتب ما اعيش، بل ما أرى.
أسعدني مرورك

سيدتي إبنة الظلال،

ان ابتليّ المرء بما يجب، يمكنه ان يسرد الف حكايةٍ عن الف حياةٍ لم يعشها، او الف حكايةِ عن واقع وحيد عاشه و لم يعش غيره، صباحك سكينة و أهلاً بك.

سيدي عبد الإله المالك
ما أنا الا كما العيال على الأدب و المتطفلين على موائد السلطان، لكني اشكر مجاملتك.
_

إيمان والي
05-08-2012, 11:01 PM
رائع اكملي
متشوقه لمعرفه المزيد سلاف
اسلوبك متميز
^^

علياء البوعليان
05-12-2012, 09:57 AM
وعليكم السلام و رحمة الله و بركاته
أعتقد احدى أهم عناصر الرواية هو الجو العام كونه يساعد بشدة في التأثير على القارئ من نواحي عديدة، سواء الشعور بأثر الأحداث او التعاطف / النفور من الشخصيات. وهذا -الجو العام- اراه متجلي بالأسطر القليلة التي عرضتيها علينا، هذا ليس بالشيء البسيط سلاف
فالجو العام بالعادة يحتاج لعدد من الصفحات او الفصول حتى كي يغلف الأحداث ويقدمها بطعم أخر

متشوقة بشدة لهذا العمل الذي أعلم أنه سيكون تحفة أدبية
لا تنسي فرح وإن طال الوقت وغمرتك المشاغل، تلك حكاية يجب ان تُحكى

سارة النمس
07-05-2012, 01:38 AM
سلاف كي أكون صريحة معك عندما قرأت العنوان لم أتحمس كثيرا
و لكنني عندما دخلت و قرأت تمنيت ألا أخرج من متصفحك
قصة فرح الموجعة .. حازت على اعجابنا
بانتظار أن تعود فرح لتأخذنا مجددا إلى قمعستان و ما يدور بها
بالمناسبة قد قلتِ بأحد الردود أن الكاتب هو مرآة مجتمعه
و لكن برأيي المجتمع و ظروفه تغيروا نوعا ما
حتى معاملة الرجل للمرأة .. رغم أنه لا يمكنني إلغاء ماضي الرجل العربي مع إناثه من خلال ما تروي لنا الجدات

سعدت بوجودي هنا
دمتِ بخير سلاف

سُلاف
07-24-2012, 04:34 AM
تمنيت ان يُمسح الموضوع كي اعيد نشره، لأني اجريت بضعة تعديلات على القسم الأول، لكن على اية حال هذه هي التتمة:

.......
أخذ أبي سعيدًا إلى كوخ بعيدِ في أقصى مزرعتنا ريثما تصل المساعدات الطبية، التي لم تصل يومًا، و طلبَ من أمي أن تبقى معه لتطببه و تقوم على شؤونه، بينما ظللت أنا مع أبي في المنزل كي أقوم على خدمته و تنظيف ملابسه و ايصال الزاد لأمي و سعيد، تلك الأيام لن أنساها ما حييت! رغم أني لم أكن أفهم سبب عزل أمي و سعيد بعيدًا عنا، و سبب حرق جثث أهل قريتنا، و سبب لعن أبي لحكومة الكلاب و اللصوص الذين تركونا نموت و انشغلوا بمهرجانات رياضية، يزورها وفود من خارج بلادنا ليروا بأعينهم مدى التطور عندنا، رغم كل هذا إلا أنني كنت أشتم رائحة الموت قرب الكوخ القَصيّ، أكاد ألمح طيف الموت يدور حوله و يحتار مع نفسه، أيدخل الآن أم غدًا؟ هل الأم أولاً أم الصبي؟ أموت مرير؟ أم موت سريع؟ و يبدو أن الموت لم يحتر طويلاً، فقد أخذ روح سعيدٍ الذي لم يحتمل جسده النحيل الصغير هذا الوباء القاسي، لكن سعيدًا لم يمت إلا و قد ترك لأمي ما سيلحقها به قريبًا، فظلت أمي بذاك الكوخ إلى أن ماتت.
و قيمة أمي بعد موتها كانت هي قيمة أمي وقت كانت حية، لا شيء، فلم يُطِل ابي الحزن عليها و تزوج من أرملةٍ من قرية مجاورة بعد ان انقضت أزمة الكوليرا، رغم انه كثيرًا ما كان يلعن النساء شقيقات الشياطين و الزواج الذي انهكه و سرق من عمره قبل موت امي، لم يكد ابي يخرج من قفصه الحديدي حتى عاد اليه راغبًا، و سعيد؟ نسيه ابي هو الأخر بعد ان ظهرت امارات الحمل على زوجته الجديدة، بينما ظللت أنا على حالي أكنس و اطبخ و اغسل و اضطلع باعمال المنزل ثم اعود لفراشي منهكة اخر الليل دون ان ينظر اليَّ أحد، و مرت خمس سنين من عمري على هذه الحال.

لم تكن زوجة ابي حنونًا، كانت وحشًا قاسيًا يضربني و يشتمني كلما سنحت له الفرصة بسبب او دون سبب، احيانًا كنت اتعجب من كم التشفي و الغُل الذي كانت تظهره تجاهي حين تقرر معاقبتي بالضرب او بحملٍ ثقيلٍ من الاعمال التي لا يكون اكثرها ضروريًا او ذا قيمة، كتنظيف قن الدجاج او جلب الماء من البئر لملئ خزان الماء الممتلئ اصلاً، او حتى ذر البذور بالحقل في منتصف ليلة شتوية ذات رهبة، كنت المح بين شفتيها ابتسامةً سادية كلما نزفت دمًا او دمعًا أو تأوهت المًا من ضربها لي بكل ما تطاله يديها من عصيَ أو اوعية او بيديها الجافتين القاسيتين، و لأن اليتيم يتيم الأم لا يتيم الأب لم يكن أحدٌ يسمع بكائي او يرى الجروح على جسدي المتورم و لم يكن لي غير وسادتي، ابكي عليها و القوم نيام و اذكر ايامي الجميلة حين كانت امي تمسح على رأسي و تطبب جروحي و كدماتي جراء ضرب ابي "لتأديبي" و تهون عليّ قائلةً انه يضرب لأنه يحب، بهذا المفهوم المشوه للحب الذي يربط محبة الإبنة بدق عظامها كانت تخفف عليّ ... لكن هذا المفهوم فقد قيمته على اية حال حين اضطلعت زوجة ابي بمهمة تأديبي و اصبح "المفهوم المشوه للحب" مفهومًا مشوهًا" و كفى، او مفهومًا صحيحًا للقسوة و التلذذ بتعذيب الأخرين،أما والدي فلم يكن عذابي يعنيه بشيء و لم يكن يذكرني الا عندما يعود للبيت فلا يجد العشاء جاهزًا مُعدًا ينتظره، وقتها يصرخ بأعلى صوته مناديًا الملعونة ابنة الملعونة التي لا تستحق اللقيمات التي يكد ليحشوها بفمها الناكر للجميل ،و من ورائه زوجة ابي توسوس بإذنه عن وقاحتي معها و عدم قيامي باعمال البيت و صراخي بوجه سعيد الجديد الوريث لاسم عائلتنا التعيس، فتكون عصا والدي جزاءً لي بعد صفعات زوجة ابي و ينتهي اليوم على هذا.

و استمرت أيامي و مرت على هذا الحال البئيس برتابته و الرتيب ببؤسه، الى ان اتى يومٌ طلب فيه ابي مني ان اقوم بتنظيف الكوخ البعيد، الذي مات به سعيدٌ و امي، و اعده لاستقبال ساكنٍ جديد هو شقيق زوجة ابي الذي سينتقل للعمل بقريتنا، كان رجلاً ثلاثينيًا دميم الوجه ذا سحنة كريهة من ذاك النوع من البشر الذي تكرهه من اول نظرة تلقيها عليه، نظراته لي كانت تسبب لي مزيجًا من الرعب و التقزز و ضحكاته العالية حين يأتي الى بيتنا ليتناول الطعام كانت مزعجة لي و لسعيدٍ الصغير و كل نائمٍ او طالبٍ للهدوء، كانت مهمتي تقتضي ان اذهب لكوخه صباحًا بعد ذهابه للعمل لانظفه و اخذ ثيابه المتسخة ثم اعود ليلاً بعد ان انهي اعمال البيت لأعطيه طعام العشاء و ثيابه التي نظفتها، و هكذا فقد كنت التقي به مرة واحده يوميًا او مرتين في حال تأخر عن عمله و رغم هذا فلم تكن هناك احاديث كثيرة بيننا كوني كنت اجهض اي بذرة حديث برد مقتضب او بالرحيل بهدوء.

كانت أحدى ليالي كانون الأول الباردة حين اعطى عادل، شقيق زوجة ابي، لنفسه حقًا لا يملكه و انتهك حرمة جسدي تحت ستار من الليل و الدناءة و انعدام الضمير.. كنت استعد للرحيل بعد ان انهيت عملي حين طلب مني المكوث لفترة اطول بابتسامة ذئب غادر لا يحفظ عهدًا، صراخي و بكائي الذي ملئ الكوخ الصغير لم يسمعه احد، لا والدي الغافل بفراشه و لا زوجة ابي و لا سعيدٌ الصغير، و لا امي و اخي بقبريهما و لا اهل القرية النائمين و لا العالم الذي لا يأبه لمظالم امثالي، و لا عادلٌ الذي غدر بي و قتل غير آبهٍ بقية من أمل كانت تعيش فيّ، لم اخرج من ذاك الكوخ كما دخلت اليه .. خرجت ملطخة بالأوحال و العار، خرجت كتلة قذارة مربوطة بسلاسل من ذل و محكوم عليها ان تَظل محطمة لبقية عمرها عقابًا على جريمة لم ترتكبها، تلك الليلة حطمت في نفسي شيئًا لن يصلحه تعاقب الليل و النهار و لا طول الزمان، احساس القذارة لن يغادرني ما حييت، و ان كنتُ اعلم اني مظلومة لا ظالمة، لكنها طبيعة الانثى التي تُكسر و لا يجبر كسرها ان أُنتهكت مرة.

طويت ذُلي و عاري و غادرت الكوخ بينما كان عادل لاهيًا بتدخين سجائره، و قطعت الحقل و الليل يزداد ظلمةً كلما خطوت خطوة باتجاه المنزل البعيد، كأنما يحاول ان يستر عورةً كُشفت او حِجابًا انتهك .. او ان يُضيع خطواتي فلا اصل لبيتِ لم يكرمني رَبُه صغيرة و لم يحفظني كبيرة فأخطو لمكان جديد لن يقسو عليّ اكثر مما قسى أهل بيتي عليّ، لكني على اي حال وصلت و كانت زوجة أبي مستيقظةً لم تنم بعد، لم تحتج لشرح مني او لكلمات اصف بها ما جرى فمنظر ثيابي الممزقة و الجروح التي على جسدي و الدموع على وجهي كانت كفيلة لأن يفهم كل انسان ما حدث، اخذتني بسرعة الى الحمام و طلبت مني الاستحمام و تنظيف نفسي من الاوساخ، التي لن تزول مهما حاولت، ثم تبديل ثيابي بعد ان اعطيها ثوبي الممزق، ففيه ادانة شقيقها، و بعد ان نفذت اوامرها قالت لي ان والدي سيقتلني ان علم بما حدث و انها ستقول له انني من سعيت خلف شقيقها و اغويته و لن يصدقني، طفلة عمرها 14 سنة تغوي رجلاً ثلاثينيًا فتخاف ان تقتل بتهمة الغواية، تبقي فمها مغلقًا مخافة القتل و تطلع الشمس و المظلوم اصبح ظالمًا و المقتول اصبح قاتلاً.

في الصباح طلبت مني زوجة ابي ان اقطع رجلي عن الكوخ و ان لا احكي لاي شخص عما حدث البارحة و هي "ستتصرف"، ثم امطرتني بعدها بوابل من الشتائم و الاتهامات لي و لأمي التي لم تحسن تربيتي و انجبت فتاة سوء لا تعرف معنى الشرف و ستظل قذرة و لن تنظف ابدًا مهما حاولت وعارها لن يغسله سوى الدم، دمي طبعًا لا دم شقيقها الذي اصبح حلمًا وديعًا تمت غوايته، غريبُ كيف يرتبط الدم بمفهوم العار و مفهوم التطهير معًا، يكون الدم عارًا لا يغسله الا دمٌ اخر، غريبٌ كيف يُحمل الناس سائلاً احمر يتدفق بالعروق كل هذه المعاني التي يَقتلون و يُقتلون لأجلها، ادركت منذ وقتٍ مبكر ان المعاني المجردة لا وجود لها الا بعقولنا و اننا نختار الواقع الذي نراه و نشكله، ان العدل و الشرف و الحق و الظلم و الباطل اشياءٌ غير حقيقية، غير ذات كيان و غير ذات قيمة الا عند من يختار التصديق بوجودها... . و كتمت سري و عاري الى صدري، تخنقني العبرة و تجتاحني رغبة بالبكاء كلما رأيت والدي، رغبة اكبتها اما خوفًا من تهديد زوجة ابي او خوفًا من عيونها التي تنظرني كالصقر.

كان أهل القرية يتناقلون أخبار الحرب الأهلية التي تحوم بالأفق و تهدد بتمزيق البلاد برعب، كان والدي يقول انهم لصوصٌ يتقاتلون ايهم ينال نصيبًا اكبر من الكعكة التي سرقوها، التي هي بلدنا قمعستان، لترد عليه زوجة ابي ساخرةً: كعكة افسدها الذباب، فليهنئوا بأكلها، و رغم ان الاخبار كانت مرعبة و تنبئ بقرب حدوث الحرب الا انها لم تعن لي الكثير، فقد كنت مشغولة بألمي و حربي و عذابي بين جَنبيّ، عذابٌ و اضطراب لم يسكن الا عندما ابلغني زوجة أبي عصر احد الايام بلهجة المتفضل ان والدي قد وافق على زواجي من شقيقها و انه سيستر عليّ و يقدم لي خدمة العمر، و لهواني و ضعفي شكرتها و انا غارقة في دموعي و تم تحديد العُرس بعد موسم الحصاد،لكن الدنيا لم تبتسم لي و ان كنت ظننتها فعلت، فطبول الحرب التي دُقت قد توفقت و حلت محلها اصوات الرشاشات و البنادق و القنابل، و عادلٌ الذي ذهب للحرب لم يعد و في رقبته دينٌ لم يفه.

الفصل الثاني: قمعستان

على اطراف مدينةٍ قِبل المغرب و في مقهى عتيق جلست أتأمل سواد فنجاني، ما اصدق السواد حين يعكس صورتي فيظهرني كما أنا.. أحرك الفنجان بيدي لعل انعكاس الصورة يتغير، لولا ان فنجاني ليس بكذوب فلا يتغير ، أهزه بقوة اكبر لعله يغير رأيه فيريني عكس ما أرى، لولا انه لزم جانب الصدق و ابى، أكره الأشياء حين لا تكذب، أكره المرايا و انعكاس الماء و فنجان القهوة الذي بيدي، بعنف أكبر اهزه كأني اعاقبه على اغضابي و هو بيدي و أمره اليّ كيف يجرؤ؟! لوهلة نسيت اني أخاطب فنجانًا و بغضبٍ أرميه على الطاولة فينكسر، أقتص لنفسه مني قبل الموت فيدي تنزف من جرح أحدثه، "بطل" أقولها له بابتسامة مشفق و قد نسيت لوهلة أخرى انه فنجان لا يعي و لا يحيط.

يأتي غلام صغير مسرعًا اليّ معتذرًا، هو عامل المقهى كما يبدو، يتأسف الي ان كُسر الفنجان و أنا من كسره بغير ذنب، يستسمحني و يعتذر طالبًا السماح و كلانا يعلم اني من أخطأ، لكنه ذل الفقير الضعيف، الذي يجعله مذنبًا و ان لم يذنب، يتوقع ضربة العصا عقابًا على ما فعل و ما لم يفعل، من بين كل خطايا العالم لم اكره شيئًا قدر كرهي للفقر، رأس الخطايا بطن جائع و قلب موجوع، من يلومه بعالم غاب عنه العدل ان خاف ان يُظلم أو يضرب؟ لستُ أنا حتمًا... أعتذر للصبي الصغير و أدس شيئًا من المال في جيبه خلسةً مخافة ان يراني سيده فيأخذه بغير حق، و يبدو ان القهر خيرُ معلم فقد أدرك الصبي ما أردت دون ان اصرح به فهمس بصوت لا يكاد يُسمع " شكرًا" ، أغادر هذا المقهى البئيس و أودع أوجه رجاله الكالحة التي لم تنظر اليّ الا شرزًا مذ دخلت، لعل دخول غريبةٍ لمقهى مدينتهم اغضبهم، أو لعلها تاء التأنيث فيّ ما أساءت محاجرهم.

مرت ستةَ عشر سنة على بدء الحرب التي مزقت البلاد، الحرب التي اخذت معها ارواحًا كثيرة بريئة و غير بريئة، كروح عادل الذي تمزق جسده لأشلاء صغيرة بعد ان داس على لغم، سماع خبر موته بهذه الطريقة البشعة و رؤية صراخ زوجة ابي و حزنها الشديد على فراق اخيها، جعلني استشعر اخيرًا طعم العدالة و لذة التشفي بجروح من كان يسخر من جروحك، شعور النشوة و الانتصار عند رؤية بكائهم و نواحهم، متعة الانتقام قد تكون ساديةً صريحة في جانب، لكنها ساديةٌ عادلة في جانب أخر، و رغم كل شيء فقد كان الخبر يحمل مصيبة لي، فعادل لم يعد موجودًا ليصلح ما افسده.
يتبع ان اذن المولى،

سُلاف
03-10-2013, 12:29 PM
فرح في قمعستان – فلاش باك

بعد سنين:

على اطراف مدينةٍ قِبل المغرب و في مقهى عتيق جلست أتأمل سواد فنجاني، ما اصدق السواد حين يعكس صورتي فيظهرني كما أنا.. أحرك الفنجان بيدي لعل انعكاس الصورة يتغير، لولا ان فنجاني ليس بكذوب فلا يتغير ، أهزه بقوة اكبر لعله يغير رأيه فيريني عكس ما أرى، لولا انه لزم جانب الصدق و ابى، أكره الأشياء حين لا تكذب، أكره المرايا و انعكاس الماء و فنجان القهوة الذي بيدي، بعنف أكبر اهزه كأني اعاقبه على اغضابي و هو بيدي و أمره اليّ كيف يجرؤ؟! لوهلة نسيت اني أخاطب فنجانًا و بغضبٍ أرميه على الطاولة فينكسر، أقتص لنفسه مني قبل الموت فيدي تنزف من جرح أحدثه، “بطل” أقولها له بابتسامة مشفق و قد نسيت لوهلة أخرى انه فنجان لا يعي و لا يحيط.

يأتي غلام صغير مسرعًا اليّ معتذرًا، هو عامل المقهى كما يبدو، يتأسف الي ان كُسر الفنجان و أنا من كسره بغير ذنب، يستسمحني و يعتذر طالبًا السماح و كلانا يعلم اني من أخطأ، لكنه ذل الفقير الضعيف، الذي يجعله مذنبًا و ان لم يذنب، يتوقع ضربة العصا عقابًا على ما فعل و ما لم يفعل، من بين كل خطايا العالم لم اكره شيئًا قدر كرهي للفقر، رأس الخطايا بطن جائع و قلب موجوع، من يلومه بعالم غاب عنه العدل ان خاف ان يُظلم أو يضرب؟ لستُ أنا حتمًا… أعتذر للصبي الصغير و أدس شيئًا من المال في جيبه خلسةً مخافة ان يراني سيده فيأخذه بغير حق، و يبدو ان القهر خيرُ معلم فقد أدرك الصبي ما أردت دون ان اصرح به فهمس بصوت لا يكاد يُسمع ” شكرًا” ، أغادر هذا المقهى البئيس و أودع أوجه رجاله الكالحة التي لم تنظر اليّ الا شرزًا مذ دخلت، لعل دخول غريبٍ لمقهى مدينتهم اغضبهم، أو لعلها تاء التأنيث فيّ ما أساءت محاجرهم.

__

توجع

وقفت على هضبة مُطلة على القرية وحدي أتأمل القصف الغادر عليها من السماء بكرات من لهب … و ليل القريةٍ لم يعد ليلاً ،و جنود الجيش يحاصرون القرية مستعدين لقنص اي روحٍ تبغي النجاة، أصوات قهقهات الجنود و صوتُ المدافع و صراخ القروين رعبًا و توجعًا و ركضهم في كل الاتجاهات محاولين الهرب من النار التي تأكلهم أحياء … تلك الأصوات و ذاك المشهد سيرافقني الى قبري، و صورةُ قروية تلتهما النيران بروية، تذيقها اشواطًا من الألم الذي لا يحتمل قبل ان تزهق روحها الحية، لا تزال تثيرُ فيّ احساسًا بالذنب و العجز، تلك المرأة التي لا اعرف اسمها و لا حتى شكل وجهها قبل ان تذيبه النيران لم تكن تنظر الى السماء او الى الأرض، لم تكن تصتصرخ المفزوعين حولها او المحترقين معها كي ينجدوها، كانت تنظر من بعيد الى مكان قصيّ لفه الظلام ، كانت تنظر الى مكاني و تمد يدها طالبةً العون.. لا اعرف هل رأتني، كيف رأتني و انا التي لا أرى بجنح الليل الا من قريب، كيف كانت تظن ان بيديّ عونها و انا الطريدةُ البعيدة، و لم تركت الأقربين و مدت يدها لبعيد عاجز؟ تلك الأسئلة لن أجد لها جوابًا و لو سئلت الرفات.

وقفت أتأمل مشهد الموت الحيّ أمامي و رائحة الموت و الشِواء تزكم فمي، الروائح و الأصوات و الأرواح امامي و طيف الموت الذي شاهدته و انا طفله يهرول في شوارع القرية يزهق الأرواح، كانت حقيقية لدرجة انها لم تعد كذلك في ذهني، و صرت اسئل هل الموت حقيقي، كحقيقة ما أرى، او كحقيقة ذاك الطيف القديم الذي أراه في شوارع القرية؟ تغيرت اشياءٌ كثيرة بداخلي و كُسرت اشياء بذاك المساء، صِرت ادعو و أناجي خالق تلك الأرواح ان يأخذها، ان يعين الموت على حصادها بدل ان يشوى اهلها ثم لا يرحمون، ان يكون الموت هذه المرة موتَ رحمة… و قد كان، فلم تشرق الشمس على القرية الا و قد اصبحت قريةَ اشباح.

-بناءً على طلب عائشة نشرتها, و الا فقد ماتت فرح.

خلف المهيلان
04-21-2013, 02:27 PM
الله عليك رائع