المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ربيع جزائري آخر


سارة النمس
06-16-2012, 02:20 PM
ربيع جزائري آخر


القدر يجد متعة في اللهو بي , يأخذ مني أشياءا أحبها و يهديني أخرى , و عندما أتعود و أحب ما لدي بعد تعب طويل , يأخذ مني ما وهبني ... ليهبني الجديد مجددا و تستمر الحكاية في حلقة مفرغة , أفقد أشخاصا تعرفت عليهم كما لو أنني أفقد الروح , ثم أتعرف على أشخاص جدد كي أفقدهم مجددا , أعيش في مدن أحبها و مدن لا أحبها , أحيانا أنتقل من القرية إلى المدينة , و أحيانا من المدينة إلى القرية , الغربة صارت هويتي , غريبة عن نفسي كنت عندما ولدت , و عندما صرت مراهقة , تغربت عن أهلي و لما كبرت امرأة وجدت نفسي أخيرا ... لكنني تغربت عن العالم بأسره !
هذه المرة رماني القدر بعيدا و تلقفتني مدينة تيزي وزو الأمازيغية ... المعروفة بعاصمة القبائل الكبرى بالجزائر , لهجتهم غريبة عني كليا لا أفهمها و لا أجيدها ... و يتشبثون بها و لا يجدون لها البديل , كل أكلهم تفوح منه رائحة زيت الزيتون الطبيعي , الذي جمعته أيادي الصبايا الناعمة , و عصرته السيدات و صبّرنه إلى أن صار صافيا كالذهب .
البشر هنا مختلفون , هناك من لا يأبه لك كأنك غير مرئي , كأنك غير موجود و هناك من يبتسم لك لأنك غريب و يفهم معنى أن تكون غريبا ربما لأنه جرب الغربة في مناسبة ما و هناك من يكشر بوجهك ككلب مسعور .. فقط لأنك لا تنتمي إلى عالمه و لا تحمل دمه لا تشبهه و لا تجيد لهجته !
أما أنا فلم أعد أكترث لمن يبتسم بوجهي أو يكشر ,لم أعد أكترث لأنني إن أحببتهم سأفارقهم يوما و إن كرهتهم سأفارقهم كذلك و تستمر الحكاية في حلقة مفرغة .

هذا الصباح ولد ربيع هذه السنة , غيرت الطبيعة ثيابها على عجل و تزينت بماكياج أخضر ,و لوّنت خدودها بالأقحوان , الطبيعة أنثى جميلة في كل حالاتها و لكنها اليوم تبدو زاهية , سعيدة تغني و ترقص ,كأنها تريد أن تقول شيئا ما أو أن تبوح عن سر ما !
الأمازيغيون يحتفلون بالربيع الأمازيغي كل سنة و يخرجون إلى البراري كي يعانقوا تلك المساحات الخضراء الشاسعة ليجلسوا على الحشائش الندية و يغنون بأصوات عفوية رائعة أجمل الأنغام و الأغاني , الابتسامات لا تفارق وجوههم... حتى العاشقات الحزينات لا يتمنعن عن الابتسام , إنه العيد حقا , يُحَضرون حلويات شعبية و يسمحون للأطفال باللعب بالتراب الطاهر و الركض بعيدا ...

نحن في منطقتنا لم نحتفل يوما بالربيع بهذه الروح الجماعية , الاحتفال به هو ممارسة فردية بحتة , كل يحتفل به على طريقته .. و هناك من لا يحتفل به أبدا ... بل حتى لا يشعر به , فيحضر الربيع ثم يرحل و هو لايزال في سباته إلى أن يباغته الصيف ... فحرارته و جرأته كفيلتان بأن توقظ الميت من قبره , ترى هل تتغير حرارة القبور حسب المواسم ؟
لأنني أنثى منطوية على نفسي كثيرا ما احتفلت بالربيع من خلال الكتابة ... إنه موسم رائع للكتابة أحب أن أفتح نوافذ روحي المغلقة كي يتسلل النسيم العليل إلى كل زوايا الروح و الجسد ... في أحد الأيام تمنيت أن أخرج عارية و أتمدد على ذلك الحشيش الندي .. لكن الأمنية بقيت سجينة لأنني لن أتعرى إلا لرجل واحد رغم إغراءات الربيع المتواصلة
هذا الصباح تلقيت دعوة من صديق طيب , أحبني دون أن يكلف نفسه عناء معرفتي أو اكتشافي يكفي أن يتبع حدسه و يتصرف ,لأنني غريبة و لأنني لم أحتفل بالربيع يوما على طريقتهم طلب مني أن أحضر إلى بيتهم و أمضي عيد الربيع مع والدته و أهله ... ترددت كثيرا رغم ثقتي الكبيرة في هذا الرجل تسمح لي بأن أتبع طيبته و أصّدق نواياه و أرافقه إلى بيته و لكن هناك أمور كثيرة تجعلني أتراجع من بينها أنني لا أنسجم بسرعة مع الناس الغرباء الذين لا أعرفهم مسبقا خصوصا ضمن الاحتفالات ,, احتفال كهذا يجعلني أشعر بالوحدة أكثر و بالغربة أيضا .
طباعي سيئة و قد أعطي انطباعا سيئا عني .. نادرا ما أفهم بطريقة صحيحة ..
لا أحب الأكل من أيادي الغرباء هذه نزعة أخرى ,وسواس لم أجد التحرر منه , لا أثق بنظافة من حولي فأنا لا آكل إلا من يديّ أو يدي والدتي .. كيف سأتصرف إن قدموا لي قطعة كعك أو حلوى ؟ لن أبدو فظة فحسب , بل سابدو قليلة أصل و قليلة ذوق .. لذلك من الأفضل ألاّ اذهب و أحتفظ بصداقتي ب "مولود ".. لا أريد أن أخسر طيبا آخر .
اتصلت به هذا الصباح أبلغه اعتذاري الذي لم يقبله و لم يقتنع به , هو لحوح جدا و لا يريد أن أمضي هذا العيد وحيدة , فهذا العيد يعني له الكثير , بعد لحظات من الإصرار و الإحراج وافقت على مضض و قلت له سأحضر بعد الغداء .
من الآن أشعر بتوتر غريب و معدتي ترتجف , كيف سأقابلهم و كيف سأحدثهم و هم يفهمون لهجتي بصعوبة , سأبدو كالحمقاء بينهم .. ووالدته قد تحبني و قد لا تحبني من أول انطباع , لا أريد أن أكون ضيفة ثقيلة أو غير مرغوبة بها .
تغديت ثم غسلت أسناني و ارتديت فستانا أبيضا .. يناسب الربيع و أجواءه و هذا اليوم الجميل , وجدته ينتظرني أسفل العمارة .. ذهبنا الى منزلهم مشيا و عندما وصلنا وجدنا أبناء إخوته يلعبون بفناء المنزل , دخلنا المنزل سلمت على شقيقته المتزوجة التي حضرت من مدينة أخرى كي تحتفل معهم ,, ثم على شقيقه .. ثم شقيقة أخرى , ثم خالته ثم ابنتاها .. شعرت بالإحراج ... البعض تحدث معي ببضع كلمات عربية يسألونني عن أحوالي و البعض الآخر اكتفى بابتسامة من أجل الترحيب .
مسك يدي كي ندخل إلى المطبخ .. وجدت والدته متربعة على الأرض .. تقوم بتحضير حلوى " الأبراج " بالتمر عن طريق تحميرها على الطابونة .. كانت تتصبب عرقا و جبينها الأبيض يلمع فحرارة المطبخ لا تطاق و هي تحضر كل هذه الكمية الكبيرة من الحلوى ,, سلمت عليها و جلست جانبها تحدثنا قليلا و عندما انتهت من تحضير الحلوى ذهبت لتغيير ملابسها و نادت على الجميع كي يحضروا أنفسهم ... ارتدت جميع النساء بالبيت أزياء قبائلية بألوان زاهية ربيعية و عندما استعد الجميع . طلبت مني والدة مولود أن أرافقها إلى غرفتها .. قدّمت لي هدية لم أكن أنتظرها .. كان ثوبا أمازيغيا رائعا باكسسواراته .. فضة جميلة كتحف تستحق أن تعرض بمتحف ما .
ارتديت الثوب و لبست الإكسسوارات و خرجت معهم و أمضينا الظهيرة هناك على تل متواضع رائع قدم لي مولود قفة صغيرة .. مليئة بالحلوى و الشوكولاطة .. هذه القفة الصغيرة عادة ما يقدمونها للأطفال و ليس للبالغين لكن بما أنني لم أحظ بقفة كهذه من قبل ,اعتبرت أو قفة ربيع قدمت لي , لم أتوقع أنني سأندمج بينهم بهذه السرعة .. و لا أن أحبهم من أول لقاء و لا أن يبادلوني الحب .. أجمل السعادة التي تأتي مباغتة دون انتظارها ..
قدمت لي والدة مولود بعضا من الحلوى التي صنعتها .. في تلك اللحظة تذكرت جهدها و تعبها و هي جالسة في ذلك المطبخ الصغير .. و لم أتجرأ على رفض الحلوى .. أكلتها ليس مجاملة و أكلت قطعا أخرى كذلك .. عندما نحب أحدهم قد نأكل و نشرب من عنده أي شيء حتى لو كان سما , لا نبالي لبعض الأفكار التي تحاول أن تتقاطع بالبال و لا لتلك الوساوس التي مهمتها أن تنكد علينا العيش و الاستمتاع باللحظة , إنه الحب بين الناس هو الذي يخلق المعجزات هو الذي يهدّم مبادئ و يشيد أخرى .. يقتل أفكارا و ينجب أخرى .
عدت إلى منزلي بذلك الثوب الجميل و تلك الحلي و قفتي الصغيرة .. و شكرت القدر لأنه أهداني أناسا جدد .. كي يعوضني عن خساراتي الماضية !




بقلمي

سارة النمس

عبدالإله المالك
06-17-2012, 09:25 PM
وشكرا للقدر أن جاء بك هنا

أختا بين أخوانك

في أبعاد

نقلتينا نقلا حيا مباشر إلى الأمازيغ وحياتهم وطقوسهم وجمال نفوسهم

تحياتي ياسارة

علي آل علي
06-25-2012, 08:26 PM
سارة النمس ,
كم هي خصبة أرض هذا الحرف ، الذي أنطقته قصة تحاكي واقعاً لحالات شتى في حياتنا ؛ حقيقة الأمر أني أطلعت عليها سابقاً وأحببت أن أعيد قراءتها لما فيها من مواقف تذكرني بماض لي .
شكراً يا نقية على هذا الألق .

خالد يوسف أبو طماعه
07-09-2012, 03:13 PM
جميلة أستاذة سارة اللغة
وجميل هذا الوصف والتناغم في سرد الحدث
وجميلة تلك الأحداث والشفافية المفرطة في الطرح
والأمازيغ هم قبائل لهم عاداتهم ويتمسكون بتراثهم
ربما عايشت بعضا منهم من إخواننا الليبيين ووجدتهم كذلك
نعود للنص من الناحية الفنية للسرد وهذه مجرد رأي ولك أن
تطرحي به عرض الحائط ...
جاء السرد تقريريا بحتا واللغة كما أسلفت جميلة والأحداث سلسلة
ليس فيها تعقيدات ومنسابة جدا ولكن عليك بمراجعة النص ليكون
قصة وخاليا من التقريرية المقالية وكلي ثقة بقلمك وبك وبأنك ستخرجين
بالنص من تقريته لعالم القصة الرائع وأعتذر عن رأيي الصريح وهذا من باب
النصيحة الأدبية وبعيدا عن المجاملة التي تضر الكاتب والمتلق
دام لك ألق الحرف أستاذتي
سأتابع ما تخطين هنا
تحياتي الخالصة

سارة النمس
07-12-2012, 07:42 PM
وشكرا للقدر أن جاء بك هنا

أختا بين أخوانك

في أبعاد

نقلتينا نقلا حيا مباشر إلى الأمازيغ وحياتهم وطقوسهم وجمال نفوسهم

تحياتي ياسارة

عزيزي عبد المالك .. شكرا للقدر أيضا الذي أتى بي إليكم
لنتبادل شغف الأدب و الكتابة و نفيد بعضنا البعض
أستمتع هنا كثيرا بحروفكم .... لا حرمني الله منها
سعيدة أنني سافرت بكَ إلى مكان غريب عنك
فكنت ضيفا عزيزا .. عايش عادات الأمازيغ و ربيعهم
دمت بخير صديقي .. كن هنا دائما

سارة النمس
07-12-2012, 07:45 PM
سارة النمس ,
كم هي خصبة أرض هذا الحرف ، الذي أنطقته قصة تحاكي واقعاً لحالات شتى في حياتنا ؛ حقيقة الأمر أني أطلعت عليها سابقاً وأحببت أن أعيد قراءتها لما فيها من مواقف تذكرني بماض لي .
شكراً يا نقية على هذا الألق .

إنه شرف لي أن تحضر هنا مرتين يا علي
و أن أنبش بكلماتي في ماضيك هو شرف آخر
شكراا لك على كرم وقتك .. كرم القراءة و كرم التعليق
دمت متابعا آل علي
تحياتي القلبية لك

سارة النمس
07-12-2012, 07:51 PM
جميلة أستاذة سارة اللغة
وجميل هذا الوصف والتناغم في سرد الحدث
وجميلة تلك الأحداث والشفافية المفرطة في الطرح
والأمازيغ هم قبائل لهم عاداتهم ويتمسكون بتراثهم
ربما عايشت بعضا منهم من إخواننا الليبيين ووجدتهم كذلك
نعود للنص من الناحية الفنية للسرد وهذه مجرد رأي ولك أن
تطرحي به عرض الحائط ...
جاء السرد تقريريا بحتا واللغة كما أسلفت جميلة والأحداث سلسلة
ليس فيها تعقيدات ومنسابة جدا ولكن عليك بمراجعة النص ليكون
قصة وخاليا من التقريرية المقالية وكلي ثقة بقلمك وبك وبأنك ستخرجين
بالنص من تقريته لعالم القصة الرائع وأعتذر عن رأيي الصريح وهذا من باب
النصيحة الأدبية وبعيدا عن المجاملة التي تضر الكاتب والمتلق
دام لك ألق الحرف أستاذتي
سأتابع ما تخطين هنا
تحياتي الخالصة


أهلا بكَ سيد خالد
ما أعجبني بردك أنه شمل رأي القارئ و الناقد معا
رغم أني أسعى لإرضاء القراء أكثر من النقاد
ما يهمني أكثر من أي شيء
أن يستمتع القارئ بالقصة و الأحداث و يكون حاضرا هناك
و لكن هذا لا يمنع أنني يجب أن أولي اهتماما لبعض الفنيات
مثل النقطة التي ذكرتها و النصيحة التي قدمتها
شكرااا لك على صراحتك التي أحييك عليها و بعدك عن المجاملة
كن متابعا و مرحبا بنقدك و كل نصائحك صديقي خالد

نادرة عبدالحي
07-16-2012, 03:20 PM
عوامل عديدة من داخل النص ذاتهُ أعطت القصة طاقة لـــــــــــــ سمة فنية بارزة
وبطريقة ذكية خاصة بالكاتبة تجذب القارئ وتعطيهِ راحة نفسية لإكمال ما بدأ
فالمناخ لتوصيل الغاية كان معتدل ويلائم القارئ العربي من حيث الأجواء وتقاليد جميلة
قصتكِ يا سيدتي لم تجعلني أجوبُ طرق الغربة الوعرة
فالمقدرة على نقل الإحساس بصورة هادئة وبسيطة حقا افتقدتهُ في كثير من نصوص قرائتها .
....فهنيئا لنا بكِ

سارة النمس
07-23-2012, 04:55 PM
رأي متذوقة للحرف مثلك يهمني كثيرا يا نادرة
و أن أنقل بك الاحساس بطريقة بسيطة
هذا هو الإنجاز بعينه بالنسبة لي
شكرا لأنك حللت ضيفة فكان حضورك رائعا
كنسمة بحر صيفية تداعب الخد و الجبين
لا تحرميني من حضورك نادرة
فهو يعني لير الكثير
دمتِ بخير

سعود القويعي
06-16-2013, 01:19 AM
اختي ساره
تجربه جميله ومثيره , ازاحت عن كاهل فكرك بعض خشيتك , امتعتينا بصورة خلابه عن اهل لنا من جغرافية وطننا العربي الكبير , سيناريو لطيف
ازدانت سطوره بجميل العبارة كجمال ذاك الثوب الدمقسي المرصع بألوان الخصوصية الزاهيه لأهل لنا نجهل عنهم الكثير
ممتعة انتي ياساره .
ثانميرث اطاس

سارة النمس
06-17-2013, 06:11 PM
جزيل الشكر لك و لكرم قراءتك صديقي سعود
سعيدة أنني أخذتك من خلال قصتي
إلى مدينة تيزي وزو الفاتنة .. " نورتها " ههه
حاول أن تبحث عنها في غوغل ستروق لك
مدينة خلابة بطبيعتها الساحرة
دمتَ متابعـًا سعود

حسن قرى
06-20-2013, 10:16 PM
زميلتي سارة وجارتي الشرقية، غبت زمنا عن هذا المنتدى لظروف تخص زحمة العمل، ولما عدت إكتشفت تواجد مبدعة اسمها سارة، كلها عنفوان وحيوية وعفوية، قرأت بعضا من كلماتها، فراقتني طاقتها المميزة في الكتابة، مع بعض التنبيه لضرورة الاهتمام بالصياغة، لنا لقاءات متكررة على صفحات منتدانا الطيب....

سارة النمس
06-20-2013, 10:37 PM
مساء الخير .. أستاذ حسن ، دعني أرحب بك و بعودتك االجميلة
لا حرمنا الله من حضوركَ بيننا .. و ما أجمل الصداقة مع شخص بمثل ذوقك الرفيع سيدي الكريم
سعيدة أن كلمتي عمومًا قد حظت بإعجابك و استمتعت بها
أما ما يخص الصياغة و الأسلوب .. معك ألف حق يجب أن يولى كل الاهتمام
و كما تعلم كيفما كانت الموهبة تسكننا أو تلك الرغبات الجامحة بالكتابة يجب صقلها دائما !
من خلال الإصغاء إلى نصائح الغير .. و المطالعة أكثر
هكذا نطور من الأسلوب إلى الأحسن .. و تبقى روح القلم كما هيَ
أهلاً بك .. و أرجوك كن حاضرًا في المواضيع القادمة
لا تحرمنا من حضورك .. تعليقاتك و نصائحك أيضا
كن بخير .. " سارة "