المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صباح الدم


مريم الضاني
07-24-2012, 04:38 AM
أتأملك يا أبي من وراء فرجة باب حجرة نومي ، صبيحة ليلة عرسي . أتيتَ مبكرا كعادتك عندما تزور بناتك في مثل هذه المناسبة .
أتيتَ خائر القوى ، جاف الحلق ، زائغ النظرات . يلوح على وجهك ذلك الانكسار الحاد العميق الذي غدا جزءً من ملامحك ، و تطوّق عنقك أغلال سوداء ثقيلة لا يراها أحد سواي . لم يعد هناك إنسان يهددك بعد أن تزوجت شقيقاتي كلهن غيري يا أبي ، أنا ابنتك التي لم يأتها نصيبها إلا عندما شارفت على الأربعين من العمر .
كانت شقيقاتي يصفن حالتك في صباحيّاتهن ، وكيف كان أزواجهن يعطونك ملاءة السرير البيضاء الملوثة بالدم وهم يهنئونك قائلين :
بيّض الله وجهك يا عمي !.
عندئذ تنفرج أساريرك ، وتسترد أنفاسك ، وتحسو حسوات من الماء البارد لتطفئ الحرائق المستعرة في جوفك . لطالما تمنيتُ وأنا أصغي إلى أحاديثهن تلك أن لا أتزوج أبدا لكيلا أرى وجهك في ذلك الموقف العصيب ، ونمَت تلك الأمنية في نفسي بعد أن تزوجَت ابنة عمي اليتيمة؛ وجهها الشاحب المذعور ووجه الطبيب الذي فحصها مسماران مغروسان في قلبي . كان الطبيب يحاول سدى أن يمتص غضبك العارم وهويشرح لك حالتها :
إنها عذراء ، ولكنها من الحالات الشاذة التي لا تنزف .
وعندما هممنا بمغادرة العيادة ألقيت بعبارتك في وجهه:
هراء ! . الدم هو الدليل الوحيد على عفة الفتاة . الله لا يبتليني ... أنا أبو بنات . الله يستر عليها وعلينا .
حين سمعتُ عبارتك تلك هوى قلبي في جبّ لا قرار لها وهاجت في نفسي عواصف التوجس:
ماذا لو كنتُ مثلها يا أبي ؟ ! .
أي أرض ستقلّني وأي سماء ستظلّ ني ؟ .
أين المفر منك آنذاك ؟ .
ألوذ بسريري ، أتأمل الضوء الشحيح المنبعث من وراء الستائر الداكنة ، و الهواء يعبث بباب حجرتي . تبدو وأنت جالس في زاوية الصالة كالسجناء المحكوم عليهم بالإعدام في لحظاتهم الأخيرة ، حين يصغون إلى وقع أقدام جلاديهم وهي تدنو منهم.
كنت تختلس النظر إلى باب حجرتي ومن حين لآخر تنظر إلى الساعة مستبطئا مرور الوقت ، وتطلق زفرة كأنها نفس من أنفاس جهنم .
حدقتُ في عينيك المتقدتين وأبحرتُ في ذهنك الذي تتلاطم فيه أمواج الريبة والخوف ، وقرأتُ أفكارك :
لماذا تأخر زوجها عن الخروج من الحجرة ؟ .
لا بد أن هناك خطبا ما ! .
لا .. لا ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . ابنتي فتاة شريفة ، أثق بها . ابنتي الكبرى العاقلة ، أنا ربيتها فأحسنتُ تربيتها ، وأخواتها اللاتي تزوجن قبلها لسن أفضل منها خلقاً وتديناً ، ولكن من يدري ؟ لعل شيئا ما قد حدث لها عندما كانت طفلة ! .
ما أشد تلهفك على رؤية وجه زوجي يا أبتِ !.
أجزم أن ضغطك الآن قد حاذى حدوده القصوى . كل شيء فيك يحترق في أتون الانتظار ، يكاد الدم ينبجس من مسامك ، يتفصد العرق من جبينك غزيراً ، تتحد قطراته وتجري في أخاديد وجهك ثم تنزلق باتجاه ذقنك . غدا وجهك قطعة رمادية باهتة بلون شعرك وأنت ترشف رشفة من العصير ، أخالها تسيل في حلقك كحمم البراكين .
أغمضتُ عينيّ وهربتُ إلى الزقاق القديم ، أركض فيه طفلة صغيرة تطير ورائي جديلتي وكشاكش فستاني الواسع ،.أدسّ جسدي النحيل بين أجساد الصبية وهم يلعبون ، ثم يهرب أحدنا فننطلق على أثره كأسراب الطيور. كانوا يختبئون فوق الأسطح الترابية وكنت أختبئ في صندقتي المهجورة التي لا تعرف مكانها يا أبي .
مازال قطار الزمن متوقفاً عند باب حجرتي ، وأنت منهمك في تجفيف عرقك المتصبب ، بينما يرتدي زوجي ثيابه بتؤدة ثم يخرج ملاءة السرير من سلة الملابس المتسخة ، وعندما خرج إليك سحبتُ اللحاف على جسدي المتعرق المرتعش و دفنت رأسي تحت الوسادة .استسلمت لرحى اللحظة الحاسمة التي تسحقني فأتطاير في الهواء كالغبار .
تفتحت كل جراحي القديمة ، يتدفق منها الدم حاراً لزجا ًغزيراً ، أشم رائحته التي تبعث الخدر في أوصالي وتصيبني بالدوار . بقع الدم تتناسل حولي وتلطخ الجدران والأثاث والسماء البادية من الفرجة الصغيرة للنافذة. تصطخب في أغواري رؤىً متداخلة وتطل عليّ برؤوسها كالعناكب : يوم أن بلغتُ وأصبحتُ امرأة ، بيتنا الذي يعج بالتفاصيل الأنثوية ، صراخ أمي وهي تضع في المستشفى ، و وجهك المُسوَد وأنت واقف عند باب حجرتها ، ممتطياً صهوة الأماني ،وسرعان ما تهوي على صخرة الكلمة التي تنطقها الممرضة في حرج :
بنت ! .
وضعتُ إصبعيّ في أذنيّ لكيلا أسمع صوتك ، ولكن قهقهتك دوت في حجرات البيت كطلقات مدافع العيد .هائجاً كنتَ ، تصيح تارة وتهذي تارة ، ثم تردد بصوت متحشرج :
الحمد لله .. الحمد لله . ألف مبروك ... ألف مبروك.
ناديتني فلم أقو على الرد ولا على الوقوف على قدميّ ، فاقتحمتَ حجرتي ماداً ذراعيك لتحتضنني .
كان وجهك مشرقاً مبتهجاً كشمس الصباح حين قبّلتَ رأسي ووضعتَ في يدي نقودا ، مردداً بصوت خنقته العبرة :
بيّض الله وجهك يا ابنتي كما بيّضتِ وجهي !.
تحاملتُ على نفسي ووقفتُ على النافذة أراقبك وأنت تتجه صوب سيارتك بخطىً رشيقة . لم تكن تتكئ على عكازك ، بل كنت تلوّح به في الهواء ، وأنت ترقص وتدور حول نفسك. كان ظهرك منتصباً على غير عادته ، ورأسك شامخاً كالجبال حين ركبتَ سيارتك وانطلقتَ بها تسابق الرياح.
.......................................
من مجموعتي القصصية ( سرداب التاجوري )

عبدالإله المالك
07-25-2012, 11:33 AM
يا مريمُ

جُرأة في اختيار وطرح الفكرة
تألق في الفصاحة واللغة
قوة في السبك والحبك

لمثل هذا .. أنتِ ..

تدعونني لدفع الخُطى حثيثًا لكي أسعى جاهدًا ..

على أن .. ابحث في المكتبات عن نسخة من المجموعة القصصية المعنونة بِـ : "سرداب التاجوري".

تقبلي منّي الوردَ والودَّ على هذا التميز والتفرد

نادرة عبدالحي
07-30-2012, 09:38 PM
صباح الدم
اه يا كاتبتنا مريم وضعتِ الملح على الجرح كما يقول المثل
قضية ما زالت تؤرق أصحاب الشأن عادات سمحوا لها بالاستمرار وأصبحت تقاليد موروثة
برأئي هي قضية شخصية تخص مالكها وليس مجتمع كامل
تقبلي مني باقة من زهر الأقحوان

مريم الضاني
08-12-2012, 05:43 AM
الأديب الفاضل عبد الإله المالك ، دوما تنثر ورود الفرح على تخوم نصوصي . دمت مبدعا متألقا .

مريم الضاني
08-12-2012, 05:45 AM
عزيزتي نادرة : هذه القضية مازالت موجودة في بعض المجتمعات العربية على حد علمي في بعض مناطق فلسطين ومصر والأردن . أعرف عوائل ماتزال تفكر بنفس طريقة تفكير الأب وتظلم بناتها كما ظلمت ابنة عم البطلة في القصة .