المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة بلا عنوان


محمود حبوش
07-25-2012, 09:19 AM
http://www.palestinianstory.com/wp-content/uploads/2012/07/Old-story.jpg

قصة

في إحدى لياليها السوداء، استيقظت من نومها القلق إلى درجة كبيرة، وقررت ان تضع حداً لعناء التفكير.

قفزت من مضجعها، ونظرت عبر غرفتها الواسعة، الشبه المظلمة. لم تكترث يوماً بإصلاح الستارة التي كانت تسرب بعض الضوء من الشارع العام، بل لربما ارتاحت لبعض من النور في غرفتها الباعثة إلى الكآبة.

نظرت إلى الأثاث القليل المتناثر عبر الغرفة؛ بعض الأجهزة الصغيرة، مرآة كبيرة تنتصب على الحائط، بعض الصور الضوئية القديمة الموضوعة على منضدة صغيرة، مصنوعة من خشب بني عتيق. وأشياء أخرى قليلة لاتتجاوز أصابع اليد الواحدة.

قفزت عبر شبه الظلمة، نحو الأثاث المتناثر في جهة واحدة تقريباً. أمسكت بمجموعة الصور المبروزة ورمتها بقوة عبر النافذة الزجاجية. اجتاحتها رغبة في تحطيم كل شيء. رفعت المنضدة مع الساعة القديمة الموجودة عليها ورمتهما بقوة. نظرت إلى كل شيء حولها ورمته عبر النفافذة التي كسر زجاجها الآن ليسمح لبعض نسمات الشتاء البارد بالدخول لخلق نوع من الحيوية في الغرفة الكئيبة.

ثم نظرت أخيراً إلى المرآة التي مازالت قابعة في مكانها، وإلى جهاز التسجيل الموسيقي جاثياً قرب سريرها. لم تحطمهما. أحست في ذروة انفعالها بضرورة إبقائهما.

اجتاحتها رغبة في اقتلاع جسدها البليد. لكنها لم تستطع ذلك. إذن، فالملابس. نعم. باستطاعتها فعل ذلك، بل إنها في حاجة ماسة إلى ذلك.

نظرت إلى ملابسها التي لم تخلعها في محاولة عاثرة لأن تنام من فرط إرهاق يوم طويل. ثم نظرت إلى السرير الذي يبدو كأنه لم يستخدم. فالوسائد البيضاء لم تبرح مكانها، غير أن أثر رأسها طبع على واحدة منهما مخلفاً شعرتين أو ثلاث، سود. أما اللحاف، فكانت نهاياته محشية تحت الفرشة بإحكام، لكن كان فوقه معطفاً أسودَ.

ركضت نحو المعطف الثقيل ورمته بسرعة، لكن ليس عبر النافذة. ثم نظرت مرة أخرى إلى السرير، حيث ظهرت حقيبة جلدية سوداء، كانت مدفونة تحت المعطف. انتزعتها بقوة وفتحت سحابها مخرجة مظلة وشال. رمتهما. ثم زجَّت يدها مرة ثالثة لتخرج هذة المرة محفظة صغيرة. نظرت إلى داخلها؛ كانت خالية إلاّ من بعض النقود والبطاقات الشخصية والمصرفية، وصورة غشاها الغمام تقريباً، لكن ملامح وجه صاحبها مازالت واضحة. أخذت تمسح فيها، عبثاً، من فوق الغلاف المطاطي الشفاف الذي يعلوها. كانت تنظر إليها بنظرة كئيبة. ترقرقت دموعها، غزيرة حارة. ترقرقت هكذا، دون إرادتها. حتى أنها، ربما لشدة حرارة دموعها، لم تثر صوتاً. ظلت صامتة.

رمت المحفظة على الأرض. ثم عادت لتنظر داخل الحقيبة لتخرج منها مشطاً صغيراً كانت تحتفظ به دائماً. منذ متى لم تستخدمه؟ وضعت الحقيبة والمشط على السرير.

ثم بدأت تخلع ملابسها. استغرقت وقتاً طويلاً في ذلك. فخلع قميص صوفي، وقميص داخلي، وتنورة ثقيلة وصدارة وما دونها ليس بالأمر الهين. كانت تتوقف لحظة تأملية كلما خلعت قطعة من ملابسها، خاصة عندما أزاحت عنها الصدارة. انتابها حينئذ نوع من الشعور بالحرية. حتى الأثداء تتوق إلى الحرية. أخذت تمرر يديها عبر ثدييها. أخذت تمسحهما بلطف وبشيء من القوة أحياناً، في محاولة لإزالة أثر القيود.

تناولت المشط، ثم اقتربت من المرآة. منذ مدة لم تنسق شعرها، فكرت في ذلك ملياً. أصبح الآن أكثر سوءاً مما كانت تتوقع. ظلت صامتة لبرهة. ثم ركضت نحو إحدى زوايا الغرفة الفارغة إلاّ من بعض حقائب التسوق الورقية. مسكت الحقائب مسرعة نحو المرآة، ثم أخرجت من إحداها ثوباً أسودَ.

تأملت الثوب الجديد، ونفس النظرات الكئيبة مازالت مرتسمة على عينيها. ثم أخرجت من باقي الحقائب شالاً وحِذاءً جلدياً. نظرت إلى الملابس مجتمعة، ثم إلى انعكاس نفسها في المرآة.

ثم ذهبت إلى الحمام الصغير المتصل بالغرفة. ما إن مدت يدها نحو الماء المتدفق من الُدش حتى نزعتها إلى الخلف بشدة لبرودته القارسة. ومع أخذ شهيق عميق أخذت تستحم. كانت قد نست كعادتها أن تشغل سخان الماء قبل خلودها إلى النوم. لم تبال لشدة برودة الماء المنسدل على جسدها.

ظلت محافظة على ثباتها. لم تحاول مجرد التفكير بشدة البرد. حاولت أن تشغل نفسها بأشياء أخرى.

ثم أسرعت نحو المرآة الكبيرة بينما هي تجفف جسدها الذي لازال محتفظاً بنضارته رغم بؤس حالها. ارتدت ملابسها الجديدة بعناية تامة، وأخيراً نظرت إلى شعرها. جففته جيداً، ثم نسقته.

جلست على سريرها واضعة ساقاً فوق ساق، وشغلت المسجل الموسيقي لتستمع إلى معزوفة قوامها العود. كانت أنغام العود، ببساطتها وعذوبتها تضفي على نفسها نوعاً من الراحة والطمأنينة.

كان النهار على وشك الطلوع. لكن، مازالت الظلمة تغشى المدينة الكبيرة. هبت من سكونها، ونظرت إلى أرضّية الغرفة الخالية من الفرش، وبسرعة خاطفة أمسكت بالمحفظة. نزعت الصورة المغشية، تأملتها، لكنها هذه مرة كانت حازمة، لم تثر أي دمع. كانت عابسة، شديدة العبوس. لكن عبوسها كان يضفي جمالاً على عينيها الساهمتين. وبعنف انتفضت لتمزق الصورة. مزقتها بقوة. كأنها تنتقم.

كتبت في: 25 سبتمبر 1998
http://www.palestinianstory.com/index
(الرجاء عدم إعادة استخدام الصورة دون إذن من المؤلف)

عبدالإله المالك
07-25-2012, 11:58 AM
أيّها الكاتب الصحفي محمود حبوش

في البدء حُييتَ أهلاً وسهلاً وأبعادًا ..

قصة تشدُّ القارىءَ من أوّل حرفٍ لآخرِ جملة .. وقد لا يستطيع الذهن التشتت بل يظل فيها ينهل ويرتشف من معين هذا النص حتى ينتهي ..

وأظنه سيعاود الكرّة بالقراءة مرة أخرى ومن خلالها يبدأ بالتأمل والتفكر في ما بين ثنايا إبداعات تألق السبك والحبك لهذه القصة الشيقة ..

تقبل تحياتي ووردي وودي

محمود حبوش
07-25-2012, 12:09 PM
أشكرك سيد عبد الإله على الكلمات الجميلة.

إيناس الطاهر
07-27-2012, 10:39 AM
بين ما تريد وبين ما تستطيع بون شاسع!!
كذات المساحة المتسعة بين ما تأمل وعلاما تحصل!!!

أستاذي الكريم، تناولك لأحداث القصة كان مرتباً رغم بعض الحشو من تفاصيل، إضافة لبعض المفردات العامية في النصّ.
بعيداً عن ذلك كان الصراع في نفسها بائناً منذ بداية السطر،،
فوضوية قناعاتها ورغباتها شهدت بها غرفتها المرتبة...

جميل ما كان هنا.
مودة.

محمود حبوش
07-29-2012, 11:43 PM
الأخت إيناس، أشكرك على إطرائك. أنا من المقلين جداً في استخدام العامية في كتاباتي، ولكن في بعض الأحيان اضطر لاستخدامها. ولا أعتقد أن ثمة ضير في ذلك لاسيما إذا مكنتنا اللفظة العامية من إيصال المعنى بشكل دقيق حتى وإن توفر في بعض الأحيان البديل الفصيح.
مع تقديري

أحمد آل زاهر
07-30-2012, 02:13 AM
..
..

الكاتب القدير محمود حبوش
رائع هذا الغزْل ..
وكأني بها لوحة فنية تسرّ الناظرين وتطغى إلا أن تسكن القلب ..
ولروابيك الأخرى أيضاً موعدٌ بزيارات كثيرة ..

رائع يا صديقي

..