المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : يوتوبيا الشياطين (رواية)


عمرو مصطفى
10-31-2018, 11:25 AM
" لا أريد منك أن تقبل الجانب الخارق من هذه القصة أو ترفضه..
فقط أريد منك أن تفكر في كل هذا الذي تعتقد.. هل رفاقك هم رفاقك فعلاً..
ربما كانوا مثلك ضحية للشيطان.. وربما كانوا هم الشيطان ذاته في جثامين إنس.."
***


http://www.ab33ad.info/up/uploads/images/ab33ad.info-75d5b857d8.jpg









1ـ شاب أخر

انفتح الباب ودخل منه ذلك الشاب..
ألقيت عليه نظرة طويلة فاحصة بينما وقف أمام مكتبي بانتظار أسئلتي.. كان وسيماً رغم الإرهاق والهالات
السوداء التي تحيط بعينيه وشعره المنكوش.. يرتدي حلة يبدو أنها كانت أنيقة ونظيفة قبل أن يحضروه إلينا..
فقضاء ليلة واحدة في زنزانة من أولئك كافية لتحويل عروس في ليلة زفافه إلى شحاذ من أولئك الذين يفترشون
الأرض أسفل الكباري..
نظرت في التقرير المعد أمامي عن نشاط الشاب الحزبي.. إنه عضو في حزب شيوعي في وقت أعلنت
فيه الدولة الحرب على اليساريين.. تلك الفترة التي أعقبت الوحدة مع سوريا..
شاب يساري وحزب شيوعي.. سألت نفسي: ألا يذكرك هذا بشيء؟..
بلى أذكر..
أذكر شاب أخر وصل لتلك الحالة المزرية بسبب سيره في نفس الطريق الذي أوصل هذا الشاب إلى هنا..
شاب أخر تم إنقاذه من بين براثن تلك الأفكار بما يشبه المعجزة..
والآن يعز علي أن أراه يروح ضحية لنفس تلك الأفكار..
أشرت له كي يجلس وسألته في هدوء لأخفف من اضطرابه:
ـ تشرب شيئاً ؟..
بدا الذعر في عينيه ففهمت أنه يظن عبارتي تلك شيفرة تعني المزيد من الضرب.. قال وهو يتحسس قفاه :
ـ لقد شربت بما فيه الكفاية..
ابتسمت برغمي وقلت له مشفقاً :
ـ لا تخف.. سأحضر لك عصيراً..
لم يصدق نفسه حينما وجد نفس المخبر الذي كان ينفخه
بالأمس يقدم له اليوم كوب من العصير المنعش.. قلت وأنا أراقبه وهو يرشف العصير متشككاً :
ـ هل أنت فعلاً شيوعي؟..
كنت أريد أن أتأكد أولاً قبل أن أبدأ معه حديثي.. لا أريد أن أضيع وقتي مع واحد أخر أجبره كرم المخبرين الزائد
على الاعتراف بأنه جيفارا نفسه..
وضع كوب العصير الفارغ على الطاولة ثم أجاب :
ـ لقد اعترفت بهذا للسادة الظرفاء بالخارج..
ـ أنا لا أريد ذلك الاعتراف.. أريد الحقيقة..
نظر لي بعينيه المنهكتين وقال في حيرة :
ـ الحقيقة! أنا أتمنى أن أصل للحقيقة..
كلهم يقولون نفس الشيء.. نريد الوصول للحقيقة.. وهي طريقة مناسبة للهروب من الحقيقة أحياناً..
ـ هل الأفكار اليسارية ستوصلك للحقيقة؟..
ـ الأفكار اليسارية أو الشيطان ذاته المهم أن أصل للحقيقة..
نعم.. أو الشيطان ذاته.. تلك الكلمات تمس مشارعي بشدة.. الآن تأكدت أن الشاب معتنق للأفكار الشيوعية فعلاً..
إنه زبون جيد إذن.. قلت له بنبرة أخوية لا تخلو من حزم :
ـ الشيطان لن يوصلك للحقيقة.. كما أنك كشيوعي يفترض فيك ألا تؤمن بالشيطان أصلاً..
ابتسم بركن فمه ولم يعلق.. لسان حاله يقول أنني اتعلق بمثل هذه الهنات التي تصدر من أمثاله على سبيل المبالغة..
أو العادة.. أو السهو.. معظم الملاحدة تجدهم يحلفون بالله سهواً.. هنا قررت أن أفاجئه فقلت له :
ـ تعرف أنا كنت شيوعياً مثلك..
ارتفع حاجبيه قليلاً ثم عاد ينخفضان دون تعليق..
ـ وأنت تذكرني بنفسي حينما كنت معتنقاً لتلك الأفكار الخائبة.. وكدت أروح ضحية لها..
لولا أن قدر الله لي النجاة في أخر لحظة..
نظر لي بمعنى : هل أتكلم ولي الأمان فنظرت له بمعنى : تكلم عليك الأمان.. قال بحذر :
ـ أنا لا أعتقد أن الشيوعية فكرة خائبة إنها دعوة لبناء مجتمع كامل متساوي خالي من المشاكل.. إنها... إنها...
وبدا كأنه يبحث عن وصف مناسب فقررت أن أكمل له عبارته لأريحه:
ـ اليوتوبيا..
قال كمن وجد ضالته :
ـ هي كذلك..
ابتسمت قائلاً :
ـ هل تعتقد أنني بحاجة لتلك المحاضرة عن مزايا الشيوعية.. لقد ذكرتني بالذي مضى..
عموماً يمكنني أن أثبت لك العكس فقط لو أنصت إلي جيداً..
كانت جفونه متثاقلة بسبب قلة النوم والجهد والخدمة الخمس نجوم التي نالها هنا..
ترى هل سيتحمل سماع حكايتي الغريبة؟..
إن لدي قصة أعجب من العجب مع الأفكار اليسارية.. ظننت أنني لن أحكيها لأحد من فرط غرابتها..
لكن يبدو أنها كانت مدخرة لوقت معلوم..
ولماذا أحكي له؟..
هذا الشاب على وشك فقدان مستقبله بسبب تهمة الانتماء للشيوعية..
هذا الأحمق سيقضي وقتاً طويلاً بالسجن قبل أن يفهم..
أن مجتمعنا المسلم لا مكان فيه للشيوعية أصلاً إلا تحت السلم كما يقولون..
ربما يصل أحدهم لمنصب في جريدة هنا أو مصلحة هناك.. لكنه سيظل يتعامل مع المجتمع على طريقة المنافقين..
همز ولمز للمعتقدات والثوابت من بعيد كلما لاحت فرصة وعندما يكشر المجتمع عن أنيابه..
يحيص حيصة الحمر..
لو أمكن معالجة هذا الشاب الأن وهنا.. من يدري ربما تغير مستقبله تماماً..
طلبت له كوب من القهوة المركزة ولاحظت تبرم المخبر الذي تحول لساعي خاص بذلك المعتقل الشاب..
لكنني تعمدت إزلاله كنوع من الانتقام لهذا الشاب اليافع البريء..
لماذا أرى أنه بريء؟..
الحقيقة أن البراءة هي السمة الغالبة على معظم هؤلاء الشباب المساكين..
الشاب يقلب بصره بيني وبين كوب القهوة الساخن في عدم فهم.. ثم يقول في حذر:
ـ حضرتك مختلف تماماً عن بقية الضباط هنا..
ـ ليس تماماً.. فقط أنا مررت بنفس تجربتك لذا أشعر بك أكثر منهم..
هم يرونك مجرم زنيم ومصدر تهديد وإزعاج للسلطات.. وأنا أراك مجرد ضحية لتيار فكري هدام..
نظر لي طويلاً ثم هز رأسه في حيرة متسائلاً :
ـ هل هذا يعني أنكم ستفرجون عني؟..
ـ هذا يتوقف على مدى استجابتك..
لاحت على وجهه ابتسامة عليلة وهو يسألني :
ـ ستجعلني أحلف على مصحف أنني طلقت الشيوعية بالثلاثة قبل أن تفرج عني؟..
قلت وأنا أبادله الابتسام :
ـ لا طبعاً.. سأحكي لك تجربتي الشخصية أولاً وسأترك لك الحكم في النهاية.. اعتبرها نوع من الدردشة..
وأشرت للقهوة الساخنة مردفاً :
ـ لكن اشرب قهوتك أولاً لأني أريدك يقظاً..
وأخذت نفساً عميقاً.. ثم بدأت أحكي..
***

سيرين
11-01-2018, 02:27 AM
يوتوبيا الشياطين ومدنهم الفاضلة
لا هسيس للعدل
ولا يقظة للحياة
دروب طوت عتمتها زمرة سراب دأبها الظلم والخيلاء
وحتى إشعار آخر ثمة ضوء تتكأ على همهمة ضمير
سرد قصصي متقن ويشي عن قلم مبدع وفكر يبهرنا بإتساع أفقه ورحابة ضوئه
باقات الود والامتنان كاتبنا المبدع \ عمرو مصطفى
دام غيثك هطول لا يفل

\..:icon20:

عمرو مصطفى
11-03-2018, 09:49 AM
يوتوبيا الشياطين ومدنهم الفاضلة
لا هسيس للعدل
ولا يقظة للحياة
دروب طوت عتمتها زمرة سراب دأبها الظلم والخيلاء
وحتى إشعار آخر ثمة ضوء تتكأ على همهمة ضمير
سرد قصصي متقن ويشي عن قلم مبدع وفكر يبهرنا بإتساع أفقه ورحابة ضوئه
باقات الود والامتنان كاتبنا المبدع \ عمرو مصطفى
دام غيثك هطول لا يفل

\..:icon20:
مع كل تلك التعبيرات الراقية التي يصعب علي أمثالي فهمها بسهولة .. لا أملك إلا أن أقول لك:
جزاكم الله خيراً .. وأتمنى أن تظل الرواية عند حسن ظنكم لنهايتها..

عمرو مصطفى
11-03-2018, 10:02 AM
2ـ الرفاق

قلت للشاب:
ـ كنت في تلك الفترة التي تلت ثورة يوليو شاباً مفعماً بالأفكار اليسارية والثورية مثلك تماماً..
كنت واثقاً في أن المستقبل لليسار.. اتخيل الكرة الأرضية نفسها وهي تدور حول نفسها أنها تدور باتجاه اليسار.. ..
العالم ما هو إلا كوكباً من القرود بحاجة إلى ترويض وأنا ومن هم على شاكلتي
الأدميون على الحقيقة، والمروضون الفعليون لهذا الكوكب البائس.. وحلمت بالعالم المثالي
الذي فيه الناس ما هم إلا آلات .. بل تروس في ألة عملاقة.. الكل يعمل من أجل الكل..
الملكيات متساوية.. إنها الشيوعية يا صاحبي في خضم مجدها وإن قلمت أظافرها
هنا وإن شئت قل مخالبها لتصير اشتراكية...
لأن بلادنا التي مازالت تحتفظ بتراثها القديم لم تكن لتقبل الشيوعية في صورتها الفجة لكنهم
شربوا الاشتراكية حتى النخاع حتى صاروا يعتقدونها دينا..
بالرغم من كوني ضابط شرطة عمله ينحصر في ضبط الأمن ومطاردة الجريمة إلا أنني كنت
أعتقد أننا نتبع الأسلوب الخاطئ.. هناك جريمة لأن هناك تفاوت ..هناك جريمة لأنه لا توجد مساواة بين البشر..
وحينما تطبق الشيوعية البحتة لن تكون هناك جريمة ولن نحتاج لشرطي أصلاً...
مازال مجتمعنا تفصله مفاوز وقفار حتى يصل إلى اليوتوبيا الكاملة..
المدينة الفاضلة كما يطلقون عليها من باب التمويه على العوام المتدينين لكنني أعرف كغيري
ممن تتلمذوا على أفكار اليسار حقيقة اليوتوبيا.. جنة اليساريين على الأرض..
وكنت أحيا من أجلها.. ما أجمل الحياة من أجل هدف ..حتى وإن كان في نظر البعض تجديف وإلحاد ..
قصتي بدأت في منتصف الخمسينيات لم أكن وقتها قد انتقلت للعمل في الجهاز المرعب الحالي..
كنت قد كلفت بالخدمة كضابط في قرية كفور الصوالح إحدى قرى الوجه البحري..
كان هذا التكليف بالنسبة إلي نفياً زمانياً أكثر منه نفياً مكانيا... لأن القرى في ذلك الوقت
كانت بكراً لم تفض بكارتها معاول الحضارة بعد.. ولا تندهش إن صارحتك أنني كنت سعيداً
بهذا النفي لأسباب عائلية بحتة لكنني وقتها كنت أتظاهر بالعكس تماماً ..
وقتها قلت لرئيسي المباشر وأنا أحاول كتمان مشاعري الحقيقية :
ـ أتمنى أن أكون مفيداً هناك أكثر من طائر أبو قردان ..
شاعت على ثغر الرئيس شبح ابتسامة مقيته وهو يقول :
ـ لا تغتر بالريف يا مجدي.. من يدري ما الذي قد تواجهه هناك...
ـ لصوص الماشية والدجاج .. إن لم تخني الذاكرة ....
ـ قد يكون هذا ترف مبالغ فيه ..
ووقع لي على جواب تحويلي ثم رفع بصره إلى وقال :
ـ لا تنس إبلاغ سلامي إلى والدك..
والدي محمد سليمان ضابط شرطة متقاعد له تاريخه الحافل في سجل الشرطة
ورئيسي كان يوماً من تلامذته..
ومن يدري ربما أرسله والدي الموقر يوماً ما إلى نفس تلك القرية التي سأرحل إليها
وهو اليوم يرد الجميل لوالدي ..شكرته على النفي بحرارة أدهشته.. لكن وقت الادعاء
قد فات وحصلت على توقيعه وصرت أنتمي إلى هناك ..وقمت لألملم أوراقي وانصرفت
دون تحية لأنني لم أكن ارتدي الزي الرسمي.. لكن من الغد سأعود للزي الرسمي..
وليس أي زي رسمي.. إنه زي الأقاليم الكاكي الذي يذكرني بكاسترو..
***
كعادة من يفارقون الدنيا ـ وكنت على وشك مفارقة الدنيا التي أعرفها ـ قررت أن أجلس جلسة وداع مع الرفاق..
ـ ستسافر يا مجدي..
ـ سنفتقدك أيها الرفيق الغالي..
إن الرفاق مجموعة متباينة الأعمار لكنها متحدة الأفكار.. في عقل كل واحد من هؤلاء يوتوبيا
يحلم بتحقيقها على أرض الواقع.. أنا الوحيد الذي قرر أن يرحل بفكرته بعيداً بعيداً إلى قرية
كفور الصوالح لأبذر هناك نواة عالمي الجديد...
قال لي الرفيق سيف وهو محامي في الخمسينات :
ـ أرجوا ألا تعود من هناك محملاً ببراغيث الأرياف..
ابتسمت قائلاً :
ـ هذا أفضل من ألا أعود أصلاً..
تكلم الرفيق مراد مضيفنا الطبيب النفسي الذي يقوم بدور فرويد في جلساتنا تلك فقال:
ـ الرفيق سيف لا يقصد المعنى الحرفي.. هو فقط يخشى عليك..
التفت للرفيق سيف فرأيته يبتسم في غموض :
ـ الريف مازال بكراً.. والبراغيث التي أخشاها عليك.. هي براغيث الرجعية والتخلف بالطبع..
هؤلاء ماديون لدرجة تثير الهلع.. حتى في نفس إنسان مادي مثلي.. لن يتفهموا سر ذهابي للريف..
وستنقلب السهرة علي.. سأكون مادة للضحك والسخرية.. قلت في رزانة :
ـ هذا المكان البكر هو خير مكان أبدأ منه مشروعي..
سعل الرفيق صدقي وهو يحاول إشعال غليونه للمرة الألف منذ جلس حتى بدأ يثير أعصابي
بهذه المدخنة التي لا تفارق شفتيه.. إنه أكبرنا سناً هنا وأكثرنا كآبة لسبب ستعرفونه بعد قليل..
وقد قرر أخيراً أن يدلي بدلوه في الحديث بعد أن فرغ من تسليك مدخنته الخاصة.. قال :
ـ أنت شاب يا مجدي والشباب لهم مزية مهمة لم يعد يدرك جدواها كثيراً من الحضور..
أعني من تخطوا الخمسين والستين.. هذه المزية هي الحماس.. أنت متحمس لأنك شاب..
تنحنح سيف قائلاً :
ـ لكننا أكثر خبرة.. لا تنكر هذا..
نظر له الرفيق صدقي بعينين حمراوين من أثر السعال وقال بنبرة لا تخلوا من رنة حزن :
ـ إننا كذلك الأكثر قرباً من الموت.. الموت ذلك اللغز المحير بما وراءه..
تأفف سيف وتراجع في مقعده ولسان حاله يقول: تباً لا تعد لتلك الاسطوانة المشروخة أرجوك..
كان هناك بعض الشباب غيري مثل الرفيق حسام والرفيقة سلمى..
وكانا ينظران لصدقي في سخرية لكن بلا تعليق.. إنها نفس نظرة الشاب المقبل على
الحياة لشيخ فان يقترب من الموت ولا يدري السبب..
حسام وأنا نمثل الدم الجديد في المجموعة وسلمى مهمتها تجديد الدماء في عروقنا جميعاً..
إنها رفيقة من النوع الحميم.. فنحن هنا لا نعترف بالعلاقات الإنسانية ذات البعد الديني..
خصوصاً تلك التي تقيد الملكيات..
طبعاً لو تسرب شيء مما يدور بيننا هنا للجيران فسيكون مصير مجموعتنا هو شرطة الآداب..
للأسف لن يفكر أحد في كوننا مجموعة لها فلسلفتها الخاصة في الحياة..
وتحاول كذلك جاهدة أن تجد تفسيراً مقنعاً لحقيقة ما بعد الحياة..
الحقيقة التي تخيف الرفيق صدقي ويتحاشى الخوض فيها أترابه ويسخر منها أترابي..
لكنها تزعجني بحق.. أنا شاب اليوم.. لكن غداً سأجلس لأدخن الغليون متأملاً عبر
حلقات الدخان أيامي الغابرة.. وأنتظر اللحظة التي أكف فيها عن التأمل وعن التدخين كذلك..
لقد فجر الرفيق صدقي السؤال الملح الذي نخشاه جميعاً.. ونتحاشى البحث له عن إجابة..
الموت.. ماذا بعد الموت؟..
قال مراد وهو يصب بعض الشراب في كأسه التي ترتجف بين أنامله وبيده الأخرى يداعب رأس كلبه الأسود الكئيب:
ـ لا شيء.. خواء.. بعد الموت راحة أبدية.. سنصير غباراً تذروه الرياح.. إنها متعة لا تتصورنها.. لكنها الحقيقة..
وكأنما يشارك سيده حكمته أطلق كلبه عواء خافتاً مؤيداً!..
قال الرفيق سيف متفلسفاً :
ـ يتحدث الهندوس والبوذيون وحتى الصوفية عن الفناء.. هل هذا ما تقصد؟..
ـ كلامهم فيه بعض الحكمة لا تنكر ذلك..
قلت له بدهشة :
ـ أراك تتجه إلى الإيمان بشيء ما وراء ذلك العالم..
أفرغ مراد كأسه دفعة واحدة ثم وضعه على المنضدة أمامنا خاوياً.. إننا نشبه هذا الكأس
الفارغ حينما تنضب منا الحياة.. قال الرفيق مراد وهو يضع ساقاً على ساق :
ـ أنا على العهد يا رفاق.. فقط أحياناً أجد في كلامهم بعض الحكمة والراحة.. وليس معنى
هذا موافقتي على وجود صانع وحياة أخرى..
قال صدقي وهو يخرج الدخان من منخريه كوحوش الأساطير:
ـ أنا لا أحب تخيل نفسي وقد صرت غباراً تسحقه قدم قاسية.. هؤلاء الهندوس لا يتحدثون
عن المادة يا رفيق مراد.. عليك أن تؤمن تماماً بهم لتشعر بكامل الاطمئنان الذي تتحدث به الأن..
قال الرفيق سيف :
ـ الموت مجرد مرض لم يكتشف له علاج بعد.. عليك فقط أن تحيا على أمل اكتشاف هذا العلاج..
نظر له صدقي في غل وهو ينفخ المزيد من الدخان تعبيراً عن البركان الذي يغلي بداخله.. ثم قال :
ـ إنها رحلة البحث عن الخلود.. دأب البشر الحمقى منذ أيام جلجامش..
اقترب الرفيق الشاب حسام منه ورتب على كتفه قائلاً بنبرة ساخرة :
ـ ربما اكتشفوا يوماً ما حلاً للموت.. لكنك ستكون قد مت طبعاً..
تناثرت الضحكات من حول الرفيق صدقي فبدا كمن بوغت.. لقد تحولت مأساته إلى طرفة في
غمضة عين بسبب شاب من أولئك..
إنه ينظر لحسام بغل لا يخلو من حسد.. فهو ما يزال شاباً ينتظره الكثير والكثير قبل أن
يجلس جلسته تلك.. تلاقت أعيننا فقلت له محاولاً جلب بعض الجدية لجلستنا :
ـ لا تقل لي أن الحل في الإيمان بالحياة الأخرى..
صمت قليلاً وهو يطرق للأرض.. ثم رفع طرفه وهز رأسه في حيرة قائلاً :
ـ لا أدري..
اقتربت منه سلمى وهي تقول بحنو :
ـ أنت ترهق نفسك في تساؤلات لا طائل من وراءها.. الكل سيموت وساعتها الكل سيعرف الإجابة الصحيحة..
رائعة سلمى هذه.. لكن ليس في الفلسفة كما لكم أن تتخيلوا..
قال لها صدقي في سأم:
ـ سنعرف الإجابة لكن بعد فوات الأوان..
مسحت بيدها على ما تبقى من شعره لكنه أبعدها عنه بحدة كأنها حشرة ضارة قائلاً :
ـ لا تضيعي وقتك معي يا فتاة.. لقد اكتفيت من كل شيء في هذه الحياة فعلاً..
ثم نظر لنا كأنه يرمق مجموعة من المتطفلين وأردف :
ـ ربما لن أنتظر حتى يأتيني الجواب بغتة..
ثم أشار لي بغليونه :
ـ اذهب أي بني إلى كفور الصوالح.. أو حتى إلى الجحيم.. عسى أن تعود يوماً بإجابة تريحك..
كان وداعي للرفاق كئيباً كما ترى..
قمت بمصافحتهم وتمنيت لهم ليلة طيبة مع صدقي وتركتهم كي أعود لداري مبكراً..
دلفت إلى سيارتي الغافية وأدرت محركها فأطلقت زئيراً معترضاً.. هذا أنا يا عزيزتي..
ألقيت نظرة وداع على شقة الرفيق مراد وقبل أن أتحرك لمحت في المرآة ذلك الشخص الجالس باسترخاء في المقعد الخلفي.
***
دائماً ما يظهر في عالمي بغتة..
رغم ملامحه الغريبة بشعره ولحيته الطويلة التي غزاها الشيب وزيه الذي يعود للقرن
الماضي إلا أن رؤيته قبل أن أرحل كانت تعني لي الكثير..
فهو رفيق دربي منذ زمن طويل.. و هذه هي المرة الأولى التي اتحرك فيها دون الرجوع إليه..
أدرت محرك السيارة قائلاً له في ضيق مصطنع :
ـ أنا منقول للخدمة في الأرياف.. تصور!
قال بصوته العميق :
ـ هذا التكليف في الوقت والمكان الغير مناسبين..
حاولت أن أتظاهر بأن الأمر أكبر مني.. لكنه قال لي ببرود:
ـ أنا لست رئيسك المباشر..
هذه هي مشكلتي الأبدية معه.. أنا مكشوف تماماً أمامه مثل كتاب مفتوح.. قلت له مستسلماً :
ـ أنا أرى أن التغيير لابد أن يبدأ من الريف البكر ..
ـ هذا الكلام ربما يقنع رفاقك..
أطلقت زفرة حارة ثم قررت أن أفصح :
ـ حسناً.. أنت تعرف ضغوط العائلة من أجل مسألة الزواج إياها.. إمي تكرس وقتها كله في شيئين..
الطبيخ والبحث عن زوجة لي من بنات العائلات الذين لا ينتهون من عالمها أبداً.. لابد أن أهرب بعيداً لبعض الوقت..
ـ كنت أتمنى أن تواجه بدلاً من أن تهرب..
هززت رأسي نافياً وقلت:
ـ لا أستطيع..
لم يبد مرحباً بصراحتي هذه المرة.. إنه غير راض عن الرباط الأسري الذي يقيدني.. وكان
المفترض منه أن يفرح لخبر ابتعادي عن نطاق الأسرة الصارم الذي يبغضه..
قال لي :
ـ أرى أنك تستغيث من الرمضاء بالنار..
ابتسمت برغمي لكونه يستعمل أمثال عربية قحة.. قلت :
ـ تنسى أنني مكلف.. صحيح أن هذا التكليف وافق هوايا.. لكن أنا لا حول لي ولا قوة..
سكت ولم يعلق فسألته بلهفة :
ـ طبعاً سترحل معي إلى كفور الصوالح؟..
سعل مرتين ثم ضرب على صدره قائلاً :
ـ يبدو أن جو العاصمة لم يعد يناسب صحتي المتداعية..
هتفت في فرحة غامرة :
ـ سترحل معي يا رفيق...
وضع سبابته على فيه ليصمتني وقال في ضيق :
ـ قلت لك لا تلفت الانتباه إليك وأنت معي.. سيتهمونك بالخبال رسمياً.. وستكون نهايتك الفصل من العمل..
تراجعت معتذراً :
ـ لا تؤاخذني فقد خشيت أن تتركني أخوض التجربة وحدي
ـ كارل لا يخذل أبنائه..
غمرني شعور بالفخر والانتشاء جعلني أضغط على البنزين أكثر وأكثر.. هاهو
ذا يعتبرني من جملة أبنائه.. وأنا أعتبر نفسي من خواص أبنائه..
قال وهو يتطلع إلى الطريق بعين شاردة :
ـ لكن عليك أن تعدني أولاً أنك ستتبع إشاراتي ولا تتصرف من تلقاء نفسك.
ـ هذا أمر مفروغ منه يا رفيق..
كنت أكذب طبعاً.. فأنا أكثر شخص متمرد قابلته في حياتي.. لكنني كنت بحاجة إليه بجانبي..
المرء لا ينعم بصداقة من هذا النوع بسهولة في هذه الأزمان..
وإنني لأعتبر نفسي محظوظاً كي أنال شرف صداقة كارل ماركس شخصياً!..
***
حكيت له في الطريق ما دار بيني وبين الرفاق فقال معلقاً :
ـ دعك من تشاؤم الشيوخ هذا.. اليوتوبيا هي الخلاص الحقيقي للأرواح المعذبة..
نظرت له في مرآة السيارة وابتسمت..
ـ يعجبني فيك تفاؤلك رغم كونك شيخاً..
مال للأمام قائلاً:
ـ لا تضيع زهرة شبابك في البحث عن إجابة لسؤال عبثي.. حتى رفيقك صدقي نفسه لم يضيع
لحظة من شبابه في الاستماع لترهات الشيوخ الذين اقتربوا من الموت..
ـ ربما أراد الرفيق صدقي أن ينكد علينا لا أكثر..
ـ إنه لم يتشبع بمبادئي كما تعتقد.. لذا هو حائر..
ـ هو كذلك يا رفيق.. لكن..
ـ لكن ماذا؟..
سكت هنيهة ثم قررت أن أفصح..
ـ أنا أخشى فعلاً مما يخشاه صدقي.. أنا لا أريد أن ينتهي بي الأمر إلى تراب تذروه الرياح..
ما فائدة المجد الذي نسعى إليه إن كان كل شيء سيفنى ويبيد..
رأيته ينظر لي بثبات وابتسامة ماكرة تتلاعب على شفتيه التي لا تكاد ترى وسط دغل الشعر الأبيض الكثيف..
ـ تريد الخلود؟..
قلت وأنا أهز رأسي نافياً :
ـ لا يوجد خلود يا رفيق..
ـ من أدراك؟..
قلت له في بساطة :
ـ الواقع يؤكد ذلك..
قال ماركس وهو يبتسم في غموض:
ـ بل الواقع ينفيه..
نظرت له في غباء :
ـ أنا لا أفهمك..
ـ يمكنك أن تكون خالداً لكن ليس بجسدك المادي؟..
قلت له في دهشة :
ـ تقصد كروح؟..
قال بنفس الغموض :
ـ بل كفكرة.. أنا فكرة خالدة في ذهنك.. ويوماً ما ستكون أنت فكرة خالدة في ذهن شاب أخر..
إنها حياة ممتعة وممتدة بلا نهاية.. المهم هنا.. ما الذي صنعته كي تستحق هذا الخلود..
قلت بانبهار :
ـ ربما كان هذا جواب ممتاز على سؤال صدقي الأحمق..
قال لي ببرود صارم :
ـ ربما.. لكنه لا يستحقه..
إذن هناك خلود.. وماركس هو الدليل العملي على ذلك..
إنه لم يمت كما يدعون.. إنه زعيم خالد في وعي وعقل كل المنتسبين إليه..
الحياة الحقيقية هي حياة الأفكار يا سادة..
شكراً ماركس..
***
مالم أعرفه في وقتها أن الرفيق صدقي قرر أن يعرف إجابة سؤاله المحير بمحض إرادته الحرة..
وجدوه قد قام بعمل مشنقة بربطة عنقه الأثيرة وتدلى عبرها وهو يرمق الكون من عل في فتور..
الأحمق أثبت فعلياً انه لا يستحق الخلود..
***
حينما حان الوقت حملت حقيبة السفر ووقفت على باب المنزل استعداداً للخروج من عالم المدنية
ومستقبلاً ذلك العالم الجديد البكر الغامض الملوث بروث الماشية ورائحة الحقول..
جاءت أمي لتطبع قبلة على خدي الأيمن ولتلقنني أدعية السفر..
وأغلق والدي المصحف الذي يقرأ منه ونظر إلي نظرة فاحصة.. كم أخشي تلك النظرة البوليسية
المتهمة التي لم تفارقه حتى بعد الخروج على المعاش ..يقولون انني ورثت نفس تلك النظرة ..
وهذا كان مما يثير رعبي أكثر ...
ـ قبل أن ترحل سأعطيك شيئاً ..
أغمضت عيني متوقعاً العطية التقليدية في مثل تلك المناسبات .. وسرعان ما دس أبي
المصحف المزركش في يدي التي مددتها له مصافحاً وعانقني في قوة كعادته كأنما يصارعني وهمس في أذني:
ـ حاول أن تثبت أنك أبني حقا ..
ـ ألم تثبت هذا في شهادة ميلادي ..؟
ابتسم لدعابتي وهو يداعب وجنتي بأنامله الخشنة وقال محاولاً أن يداري مشاعره :
ـ أنت تذكرني بنفسي حينما خدمت لأول مرة في الصعيد ..كانت أيام.. لكنك أفضل حظاً من والدك ..
اكتفوا بنقلك لقرية من قرى الوجه البحري ..
ـ الحقيقة لا اجد فارقاً ..ربما الفارق الوحيد في المسافة ..لكن كل القرى تتشابه .
هنا تذكرت والدتي موضوعها الأثير الذي لا تجيد الحديث في غيره وذكرتني
بواحدة أخرى من أولئك الفتيات المنتقيات بعناية لتتناسب مع شخص مثقف مثلي ..
ربما كان اسمها سوزان أو سوسن لم أعد أذكر جيداً من كثرة الأسماء .. المهم انني
وعدتها حينما أخذ أول أجازة أن أذهب معها للقاء ثريا هذه ....هنا صاحت مستنكرة :
ـ أسمها كاميليا ..
قلت لها في دهشة مصطنعة :
ـ كاميليا ..!! ولماذا لم تحدثيني عنها من قبل ؟
اتسعت عيناها في دهشة وقد صدقت كلامي كالعادة ..لابد أنها الآن تلوم نفسها ألف مرة ..
قلت لها :
ـ على العموم إن شاء الله حينما أعود مع أول إجازة سنذهب سوياً إلى فانيليا تلك..
ـ كاميليا ...
ـ سأردد الاسم طوال الطريق حتى لا أنساه .. المهم أن توافق هي على العيش معي في كفور الصوالح..
رفعت سبابتها في وجهي محذرة وقالت محتدة :
ـ لا تتحدث معها عن كفور الصوالح أرجوك.. أنت لن تقضي عمرك كله هناك..
ما هي إلا مرحلة وستمضي وستعود للقاهرة ثانية..
هنا تدخل والدي قائلاً في جدية :
ـ دعيه حتى لا يتأخر على ميعاد القطار ..
هنا وكأن والدي قد ضغط على زراً خفياً في نفسها.. بدأ صوت أمي يتهدج منذرا
بهطول الأمطار الساخنة ..وكان على أن أنصرف لأن هذه العائلة تذكرني بأنني
ما زلت أملك قلباً قد يرق أحياناً وعين قد تزرف العبرات..
الكل ترس في ألة اليوتوبيا العملاقة.. الكل يعمل من أجل الكل ..لا أسر لا روابط..
هكذا كانت تدوي في أذني التعاليم التي تشربتها من كتب اليسار..
دسست المصحف في حقيبة السفر وأسترخيت في مقعدي بالقطار.. كان يمكنني التخلص منه
بشتى الطرق لكن شيئاً ما وقف حاجزاً بيني وبينه.. ولم أحاول كثيراً أن أفسر ذلك الحاجز ..
وقلت هو ربما ذلك الرهاب الذي زرعوه فينا منذ الصغر.. أو لكونه شيئاً من رائحة والدي كما يقولون.. ربما..
وهكذا هدرت محركات القطار وعلا الضجيج.. بشر.. بشر.. تروس عديدة تمر
بجوار نافذة القطار ..تروس تتكلم ..تروس تشتكي.. تروس تتشاجر وتتبادل السباب ..
أغمضت عيني ورحت في نوم عميق ..تخللته أحلام عن عالم ملئ بالحقول والمحاريث والروث وأبراج الحمام.
***
يتبع

عمرو مصطفى
11-06-2018, 09:04 AM
3ـ تلك القرية

النقلة الحضارية كانت مذهلة بحق..
لقد عدت للوراء عدة قرون .. لا عشرات الكيلومترات..
تشممت الهواء النقي الذي يدغدغ رئتي متأملاً عالمي الجديد من نافذة سيارة المركز
التي تنهب الأرض مثيرة خلفها عاصفة من الأتربة، القرية المصرية الأصيلة كما يقول الكتاب،
الحقول والقنوات التي تغذيها كالأوردة والفلاحين محني الظهور يقلبون الأرض بالفؤوس القصيرة،
البيوت الطينية المتناثرة هنا وهناك، الأطفال الملوثين بالأوحال والخولي العتيد الذي يركب الحمار
ويرتدي طربوش على منديل قماش أصفر ينسدل على كتفيه يتقي به حر الشمس وهو يزعق في
هذا وينهر هذا.. والكل حينما يرى سيارة المركز ينظر لها بنوع من الرهبة والتوقير..
مع رفع الأكف بالتحية العسكرية بطريقة مضحكة..
وصلنا النقطة..
خرج لنا شويش أعطاني التحية وقال أن اسمه ديريني.. كان طويلاً نحيلاً له شارب
ضخم يقف عليه طائر الرخ.. وحينما يتكلم يهتز ذلك الشارب مع كلماته بصورة مضحكة
تذكرني بكلب البحر:
ـ نورت كفور الصوالح يا فندم ..
أومأت له برأسي في غير اكتراث وسألته وأنا أرمق مبنى النقطة:
ـ هل هناك غيرك في النقطة ..؟
ـ الشويش عبد الرحيم يا فندم ..لكنه في إجازة..
نقطة قوتها مكونة من ثلاثة أفراد .. مهمتها حماية كفور الصوالح كلها.. تذكرت
العمدة وجيش الخفر إياه.. طبعاً هؤلاء منافسينا الطبيعيين هنا فبالرغم من كونهم يمثلون الحكومة
إلا أنني لا أثق في من يرتدي بلطو على جلباب أبداً..
ربما كان وضع نقط شرطة في تلك القرى النائية نوع من الترف المبالغ فيه..
أو هو بداية لعهد جديد يلوح في الأفق من بعيد..
جرى ديريني ليحضر حقائبي على حين وقفت واضعاً كفيا في خاصرتي أتأمل نقطة كفور الصوالح..
مقر عملي ومقر إقامتي كذلك ..مبنى حكومي بائس مدهون بالجير وهو في الأصل مكون
من طابق واحد.. لكن تم عمل غرفة استراحة علوية للضباط القادمين من محافظات أخرى مثلي..
وجاء دريني مهرولاً بحقائبي ليبدأ سلسلة من التعارف بيني وبين النقطة..
ديريني لا يكف عن الثرثرة بعبارات الترحيب التي يجيدها القرويون والتي لا أدري من أين يأتون بها ..
لكل كلمة رد مناسب ومنمق.. إنني بحاجة لمفكرة لأدون فيها مصطلحات الرفيق ديريني فقد أحتاج
إليها يوماً ما في تعاملاتي مع أهل القرية.. كنت منهكاً من الرحلة فأمرته أن يضع حقائبي وينصرف لحاله..
تأملت الاستراحة. فراش عليه ملاءة مليئة بالرقاع والبقع البنية والصفراء وخزانة ثياب تشبه توابيت مصاص
الدماء بجوارها ستارة يبدو أنها تداري وراءها مطبخ أو جثة متعفنة لعلها سبب تلك الرائحة الخبيثة..
هناك نافذة تشبه نوافذ الزنازين تطل على الحقول الممتدة إلى مالا نهاية.. الرائحة كانت تدير
رأسي حتى أنني بحثت عن الدلو العتيد الذي يضعونه للمساجين لقضاء حاجتهم فلم أجد
فتنفست الصعداء .. لم يصل الأمر لهذا الحد بعد ..لكن ..إذا لم يكن هناك دلو فأين الحمام إذن..؟
نظرت في ذعر للبقع الصفراء التي تلطخ ملاءة السرير .. وهززت رأسي مستبعداً الفكرة المقززة ..
جلست على مقعد مجاور للفراش إنه بلا مساند فيمكن استعماله كمنضدة.. أي!.. هناك ناموس أيضاً
سيشاركني استراحتي.. ترى متى سيظهر أول فأر متحمس.. يقولون أن فئران الحقول في حجم
القطط وأنت بحاجة لمعجزة كي تتمكن من إمساكها.. هذا لو بقيت لك أطراف سليمة من العض
لتتمكن من الإمساك بها..
تأملت الستارة التي تغطي شيء ما وراءها ..ترى هل هذا هو المطبخ أم؟.. قمت ومددت يدي
إلى الستارة وأزحتها بعنف.. هنا لم أتمالك نفسي فأطلقت شهقة فرح عارمة ..
لقد وجدت الحمام يا سادة! ...

***

ولقد جاء هذا الكشف في وقته تماماً... والكشف التالي كان بعد عدة أيام وجاء صادماً ..
الأيام في كفور الصوالح تشبه بعضها بعضاً كحبات الخرز في مسبحة ولعلك بحاجة إلى
قطعة من الطباشير كي تميز بها بين الأيام التي تترا .. كل شيء يتكرر بحماس منقطع النظير ..
حتى المشاكل التي قد تدخل في نطاق عملك .. نفس المشاكل ونفس الوجوه ونفس الادعاءات ونفس النهايات ..
في النهاية يتعانق الفلاحان المتشاجران وهما يلعنان الشيطان الذي أوقع بينهما .. وتجد نفسك
مضطراً لتمزيق المحضر بدلاً من تمزيقهما وأنت تردد من بين أسنانك : الأيام في كفور الصوالح
تشبه بعضها بعضاً كحبات الخرز في مسبحة ..
وتسأل نفسك هل كان الأمر يستحق كل هذا العناء..
هل فررت من سجن الزواج كي أسجن هنا في كفور الصوالح؟..
هنا لا يوجد سينما أو مسرح.. إلا مسرح البهائم طبعاً..
يقدمون عرضاً رائعاً كل صباح بجوار الترعة.. وبمناسبة الترعة هناك أيضاً بالية بحيرة البجع الخاص
بكفور الصوالح.. لكنهم استبدلوا البجع هنا بالبط البلدي.. لا يوجد راديو تسمع منه الإذاعة لأنه
لا يوجد كهرباء أصلاً..
لكن يوجد هناك تلك الولائم التي يقيمها العمدة. هذه للتعارف وتلك لتوثيق أواصر المودة وهذه
لأن ولد العمدة ختم القرآن.. وهكذا دواليك..
وتجد نفسك وجهاً لوجه مع مائدة الطعام المليئة بأصناف الطعام الريفي الدسم الذي يعطيك
نفس إحساس البنج.. وتتساءل كيف يستطيع هؤلاء الحركة بعد كل هذا الدسم ..
أما العمدة نفسه فكان عبارة عن خمسة عمد تم حشرهم في جبة وقفطان.. ومع ذلك كان خفيف
الحركة والروح كذلك. وهو كسائر أهل القرية طيب القلب لكنهم يهابونه هنا بشدة ويتحاشون النظر إليه..
كذلك لمست من خلال عباراته أنه من بقايا الإقطاع القديم.. لكنه يحاول أن يبدو على العكس..
لكن تفلت منه كلمة من ههنا أو نظرة من هناك فتنفضح حقيقة بغضه للنظام الثوري ولعبد الناصر..
ذلك الشاب القادم من الصعيد الذي سوى بين السادة والعبيد..
واليوم يرسلون له ضابط شاب أخر من القاهرة هذه المرة لينازعه في سلطانه وسلطان أبائه..
فكان لابد لي من أن أحتال عليه كي يستسلم لي ويرفع الراية البيضاء..
وقد وجدت تلك الحيلة التي ستكون كذلك هي المدخل لقلوب أهل تلك القرية كلهم.. ستمكنني
من النفاذ إلى حبات قلوبهم لأبذر هنالك بذرة اليوتوبيا.
قلت لهم في بعض الجلسات بحضور العمدة أنني سأذيع لهم سراً.. وهو أنني قادم من مصر
من طرف الزعيم عبد الناصر شخصياً..
قلت لهم أن الرئيس يريد بناء مصر قوية وحديثة.. لقد نزع الأرض من يد البشاوات ووضعها
في أيديكم أنتم الفلاحين أبناء البلد من أجل أن تنهض بكم.. والبلد لن تنهض ونحن غارقين
في الماضي الذي عفى عليه الزمن.. وقلت أنني سأرفع تقرير بشأنكم للرئيس.. فهو يتابع
بنفسه أخباركم ويعرفكم بأسمائكم ..ويهمه أن تكون قرية كفور الصوالح في مقدمة القرى
التي تسعى للتطور والحداثة..
وصاح العمدة وهو يضرب على فخذه وقد نسي في غمرة الفرح جذوره الإقطاعية:
ـ وصلنا للرياسة يا بلد..
وارتفع التكبير والتهليل ووثب بعضهم ناحيتي فتحسست جراب مسدسي عفوياً لكنهم انهالوا
علي سلاماً وتقبيلا وهم يستحلفونني أن أوصل سلامهم وقبلاتهم المليئة باللعاب إلى الرئيس نيابة عنهم..
لقد كان عبد الناصر محظوظاً..

***

في الأيام التي لا يوجد فيها تسلية من أي نوع لا ولائم ولا سرقات دجاج ولا حتى باليه ترعة
البجع أكتشف أن لدي هنا راديو بشري اسمه ديريني..
وهو مسل جداً خصوصاً حينما يحل المساء..
ففي الليالي المقمرة كنا نطفئ السرج ونكتفي بنار (الراكية) التي يغلي عليها أبريق الشاي الصدئ..
وأجلس متربعاً لأنصت على ضوء القمر إلى حكايات الديريني المنحولة من أساطير الريف
وهو يصب لي الشاي الأسود القاتل.. إنها تبدو كحكاية واحدة تتم روايتها في كل مرة بشكل
مختلف وهي في غالبها تتراوح بين حكايات (النداهة) التي جعلت خاله يجن ويلقي بنفسه
في الرياح .. وعن خاله مرة أخرى الذي قابل جنية يوما عند الرياح وهو عائد من الحقل ..
و لعله بدا لها في ذلك اليوم فاتناً وهو عائد من الحقل ملطخاً بالطين لأنها عرضت عليه
الزواج واخذته معها إلى أهلها من الجان..
قلت له وأنا أرشف رشفة قوية من الشاي :
ـ خالك جن بسبب (النداهة) ؟ أم عرضت عليه الجنية الزواج...؟
ـ لا لا يا فندم ..خالي الذي جن غير خالي الذي عرضت عليه الجنية الزواج ..أنا لي أربعة أخوال ..
ـ وكلهم حمقى ..؟
نظر لي مفكراً في بلاهة كأنما يجري عملية حسابية لعدد الحمقى في عائلته ثم قرر أخيراً أن
ينفجر ضاحكاً على دعابتي بافتعال لا شك فيه وهو يثني على خفة دمي التي لم يعهدها مع
الضباط السابقين الذين خدموا في القرية ..ثم عاد ليذكر لي حكاية عمه الذي مات ثلاثة أيام
ثم عاد للحياة من قبره ..
وهكذا يأتي الديريني على كل أقاربه فلم يبق منهم أحداً لم تخطفه جنية الرياح أو جن بسبب
(النداهة) أو اشتعل به الحمام لأنه قرر شرب الدخان وإلقاء عقب السيجارة في الحمام فوقع
على قفا أحد الجان الغافين..
هذه الحكاية بالذات جعلتني أخشى حمام غرفتي وأفكر جدياً في استعمال الدلو كبديل مؤقت ..
تباً لذوق القرويين ..
قلت له في غيظ :
ـ الجن والشياطين هي شماعة ممتازة نعلق عليها فشلنا وتقصيرنا يا ديريني..
ـ لكن الجن مذكور في القرءان يا بك..
ازدرت لعابي وقلت له بحذر :
ـ وهل يعني هذا أنهم السبب وراء مأساة عائلتك؟..
هنا أقسم لي أغلظ الأيمان أنه صادق فيما حكى فهدأته قائلاً :
ـ أنت صادق فيما سمعت.. لكن هل رأيت؟..
رأيت حاجبيه ينعقدان وشاربه ينتفش، وانتفاش الشارب هنا له عدة معان فقد يدل على الفخر
وقد يدل على الغضب وأحياناً يدل على الخطر.. وقد تكلم ديريني بصوت كالفحيح ليدل على المعنى الأخير:
ـ لقد رأيت يا بك..
إذن فهو يعاني من هلاوس بصيرة أيضاً.. ملت عليه مصطنعاً الإحساس بالخطورة:
ـ ماذا رأيت؟..
تلفت حوله كانه يخشى متجسس مجهول ثم عاد ليقول:
ـ هنا في الاستراحة.. هذه الاستراحة ليست على ما يرام يا بك.. لقد سمعت هذا من ضباط جاءوا
هنا قبلك.. ولم أصدق إلا لما رأيت بعيني..
ديريني الغارق في قصص الجنيات والعفاريت صار فجأة وعلى حين غرة من المتحرين المدققين..
لا يصدق إلا لو رأى بعينه!
ـ هل رأيت تلك البقع الصفراء التي تلوث الملاءة؟..
ـ لا.. رأيت بسم الله الرحمن الرحيم..
لماذا أشعر بتلك القشعريرة تسري في بدني.. هذا إحساس لا يليق بمن هو مثلي.. يا للعار..
أي تسلية تلك في ليل الحقول التي تترامى أمامك بلا نهاية حيث تلعب الظلال لعبتها الأبدية ..
لم أكن أومن بتلك الأشياء لكنني لم اتخلص بعد من موروثات الخوف الطبعي الأولي الذي ورثناه
عبر القرون ..
الخوف.. الخوف من المجهول.. ذلك الإحساس الذي لا مفهوم له يتحرك تحت جلدك محدثاً
القشعريرة الشهيرة ويتحول جلدك لجلد أوزة .. وينتصب الشعر في مؤخرة رأسك .. تباً لك يا ديريني الكلب...
ذهب لينام ملء جفنيه وترك لي الخوف ينهش في أعصابي..
هنا خطرت لي فكرة غريبة.. ربما لو نجحت لطالبت ببراءة اختراع..
أخذت أذرع غرفتي جيئاً وذهاباً وأنا أقرأ في أحد الكتب اليسارية بصوت مسموع ..لعلي أول
من استعمل تلك الكتب في طرد الجن والأرواح الشريرة..
جن وأرواح !!
لكنني لا أومن إلا بالمادة التي لها وزن وكثافة ..
ماذا دهاني؟..
ـ هل جئت ههنا لتغير أم لتتغير؟ ..
طار الكتاب من يدي وكاد قلبي أن يطير بالإضافة للوثبة الرائعة التي وثبتها في وجل..
ثم تبينت أنه الرفيق ماركس..
أخيراً عاد إلي صوابي وانحنيت لألتقط الكتاب مع أنفاسي.. ثم رفعت إليه طرفي في خجل :
ـ كيف أتغلب على مخاوفي تلك..
أشار بتعالي عبر النافذة.. إلى الحقول المترامية وقال في حزم :
ـ تحدى الخوف ..
وتسمرت عيناي على النافذة المطلة على الحقول الممتدة إلى ما لا نهاية ..
نعم.. ولم لا ..

***
من الذي يخشى الحقول في الليل؟
من قال أن الحقول تخيف في الليل؟ ها أنا ذا أسير وسط الحقول الممتدة إلى ما لا نهاية..
أنا لا أخشى شيئاً ..مجدي سليمان لا يخشى أساطيركم يا أهل كفور الصوالح .. صوت صرصور
الغيط ونقيق ضفادع القنوات كأن لسان حالها يتساءل عن ذلك الأحمق الذي يظن نفسه ليس كذلك ..
القمر يشرف على المشهد ويضفى عليه لمسة ساحرة .. فلولاه لصارت الرؤية مستحيلة ههنا ..
لا شيء سوى صوت صرصور الغيط ونقيق الضفادع ..
تجاوزت مساحة الحقول ووقفت عند مساحة خالية من الزراعات..
أطراف القرية النائية جزء كبير منها مخصص للقبور..
من بعيد في وسط الشواهد يقف ذلك الكوخ الذي يبدو مهجوراً.. لا أحد عاقل يمكنه السكنى هنا..
لكن هل هذا هو كل ما لديك يا كفور الصوالح؟ صراصير وضفادع وشواهد قبور..
أين شياطينك ونداهتك وعنقائك إن كنت تعرفين شيئا كهذا ..؟
أين ذلك الأحمق ديريني ليرى أن...
أعووووووووووووووووو ..
ازدرت لعابي متحسساً مسدسي الميري القابع تحت إبطي ونظرت للكوخ ممتقعاً..
ذئاب !
هذا هو التجديد الحق يا كفور الصوالح ..حقول ممتدة ومقابر بدون ذئاب.. هذا معيب لو أردتم رأيي..
هنا سمعت صوت حفيف من ورائي.. سحبت سلاحي واستدرت وقلبي يدق بعنف..
مشكلة هي تلك الكلاب السوداء التي تبرز لك من بين الحقول فجأة.. مشكلة حينما تظهر
ومشكلة حقيقية حينما تختفي كأنها لم تكن هنالك .. عقلي عجز عن التفسير لكن فيما بعد
رجحت أنه خداع بصري ناتج عن الخوف الطبعي ..لكن قل لي هل جربت الهرولة في الليالي
المقمرة وسط الحقول ؟
إذن فاتك الكثير يا رفيق .. أنا جربت ..جربت جداً وشعرت أنني سأصاب بالذبحة الصدرية
لو لم أتوقف عن الجري.. لابد أن أتوقف.. المشكلة في كيفية إقناع ساقيا بالتوقف؟
مرت دقائق كأنها ساعات وأيام وسنوات لعل الشيب انتشر في شعري وأنا أعدو كالمجانين ..
أخيراً قررت ساقيا الاستجابة والتوقف.. هنا لمحته قادماً من الاتجاه المقابل.. إنه الشويش ديريني
ومعه كلوب في يده اليمنى و بندقيته معلقة على كتفه وعلى وجهه أثار النوم.. وحينما شاهدني
واقفاً ألهث صاح في جزع :
ـ خير يا فندم ..لقد لمحتك وأنت تتجه بمفردك للحقول ..هل حدث لك مكروه ..؟
قلت له بأنفاس متلاحقة :
ـ لا شيء يا ديريني .. كنت أقوم بدورية ليلية..
ـ بمفردك يا فندم ..هذا خطر جداً ..
قلت في شمم :
ـ أنت لم تعرفني بعد يا ديريني..
ثم تحركت في تؤدة متجهاً جهة اليسار فصاح بي ديريني :
ـ الطريق من هنا يا فندم ..
قلت له في شمم :
ـ هذا تمويه يا غبي ..!
قال لي ونحن نسير باتجاه النقطة الصحيح :
ـ يا فندم الحقول في الليل تكون مأوى للذئاب الشاردة..
تذكرت الكلب الأسود الذي ظهر لي وشعرت بقشعريرة تسري في أطرافي.. طبعاً لن أحكي لديريني
كي لا يعلن لي منتصراً بأنه بسم الله الرحمن الرحيم.. لكنني سألته عن ذلك الكوخ المهجور
وسط المقابر هل يسكنه أحد..
هنا رأيت وجهه يتغير.. ثم قال باقتضاب :
ـ لقد ابتعدت أكثر مما ينبغي يا فندم..
قلت باستخفاف :
ـ لا تقل لي أن هذا الكوخ هو مسكن النداهة التي خطفت خالك..
قال وهو يهز رأسه متحسراً :
ـ النداهة نفسها لا تجرؤ على الذهاب لهناك في مثل هذا الوقت يا فندم..
حسناً كانت تلك، كما ترون، ليلة استثنائية من ليالي كفور الصوالح.

***
يتبع

عمرو مصطفى
11-07-2018, 09:26 AM
4 ـ تلك الفتاة

لقد عاد الشويش الأخر عبد الرحيم من إجازته، الحقيقة لا أجد فارقاً كبيراً بينه وبين
ديريني، إنه نحيل وله شارب ينافس شارب الأول، فالشارب هنا مهم جداً وبه تقاس رجولتك..
لذا فشاربي المتواضع بالنسبة لشاربيهما يجعلني أبدو لهما كالمراهقين..
عبد الرحيم كذلك يسكن في بلدة مجاورة لكفور الصوالح وهو يتناوب الراحات مع ديريني
الذي يسكن معه في نفس بلدته لعل اسمها طانطور أو حنطور ..لا أذكر حقيقة ..
المهم أنه حينما عاد برهن على أن له زوجة محترفة تجيد صنع الفطير (المشلتت)إياه الذي يبض بالسمن البلدي..
وكالعادة أتوقف بعد اللقمة الثالثة أو الرابعة ولا استطيع تحمل كل هذا الدسم ..
هذه مشكلتي مع الفطير بالسمن .. لا أستطيع أن أشبع منه أبداً من فرط الدسم ..
سمعت ديريني يسأل رفيقه عن البط المحمر.. فأجابه بفم ملئ بالفطير والبيض:
ـ الزيارة القادمة إن شاء الله..
..إذن موعدنا مع البط سيكون بعد حين.. لا فرصة لديك لتناول طعام بيتي ههنا إلا
مع نزول أحد الرجلين للراحة.. أو حينما يدعوك العمدة على الغداء.. أو أن تأخذ
أجازة كبقية الخلق وتعود لأهلك.
لكنني لا أستطيع طلب إجازة بهذه السرعة ولا أريد حقيقة.. رغماً عن اشتياقي
لطعام السيدة الوالدة ونظرات والدي البوليسية المرعبة .. لن أفكر في إجازة حتى
أتأكد أن كل الفتيات التي تعرفهم أمي قد تزوجن أو متن..
لابد أن أنفض عن رأسي كل تلك المشاعر الأسرية السخيفة التي لا تقدم ولا تؤخر..

وقفت أتأمل قوة النقطة المهيبة فخر الجندية وهما يفتكان بالفطير بالسمن والجبن
الفلاحي بكل رضا عن النفس.. أنت بحاجة لعشرة فكوك حتى يمكنك ملاحقة فكي
ديريني وعبد الرحيم وهما يأكلان.. لم يكن الشارب الضخم بعائق لهما عن
القضم والمضغ والبلع.. ماذا لو كان هناك بط في الموضوع أيها الوحوش..
هنا تذكرت!
إذا لم يكن هناك بط.. فعليك أن تجد واحدة..
إن معي بندقية صيد قد أتيت بها من القاهرة.. لكنني نسيتها وانشغلت
عنها بصيد حشرات الليل الزاحفة والطائرة..
قد حان الوقت للخروج في رحلة صيد حقيقية عند أطراف القرية.. بالقرب
من تلك البقعة التي أرعبتني يوماً ما في الليل.. هناك تنشط الطيور البرية..
هناك هواء الريف العليل يقوم بعملية مسح وتنظيف لبقايا عوادم المدينة العالقة بصدري..
لمحت في جهة الأفق الشرقي سرب من الطيور يحلق فصوبت البندقية وكتمت أنفاسي..
لكن حينما دوت الطلقة سمعت صرخة أنثوية حادة لا علاقة لها بالطيور التي واصلت التحليق بسلام..
هذه الصرخة الأنثوية الهستيرية تأتي من على الأرض..
وفهمت على الفور أنني ارتكبت خطئاً صغيراً!!..
لقد كدت أفقا عين فلاحة من الفلاحات برصاصة طائشة.. ولا تسألني كيف أخطأت
سرب الطيور في السماء وكدت أصيب تلك الفلاحة على الأرض هذه أشياء تحدث ..صدقني ..
كان صدى الطلقة يتردد في نفس الوقت الذي كانت الفتاة تصرخ وتولول وتلطم خديها
معتقدة أن الطلقة أصابتها في مقتل.. صبراً يا حمقاء لقد كدت تقتليني رعباً ..
- أهدئي يا ..... الطلقة لم تصبك ..
تحسست جسدها بحركة هستيرية سريعة ثم فوجئت بها تتغير مائة وثمانون درجة ..
الهرة الخائفة تحولت لنمرة شرسة ..كانت تتوعدني بالويل والثبور وعظائم الأمور
وأنني لو مسستها فلن أجد مكان في القرية يحول بيني وبين انتقام أهلها ..كان
يمكنني إسكاتها بمجرد الإعلان عن هويتي لكنني لسبب ما كنت مستمتعاً بشراستها..
قلت لها بتهذيب :
ـ دعيني أصحح خطئي ..
ـ كيف ..؟
ـ سأتزوجك ..
بالطبع صدمتها عبارتي الساخرة و تورد خداها خجلاً وهي تلوح بكفها في وجهي متهمة
إياي بقلة الحياء .. وأن أهلها سيحولونني إلى (كفتة) لو علموا بفعلتي ..
ـ أنت لا تعرف من أكون.. أنا فاطمة بنت جابر الصوالحي.
طبعاً كانت تعتبر مجرد ذكر اسم أبيها كافياً كي أنهار وأطلب الصفح..
سألتها في بساطة متجاهلاً ثورتها :
ـ ما الذي أتى بك إلى هنا يا فاطمة؟.. المكان هنا نائي وخطر بالنسبة لفتاة مثلك ..
ـ لا شأن لك بي ..
قالتها في غل وعيناها تقدحان الشرر.. ثم أدركت أنها قد أطالت معي الحديث
أكثر من اللازم فاستدارت مبتعدة لا تلوى على شيء.. هرة ساذجة كانت..
ـ انتظري حتى أوصلك ..؟
ـ لا شأن لك بي ..
ووقفت وحدي أردد أسم فاطمة بنت الحاج جابر الصوالحي كأني أتذوقه..
المسكينة لم تنتبه إلى أنها أخبرتني باسمها كاملاً ..المسكينة لم تنتبه إلى
أنني رامي بارع وأنني لا أخطئ هدفي أبدا ..
لقد أصبت هدفي و بمهارة ..
هنا لمحت تلك اللفافة التي سقطت منها فيما يبدو، وانحنيت على الأرض لألتقطها..
قلبتها في يدي بحيرة، ثم خمنت أنها نوع من البهارات أو التوابل.. وقررت الاحتفاظ بها كتذكار لهذا اليوم..
وهكذا دسستها في جيبي وعدت أدراجي إلى نقطة الشرطة قانعاً بصيد اليوم..
وجدت ديريني يغسل بعض الثياب في طست وعبد الرحيم يعد بعض الشاي..
حينما رآني الأول تساءل في دهشة :
ـ أين البط يا فندم؟..
لوحت ببندقية الصيد قائلاً في جذل :
ـ لقد اصطدت بطة.. لكن ليس كأي بطة..
قال في فرح وهو يعصر الثياب بحرفية نسائية يحسد عليها :
ـ الله أكبر.. لكن أين هي يا فندم؟..
أرحت البندقية على عاتقي وتوجهت للسلم الموصل للاستراحة قائلاً :
ـ هذه البطة ليست للأكل أيها الوحوش..

***

مشروع اليوتوبيا يمر بمنعطف تاريخي..
كنت جالساً في النقطة أرمق القرية الساكنة من النافذة المجاورة لمكتبي..
لا شيء سوى صوت الناموس الخارق للدروع ومجموعة هناك من البط تسبح
بانسيابية في ترعة القرية.. باليه بحيرة البجع كما يحلو لي أن أسميه!
فاطمة بنت جابر الصوالحي.
لم أنس الاسم ولا صاحبته منذ عدت من رحلة الصيد..
جابر الصوالحي دعني أهنئك على تلك اللوحة الفنية المبهجة التي رسمتها هرموناتك..
أنت فنان ضل طريقه إلى الطين والزرع.. اتمنى لو قابلتك لأشد على يديك..
تباً أنا بحاجة للثرثرة مع أحدهم..
وتذكرت الرفاق في القاهرة وشعرت بالحنين إلى تلك الجلسات الدافئة..
لم يكن لي هنا سوى ديريني وعبد الرحيم..
وطبعاً علاقتي بهما لا تسمح بمثل تلك الفضفضة.. هنا تذكرت اللفافة.. الشيء
الوحيد هنا من رائحة فاطمة.. لقد تركته في سترتي الأخرى.. غادرت مكتبي
مزمعاً الصعود للاستراحة حيث تركت السترة لكن ارتطمت عيناي بحبل الغسيل
الذي صنعه ديريني قبالة الباب وأدركت أنني قد تأخرت جداً..
كانت السترة معلقة على الحبل والماء يقطر منها.. أولجت يدي في الجيب
بسرعة فعثرت يدي على اللفافة وقد تحولت إلى عجين..
عصرتها في غل كأني أعصر عنق ديريني نفسه ثم تركتها وعدت خائباً
إلى مكتبي وإلى تأملاتي الشاعرية..
ماركس ترى ماذا سيكون رد فعلك على ما أنا فيه الآن؟.. طبعاً لم أكد
أتذكره حتى وجدته يتمطى في المقعد المقابل للمكتب..
ـ هل أيقظتك؟..
نظر لي بوجه مغتم وقال متجاهلاً سؤالي:
ـ هل جئت لكفور الصوالح من أجل أن تقع في حب فتاة قروية؟..
هذه هي روعة ماركس.. أنه ليس بحاجة لمقدمات.. قلت بترفع:
ـ ليس حبا.. لقد قابلتها لتوي..
أغمض عيناً وفتح الأخرى فيما معناه : ألعب غيرها..
فعدت أقول بتؤدة :
ـ إن تلك القرية أرض بكر وخصبة.. فما الذي يضير لو قطفت من تلك
الأرض زهرة برية يانعة.. أنت تفهمني أليس كذلك؟..
عقد ساعديه أمام صدره وهو يرمقني بنظرة شك مزعجة.. ذكرني بمدرس
اللغة العربية حينما كنت أتحجج أمامه بحجج واهية كي أفلت من العقاب.. سألني متبرماً :
ـ وكيف ستقطف تلك الزهرة يا ترى؟..
أجبته بتلقائية :
ـ سأتزوجها طبعاً..

***

رأيت حاجبي ماركس ينعقدان بشدة وصوته يزداد تجهماً وعمقاً :
ـ زواج أيضاً!..
قلت له ببساطة :
ـ لماذا تعارض فكرة الزواج لهذا الحد.. هل أنت معقد لهذه الدرجة؟..
نظر لي بامتعاض.. ثم قال كأنما يخاطب طفلاً:
ـ قاموس اليوتوبيا يا عزيزي لا يحتوى على لفظة زواج..
قلت له مؤمناً :
ـ أعرف يا رفيق.. لكن لو فكرت هنا في طريقة أخرى فستطير رقبتي..
لابد أن أتزوج كما يتزوجون وإلا فسوف أتحول لراهب.. وهذا هو مالم نتفق عليه ..
وضع كفه على عاتقي بحنو أبوي كنت مفتقده وبشدة.. وقال:
ـ بل أنت الذي مازالت متأثراً بضوابط مجتمعك المتخلف..
قلت له في ضيق :
ـ لا تقل هذا يا رفيق؟..
نظر لي بعينيه العميقتين اللتان تسبران غوري دائماً وهمس:
ـ يمكنك أن ترتبط بأي أنثى تريد.. لكن لماذا تلك الفتاة القروية بالذات؟..
شعرت بصدري يزداد ضيقاً وبالدماء تحتشد في أذني..
ـ أنت تحبها يا رفيق؟..
قلت بشيء من الحدة :
ـ أنت لا تفهمني.. أنا لا أعرف دوراً للقلب الذي أملكه سوى أنه مجرد مضخة تضخ الدماء..
فاطمة بالنسبة إلي مجرد جزء صغيرمن مشروعي.. فهمت الأن لماذا أبعدت حينما أقحمت
القلب في الموضوع.. المسألة مسألة زواج فقط يا صاحبي ..نواة لمجتمع اليوتوبيا الذي أحلم به..
لم أصرح له أنني كنت بحاجة إلى أن .. أحم .. ألبي نداء الطبيعة لو جاز لي التعبير..
ولا سبيل لذلك في مجتمعنا سوى بالزواج .. ولما لم يكن من الزواج بد ..
فلتكن رفيقتي إذن فتاة قروية من وراء الجاموسة كما يقولون..
أريد تلك الفتاة ..تلك الأرض البكر التي لم تحرث بعد .. هذه هي فتاة أحلامي يا سادة..
لو صح التعبير فـأنا لم أكن يوماً حالماً لكنني أحاول التقريب ..
لست على استعداد للزواج من سوزان أو سوسن .. فلا أريد لزوجتي أن تكون قريبة
مني في ثقافتها ..أريد أن يكون بيني وبينها مفاوز وقفار .. أريدها ان تنظر
لي دائماً من أسفل لأعلى نظرة انبهار ..
قال ماركس وهو ينفخ :
ـ إنها ليست من مستواك الاجتماعي..
نظرت له مصدوماً..
ـ لماذا تتكلم بهذه النبرة الطبقية يا رفيق؟.. أنت الذي علمني أن الناس مستوون كأسنان المشط .
ـ هو كذلك يا رفيق.. لكن لا ينبغي أن تصادم مجتمعك بهذه الفجاجة..
قلت له وقد فشلت في ابتلاع كل تلك المتناقضات :
ـ و نسف مبدأ الزواج.. أليس هذا يصادم أسس المجتمع؟..
سكت ماركس برهة وهو ينظر لي في برود مفاجئ.. ثم قال ضاغطاً على حروف كلماته :
ـ هذا القرار يهدد اليوتوبيا..
قلت في تصميم :
ـ أنا أفعل هذا من أجل اليوتوبيا نفسها..
هنا انفجر ماركس في ثورة :
ـ أنت أناني لا تفكر إلا في نزواتك الحقيرة..
طبعاً غلى الدم في عروقي وشعرت أنني على وشك ارتكاب
جريمة.. لقد تجاوز ماركس كل الحدود معي ولم أكن لأسمح له بالمزيد..
ـ أنت لست وصياً علي..
أشار لي بسبابته محذراً أو مهدداً :
ـ ستندم على هذا..
ـ أنا نادم فعلاً لكن ليس على قراري..
ـ لقد أنذرتك..
وفي لحظة تلاشى ماركس ووقفت وحدي أحدق في الفراغ الذي كان يحتله منذ لحظات..
الغرفة خالية..
هل كنت أحدث نفسي منذ البداية؟..
اخترعت شخصية ماركس وتبادلت معها الحوارات ولا وجود لها إلا في ذهني..
هل هذا هو الجنون الذي يتحدثون عنه.. ربما..
لكنه ليس من النوع الخطر.. ليس من النوع الذي يعيق عن الزواج على الأقل..
سأطلب يد فاطمة من أبيها ولتزأر العاصفة ..

***

حينما جن الليل توجهت لمنزل جابر الصوالحي أو دواره كما يطلقون عليه ههنا..
كان لا يختلف كثيراً عن سائر الدور ..فقط هو انظف قليلاً لأن حظيرة المواشي
منفصلة عنه .. ولا يختلف كثيراً من حيث الأثاث ..كنت أجلس في حجرة الضيوف
حيث الدكة العتيدة التي تعاقبت عليها أجيال وربما مات عليها العشرات من
أجداد جابر الصوالحي .. الكليم الرمادي والطست والأبريق النحاسي ..
ذكر البط الذي يرمقك في شك وفضول ..قبل أن يعلن عن رأيه فيك
وبصراحة : كوااااااك... من ثم تكشر له أنت عن أنيابك فيفر، مرفرفاً بجناحية وقد تأكد أنك مجنون تماماً ..
لا أحد عاقل يفعل هذا مع ذكر بط أبداً ..!!
ثم يظهر أخيراً رب الدار..
ها هو الحاج جابر يمد إلي كفه الناعمة مصافحاً ..هذه كف كفت عن الشقاء..
لكن لماذا أرى ركن فمه يختلج وهو يرحب بي..
ـ الدار نورت يا حضرة الضابط
ابتلعت ريقي محاولاً تذكر ما جئت من أجله على حين صفق الحاج جابر بكفيه طالباً واجب الضيافة..
وعاد ينظر إلي نظرة زائغة ..الرجل منزعج جداً من زيارتي ولا يرحب بي البته لكنه مضطر لمراسم
الاستقبال والضيافة كما يقتضي الدين والعرف وإلا ..فهو يعتبر زيارة ضابط النقطة
عمل مشين يهدد سمعته خصوصاً حينما يأتيه بالزي الرسمي ..
ـ خيراً يا حضرة الضابط .. ؟
فتحت فمي لأتكلم لكن خرتيتاً أدمياً اقتحم الحجرة حاملاً صفحة عليها كوبي شاي ..
علمت فيما بعد أن هذا الخرتيت أحد ابناء الحاج جابر يدعى مداح ..
ـ اتفضل شاي ...
قالها الخرتيت وهو يضع الصفحة أمامي فتناولت كوباً وأنا ألعنه في سري ..
لقد بعثر الوغد ما قضيت الليل في نسجه من كلمات ..
لكن لا بأس ..لنرتجل .. رشفت رشفة من كوب الشاي ..وانسلت من بين شفتي كلمة :
ـ جئت بخصوص ابنتك فاطمة ..
كان الحاج جابر يتناول كوب الشاي لكنه لسبب ما قرر التخلي عنه في اللحظة الأخيرة
ليسقط على الكليم وينتثر الشاي على الأرض.. ورأيته يقف في حدة وهو يردد في جزع:
ـ فاطمة ...
نظرت له مستغرباً ردة فعله! على حين نهض الخرتيت محاولاً إصلاح ما أفسده أبوه لكن هيهات ..
أكملت في بساطة متجاهلاً الخرتيت العاكف على تنظيف الكليم والذي صار لونه بنياً – أعني الكليم طبعاً - :
ـ نعم يا حاج جابر.. فاطمة.. جئت أطلب منك يدها ...
هنا برك الحاج جابر على مقعده واضعا كفه على جبهته متنفساً الصعداء ولعله
أطلق سبة أو ما شابه لكن لا أستطيع الجزم حقيقة..
كما أن عندي من الأسباب ما يجعلني اتجاهل ردود أفعاله الأن ..
وتوقف ولده عن التنظيف وصاح في بلاهة :
ـ يد فاطمة أختي ..!!
ابتسمت له في مقت متحاشياً ركله ثم التفت إلى الحاج جابر منتظراً رده ..
أخيراً استجمع الحاج جابر شتات نفسه.. وتحول فرقه إلى فرحة عارمة بالخبر السعيد..
لقد جاء لابنته العريس الذي كان ينتظره..
فقط هو كان مضطرباً لأن زيارتي كانت بمظاهر رسمية وليست بمظاهر عائلية ودية..
ثم إنه بدأ يتكلم عن أشياء فاجأتني حقيقة.. لا أحد يتقدم لخطبة فتاة هكذا دون وجود
للأهل في الموضوع.. وأسقط في يدي حقيقة.. لقد نسيت أمر الوالد والوالدة تماماً !!..
الأخيرة ستصاب بفالج حينما تعرف أن ولدها فضل قروية على كاميليا ..
كان لابد من إقصاء أبواي من الصورة حتى يتسنى لي اتمام تلك الزيجة ..
وهكذا صرحت للحاج جابر أنني مقطوع من شجرة كما يقولون..
لكنك يا حاج جابر ستناسب رجلاً.. وليس الرجل من قال هذا أبي ولكن الرجل هو
من سيقف إلى جانبك لو فكر ضباط ثورة يوليو في التعرض لأملاكك .. ولم يكن الحاج جابر ليقاوم ..
لو كنا في اليوتوبيا الحقة لكان طلب الزواج شيئاً مشيناً ..
أيها الرفيق جابر أنا بحاجة لرفقة أبنتك فاطمة لنكون نواة لليوتوبيا .
تفضل يا ولدي وهل أجد لابنتي رفيق خير منك ..
هذا هو العشم يا رفيق جابر لن أؤخرها عليك ..لا عليك يا بني ..
لا يوجد رفاق كثر اليوم يمكنك أن تردها وقتما تشاء ..وهكذا تمضي الأمور دون تعقيدات مجتمعنا الرجعي !!..
لكن ما باليد حيلة ..
ـ علينا أن نأخذ رأي البنت أولاً ..
قلت له:
ـ بلا شك يا حاج جابر ..تفضل.. تفضل..
وابتسمت في خبث .. كنت أحاول تخيل ردة فعلها حينما تكتشف حقيقة عريس المستقبل ..
لكن ما حدث بعد أدهشني..
جاءت على استحياء ودون أن ترفع طرفها عن الأرض قالت الكلمة التي سحرتني :
ـ الذي يراه والدي يكون ..
وغداً ..ستقولين ما يراه زوجي يكون .. هذه هي فتاتي ..
إنها مثل سائر الفتيات ..لا يرفضن عريساً تقريباً.. حتى وإن كان يعاكسها في الصباح..
وفكرت كم أنا محظوظ كوني في الوجه البحري حيث يسهل قبول عريس قاهري مثلي
لو كنت في الصعيد الأن لما خرجت حياً تقريباً من دار الحاج جابر ..لم تكن المسافة
فقط هي الفارق الوحيد بين الصعيد والوجه البحري كما كنت أتصور .. صدقت يا والدي العزيز ..
بالفعل أنا الأسعد حظاً منك ..والأيام التالية ستؤكد ذلك..

***

عمرو مصطفى
11-08-2018, 09:40 PM
5ـ ذلك الدجال

تم تحديد موعد الزفاف بعد الاتفاق على مقر السكن، والذي سيكون في شقة قمت باستئجارها
في البندر الذي تتبعه القرية .. وهذا طبعاً بعد جدال طويل حيث يعتبر هنا السفر للبندر تغريبة
كتغريبة بني هلال.
وأخيراً انتهت المفاوضات .. واندلعت الزغاريد التي تشبه أصوات أجهزة الإنذار من
كل شق في بيت الحاج جابر ..
الأيام التالية سيكون على أن أمارس دور الخاطب الولهان الذي يهرول كل يوم جمعة إلى منزل
خطيبته حاملاً كيس الفاكهة المعطوبة أو علبة الشيكولاتة الحجرية في يد وباقة من الورد في
الكف الأخرى.. طبعاً لغة الورود هنا غير رائجة وكذلك الشيكولاتة فسأكتفي إذن بكيس الفاكهة
لحين إشعار أخر ..من يدري ربما أدخل عليهم يوماً بقفص طيور !! المهم كان كل شيء يمضي
بسهولة ويسر وإيجابية وشعرت أن أيامي صار لها مذاق خاص مرهف ..وعبير مميز .. كل شيء
صار مصبوغاً باللون الوردي حتى أني نسيت هدفي الأسمى، باختصار ..كانت هناك مصيبة في
الطريق تتجه أنت إليها كالأبله أو تتجه هي إليك كالعمياء..

***

إن موعد الزفاف يقترب ...
لكن مع اقترابه لاحظت أن أهل فاطمة يضطربون..
من الطبيعي أن تضطرب فاطمة الفتاة البكر المقبلة على الزواج لكن لماذا يضطرب أبوها؟
ما سر ذلك القلق ؟ وهل هناك سر ما يخفونه عني ؟..
أذكر جيداً كيف جاء الحاج جابر وولده مداح وجلسا إلى جواري في إحدى ليالي الجمع،
وكيف قامت فاطمة وأخلت لنا حجرة الضيافة، قلت لنفسي :المصيبة قادمة إذن لا محالة.
بعد دقائق من الإقبال والأدبار تكلم الحاج جابر :
ـ هناك شيء لابد منه قبل الزفاف يا بني...
ابتلعت ريقي منتظراً المصيبة التي سيتحفني بها حماي، قلت له من بين اسناني :
ـ أعتقد أننا اتفقنا على كل شيء...
ـ بقي شيء مهم حتى يتم الزفاف بسلام..
بدأ صبري ينفذ.. لست مستعداً لبذل المزيد من المال، سيفتضح أمري أمام أسرتي في
القاهرة لو طلبت منهم المزيد..
ـ هل قصرت في شيء ..؟
ـ حاشا لله ..إنه مجرد عرف في قريتنا دأبنا عليه من قديم..
عرف! هذا العرف لابد أنه سيكون سعره فلكياً، هذا واضح في لهجتهم معي.
وتنهد الحاج جابر قبل أن يقرر إفراغ ما لديه دفعة واحدة :
ـ بصراحة لابد أن تذهب للشيخ علوش قبل الزفاف ..
في البداية شككت فيما سمعته أذناي؟.. قلت له في غباء :
ـ الشيخ علوش هذا هو المأذون هنا..
تبادل الحاج جابر النظرات مع ولده مداح ثم قرر أن يوضح ..
ـ إنه شيخ القرية يا بني...
شيخ القرية هذه تحتمل شيئين، إما أن يكون شيخ مسجدها أو...
ـ هذا أمر لا بد منه.. لقد دأبنا عليه منذ ظهر الشيخ علوش في قريتنا..
حينما يقدم أي واحد من أهل كفور الصوالح على الزواج لابد أن يذهب للشيخ علوش
ويعطيه (الحلوان) كي تتم الزيجه على خير..
حاولت أن أتمالك أعصابي قائلاً :
ـ لكنني لست من أهل القرية..
ـ لكنك على أرضها و ستتزوج بنت من بنات القرية..
ـ إنها إتاوة إذن..
قلتها ونبرة الغضب تعلو تدريجياً في صوتي.. لاحظ الحاج جابر ذلك فابتلع ريقه قائلاً :
ـ إنها أعرافنا..
ـ هل ذهبت إليه؟..
أطرق الحاج برهة ثم رفع طرفه وقال :
ـ لقد ذهبنا.. والدور دورك..
استندت بكفي اليسرى على فخذي متسائلاً :
ـ وإذا لم أذهب؟..
أحمر وجه الحاج جابر ولم يستطع النظر في عيني، ولم أفهم السبب،
ـ الزواج لن يتم بدون إرضائه.. إنه يقوم بربط المقبلين على الزواج..
قالها جابر وهو يعصر فخذه بكفه في عصبية، سألته في غباء متوقع :
ـ يربطهم أين بالضبط؟..
نظر لي في دهشة ثم فهم أنني أجهل من دابة فبدأ يشرح لي معنى الربط هنا..
علوش هذا يقوم بما يشبه الإخصاء الذي كانوا يصنعونه للعبيد قديماً.. لكنه هنا بدون جراحة..
إنه عن طريق السحر الأسود كما يدعون..
الآن أفهم لما لم يسمحوا لفاطمة بالجلوس معنا..
قلت لجابر بامتنان مصطنع :
ـ الحقيقة أنك أفدتني كثيراً يا حاج جابر..
قال لي متلهفاً :
ـ ستذهب إليه يا ولدي؟
نهضت مكشراً عن أنيابي ..
لابد أنني بدوت له كالمسوخ بسبب نظرة الرعب التي تجسدت في عيني الحاج جابر..
ـ سأذهب إليه، لكن ليس لدفع الإتاوة بالطبع.. بل للقبض عليه بتهمة ممارسة الدجل والشعوذة..
نهض الحاج جابر محاولاً تهدئتي :
ـ لا تكبر الموضوع يا ولدي..
ـ لقد كبر.
ـ نحن لا نريد له أن يؤذيك..
ـ يؤذيني!!
قلتها متقززاً كأني أتقيأ وكل خلجة من خلجاتي تنتفض غضباً.. لا داعي للإفساد الزيجة الآن،
سأنصرف قبل أن أرتكب جريمة.
مررت بفاطمة عند باب الدار فرأيت نظراتها تقول لي الكثير ..
نظرت لها بمعنى : اطمئني سألقن هذا الدجال درساً وأعود إليك، تباً لماذا تشيعيني بنظراتك
الملتاعة كأنني لن أعود..
صبراً أيها الدجال... صبراً يا كفور الصوالح..
في الطريق فكرت، هذا الوغد يسيطر على عقول القرويين هنا بالإيهام، الإيهام وحده كان
الحل المنطقي الذي توصلت إليه.. وطبعاً لن ينجح ذلك المأفون معي لأنني لن أسمح
للإيهام بالتسرب إلى روحي..
إنني أشعر بالإهانة، مجرد أن يطلب مني أبو فاطمة هذا الطلب يعد إهانة..
وصلت إلى النقطة فجمعت ديريني وعبد الرحيم وسألتهما عن مكان علوش هذا..
رأيتهما يتبادلان النظرات الجانبية وقد فهما ما وراء سؤالي..
هما يعرفان معنى إقدامي على الزواج في كفور الصوالح، وربما كانا يتوقعان سؤالي هذا بل ينتظرانه..
هنا أخبرني ديريني أنه يسكن في ذلك البيت الطيني الخرب وسط المقابر .. توقفت قليلاً
وتحسست عنقي لا إرادياً وقد تذكرت تلك الليلة المرعبة التي قضيتها هناك وما قاله لي ديريني يوم عدت..
" النداهة نفسها لا تجرؤ على الذهاب لهناك في مثل هذا الوقت يا فندم.. "
صحت في صرامة :
ـ رجل واحد يخيف قرية بأكملها.. كيف؟..
قال عبد الرحيم وقد قرر أن يدلي بدلوه :
ـ إنه ليس بمفرده يا فندم..
ـ لديه تشكيل عصابي إذن..
ابتلع ريقه قبل أن يردف بصوت مبحوح :
ـ لا يا فندم.. إنه (مخاوي)..معه بسم الله الرحمن الرحيم.
قلت لهما بلهجة آمرة :
ـ هذا الدجل لابد أن ينتهي من كفور الصوالح..
قال ديريني :
ـ يا فندم أنت لا تعرف ما حصل للضباط الذين سبقوك هنا في النقطة مع الشيخ علوش..
هناك تاريخ أسود إذن مع هذا العلوش.. لكن لماذا لم يحك لي ديريني قصص هؤلاء
الضباط السابقين بدلاً من قصص أخواله المعاتيه؟
الأمر واضح، علوش هو تابو القرية، لذا هم يكتفون بالتلميح دون التصريح قدر الإمكان.
قال ديريني:
ـ لقد احتك ضباط كثر بالشيخ علوش.. خالد بك وعلي بك وإسماعيل بك.. أذكر خالد بك
كيف زاره أحدهم في الحلم وأملى عليه طلب النقل إملاءً.. في الصباح نهض ليكتب طلب
النقل وهو يرتجف كالمحموم..
وطقطق عبد الرحيم بلسانه وهو يقول متذكراً :
ـ و علي بك الذي استيقظ يوماً ليجد النار قد شبت في ثيابه دون سابق إنذار..
ولم يستطع الخروج من النقطة وكلما أحضرنا له ثياب جديدة تعود النيران لتشتعل فيها..
وتتحول إلى رماد.. وفي النهاية استسلم الضابط وأعلن التوبة عما بدر منه تجاه الشيخ علوش..
وسكت عبد الرحيم ليكمل ديريني بقية المآسي قائلاً :
ـ أما إسماعيل بك.. فقد تفاجأ الناس به وهو يدخل على الشيخ علوش بيته وسط مريديه
عاري كيوم ولدته أمه ..وكالمنوم جثي على ركبتيه مقبلاً قدم الشيخ وهو يهذي كالمحموم ..
طبعاً بعدها لم يعد يصلح لشيء.. لقد ترك كفور الصوالح والخدمة كلها ...
كنت استمع لهما عاقداً ساعدي أمام صدري ودمي يغلي..
" لا تغتر بالريف يا مجدي.. من يدري ما الذي قد تواجهه هناك..."
هل كان نقلي لكفور الصوالح بعينها صدفة، لابد أن سمعة القرية وصلت للقاهرة وصار
الكل يهرب من الخدمة هنا، طبعاً فيما عدا واحداً كان يسعى حثيثاً بحماقة منقطعة النظير
للفرار إلى الريف..
الرسالة التي وصلتني واضحة تماماً.. لن يجرؤ أحد على مواجهة علوش هنا..
حتى ممثلي السلطة..
طبعاً لم أصدق حرفاً مما سمعت.. غاية ما هنالك أن الرجل يملك نوع من التأثير في الأخرين..
جو المقابر الذي يحيا فيه وادعائه أنه على صلة بالشياطين يكفيان في بيئة تقتات
على الخرافة كي يصير وثناً يعبد..
أين أنت يا ماركس الآن؟.. أتمنى الآن لو كنت حقيقة وليس مجرد وهم وخيال في
عقلي لترشدني الطريق..
لكن علي أن أهدأ بالاً.. لقد بني الشيخ علوش هذا جداراً صلباً من الخوف بينه وبين الناس..
ولن يكون هدمه سهلاً .. لكنه ليس مستحيلاً.. لابد من هدم أسطورة هذا العلوش في قلوب
أهل القرية أولاً.. لابد من استغلال موضوع زواجي كفرصة لهدم تلك الخرافة..
سأذهب إليه وحدي..

***

شواهد القبور..
مشهد لا يتناسب مع شاب مقبل على الزواج مثلي، لكنني مقبل على ما هو أسوأ من
مشهد القبور هذا، مقبل على لقاء علوش.
توقفت وجذبت نفس عميق وأنا أنظر للكوخ إياه..
أمام الدار يجلس رجل نحيل يشبه الفأر المذعور عرفت فيما بعد أنه مساعد
علوش ويدعى عطوة، يقوم هنا بدور مساعد الشيطان .. يتناول عطوة العطايا
من الزوار ويدخل بها الدار ثم يعود بعد قليل ليسمح لصاحبها بالدخول على حضرة
الشيخ علوش .. تجاهلت نظرات مريدي علوش من أهل القرية التي أعرف فحواها:
لقد جاء البيه الضابط بنفسه صاغراً للشيخ علوش قبل الزواج..
الشيخ علوش سره باتع ..بركاتك يا شيخ علوش.. حتى الحكومة لا يمكنها مقاومته!
وابتسم مساعده الوغد ابتسامة منتصرة حينما رآني قبل أن يستدير ليعلم سيده بخبر
الموسم لكنني استوقفته وقلت ضاغطاً على حروف كلماتي :
ـ أخبره أنني انتظره هنا ..
ثم استطردت في اشمئزاز حقيقي :
ـ لن أتقدم أكثر فالرائحة لا تطاق ..
هنا تجمد الحاجب ولم يعلق ولا أدري هل صدم من الإهانة أم لكوني أجد المكان كريه الرائحة فعلاً..
ـ لكن..
قاطعته في صرامة :
ـ سأقابله هنا أمام الناس..
هرش في فوديه متردداً للحظات ثم حسم أمره واستدار ليغيب داخل الدار..
نظرت لمريدي علوش فرأيت عيونهم تقول الكثير ..
إصراري على مقابلة علوش أمامهم حيرتهم.. وأشعرتهم أن القادم لن يكون كما يتوقعون..
قلت لهم باشمئزاز :
ـ كيف تتحملون تلك الرائحة ؟..
انتفض الجلوس وهم بعضهم بالقيام لكنني أشرت لهم في صرامة أن اجلسوا ..
العرض لم يبدأ بعد يا سادة..
ولم ألبس قليلاً حتى انفتح الباب مصدراً زئيراً مرعباً كبيوت الرعب وشممت
رائحة مجرور عفن أدارت رأسي..
في البداية تصورت أن علوش هذا يربي قرداً في داره ثم تبين لي أن القرود
لا يلبسونها ثياب الريف.. إنه علوش ذاته..
عجوز متغضن الوجه عينه اليمنى عوراء.. واليسرى تلتمع كقرص شمس
صغير يشع شراً وشرراً.. وتذكرت أساطيرنا التي تتحدث عن الأعور الدجال..
هذا الرجل هو نموذج مجسد لتلك الأسطورة..
عينه السليمة ترمقني بحقد رهيب.. هذا الرجل يكرهني بشدة..
سألني بطريقته متأففة :
ـ خيراً يا بك؟..
ـ سيكون خير بلا شك .. فلعلك تعلم أنني مقبل على الزواج وبما أنك مهم جداً
لأهل القرية فيمكننا اعتبارك من أعيانها.. لذا جئت كي أدعوك لحفل زفافي ؟
تبادل العجوز النظرات مع ذيله ثم عاد ليقول لي بنفس الطريقة الباردة الخالية من أي مشاعر :
ـ هذا واجب يا حضرة الضابط ..
لوحت له بكفي صائحاً :
ـ سأنتظرك يا شيخ علوش ..
قال مؤمناً وهو يشير إلى عينه العوراء :
ـ (عيني) ..
ثم أخرج من بين طيات ثيابه لفافة مريبة لوح بها لي في بطء مستطرداً :
ـ وهذا حجاب مجاني إكراماً للحكومة ..
نظرت إليه وقلبي يغلي حقداً.. لابد أن أنهى تلك المهزلة لصالحي قبل أن أصير أضحوكة القرية..
قبضت على يده الممسكة بالحجاب المزعوم وقلت له ضاغطاً على حروف كلماتي :
ـ شيخ علوش.. سأعطيك مهلة كي تبحث لك عن عمل محترم غير الدجل.. وإلا...
ـ يا حضرة الضابط أنا لا أوذي أحداً..
ـ هذا لأنك لا تفهم معنى الإيذاء أصلاً .. ماذا تسمي استغلال حاجة الناس وإرهابك لهم بأمور
الدجل والشعوذة تلك؟
ـ هل اشتكى لك أحدهم مني؟
ـ وهل يجرؤ أحدهم على شكايتك؟
ثم لوحت له بسبابتي مهدداً..
ـ لديك مهلة حتى أعود من أجازة الزواج..
ثم التفت إلى القوم الجلوس الذين تجمدوا في أماكنهم فبدو لي أقرب للأنعام منهم للبشر..
ربما هم يستحقون ما يفعل بهم حقاً..
ـ متخلفين..
قلتها ثم تركتهم وانصرفت..
رباه كيف كان يرمقني الشيخ علوش في تلك اللحظة وقد أوليته ظهري .. لقد اهنته وتحديته
امام أهل القرية وليصنع أقصى ما عنده .. وليركب أعتى ما لديه من خيل دجله وشعوذته
ولنرى ما يصنع..
هذا ما كنت أفكر فيه في تلك اللحظات ولم أكن أعرف ما تخبئه لي الأيام وقتها..
لكنني أراني الأن عائداً إلى النقطة مختالاً كالطاووس الأحمق الذي استفز لتوه غولاً جائعاً لا يرحم ...

***

الحقل والظلام وصوت العواء إياه..
كنت أعدو فراراً من شيء ما يطاردني وهو يلهث والزبد يتطاير من شدقيه..
كيان أسود أشبه بكلب.. ولم يكن له ظل ..كيف أدركت هذا في الحلم وأنا أجري أمامه ؟..
لا ادري لكن هذا هو ما بثه الحلم في عقلي..
ولم تدم المطاردة طويلاً ..سرعان ما لاحت لي شواهد القبور ثم ذلك البيت الطيني الخرب..
وشممت الرائحة الخبيثة إياها ..منزل علوش في الحلم يبدو كالكابوس داخل كابوس ..
ولا مناص إلا بالدخول فراراً من الكلب الأسود الذي لا ظل له ..
وبالفعل دفعت الباب ودخلت ..
كان هناك يبتسم بعينه الواحدة ويشير لي أن هلم.. كأنه يدعوني لوليمة..
ما سر هذا الترحيب الغير معتاد؟
حاولت أن اقول شيئاً لكن صوتي لم يغادر حنجرتي ..
هناك مائدة خشبية عليها ساعة رملية غريبة الشكل .. في أعلاها سائل أحمر
كالدم ينساب ببطء للجزء السفلي ..ما معنى هذا .. صرخت ..
وكالعادة لم يخرج صوتي للفضاء .. كررت الصراخ .. حتى تحررت صرخة مدوية
ادركت على إثرها انني تحررت من ذلك الكابوس وعدت إلى عالمي حيث حجرة
الاستراحة القابعة فوق النقطة ..
ما معنى هذا الكابوس ؟ ومن قال أن للكوابيس معنى أصلاً؟ هذا تجده عند العوام أما
عندي فلم يكن هذا سوى نتيجة حتمية للقائي بعلوش
وتأثر عقلي الباطن بذلك، وهكذا عدت أغوص في فراشي من جديد،
وما زاد في ثقتي أنني استيقظت في اليوم التالي نشطاً فلم يحدث لي شيء كما توقع
لي أهل تلك القرية وعلى رأسهم فاطمة وأهلها، لكن لسان حالهم كان يقول : ا
لانتقام موعده يوم الدخلة، حينها سيقرر الشيخ علوش أن يسلب الضابط القادم
من مصر فحولته وسيخرج في اليوم التالي مثل الطائر المنكس منتوف الريش ..
وكنت أنا أقابل كل ذلك بابتسامة هادئة غير مهتمة.. يا حمقى أنتم لا تفهمون، هذا أخر
شيء يمكن أن يشغل بالي، أنتم لا تعرفون مجدي سليمان..
وابتسمت أكثر..

***

عمرو مصطفى
11-10-2018, 09:49 AM
6ـ عش اليوتوبيا

الزغاريد والأعيرة النارية تدوي من دوار الحاج جابر، ذلك المزيج الذي يجعل قلبك يرجف من الفرحة
و الخوف كذلك، ماذا لو أصابني الآن عيار طائش كما يقولون؟ لن أستطيع اتهام علوش بالطبع،
كما أننا لم نتفق على هذا، طريقة الانتقام تحددت سلفاً، فلا داعي للمزاح الثقيل ههنا.
نظرت لوجوه المدعوين التي تتأملني بنظرات تتقلب بين الفضول و الحسرة وابتسمت بثقة بلهاء
كأني مقبل على فتح عكا. الكل هنا في دوار جابر الصوالحي من العمدة عظيم الكرش وحتى
عوضين مجذوب القرية، لكنني ظللت أبحث بعيني بين الوجوه المتفرقةعن وجه واحد بعينه،
نعم لقد وعدني أنه سيأتي، ترى هل يفي الدجاجلة بوعودهم ؟..
لكن دعوني أصارحكم: كنت أراه بزاوية بصري في كل ركن من الأركان، يرمقني بعينه المتبقية
بنظرة خاوية ..
وحينما ألتفت لا أجد شيئاً.. تكرر هذا عدة مرات ثم قررت أن أنفض الفكرة عن رأسي حتى
لا أبدو معتوها أمام العيون التي تتربص بي، سيقولون أنني جننت في ليلة زفافي لأنني
تحديت علوش، وهكذا تنضم قصتي إلى سائر قصص ضحايا علوش من ضباط سابقين،
ويضيع جهدي في دحض دعواهم سدى.
لكنني بالرغم من ذلك أشعر بوجوده معي في العرس، الوغد قد عبق المكان بروحه الثقيلة
الخبيثة .
ويمضي الزفاف كأي زفاف تقليدي.. قطار بطيء يمر على أعصابك ذاتها ..
متى سأجد نفسي وحيدا مع شريكتي الجديدة في مشروع اليوتوبيا؟
مازال أمامنا طريق ليس باليسير حتى نصل لعش الزوجية في البندر.. وهذه في
الحقيقة كانت حجتي حتى آخذ فتاتي وأنطلق بعيداً بعيداً عن كل ذلك الصخب والأعراف
الغريبة وعبارات المجاملات المنمقة التي لا أدري كيف يحفظونها.
أخيراً جاءت السيارة المستأجرة لتنقلنا إلى يوتوبيا الزوجية.
فاطمة سعيدة وأنا سعيد، وحتى الأشجار التي تتهادى على جانبي الطريق تبدو سعيدة،
وحينما انغلق الباب علينا التفت لفاطمة فوجدت وجهها أحمراً مثل ثمرة الطماطم، ولم
يكن هذا بفعل الزينة المبهرجة ولكن وجهها كان على وشك الانفجار بدماء الحياء.
ـ هل تذكرين يوم تقابلنا لأول مرة ..؟
ـ مممم ...
ـ هل كنت تتصورين أن ينتهي بنا المطاف للزواج حقاً؟
ـ مممم ...
ـ هل أنت جائعة؟
ـ مممم...
ـ إجاباتك بليغة للغاية .
وحينما اقتربت منها رفعت كفها في إشارة تحذيرية واضحة..
ـ ماذا بك ..؟
ـ لا تقترب..
ـ نعم !!
ابتلعت ريقها كأنما تبحث عن كلام مناسب يعبر عما تريده، ثم كان ما قالته
بعدها عبقريا :
ـ اليوم ... لا... لأن ... لا يصلح .. لأنه .. اليوم .. و.. أأ...كح..كح..
فككت ربطة عنقي وخلعت سترتي وشمرت عن ساعدي وظللت لساعة أحاول
توصيل كلماتها المتقاطعة كي أفهم ماذا تريد قوله بالضبط..
ثم أخيراً فهمت ..
الفتاة قررت ممارسة نشاطها الفسيولوجي المعتاد قبل الأوان بسبب التوتر، وهكذا
تركتها وخرجت لأقفت وحدي في شرفة الشقة أرقب النجوم الساهرة مردداً في حسرة :
ـ فقط لو كنا في اليوتوبيا، لما كان هذا عائقا ..
***
لكنني قررت استثمار الوقت بنشاط بديل..
سأقوم بمحاولة شرح النظرية اليوتيوبية لزوجتي المبجلة! ولما لا؟! فلا يوجد
لدينا الأن سوى الثرثرة لحين إشعار أخر..
سألتها :
ـ هل سمعت من قبل عن المدينة الفاضلة؟..
أجابت وهي تبتسم في فهم :
ـ إنها إحدى مدن ألف ليلة..
أغمضت عيني مصدوماً ثم عدت ففتحتهما وقلت في صبر :
ـ ألف ليلة خرافة، أما المدينة الفاضلة فهي حلم الباحثين عن الكمال الأرضي..
ضيقت عينيها في محاولة لفهم كلماتي، فعدت أقول لها بعبارات أبسط:
ـ مثل الجنة يا فاطمة.. مدينة كاملة مكملة.. ليس فيها بغض ولا جريمة.. ليس
فيها غني وفقير.. الكل سواء مثل أسنان الحما... أقصد المشط!
ـ ليس فيها غني ولا فقير.. يعني الكل مستور الحال.
قلت مبتسما لتعبيراتها :
ـ الكل سواء يا فاطمة.. لن ينظر أحد لما عند الأخر ولن يطمع أحد فيما عند الأخر..
سكتت قليلاً كأنها تحاول هضم كلامي، ثم سألتني فجأة :
ـ ولن يحتاج أحد لأحد؟..
قلت لها في تلقائية:
ـ اليوتوبيا ليس فيها احتياج..
ـ إذن فكيف ستستمر الحياة في تلك المدينة.. من دون حاجة الأخ لأخيه وأمه وأبيه وجاره..
داعبت شاربي مفكراً فيما تقول، ثم قلت لها بلهجة لا تخلو من ضيق :
ـ نحن نحتاج لبعضنا البعض لأن بيننا تفاوت..
ـ هكذا خلقنا الله.. مختلفين.. فقراء وأغنياء.. ضعفاء وأقوياء.
قلت بامتعاض :
ـ مختلفين أو متخلفين.. لا فرق..
لاحظت الضيق في وجهي فأشاحت بوجهها قليلاً وقالت :
ـ أنا أحاول فهمك على قدري.. فأنا بالكاد أفك الخط..
شعرت بشيء من الشفقة تتسلل إلى صدري تجاهها، يبدو أنني جرحتها بشدة، لكن تباً،
ما سر تلك الرقة الرقيقة التي هبطت علي فجأة؟..
إنه الزواج يا مجدي، أنت ما زلت عريساً جديداً يا رجل..
قلت لها متلطفاً :
ـ دعك من هذا وتعالي أصحبك معي في رحلة ممتعة بين صفحات الكتب..
وأخذتها إلى مكتبتي الخاصة التي ألحقت بها كل الكتب التي جئت بها من القاهرة،
وبدأت أحدثها أحياناً وأقرأ لها أحياناً مع الشرح ومحاولة تقريب المكتوب إلى فهمها، وكانت
فاطمة تنظر إلي في انبهار طوال الوقت، لقد ظفرت بزوج متنور بحسب تعبيرها، يا لها
من فتاة ساذجة ومثيرة للشفقة، لم أشعر يوماً ما بالمسئولية كما شعرت بها اليوم
بالرغم من كوني رجل شرطة مسئول، لكن هذه الفتاة الطيبة كيف سيمكنها السير
بدوني خطوتين دون أن تتعثر ويدق عنقها؟..
ـ لماذا تنظر إلي هكذا ..؟
انتزعتني عبارتها الخجول من تأملاتي فتنحنحت، ثم تذكرت أنها زوجتي فقلت لها بسرعة :
ـ ولما لا أفعل؟!..
ـ أشعر بالحرج من نظرات الأخرين..
ـ أنا لست كالأخرين .. أنا زوجك ...
أطرقت إلى الأرض وهي تتمتم :
ـ ما زلت لا أصدق أنني صرت زوجة ..
حككت أنفي قائلاً :
ـ عملياً نعم ..
ثم قررت أن أوجه دفة الحديث بعيداً فقلت لها مداعباً :
ـ لقد مر يومان حتى الأن ولم يحدث لي شيء ..هل فقد الشيخ علوش قدراته أم ماذا .. ؟
رفعت طرفها إلي وبدت كأنها مترددة في الإفصاح عن شيء ما، ثم قررت أن تتكلم :
ـ الشيخ علوش ليس شريراً كما تتصور..
ابتسمت بركن فمي قائلاً :
ـ ربما أكثر مما أتصور ..
ـ هل .. هل ستظل تكرهه لو علمت أنه السبب في زواجنا ..
شعرت برجفة تسري في عروقي، وقبضت على ساعدها لا شعورياً قائلاً :
ـ ماذا تعنين ..؟
ابتلعت ريقها بصوت مسموع وساعدها يرتجف في قبضتي فأرخيت قبضتي معتذراً لها، لكنني
كنت بحاجة إلى أن تكمل، وبسرعة، ساعتها طلبت مني حفظ ذلك السر بيننا.. فوعدتها
مغتاظاً وقلبي يدق بعنف..
ـ هل تذكر يوم تقابلنا أول مرة.. كنت عائدة من عند الشيخ علوش ومعي عملين، واحد
لأخي مداح ليصلح من شأنه ويهديه وأخر لي ليرزقني الله بالزوج الصالح.
طبعاً لم تتخيل أن علوش هذا سره باتع كما يقولون، إلا حينما وجدتني أدق باب دارهم.
قلت لها شاعراً بشلل وشيك :
ـ وهل تذكرين أين ذهب ذلك العمل ؟
قالت ببراءة :
ـ للأسف ضاع مني.
ـ لم يضع للأسف.. لقد وقع منك والتقطه أنا كتذكار ووضعته في جيبي، لقد تحول لعجين
بعد أن غسله الشويش ديريني ، لكن يبدو أن هذا لم يبطل مفعوله!
ـ سبحان الله!
قاومت رغبة ملحة في خنقها، على الأقل ليس ونحن في شهر العسل.
قلت لها :
ـ تعرفين أن علوش الطيب هذا لا يسمح لأحد بالزواج في قريتك قبل أن يعطيه إتاوة..
قالت في دهشة :
ـ إتاوة.. أظنه حلوان كي يصنع له حجاب يحفظه من العين..
ـ ليس حلواناً يا فاطمة.. لقد حكى لي والدك كل شيء.. لكن يبدو أنهم لم يخبروك..
طبعاً لم يخبروها..
الأن يتوجب علي أن ألقنها المزيد من الدروس المكثفة..
أعرف أن هذا لن يكون سهلاً، لكنه ليس مستحيلا، سأستغل أيام حيضتها في غسيل
دماغها من كل الأدران التي علقت بها، سأفرغ عليها كل ما تعلمته من فكر تقدمي
شمولي. أنت أول براعمي يا فتاة الريف الساذجة، ويبدو أن شيئاً غريباً قد بدأ يتخلخل
جدار الصلب الذي يضخ الدم إلى رأسي، ذلك الشيء يعرفه أبناء البيئات المحافظة
بالميل ويعرفه الشاعريون بالحب، وأعرفه أنا بالمغناطيس الجاذب لنقيضه..
وهكذا تمضى بنا طبائع الأشياء..
***
أين أنت يا ماركس الآن لتراني في عش اليوتوبيا الصغير؟..
إنني أمضي بنجاح في مشروعي بدونك..
جاءت لي فاطمة بكوب من القهوة ووضعته بجانبي، لفت انتباهي أنها ترتدي ثياب
محتشمة أكثر من اللازم فسألتها :
ـ هل ستغادرين؟..
ضربت بيدها على صدرها كمن تلقت إهانة وصاحت :
ـ أخرج وأنا ما زلت عروس!.. هذا عيب!..
نسيت أن هذه عادة سمجة لدى المتزوجين، لو قرر العروسين مغادرة عش الزوجية
قبل أسبوعين على الأقل فالويل لهما، سألتها :
ـ لماذا ترتدين كل هذه الأشياء؟.. لا تقولي لي أنك تتحشمين أمامي..
ابتسمت قائلة :
ـ لا طبعاً.. فقط سأصلي..
فاطمة تصلي! لاحظت دهشتي فقالت باستغراب :
ـ ألا تصلي أنت أيضاً؟..
تناولت كوب القهوة شاعراً بالحرج، ماذا أقول لها؟ زوجتي أنا تصلي، يا لخيبة أملي
فيك يا فاطمة، يا شماتة ماركس في. قلت لها متحذلقاً:
ـ الحقيقة أن الصلاة شيء جيد.. رياضة رائعة تساعد على تنشيط الجسد..
أشارت لي قائلة بابتهاج :
ـ إذن فلنصلي سوياً..
امتقع وجهي وشعرت أن القهوة تحولت في حلقي إلى رماد حار. قلت لها بصوت مبحوح :
ـ شكراً.. أنا أمارس الرياضة يومياً..
بدا عليها عدم الفهم، فحاولت أن أشرح لها بتلك الطريقة المتعالية التي تشعرها بمدى
جهلها، يمكنني بهذه الطريقة أن أقنعها بوجود أسد تحت فراشها وستصدق، هذه حقيقة
علمية لا تقبل النقاش هل ستعرفين أفضل مني أنا؟!. قلت لها:
ـ الصلاة رياضة للبدن يا عزيزتي.. وأنا رجل رياضي.. إذن أنا أصلي أفضل منك..
ـ يا سلام!..
قالتها ذاهلة..
ستصدق البلهاء وربما تركت الصلاة بسببي، تركتها تذهب وجلست أحتسي القهوة
باستمتاع، لقد أفلت هذه المرة و... تباً.
إنها تصلي!!..
وثبت قائماً، وصحت بها :
ـ فاطمة.. انتظري.. لماذا لم تخبريني أنك.. أنك..
وتوقفت عن مواصلة الكلام ملوحاً لها بكفي لعلها تفهم الباقي فالتفتت إلي بنصف وجهها،
لا أدري لماذا بدا لي لحظتها كالبدر التمام وهي تقول بحياء :
ـ قلت أنك ستفهم حينما تراني أصلي..
أسقط في يدي فتراجعت قائلاً :
ـ لا تؤاخذيني الكلام عن الرياضة أخذنا بعيداً عن.. عن..
ثم قطعت عبارتي وأشرت لها قائلاً في ضراعة :
ـ هلا انتهيت من الصلاة سريعاً..
ـ لما؟
ـ سنواصل الحديث عن اليوتوبيا.. وهل لدينا شيء أخر لا سمح الله!
***
أخيراً وبعد طول انتظار عدنا إلى حيث بدأنا في ليلة الزفاف.. ابتسمت لها في إشراق
فأطرقت في خجل، ساعتها شعرت أنني قادر على رفع جبل المقطم، على الطيران بلا أجنحة
وملامسة النجوم و... لكنها رفعت وجهها وقالت لي كلمة واحدة بحزم مقتضب:
ـ ليس بعد..
***

عمرو مصطفى
11-12-2018, 09:30 AM
7ـ النزيف

قلت لها في بلاهة :
ـ ماذا ..؟
ـ مازال ...الـ... لقد.. عاد..
هرشت مؤخرة رأسي متسائلاً :
ـ وهل هذا طبيعي ؟
ـ لا أدري ..
ـ الطبيب يدري ..
هنا انفتحت أبواب الجحيم، وخرجت الشياطين تغزو سحنة الفتاة البريئة، وتطاير
الزبد من شدقيها وهي تصيح:
ـ تريدني أن أذهب للحكيم ..هذا محال .. هذه معرة كبيرة ..كيف؟.. كيف؟..
وضع عندك عشرات من (كيف ) هذه حتى تصل بها إلى المريخ ..
غاية ما هنالك هو أن والدتها ستستدعي الداية والتي سيكون اسمها ـ غالبا ـ أم شيء ما،
كي تفحصها وهو ما كان سيثير جنوني حتما، هذا ما كان ينقصني، علوش أخر في قالب انثوي ..
تباً للريف الذي يتعامل مع جسد الانثى بتلك الحساسية الساذجة الموروثة من القرون الغابرة!..
الواحدة من هؤلاء تتصور نفسها مطمعاً لكل ذكر متحمس حتى وإن كان مجرد طبيب لا يعبأ
غالباً إلا بفاتورة الكشف الفلكية التي سيدفعها الزوج المسكين. كنا في القاهرة قد تحللنا
بقدر كافي من تلك القيود الشرقية بفضل الانفتاح على العالم المتحضر، لكن المجتمع
الريفي مازال يرسف في أغلال الماضي.
وكان يوم عرضت فاطمة على الطبيب يوماً مشهوداً وأسوداً في تاريخ أل جابر الصوالحي ..
الفتاة عادت منهارة كأنما تعرضت للاغتصاب ..وعدت أنا محتاراً مشوشاً تدوي في أذني كلمات
الطبيب :
ـ لا شيء .. زوجتك تتدلل عليك ...
ـ والدماء ...؟
ـ الفتيات يتحججن بما هو أكثر من ذلك..
هل هذا هو كل شيء؟
هل خدعت الفتاة القروية ضابط النقطة الفذ..
إذن فقد ولى عهد الدبلوماسية وأتى عهد الحديد والنار ..
لم تكن بحالة مزاجية جيدة بعد زيارة الطبيب لكنني كنت حانقاً جداً ومصراً جداً، سمعت
كثيراً عن مكر الفلاحين، واليوم أعاينه وأراه متجسداً في تلكم الفتاة التي تدعي
السذاجة والبراءة الخادعة ..
لكنني لم أكد أمسك كتفيها حتى انهارت كالبالون الفارغ من الهواء، انفلتت من
بين ذراعي وخرت إلى الأرض..
لم أقبل أن أخدع مرتين فأهويت إليها حانقا وقبل أن أتفوه بكلمة ارتطمت عيني
ببقعة الدم التي تتسع وتتسع من تحتها ..
رفعت بصري ملتاعاً إلى وجهها فهالتني الصفرة التي بدأت تغزو بشرتها . تباً
حتى المتنورون أمثالي يرتكبون الحماقات القاتلة..
" لا شيء .. زوجتك تتدلل عليك .."
ترددت كلمات الطبيب الأحمق في رأسي وأنا اتحرك أمام غرفتها ذهاباً وإيابا...
ماركس لماذا تركتني؟ أنت ميت أصلاً فليس لديك عذر لتختفي عني كل هذه المدة؟
لقد تركتها بالداخل ومعها أمها، حضرت مع والدها الحاج جابر نزولاً عن رغبتها في
استدعاء أمها لتكون بجوارها، لكنني غير مستعد لحلول أمها الخرافية، ولن أحتمل أكثر،
عقلي قد تحول إلى خلية نحل نشطة لا تكف عن الطنين ..
ترى ما الذي يجري لي؟ ماذا أصاب فاطمة ؟ هذا نزيف وليس حيض، لكن النزيف يأتي
أحياناً للمتزوجين حديثاً لكننا لم نتزوج عملياً بعد..
الطبيب يعلن لي أنه لا سبب منطقي لذلك النزف، وهل علي أن أبحث عن سبب
خارج حدود المنطق ؟
لكن الحاج جابر عاجلني بالضربة القاضية..
ـ إنه علوش ..
التفت إليه في حدة ، كان جالساً على أحد المقاعد وقد أراح رأسه على كفيه المشبكتين
واستطرد بصوت متحشرج :
ـ هذا انتقامه منا ...لأنك تحديته..
كنت قد نسيت ذلك الاسم تماماً، وها هو ذا يقتحم على حياتي في أحلك الأوقات، فقط ليزيد
الطين بلة ..
وتداعت في ذهني ذكريات كابوس لم تندمل آثاره في نفسي بعد، مطاردة كلب أسود
لا ظل له، بيت طيني ورائحة خبيثة، وجه علوش المرحب والمائدة الخشبية و...
والساعة الرملية!..
بلى الساعة الرملية التي تحوي سائلاً أحمراً كالدم، لا بل هو دم، دم ينساب من أعلى لأسفل!..
لا ااااااااااه.....
لا يمكن أن يكون هو من وراء كل ذلك ..
أنا الذي تحديته وكان ينبغي له أن يوجه سهامه إلي، لا إلى فاطمة، هذا لو كان يملك
سهاماً أصلاً ، إنها الصدفة تلعب لعبتها مع العقول التي عششت فيها الخرافة وباضت
وفرخت ..
ـ وما ذنب فاطمة ؟ كان المفترض أن ينتقم مني أنا..
قلتها في حدة للحاج جابر فنظر لي بعين زائغة كأنه يبحث عن رد يقنعني والسلام، ثم
إنه أطرق إلى الأرض في أسى، لعله يلعنني الأن في نفسه ويلعن اليوم الذي تزوجت
فيه ابنته، إلعني كما تشاء فقناعاتي لم ولن تهتز ..
لكن الأيام التالية وجهت لي المزيد من اللطمات..
النزيف لا يأتي إلا حينما أحاول الاقتراب منها، مجرد التفكير في ممارسة حياة زوجية
طبيعية يعني عودة النزيف مرة أخرى ...
لا شيء يفسر ما نحن فيه ، تفسيراً علمياً منطقياً..
الجنون..
أحدهم يدفعني لحافة الجنون، أحدهم يغلق كل الأبواب ويترك لك باباً واحداً ..
باباً واحداً لكنك تتجنب حتى مجرد التفكير فيه ..
ووقفت أرمق الكتب المصفوفة في رفوف مكتبتي المتواضعة، كتب اليسار التي غرقت
فيها حتى شحمة أذني، وكأني انتظر منها الجواب، لكن لا جواب، لا فائدة، حتى
ماركس اتضح لي أنه وهم صنعه خيالي، لماذا لا تكون كل تلك الأفكار كذلك، مجرد
أوهام وسراب..
وطاشت يدي في الرفوف وتناثرت الكتب على الأرض لتدهسها قدمي بكل الحقد
والغيظ، وأخذت أنظر لاهثاً لأرفف المكتبة فوجدت كتاباً واحداً قد بقى صامداً، لم يهتز
ولم تطله بطشة يدي ..

***

قبل أن ترحل سأعطيك شيئاً ..
أغمضت عيني متوقعاً العطية التقليدية في مثل تلك المناسبات ..
وسرعان ما دس أبي المصحف المزركش في يدي..

***

نعم أتذكر..
إنه الكتاب الوحيد الذي لم يتهاوى مع بقية الكتب ..
لكن لماذا .. ؟
ولماذا احتفظت به رغماً عني وكأن هناك قوة ما دفعتني للإبقاء عليه، وسط كل
هذا الكم من الكتب التي تتنافى أفكارها مع ثوابته...
ترى ما كنه تلك القوى؟..
وهل لديها حل لمعضلتي؟..
لقد تحول عش الزوجية إلى حفرة من حفر جهنم..
صرت عصبيا انفجر عند أدنى كلمة ..كنت كالصخرة التي تتدحرج حثيثاً نحو
هاوية بلا قرار ..
وتأملت في المرآة لحيتي التي نمت والسواد تحت عيني التي ترمقني بنظرة
حادة مفزعة.. هذا وجه شيطان زنيم وليس وجه (عريس).
ـ أنا لا أصدق أن الشيخ علوش هو السبب ..
علوش مرة أخرى، أنا لم أعد أحتمل، قررت ألا أرد، فلا أضمن أن يفلت الزمام من قبضتي و...
لكنها تابعت بحذر :
ـ لم يكن ليؤذيني فهو الذي جلبك إلي..
طبعاً كان هذا كافياً كي انفجر فيها كاللغم..
ـ تباً لك ولعلوش معاً..
بعدها لم أشعر بنفسي، المسكينة تلقت شحنة الغضب التي ما كان لها أن تتلقاها،
وما كان لها أن تحتمل صفعات وركلات ضابط شرطة محنك مثلي..
وحينما تهاوت على الأرض استفقت على الكارثة .. لقد عاد لها النزيف ليشترك
معي في القضاء عليها..
أهويت إليها، هززتها عدة مرات لكنها لم تستجب، صرخت في أذنها، ردي علي،
وضعت أذني على صدرها لأسمع دقات قلبها، دفنت وجهي في صدرها، صرخت باسمها...
فاطمة البريئة الندية، التي أشعرتني بآدميتي وأن لقلبي وظيفة أخرى غير ضخ الدماء ..
فاطمة الزهرة اليانعة التي سحقتها يد قاسية ..
فاطمة البسمة الرقيقة سقطت ضحية للعند والكبر والقسوة.
ذئب ضاري لا يرحم هذا هو ما كنته، لا فرق بيني وبين علوش..
علوش!
علوش هو الباب الذي رفضت طرقه، والأن أنا مستعد لما هو أكثر ..
من أجل فاطمة..
حملتها حملاً إلى حيث غرفة النوم ووضعتها بحرص على الفراش، هناك خيط أحمر
يتبعني حيثما سرت، تباً الفتاة تتفلت مني..
همست في أذنها:
ـ تماسكي يا فاطمة حتى أعود.. تماسكي أرجوك..
وغادرت كالسهم قاصداً الشخص الذي تسبب في مأساتي..

***

حمام دم ..
طوال الطريق الذي قطعته بسيارتي من البندر إلى كفور الصوالح والكلمة تدوي في عقلي..
سيارتي!
هل كانت لي سيارة؟ لم أعد أركز جيداً.. ولم يكن لدي الوقت ولا البال الرائق
للتركيز في هذه الأمور ..
المهم أن هناك سيارة وسأصل بها للوغد علوش، بعد دقائق، بعد ثوان، بعد...
قمت بتوجيه أقسى ركلة ممكنة للباب الذي لم يحتمل وانفتح على مصرعيه فإذ
بالشيطان يعدو في فزع ناحية باب أخر خلفي..
لكن رصاصة مدوية استقرت في فخذه جعلته يبرك كما يبرك الجمل أمام الباب ..
كان مساعد الشيطان عطوة ينام فوق دكة بجوار الباب فنهض مذعوراً من نومه، عقله
لم يستوعب بعد ما يجري، حينما رآني أمامه فتح فمه ليقول شيئاً أو ليصرخ لكنني
عاجلته بطلقة هشمت أسنانه وخرجت من قفاه..
وسقط من فوره كالحجر فتجاوزته بسرعة لأصل إلى علوش الذي صرخ حينما قبضت
على ياقته ودفعته ليرتطم بالمنضدة..
انقلبت المنضدة وتناثر من تحتها موقد كيروسين وبعض اللفائف من ورق وجلد
ومساحيق لا أدري كنهها و...
وشيء أخر أثار عند رؤيته الرجفة في أوصالي ..
إنها الساعة الرملية التي رأيتها في الكابوس..
بيد مرتجفة رفعتها وتأملتها عن قرب..
ـ لم يكن مجرد كابوس إذن ..
ثم التفت إلى علوش مستطرداً :
ـ كنت أنت السبب في كل ذلك .. وإن كنت لا أدري كيف.. ودفعت فاطمة ثمن عبثك ..
لكنك ستخبرني كيف اتخلص من تلك اللعنة ..
عض شفته السفلى في ألم وهو يتحسس فخذه ثم رفع طرفه إلي في مقت مستطرداً
بنبرة لا تخلو من سخرية:
ـ إذن فقد آمنت أخيراً ..
تلقى ركلة عاتية في فخذه المصابة فشق صراخه سكون الليل وصدع جنباته، وجذبته
من شعره الجعد وضربت رأسه بالمنضدة صائحاً :
ـ سوف أجعلك تنزف كل قطرة من دمك أمام عينيك.. لو لم توقف نزيف فاطمة ..
قال لاهثاً بطريقة تجمع بين الألم والنشوة:
ـ الساعة الرملية وسيلة لا يتوصل إليها إلا المحنكون أمثالي، الساعة الرملية المليئة بسائل
خليط يشبه سائل الحياة.. نوع من الأعمال السفلية التي تصنع للنساء كي تظل الواحدة
منهن تنزف دون سبب كلما اقترب منها زوجها ..النهاية محتومة ..الفراق أو الموت نزفاً..
كان هذا هو انتقامي .. الوحيد الذي يستطيع إنقاذها هو أنت .. ابتعد عنها.. اتركها وشأنها..
دفعت فوهة مسدسي في ثقب الطلقة الغائر بفخذه فصرخ كالنساء .. وهدر صوتي كهزيم الرعد في أذنيه :
ـ تريد أن أطلقها ويكون هذا إعلان هزيمتي أمامك..
ـ هل تستطيع أن تفعلها من أجل فاطمة..
أظلمت أمامي الموجودات..
يمكنني أن أنقذ فاطمة، وأخسر اليوتوبيا التي جئت من أجلها..
رأيته يبتسم في جشع قائلاً :
ـ لا تستطيع؟!.. هه؟!..
ببطء ارتفع سلاحي في وجهه فتجمدت الابتسامة على وجهه، قلت له في برود :
ـ إذا لم يكن باستطاعتك إنقاذ فاطمة فما الجدوى من بقائك على قيد الحياة..
قال في سرعة :
ـ بل أنت الذي لا يريد أن ينقذها في الحقيقة.. هذا لأنك مثلي تماماً.. كل منا يحمل بداخله نفس
القدر من الشر.. لكن الفارق بيني وبينك هو أنك تكابر ولا تريد أن تعترف.. كلانا يستحق القتل..
عليك أن تصوب هذا السلاح إلى رأسك أولاً..
قلت بنفس البرود وسبابتي تداعب الزناد:
ـ لو فعلت كيف سأقتلك بعدها؟..
قال وهو يبتسم في خبث :
ـ ألم تسأل نفسك لماذا لم أوذيك أنت ؟
صمت برهة وأنا اتردد في نسف جمجمته..
نعم، لماذا لم يؤذيني أنا؟
خفضت يدي فالتمعت عين علوش الباقية بنظرة انتصار تقول أن لدى صاحبها الكثير من
الأسرار لم تكشف بعد.

***

عمرو مصطفى
11-24-2018, 03:20 PM
8ـ الصدمة

مازال يذكر أول يوم وطأت قدمه أرض كفور الصوالح..
لا أحد يدري من أين جاء تحديداً، المهم أنه جاء هنا ليبقى..
مشي بخطوات جنائزية بين شواهد القبور، بحث عن مكان مهجور
يصلح للإقامة، ثم توقف أخيراً عند ذلك البيت الطيني الخرب القابع على أطراف
المقابر..
القاذورات في كل مكان حوله والرائحة خانقة لا تطاق، وهذا مهم جداً لما
سيقوم به، وما سيحصل عليه..
تأكد بطريقته الخاصة أن البيت لا يخص زميل مهنة حالي ثم جلس ينتظر..
الطقوس ستكون عند منتصف الليل..
أشعل مصباح الكيروسين وأخرج أدواته من جعبته التي جاء بها للقرية، كل
شيء سيتم بهدوء ويسر، وتمنى أن يحالفه الحظ ويلقى رضاهم هذه الليلة..
ذبح أرنب وفرق دمه على شكل نجمة خماسية على الأرضية، ثم جلس ينتظر ..
في الليلة الأولى لم يلق استجابة، وكان هذا متوقعاً، فالأسياد يحتاجون إلى ما
هو أكثر من مجرد أرنب.
في الليلة التالية عاد بكبش سرقه من أحد بيوت الفلاحين في غفلة من أهله، دماء
أكثر سالت لكن بلا استجابة ..
الأن لم يعد هناك مفر من الخطوة التالية ..
الضحية البشرية ..
لن يستطيع اختيار ضحية بشرية من أهل القرية سيقلب هذا القرية رأساً على عقب، عليه
أن يستدرك طفل من قرية بعيدة، يقوم بتخديره ويأتي به في جوال..
ذبح البشر ليس سهلاً، خصوصاً الأطفال، لكنه تعلم كي ينجح في عمله هذا لابد أن
يصير قلبه مجرد مضخة تضخ الدماء وتبقيه على قيد الحياة، لا أثر هنالك لأي مشاعر سخيفة قد تعطلك..
المجد ينتظره وعنق هذا الطفل هي مفتاح العبور لذلك المجد..
تناول المدية الحادة وقام بشحذها عدة مرات على قطعة حجر وتوجه إلى الجوال، فك ربطته
وأخرج الطفل فاقد الوعي..
ما حدث بعد ذلك كابوس اتركه لخيالك..
المهم أن الضحية هذه المرة أثمرت، حيث سمع العواء الطويل الحزين بالخارج، وتهلل وجهه
وهو يرنوا جهة الباب..
ـ يا مرحب بالأسياد ..
بالخارج جاء يمشي حثيثاً، أسوداً كالليل البهيم ، عيناه جمرتان من جهنم، أسنانه
تبرق كالماس تحت ضوء القمر..
كلب أسود بلا ظل..
وأمام الباب خر علوش على ركبتيه في تبجيل مستقبلاً ذلك الذي وفد عليه
من الجحيم ، أخيراً لبى الأسياد نداءه ..
تجاوزه الكلب متجهاً ناحية جثة الطفل المذبوح، دار حولها وهو يتشمم الدم، ولغ فيه
فتوهجت عيناه، وأغمض علوش عينيه وقلبه موشك على التوقف، فتح عينيه
فلم ير شيئاً، لقد اختفى سفير الأسياد..
إنها علامة القبول إذن!
أغمض عينيه ثانية وبدأ يرتجف من الرهبة والنشوة..
قال بصوت مبحوح كأنه يجيب على سؤال لم يسمعه سواه :
ـ فقط أريد الخدمة..
شعر أن جدران البيت الطيني كأنها ترتج، وبرعدة تسري في أطرافه، ثم بدأ الجنون..
زام مثل القط، مرغ وجهه في الدم، كتب على الجدران بمداد من بوله، جلد ظهره بالسياط،
انهار على الأرض فارداً أطرافه الأربع، عيناه جامدتان تحملقان في السقف، ومن فمه
الفاغر سال خيط طويل من اللعاب إلى صدره..
هناك أصوات تتردد في ذهنه، عشيرة محترمة تتبادل الحديث هنالك، رجال
ونساء، جدال عنيف يدور في رأسه..
ـ مقبول؟..
ـ لا بعد..
ـ نريد.. مزيد..
ـ دماء.. نريد.. مزيد..
ـ خذ سكين.. خذ سكين..
ـ دماء.. مزيد..
ـ هلم..
ـ هاتها.. مزيد..
وجد المدية في يده، والصوت الرهيب يلفح أذنيه، مزيد، نريد مزيد، هذا الصوت
يصهر إرادته ذاتها، هناك ألم لا يمكن وصفه، ألم تشعر به أنت وحدك، أنهم يسلبونك
شيئاً ما، حتى هذا لا تستطيع أن تميزه، يصرخ بلا صوت، هو يريد أن يفعلها كي يتحرر،
إنه يعلم أن تلك التجربة ليست سهلة، أنت في يدهم كالعجين، سيشكلونك من جديد، سيعيدونك
إلى بطن أمك، وربما لا يعيدونك أصلاً.
وأخيراً...
ـ مقبول.. مقبول..
الأصوات تخفت بالتدريج.. ووعيه يعود إليه شيئاً فشيئا..
لكن ذلك الألم الحارق لا يزول، إنه يزداد كلما استعاد وعيه أكثر..
تحسس وجهه، سائل الحياة الساخن اللزج يتدفق عبر تجويف عينه اليمنى، جراحة
بدائية وناجحة أجريت له أو أجراها هو بنفسه لنفسه،
صرخ أخيراً فشقت صرخته قلب الليل الساكن..
ثمن الخدمة كان غالياً، لكن الأسياد قالوا له أن المقابل أغلى، وعينه الباقية ستكفيه
وزيادة، سيرى بها أبعد مما يتخيل..
وبالفعل.. من يومها بدأ اسمه يتردد في القرية..
الشيخ علوش يمكنه أن يرد لك ضالتك، يمكنه أن يخبرك عن موضع العمل
الذي صنعه لك ابن خالتك، أو يصنع هو عمل لابن خالتك، يمكنه أن يرشدك
لمكان المال الذي سرقه منك جار السوء، ويمكنه كذلك أن يؤذيك بشدة لو
لم تنصاع لطلباته..
الغريب الذي جاء من المجهول صار كابوساً جاثماً على قلوب أهل كفور الصوالح..
عليهم أن يخافوا من علوش وحده..
حتى الحكومة هنا كانت تصنع له ألف حساب، هو لا يحب الحكومة ولا رجالها القادمون
من مصر، لقد حدثت له مشاكل كثيرة معهم.. لكن في النهاية كانت تنتهى سريعاً بتعهد
عدم تعرض من الجانبين..
منذ أيام علم أن ضابطاً جديداً حل بالنقطة، يقولون أنه شاب وسيم ويبدو من
عائلة، وابتسم وهو يتذكر عشرات الوجوه التي مرت به من قبل على نفس الشاكلة..
ضباط مصر المرفهون يأتون دائماً وهم منفوشي الريش كالطواويس، ويرحلون وهم يهذون..
وابتسم أكثر وهو يتذكر وجوه كل الضابط الذين مروا عليه..
من قال أن كفور الصوالح تحتاج للحكومة ؟ هو كان السلطة الزمنية المتحكمة فعلياً بأهل
القرية، إنه المنبع والمصب، من يجرؤ اليوم على الزواج دون زيارته؟ من يجرؤ اليوم
أن ينجب ويستهل ولده صارخاً قبل أن يضع الحلوان في حجره ؟ بل من يجرؤ على
أذية جاره خوفاً من لجوء جاره إلى ..
العمدة زوج ولده الشهر الماضي ولقد وضع في حجره مبلغاً يسيل
له اللعاب غير المواشي والطيور، فقط.. دع ولد العمدة يتزوج في سلام، بعدها بعدة
أشهر سيدعه كي ينجب وكي (يسبع) وكي.. وكي ..
وكل كي بكية! وابتلع ريقه وعينه السليمة تتوهج جشعاً..
ـ فاطمة بنت جابر الصوالحي بالباب..
انتزعته عبارة عطوة مساعده من شروده فالتفت إليه وهو يشعر برجفة في قلبه..
فاطمة بالباب!..
فاطمة جاءت إليه أخيراً بعد طول انتظار..
يا لك من وغد قاسي يا عطوة وكيف تتركها بالباب..
ـ ادخلها بسرعة أيها النطع ..
ولمعت عينه الباقية بنظرة افتتان وهو يراها تدلف إلى الغرفة على استحياء..
وارتعشت شفتيه وهو يهمس لها:
ـ خطوة عزيزة يا فاطمة ..
قالت له في رهبة وهي تضع كفها على صدرها :
ـ أمي ترسل لك السلام..
ـ سلمك الله من كل مكروه يا فاطمة..
ابتلعت ريقها وقررت الدخول في صلب الموضوع..
ـ وتسألك عن الخدمة التي طلبتها منك ..
ـ أه.. عمل المحروس مداح..
وبدأ يعبث ببعض اللفائف التي أمامه وعينا فاطمة تتبعانه.. ثم تناول واحدة رفعها
أمام عينه السليمة كأنه يتأكد من إتقانها ثم ناولها للفتاة..
ـ عمل مخصوص لأخيك مداح كي ينصلح حاله بإذن الله..
قالت وهي تناوله كيس من القماش:
ـ الحلوان يا سيدنا..
ابتلع ريقه وهو ينظر لها بعينه الوحيدة في ثبات :
ـ بدون حلوان يا فاطمة .. يكفي تشريفك..
لوحت له بالكيس في تصميم :
ـ العفو يا سيدنا.. لكن لابد أن تأخذ الحلوان..
تناول الكيس في رفق ثم فوجئت به يضع لفافة أخرى في كفها الممدودة..
ولما تساءلت ابتسم لها فبدت أسنانه النخرة وهو يجيب بود مفزع :
ـ الأخر في اللفافة البنية هدية لك من عمك علوش حتى يرزقك الله بالزوج الصالح..
تورد خدها ولم تدر بماذا ترد، قبضت على العملين واستدارت لتنصرف فاستوقفها قائلاً :
ـ ولا حتى كلمة شكر..
لم ترد، كانت من داخلها تشعر بمزيج من الخجل والسعادة، لقد سعت في خدمة
أخيها مداح فعادت بعملين، لها ولأخيها، أمها لم تفكر فيها لأنها جميلة والعرسان
يأتونها ليل نهار لكن فاطمة تعلم أن مشكلتها كانت في أبيها جابر الصوالحي، لماذا حتى
الأن لا ينجح واحد من هؤلاء العرسان في إقناعه، ثم يأخذها في لمح البصر على حصان
أبيض ويطير بعيداً إلى حيث قباب قصور ألف ليلة ..
كانت فتاة طيبة وساذجة إلى أبعد الحدود ..
ظل يتبعها بعينه الوحيدة وهي تغادر كوخه حتى اختفت عن ناظره فجلس متنهداً في حسرة..
يبدو أنه قد وجد في قلبه أخيراً وظيفة جديدة غير ضخ الدماء، لأول مرة يستعمل سحره لنفسه..
العطف..
كثيراً ما عمل العطف لرجال ونساء ولم يفهم سر طلب الناس أن يحبهم فلان ويهيم بهم
علان، وما فائدة الحب أصلاً ؟ لكن حينما قابل فاطمة فهم، صحيح أن فرق السن والهيئة
وطبيعة عمله تجزم أنه ليس عريساً مناسباً لواحدة من الأحياء، لكن من قال أن الأمور
هنا تخضع لقانون الناس ؟ قانون علوش هو الذي سيمضي ولن يعترض عليه أحد.
لكن هذا قد لا يعجب الأسياد..
ـ تباً للأسياد ..
لقد قرر أن هذه الفتاة له وليست لأحد غيره، والويل كل الويل لمن تسول له نفسه
الاقتراب من طرف ذيلها..
***
طبعاً لم يكن يدري أنني سأظهر و سأطمع فيما هو أكثر من ذيلها.
قال علوش في حقد :
ـ لقد أحببت فاطمة مثلك تماماً.. وكنت أنوي مسحك من فوق الأرض لكنهم رفضوا ذلك..
سألته :
ـ من هم؟..
قال في غل :
ـ الأسياد طبعاً.

***

فاطمة ستتزوج ضابط النقطة ..
البك الضابط الذي جاء من مصر ليخطف فاطمة على حصان أبيض..
لم يتوقع علوش أن يكون الصدام بينه وبين ضابط النقطة سيصل إلى حد فاطمة ..
لا بد أنه شاب ووسيم، ومغرور كذلك، والفتيات لا يمكنهن مقاومته، كما أنه عجوز قبيح ضحى
بعينه اليمنى كي يرضي الأسياد، وليزداد قبحاً..
والأن ماذا حدث للعمل الذي أعطاه لفاطمة ؟ هل أخطأ في شيء ؟..
هل تخلص أحدهم من العمل الذي صنعه لها؟
لا يمكن لفاطمة أن تفعل، ربما كان أبوها أو أمها، أو حتى أخيها مداح المعتوه..
ـ هل أصرف الزبائن بالخارج ؟
التفت إلى عطوة بوجه خالي من التعبيرات وتمتم :
ـ اصرفهم ..
لا زبائن لحين إشعار أخر، سيكرس مجهوده كله في حل ذلك اللغز .
ترى هل تخلت عنه الأسياد بعد كل ما فعل من أجلهم؟
أي شيطان جاء من مصر كي يعكر عليه صفو الأيام ، سيقضي الليل كله متفنناً في
عمل واحد ينتقم به من ذلك الضابط، سيخرج كل مواهبه الشيطانية فيه كي يجعله عبرة
لمن يعتبر، سترتجف جدران البيوت في كفور الصوالح من هول ما سيكون و...
لكن عليه أولاً أن يتأكد من أن الأسياد ما زالوا في صفه ..
وهكذا جلس أمام صفحة مليئة بالرمل وبدأ يخط عليها ثم أغمض عينيه وبدأ يقرأ ..
يهتز ويقرأ، يحرك رأسه يمنة ويسرة ويقرأ ..
أخيراً تشنجت قبضته وهي تقبض قبضة من الرمل، أصدر أنيناً كأنما يعذب في سقر، ثم فتح
عينه السليمة حمراء كالدم وهو يردد في حنق :
ـ لكن لماذا هو ؟!
و ضرب صفحة الرمل بقدمه فتناثر الرمل في كل مكان قبل أن يرفع عقيرته صارخاً :
ـ لماذا ؟!

***

وأكمل علوش بصوت ملتهب :
ـ الأسياد رفضوا إيذائك وجعلك عبرة .. لذا قررت أن أكرس انتقامي من تلك التي فطرت
قلبي حين تزوجتك ..
قلت له شاعراً بالدوار :
ـ لـ ..لماذا؟.. لماذا رفضوا إيذائي ..؟
قلتها كطفل تائه تركه أبواه في دهاليز عالم مزدحم بالطلاسم والأحاجي ، وكان صوت
علوش هو المرشد لي في تلك المتاهة :
ـ لأنك .. لأنك مهم جداً بالنسبة إليهم..
ـ لا أفهم ..
صاح علوش متلذذاً :
ـ بل تفهم وتدرك في قرارة نفسك ..لكنك تكابر .. كل منا يخدم الأسياد بطريقته الخاصة..
وجهان لعملة واحدة .. لكن يبدو أنك في الوقت الراهن الأهم بالنسبة إليهم..

***

ـ مجدي لا تأكل بشمالك..
ـ لماذا يا أمي؟
ـ لأن الشيطان هو الذي يأكل بشماله يا حبيبي.
أنظر إلى الملعقة التي تجمدت في طريقها لفمي الدقيق وأقول :
ـ أبي يقول عني أنني شيطان صغير..
فتضحك وتربت على رأسي، لكنني لم أكن أمزح يا أمي..
لقد كان أبي دقيقاً، أنا شيطان صغير ينمو حثيثاً بين أظهركم وأنتم لا تدرون..
ـ مجدي كف عن اختلاق الأكاذيب..
ـ مجدي يا لك من وغد صغير.. لا تعبث بمصحف أبيك..
أبي يلوح في وجهي بسبابته محذراً :
ـ إياك يا ولد..
هنا أقوم بإفلات المصحف من بين أصابعي..
الفكرة التي سيطرت علي وقتها : ماذا لو تركناه يسقط يا أبي؟..
ماذا سيحدث لنا؟..
و يثب أبي ليتلقف المصحف قبل أن يسقط على الأرض، يومها تلقيت ركلة في مؤخرتي
مازالت تؤلمني حتى اليوم..
ـ هذا الولد معجون بماء العفاريت..
يقولها أبي لأمي التي قطبت جبينها علامة على عدم الرضا..
وفي الليل كانت تنام بجواري لتلقنني بعض التعاليم..
ـ عليك ألا تستجيب لوسوسة الشيطان.. إنه يجري في عروقك مجرى الدم.. ولو استجبت له
ستصير من حزبه وفريقه المخلد في جهنم..
لكنني بالرغم من كل تلك التحذيرات كنت أتلذذ بكل الموبقات التي يقع فيها طفل من
سني ثم أنسب ذلك إلى الشيطان..
وما ذنبي أنا يا أماه، إنه الشيطان!
ولما كبرت وداهمتني أفكار اليسار أمنت أنه لا غيب وبما أن الملاك والشيطان غيب
فهما لا وجود لهما على الحقيقة، وكل ما يصدر مني هو مني ولا دخل لعوامل
أخرى خارجية، والخير والحق والعدل أمور نسبية تختلف من زمان إلى زمان
ومن مكان إلى مكان، ومن شخص لأخر..
هل عشت قرابة الثلاثين عاما خادماً للشيطان ..
وتذكرت ماركس وحواراتي معه، هل كانت محض خيال أم وساوس شيطان مريد..
هل كنت مجرد مهندس في معمار الأسياد المسمى يوتوبيا ؟
وهل يمكن أن أعود بعد قرابة الثلاثين عاماً إلى نقطة البداية مرة أخرى؟ الإيمان بوجود
نازع الخير ونازع الشر، الملاك والشيطان وما فوقهما من تدبير كوني بيد الله..
الله !..
كلمة لم أرددها منذ زمن طويل..
رباه لقد كان بإمكاني إنهاء عذابي، فقط لو كنت لجئت إليك وحدك.
لقد وقعت فاطمة البريئة الندية ضحية لذئبان ضاريان لا مكان للرحمة في قلبيهما.. أنا وعلوش.
ـ لقد تعقدت الأمور جداً يا رفيق..
انتزعني صوته من وسط دوامة الذكريات والتأملات، التفت فرأيته يقف بجوار
الباب عاقداً ساعديه أمام صدره وهو يهز رأسه في أسف مصطنع..
إنه الرفيق ماركس أو من كنت أعتقده كذلك..

***

عمرو مصطفى
11-27-2018, 10:16 AM
9ـ شيطاني

قلت لماركس من بين أسناني :
ـ كنت شيطاني منذ البداية.. وأنا الذي حسبتك ملهمي ..
ابتسم في تواضع قائلاً :
ـ كنت ملهمك بالفعل .. وما زلت ..
صاح علوش وهو يضغط على فخذه ليوقف النزيف :
ـ الأن يمكننا أن نتفاهم..
التفت إليه في حدة. كان يرى ماركس مثلما أراه تماماً. لم أكن زبونه
الوحيد في هذا العالم. أثار هذا جنوني، فصرخت مصوباً إليه مسدسي:
ـ لا تفاهم بين الذئاب..
شعرت بكف ماركس الباردة على عاتقي وبصوته ينساب في أذني :
ـ بل حتى الذئاب تتفاهم يا رفيق..
انتفضت ملتفتاً إليه..
ـ لا تلمسني!
لوح بكفه متفهماً.. ثم قال بتؤدة :
ـ دعني أشرح لك.. أنت وعلوش كنتما مشروعا عائلتي المجيدة.. أنت تراني
كارل ماركس وهو يراني واحداً من الأسياد.. لكن هذا لا يغير شيء من الحقيقة..
لقد لعبت الصدفة دورها في تواجدك مع علوش في مكان واحد.. ولقد حاولت
منعك قدر الإمكان من التصادم معه لاختلافكم الظاهري في الأفكار. إن عالمنا
عبارة عن شبكة ضخمة متشعبة لا يمكن تصور أبعادها ولا مدى نفوذها في العالم..
أحياناً تقتضي المصلحة ألا يعلم عملائنا عن بعضهم البعض شيئا، وهذا هو
ما قد يؤدي أحياناً لما نحن فيه الآن..
وسكت برهة مطرقاً، ثم عاد ورفع رأسه قائلاً في بغض:
ـ بالرغم من ذلك كان بالإمكان تلافي الصدام بينكما.. لكن فاطمة كانت هي بداية
النهاية، إنها فتاة على فطرتها والفطرة هي أشد ما يزعج أمثالنا.. لا ندري كيف
همتما بها حباً؟ المفترض أن كلاكما بلا قلب تقريباً.. وكان الصدام المتوقع..
الآن تفهم لماذا حاولت إثنائك عن الزواج منها لكنك ركبت رأسك..
ونظر لعلوش مردفاً :
ـ وهو كذلك ركب رأسه..
ثم عاد لي مردفاً وهو يغمز بعينه:
ـ لكنني لم أمكنه منك ..
صاح علوش وهو يحجل على قدم واحدة كالغراب :
ـ هو الذي جار على منطقة نفوذي.. أنا لن أتنازل عن حقي..
تجاهله ماركس وواصل الكلام معي:
ـ كان لابد من مكاشفة.. بعد مفاوضات ونقاشات طويلة بين مجلس إدارة العائلة
الكريمة توصلنا إلى حل وسط..
وضم كفيه إلى صدره مردفاً :
ـ ستعودان للعمل سوياً كفريق عمل واحد وإن بدا في الظاهر أن ثمة تعارض بينكما..
رفع علوش كفه الملوث بالدم وقال :
ـ قبل أي شيء أنا لي حق عرب عنده..
قال ماركس في صرامة مباغتة :
ـ لا وقت للضغائن..
قلت لهما في غيظ :
ـ تتكلمان وكأننا شركاء في تجارة.. لا في إضلال البشر..
رفع ماركس سبابته في وجهي قائلاً :
ـ إنها أربح تجارة ممكنة يا رفيق..
تراجعت للخلف قائلاً في حزم :
ـ أنا لدي عرض أخر..
وقبل أن يفهما شيئاً أنطلقت رصاصة لتخترق جبهة ماركس، وأخرى نسفت
عين علوش المتبقية..

***

وقفت مشدوهاً أتأمل اللوحة الدموية التي رسمتها بنفسي في قلب بيت علوش الطيني ..
الدم وشظايا الجمجمة ورقائق المخ البيضاء تلطخ الجدار الطيني وراء علوش ..
علوش الذي كان منذ ثوان يتأملني في تلذذ ..
صار جثة تعسة فقدت عينها اليمنى مقابل صفقة مع الأسياد وفقدت اليسرى بطلقة
من مسدس خادم أخر من خدامهم، دجال أخر وإن كان من نوع خاص ..
لأول مرة في حياتي أجرب شعور القاتل..
هنا سمعت ضحكة ماركس..
كان ممدداً على الأرض لكنه تمكن من رفع رأسه متسائلاً :
ـ هل كنت مقنعاً؟..
صوبت إليه مسدسي بسرعة لكنه اعتدل في خفة وقال رافعاً كفيه كالمستسلم :
ـ لا تحاول فليس لدي أداء مسرحي أفضل من هذا..
قلت له في غل :
ـ لماذا لا تموت يا ابن الـ...
طقطق بلسانه محذراً ثم نفض الغبار عن ثيابه وتجاوز جثة علوش
وهو يرمقه باشمئزاز قائلاً :
ـ الحقيقة أنا أوافقك على شطر عرضك الأخر..
هنا سمعت تلك الحركة الخفيفة من ورائي فالتفت لأراه ..
بالفعل لم يكن له ظل وهو يعبر الباب المهشم ويتجه حثيثاً إلى حيث جثة علوش..
الكلب الأسود الذي يلغ في دم الأضحية التي يتقرب بها للأسياد ..ترى هل قرر
الأسياد اعتبار دم علوش مقدم لصفقة جديدة معي ..ولما لا.. أشعر أنني ضعيف
جداً في هذا العالم الكابوسي.. وربما كان الرضوخ له ما يبرره..
كذلك الإغراء يبدو شديداً ..ذلك العالم المجهول الذي يفتح أبوابه أمامك لتدخل ..
نظرت إلى ماركس فرأيته يبتسم لي في ود قائلاً :
ـ لم يبق غيرك.. إن العائلة تراهن عليك الآن..
هنالك في ذلك الجزء الغامض من نفسي تنمو تلك البقعة البيضاء وتتسع..
تتسع على حساب الأسود القاتم..
وتدوي كلمات ماركس من قلب الظلام النفسي المشوب :
ـ يمكنك أن تؤدي لنا المشروعين معاً.. ستصير في النهار الضابط مجدي
اليساري المادي صاحب السلطة الزمانية.. وفي الليل ستكون لك السلطة
الروحية على قلوب أهل القرية.. ستمارس ما كان يمارسه علوش.. هل نحن متفقين؟..
لكن أمي تقف وهي تلوح بالمغرفة في يدها متوعدة..
ـ إياك يا مجدي..
الكلب الأسود يرفع رأسه ويطلق عواء متململاً.. إنه ينتظر
الرد.. كاميليا تنتظر الرد أيضاً.. رئيسي المباشر يوقع لي على قرار نقلي للجحيم..
ماركس يدور حولي هو يضحك في جشع.. أبي يضع المصحف في يدي..
حاول أن تثبت أنك ابني حقاً..
الكلب يعوي في جنون.. وماركس يتراجع في ذعر..
ـ لا ..
قلتها صارخاً بكل الحنق والغل الذي يعتمل في نفسي.. قلتها بمزيج غريب من
الحقد والبغض والنشوة، نشوة عصيان هؤلاء الشياطين..
ولو لمرة واحدة، حتى وإن كانت الأخيرة..
وفي لحظة اختفى الكلب الأسود اللعين، لكن ماركس ظل واقفاً مستنداً للجدار بلامبالاة..
لو كانت النظرات تحرق لتحول ماركس إلى رماد الأن.. لكن إذا كان الرصاص
لا يقتله فهل تقتله النظرات؟!..
وانحنيت ملتقطاً موقد الكيروسين..
نظر لي ماركس في برود قائلاً :
ـ ماذا تظن نفسك فاعلاً ؟..
تجاهلته وقمت بإفراغ الموقد على كل شيء تقريباً في ذلك البيت الشيطاني الكريه ..
هنا بدأ يصيح :
ـ أنت تدمر اليوتوبيا .. تدمر نفسك..
التفت إليه ممسكاً بعود ثقاب مشتعل وقلت له ببرود قاسي:
ـ بلى...
لقد تحررت منك يا ماركس.. تحررت منكم يا سادة الجحيم.. تحررت من نفسي الخبيثة..
سأحرق النار بالنار..
جريت إلى باب الكوخ وألسنة اللهب ترقص رقصة الجنون من خلفي فقط لأجده موصداً..
لقد حطمته برصاصة من مسدسي منذ قليل كيف صار موصداً كأن هناك من وضع حجراً وراءه..
حاولت مستميتاً فتح الباب حتى بدأت أشعر بلفح النيران يلسع ظهري..
ضحكات ماركس الرهيبة تأتي من لا مكان.. لم أعد أرى تقريباً من شدة النيران
والدخان، ولم يعد باستطاعتي الصراخ طالباً النجدة لأن السعال حال بيني وبين الصياح..
هذه هي النهاية إذن.. ربما كانت نهاية عادلة لوغد مثلي..

***

لكن هناك تلك الدكة الخشبية التي كان يستلقي عليها فأر علوش المذعور.. لو أقمتها
على الجدار فهي صالحة للتسلق و...
ساعدني يا إلهي..
كانت ثقيلة جداً.. وكادت عروقي تنفجر حتى أقمتها ثم أرحتها على الجدار بحيث
صارت مائلة عليه بظهرها.. هذا سيسمح لي بالتسلق على أرجلها الخشبية..
بدأت أتسلق حتى وصلت لحافة الجدار.. وهناك وقفت لأعب بعض الهواء الخالي
من الأدخنة التي أفعمت خياشيمي.. فلم أراع إلا والأرض تميد من تحتي..
لقد بدأت الدكة تتهاوى.. ربما أكلتها النيران أو أن ماركس قرر مداعبتي مداعبة أخيرة..
وبتلقائية وثبت محتضناً حافة الجدار العلوية وتخليت عن الدكة الخشبية لتهوي وسط النيران..
تعذبت كثيراً حتى استطعت الصعود فوق الجدار.. نظرت لأسفل بعين دامعة من أثر
الدخان.. ستكون وثبة بارتفاع طابق.. لا توجد شجرة واحدة يمكنني التعلق بأفرعها..
لا أريد أن أنجو من الحريق لتدق عنقي..
ودون تردد وثبت من فوق الجدار وكورت جسدي لامتصاص الصدمة لكن
مع ذلك شعرت بكل مفاصلي تئن.. قمت من على الأرض مغبراً وتأملت
الدخان يتصاعد من قلب البيت الشيطاني.. في تلك اللحظات شعرت أن الذي
يحترق ليس مجرد بيت علوش..
بل شيء أخر عشت أسيراً له منذ نعومة أظفاري.
و همست بصوت مرتجف:
ـ فلتسقط اليوتوبيا ..
وتوجهت إلى سيارتي بخطى مترنحة..
لقد بدت لي كفراش وسير يدعوك للراحة بعد يوم عاصف.. لكنه فراش لا يسمح لك بالنوم
أبداً ما دمت ستقود.. ألقيت جسدي خلف عجلة القيادة وأدرت المقود.. طبعاً لم تتحرك..
ضغطت على أسناني وأعدت المحاولة لكن السيارة لم تغير رأيها كما لكم لم أن تتوقعوا..
لم ينته الأمر بعد.. هناك من أتلف شيئاً بالسيا...
ـ مازال هناك اقتراح ثالث..
التفت في رعب لأجد ماركس جالساً في المقعد الخلفي كعهدي به لكنه هذه المرة
قد احترق نصف وجهه.. ونصف وجهه السليم كان يرمقني بنظرة شيطانية عابثة..

***

حاولت فتح باب السيارة فلم يستجب.. كل الأبواب لا تستجيب في هذه الليلة السوداء..
لقد صرت سجيناً مرة أخرى مع ماركس .. وسمعت صوته يلومني بلهجة أبوية مزعجة :
ـ لم يكن هذا هو العشم فيك.. أنا صنعتك من لا شيء.. أنا الذي ربيتك في الحقيقة..
لو كان لي ابن فهو أنت.. لكنه الجحود البشري الذي لا حد له..
قلت له وأنا أصر على أسناني فتكاد تنفلق :
ـ كيف الخلاص منك يا ابن الـ...
طقطق بلسانه (الذي لم يحترق فيما يبدو) وقال :
ـ يبدو أنني لم أحسن تربيتك جيداً.. على العموم أنا شيطان من عائلة محترمة جداً..
ولن أسمح لك بالإهانات.. دعنا نتحرك بعيداً عن هذا الجو الصاخب.. وبعيداً
عن عيون إخوتي الأعزاء كذلك ..
وانطلقت السيارة بلا حول مني ولا قوة كأن هناك سائق أخر يقودها غير مرئي..
كانت تجربة ممتازة.. ولولا الرعب الذي كان يعصف بي لاستمتعت بذلك جداً..
قلت له في شرود :
ـ لا أدري كيف خدعتني كل تلك الفترة ؟..
قال في مرح وهو يرتب على عاتقي :
ـ كما قلت لا وقت للضغائن يا عزيزي.. لو كنت مكانك لسألت نفسي ألف سؤال..
ما حقيقة الشخص الذي يحدثك طوال الوقت ولا يراه غيرك.. ويدعي أنه موجود
لأنه فكرة خالدة.. هل هذا يناسب شخصية مادية ملحدة؟.. أشياء كثيرة كان
ينبغي أن تنتبه لها.. حتى هذه السيارة التي نستقلها الآن.. كيف حصلت عليها
هكذا فجأة وبدون مقدمات؟.. إنها هدية زواجك من بابا ماركس.. كنت أعرف
أنك ستحتاجها كي تصل بسرعة لهنا.
كلما تكلم ذلك الشيطان كلما أشعرني بمدى حماقتي.. قلت له في سخرية مريرة :
ـ الحقيقة أن أفضالك علي قد فاقت الحد!..
قال وهو يبتسم في فخر :
ـ لكن هناك سر صغير وراء تقبلك لكل هذه المتناقضات.. كنت ألعب على بقايا الإيمان
الفطري بداخلك.. ما زلت ترتبط بجذورك التي نشأت فيها والتي تعتقد في وجود
عالم غيب وقوى خفية ستجعلك تصدق..
ـ ألا يوجد بشري غيري لتغويه؟..
برقت عينه السليمة في جشع وقال بصوت كالفحيح :
ـ الأسرة لا تفرط في عملائها بهذه السهولة..
ونظر لي بجانب وجهه الذي لم يتشوه نظرة افتتان مريعة وهمس كأنه يحلم :
ـ كانت الأمور تسير على ما يرام لولا تدخلات الأقدار..
قلت في هدوء لا يتناسب مع الموقف :
ـ ما دام هناك أقدار لا محيص عنها.. إذن فهناك من يقدر..
هز ماركس رأسه في بطء قائلاً :
ـ أكيد أي بني..
ابتسمت قائلاً في سخرية :
ـ ماركس الشيطان يؤمن بوجود الخالق..
ـ طبعاً يا بني.. الإلحاد أحمق فكرة زرعناها في عقول البشر وبالرغم من ذلك وجدت
رواجاً عالمياً مدهشاً..
هكذا بكل صفاقة يتكلم شيطاني المريد..
إنني أتضائل..
وواصل ثرثرته المحببة للنفس:
ـ صار الإلحاد هو موضة العصر.. الحصان الرابح الذي ينبغي أن نراهن عليه..
أنا أعتقد أن الدجل والسحر الأسود لن يكون له مكان إلا في المتاحف.. لكن بعض
أفراد العائلة ما يزال يعتقد أن الطرق القديمة لها رواج بين البشر..
طبعاً هو يهمز بقية أسرته اللطيفة دون تصريح..
قلت له بامتعاض مصطنع :
ـ هؤلاء شياطين رجعين لو أردت رأيي..
تجاهل سخريتي قائلاً :
ـ إننا نمارس مهمتنا الأبدية منذ فجر الزمان.. الإضلال.
قلت له وأنا أفكر في أكل حنجرته إن كان له واحدة :
ـ هل تعتقد أنني سأطيعك بعد كل هذا..
أشار بكفه لما حولنا قائلاً باستخفاف :
ـ العالم كله في قبضتنا منذ فجر التاريخ ألا تنظر حولك.. ليس أمامك طريق أخر..
عليك أن تنضم للجانب المنتصر..
ـ هذا هو عالمكم الشرير الذي تقودون زمامه.. وليس عالمي المثالي الذي أبحث عنه..
ـ عالمك المثالي هو اليوتوبيا التي صنعتها لك..
ـ حلال عليك.. دعني وشأني وإلا حررت لك محضر بإزعاج السلطات..
قهقه وهو يضرب ظهري بكفه فارتجفت أوصالي كأن ماساً كهربائياً قد مر عبر أعصابي..
وسمعته يقول بلهجة لزجة:
ـ لقد عادت إليك روحك المرحة التي كنت أحبها كثيراً.. إننا نقترب مرة أخرى من بعضنا البعض..
لم يعد لدي سوى السخرية المريرة فيما يبدو .. فهو كائن لا يمكن الخلاص منه بالطرق
التقليدية.. ومن يدري ربما قتلته من الضحك!.. قلت له بتعاسة :
ـ نقترب من بعضنا مرة أخرى!.. اسمع أيها الشيطان.. أنا رجل متزوج وأخاف
على سمعتي بشدة..
صدعت ضحكته المدوية عالمي كله وعاد التيار الكهربي يسري من كفه الباردة
إلى عمودي الفقري.. واضح أنني أقتل نفسي بطريق غير مباشر..
ـ مرح.. مرح..
ثم مسح دموعاً وهمية وأردف :
ـ لكنك على وشك فقدان زواجك يا مسكين..
فاطمة!.. لقد نسيتها في غمرة الذعر اللامعقول.. نظرت إليه في خواء والسيارة تنهب
الطريق السريع بين الحقول.. الشعور بالعجز التام أمام ذلك الكيان المريع، يقتلني كمداً..
هو وإخوته كانوا سبب شقائي.. هو وإخوته لابد أن يدفعوا الثمن حتى لو كان في ذلك هلاكي..
لكن كيف؟..
قلت شارداً:
ـ زواجي هو أفضل وأسوأ شيء حدث لي في حياتي..
ـ مفارقة عجيبة.. لكنها ممكنة.. والأعجب أن زواجك يمكن أن يستمر..
التفت إليه وقلبي يدق كالطبل.. فرأيت على وجهه ابتسامة منتصرة وهو يردف :
ـ فقط لو فكرت في مواصلة مشروعنا الذي بدأناه سوياً.. لقد فكرت في الأمر.. من الحماقة أن
تطلب من ضابط محترم أن يكون شيوعياً بالنهار ودجال بالليل..
قلت له في غباء :
ـ ألن يغضب هذا العرض إخوتك؟..
لوح بكفه قائلاً :
ـ ربما.. لكن أنا متأكد أنهم يوماً ما سيقتنعون بوجهة نظري تلك .. المهم الآن فكر في
مستقبلك أنت مع فاطمة..
ـ لكن فاطمة... علوش أكد لي أن...
ـ هذا عبث أطفال.. لا تشغل بالك.. فلولاي لفتك بك علوش منذ زمان..
وفرقع بأصبعيه مكملاً :
ـ سيتوقف نزف فاطمة وستعود لطبيعتها..
فاطمة يمكنها أن تنجو من النزف وتعيش.. لكنها ستعيش مع مسخ.. أو سنفترق..
وتتركني اتعذب بفراقها..
هذا لو عاشت بعد ما فعلته بها..
وربما ظل ذلك الشيطان يطاردني ما حييت كاللعنة الأبدية..
يا للمفارقة..
السيارة تميل بحرفية عالية مع ميل الطريق.. لو كنت أنا الذي يقود الآن لما مر
الأمر بسلام.. تباً!، لماذا أهرب من المواجهة إلى تلك التفاصيل التافهة..
يا إلهي.. أين المفر؟

***

عمرو مصطفى
11-28-2018, 09:57 AM
10ـ أسرة لطيفة

فجأة ظهروا أمامنا كأنهم نشأوا من الفراغ..
ثلاثة من الرجال ومعهم سيدة يرتدون ملابس عصرية.. لكن لماذا تبدو
لي هيئتهم مألوفة..
أطلقت السيارة فرملة حادة وتوقفت أمام الرجال بشبر واحد.. وأطلق ماركس
سبة قبيحة لا تتناسب أبداً مع شيطان من عائلة محترمة..
رأيت نصف وجهه الذي لم يحترق يتقلص وهو يقول في ضيق:
ـ أبق في السيارة ولا تتدخل..
ـ من هؤلاء؟.. العائلة الكريمة؟..
قال وهو يفتح باب السيارة :
ـ ألا تذكرهم؟..
قالها وغادر السيارة وصفع الباب خلفه في عنف أحنقني.. هذه سيارتي أيها
الحيوان ليس من حقك أن تتعامل معها بهذه الطريقة.. ثم تذكرت انها هدديته
في الأصل فابتلعت حنقي.. لكن مهلاً..
أنا أذكر هذه الوجوه بالفعل..
هذان الشيخان هما الرفيق سيف والرفيق مراد!..
ولكم أن تخمنوا الشاب والفتاة..
أنهما الرفيق حسام والرفيقة سلمى التي اعتقدت يوماً أنها رائعة..
وأطلقت ضحكة منهكة وأنا أضرب مؤخرة رأسي بمسند المقعد عدة مرات..
لقد كنت محاطاً بشبكة حقيقية من الشياطين.. حتى الرفاق اتضح أنهم ليسوا كذلك..
وحمدت الله على أنهم تركوا لي أبي وأمي..
تذكرت صدقي التعس الذي راح ضحية لهذه الشبكة المقيتة.. فعلاً صدقي لا يصلح
لدور شيطان.. إنه أقرب لبقرة عجوز تنتظر سكين الجزار ليريحها من عناء الشيخوخة..
ولقد قرر أن ينحر نفسه ليريحها.
الأن لم يعد لدي ما أفعله سوى الجلوس والمراقبة..
مراقبة تلك المواجهة العجيبة بين عائلة ماركس الكريمة..
سمعت الذي كنت أظنه يوماً الرفيق سيف وهو يقول:
ـ لم نتفق على هذا يا ابن أبي...
لوح لهم ماركس بذراعه قائلاً :
ـ هناك سوء تفاهم.. أنا ما زلت عند اتفاقي معكم..
قال الرفيق مراد وهو يكور قبضته :
ـ لقد تعمدت إزاحتنا من المشروع..
الكل كان يعمل من أجل مشروع واحد منذ البداية.. إضلال الزبائن الحمقى من أمثالي..
لكن أحد هؤلاء الإخوة تسللت إليه آفة الطمع، ربما انتقلت إليه من خلال مخالطة للبشر..
أراد ماركس الاستحواذ على المشروع وحده..
كأنهم يتحدثون عن مشروع تخرج.. هذا العالم يشبهنا كثيراً في جوانب عديدة كما ترون..
ورأيت ماركس يتراجع قائلاً :
ـ هذه إهانة يا ابن أبي.. كيف يصل بكم الحقد على نجاحي إلى هذا الحد المنحط..
حاولت قرص فخذي في غير تصديق.. هذا ليس حلماً... هؤلاء أسرة لطيفة من الشياطين، تتبادل
الاتهامات فيما بينها، ويتحدثون بلباقة عن الانحطاط، وسوء الأخلاق الذي بدأ بعضهم ينحدر إليه..
ورأيت سلمى الرائعة وهي تشير ناحيتي:
ـ لقد كنا نشك منذ البداية في الطريقة التي تواجد بها الفاني الملحد هنا.. وأدى ذلك لصدامه
مع الفاني الساحر.. لم نبتلع كون ذلك من قبيل المصادفة.. لكننا تظاهرنا بالعكس للنهاية..
والآن لم يعد لدينا شك في أنك كنت تعمل لحسابك الشخصي.. يا للعار.. تريد
أن تلبس التاج وحدك..
لم أفهم سر ذلك التاج الذي تتكلم عنه.. لكنني خمنت أنه نوع من التقدير.. أو درجة علمية ما
.. كما يحصل أحدنا على شهادة دكتوراه في أحد العلوم مثلاً..
الحمقى لا يعرفون السبب الحقيقي وراء تلك المأساة العائلية..
لقد فررت إلى الريف بإرادتي، لكن قدر الله أن يكون تكليفي في كفور الصوالح دوناً عن
غيرها من القرى.. فقط لألتقي بعلوش هناك ويحدث الصدام ويقضي الله أمراً كان مفعولاً..
أنتم لا تديرون الكون وحدكم كما تظنون يا حمقى..
كان ماركس يتراجع للوراء أكثر.. يبدو أنه يفقد المزيد من ثقته بتراجعه هكذا أمامهم..
هنا تقدم الرفيق حسام ليحول بين إخوته الكبار وقد أوشكوا على الفتك بماركس..
ـ مهلاً يا أبناء أبي.. هذا أخينا أيضاً..
ـ ابتعد أيها الصغير..
قالها مراد بتوحش لكن حسام بدا عنيداً كالأطفال فعلاً، يبدو أن مراد قد ضغط على وتراً
حساساً في نفسه:
ـ أنا لا أسمح لك..
هنا فكرت.. ولما لا.. سأسدي لرفاق عمري معروفاً.. سأرد لهم بعض جمائلهم
التي أغرقتني..
قمت بإنزال زجاج النافذة المجاور، ثم أخرجت لهم رأسي عبرها قائلاً لهم في براءة :
ـ لحظة يا رفاق، فأنا لا أستطيع كتمان الشهادة.. أخيكم المبجل هذا حاول بالفعل
مراودتي كي نواصل مشروع اليوتوبيا بدونكم.. لكنني لم أكن لأقف هذا الموقف
المخزي الذي يفرق بين الإخوة وبعضهم البعض..
هنا التفت إلي ماركس في حدة..
أكاد أجزم أن عينه كانت ترمي بشرر حقيقي لا مجازي هنا.. وعلا زئير الإخوة كالنمور
المتوحشة التي تستعد للوثوب على فريستها.. سيشهد الطريق الزراعي معركة لا يمكن
تصورها بين تلكم الديناصورات.. لقد أدت عبارتي نفس دور عود الثقاب المشتعل
الذي يلقى على البنزين..
وصاح ماركس في غل :
ـ هل ستصدقون ذلك الأدمي؟!..
وقف حسام بجوار ماركس قائلاً :
ـ أنا لا أصدقه..
وتوهجت عيون بقية الإخوة كمصابيح النيون فرفع ماركس رأسه للسماء وأطلق
فحيحاً منذراً بالويل..
رباه.. فلنبتعد بالسيارة قبل أن...
السيارة تستجيب!.. مرحى لقد تخلى عنها ماركس أخيراً.. إنه يركز كل قدراته الآن
في مواجهة إخوته الغاضبين..
ـ أنتم فشلة ولا تطيقون رؤيتي أنجح وألبس التاج وحدي..
قالها ماركس في توحش فوثب به الرفيق سيف برشاقة لا تتناسب أبداً مع سنه..
وقبضت أصابعه على عنق الأول وهو يزأر..
لكن لسان ماركس غادر حنكه وقد استطال جداً ثم التف بسرعة وليونة حول قبضة أخيه
الرفيق سيف فتوهج الأخير كالشهاب وهو يعوي.. هنا وثب مراد لينقذ أخيه سيف قبل
أن يتفحم والتحم مع ماركس على حين وثبت سلمى فوق ظهر حسام وهي تطلق
صرخة حيوانية حادة.. احتدم الصراع بينهم فلم أعد أستطيع التمييز.. من الذي
أكل ذراع من، ومن الذي بقر بطن الأخر لتخرج منها ثعابين تفح وتلدغ الأخرين..
هذا يشبه صراع القطط الذي لا يمكنك ملاحقته ببصرك من فرط سرعته المذهلة..
فقط علي أن أبتعد قبل أن تبتلعني دوامة الصراع تلك..
هذا صراع جبابرة لا مكان فيه لبشري هش مثلي..
وانطلقت بالسيارة كالقذيفة منحرفاً عن الطريق الذي تدور فيه المعركة وكالبطة الرشيقة
وثبت السيارة فوق الحقول الناعسة على جانب الطريق.. لقد أفسدت فداناً بهدية
بابا ماركس قبل أن أطمئن إلى أنني ابتعدت عن ساحة العراك المدمر..
ثم عدت للطريق الممهد مرة أخرى وصدى المعركة الرهيبة مازال يدوي في أذني..
لم أجرؤ حتى على النظر في المرآة الخلفية لأرى نتيجة الصراع.. ترى هل هلك ماركس؟..
لا شك أنه قوي لكنهم كثرة..
يبدو أنني سأتخلص منك يا ماركس أخيراً.. وسأتخلص كذلك من شلة الأنس كلها..
هنا شعرت كأن صخرة عملاقة قد هوت على مؤخرة السيارة ..
كان موقفي الأن هو نفس موقف الفأر الذي داس أحدهم على ذيله ليمنعه من الفرار..
واستدرت لأرى وجه سلمى الذي لم يعد رائعاً يتطلع إلي من بين الزجاج الخلفي المهشم..

***

كان رأسي يدور بفعل الارتطام العنيف لكنني حاولت التماسك وأنا أقول لها في حنق :
ـ سلمى هذه السيارة التي دمرتها كانت هدية زواجي من أخيك..
أطلقت فحيحاً غاضباً وهي تعبر من بين الزجاج الخلفي المهشم لتستقر في المقعد الخلفي..
إنه المكان المفضل للشياطين فيما يبدو.. وسمعتها تصيح بتوحش :
ـ لقد مزق إخوتي بعضهم البعض بسببك..
ـ هذا خبر سار!..
قلتها وأنا أفتح باب السيارة وأثب إلى الخارج..
وبدأت أعدو هارباً بين الحقول..
لقد مر بي هذا المشهد من قبل.. لكن في المرة السابقة كنت أفر من كلب أسود بلا ظل..
الأن أفر من شيطانة كنت أظنها يوماً رفيقة كفاح في اليوتوبيا..
سأتحول إلى ألة للعدو لا يمكن لشياطين الأرض إيقافها و ...
هنا ظهرت أمامي فجأة فأطلقت صيحة رعب عاتية جعلتها تقهقه بتلك الطريقة
التي يجيدها الرعاع في الحانات..
ـ تعلم ألا تضيع الوقت في الهرب منا..
إنها كابوس كأخيها لا يمكن الخلاص منه.. الآن فقط أنا وهي وسط الحقول الممتدة
إلى ما لا نهاية..
لماذا لا يطلع الفجر ويخرج الفلاحون إلى حقولهم؟.. لماذا؟...
أهويت على الأرض وأغمضت عيناي حتى لا أرى العينان الجهنميتان من تلك الزاوية
المرعبة وانتظرت أن تأتي النهاية سريعة..
ـ ماذا تريدين مني؟..
انحنت علي وهي تبتسم في قسوة قائلة :
ـ لقد هلك جميع إخوتي الذكور.. هذا يعني أنني صرت الوريثة الوحيدة لمشروع العائلة..
لا .. لن نعود لهذا الملل.. قلت لها في غيظ:
ـ هذا المشروع شؤم لو أردت رأيي.. لو كنت مكانك لتنازلت عنه وبحثت عن أي عمل شريف ..
أطلقت فحيحاً ساخراً وهي تضرب على فخذها كالرعاع.. لقد تغيرت أخلاقك كثيراً يا سلمى..
أخيراً قالت بعد أن فرغت من الضحك :
ـ لقد كان أخانا الراحل أحمقاً حينما تصور أن موجة الإلحاد هي الموضة التي ستكتسح
العالم.. لكننا نعتقد أنها فورة مؤقتة.. نحن لسنا شياطين رجعيين كما تتصور..
إننا نعمل بنظام علمي دقيق.. لقد توصلنا إلى أن الجندي الذي يؤمن بعالم غيبي..
جنة ونار.. بصرف النظر عن الإله الذي يثيب بهذا ويعاقب بتلك.. ذلك الجندي
يختلف تماماً في ساحة العراك عن الجندي المادي الذي لا يعتقد في حياة أخرى..
إنه يتمسك بما يراه ويشمه ويلمسه.. ولن يفرط فيه لأنه لا يعتقد في وجود
عاقبة من وراءه.. والأول يمكنه أن يضحي بكل ذلك بكل سهولة.. طمعاً في حياة أخرى..
أفضل.. ألا ترى أن أشد الحروب إهلاكاً كانت الحروب الدينية.. وأن فكرة الإلحاد تضع
معتنقها أمام أسئلة شائكة بلا أجوبة.. وقد ينتهي به الأمر إلى الانتحار كما حدث
مع رفيقك العجوز صدقي..
هؤلاء لا يمزحون.. الإنسان فقط هو الذي يمزح ويستهتر بكل شيء.. قلت لها :
ـ بعد كل ما ذكرت من حقائق مفجعة لي كبشري أحمق فهل تتوقعين أن أقبل بالتعاون معك..
ينبغي أن أصير شيطاناً مثلك مهمتي أخذ أكبر قدر ممكن من الخلق معي إلى جهنم..
هذه الحياة لا تناسبني يا سلمى.. فأنا لم تصل حماقتي بعد لهذا المدى البعيد..
استندت بمرفقها على فخذها وهي تميل علي قائلة :
ـ هل تظن أنك معنا ستعمل بدون إيمان ووعد؟.. إننا نخدم إله النور الحقيقي.. جلاب الضياء..
أمير البهاء.. ملك العالم السفلي ومدبره.. هذا هو إلهنا ومبتغانا.. وقد وعدنا وعد الحق..
سندخل ملكوته النوراني الأبدي.. سنفنى في ذاته العلية..
هنا لم أتمالك نفسي فأرسلت ضحكة مشروخة جعلتها تتراجع في حنق..
قلت لها موضحاً:
ـ كنت أظنكم شياطين درجة أولى.. واضح أنكم حمقى كأتباعكم من بني البشر .. حمقى ومستغلون
من قبل أبيكم الكبير جلاب المصائب هذا..
صاحت وعينيها تتوهجان :
ـ تأدب أيها الفاني مع جلاب الضياء..
عضضت شفتي في قهر قائلاً :
ـ لو أردت رأيي هذه هي نتيجة تربية أخيكم المبجل ماركس.. كما أن أبيكم جلاب الهنا
هذا لم يحسن تربيتكم أيضاً.. لقد مزقتم بعضكم بعضاً من أجل بشري فان..
ـ كفى!..
قالتها في حدة وهي تنتفض غضباً.. ثم إنها أطلقت زفرة حارة وهي تمرر أناملها بين
خصلات شعرها الثائر بعصبية كأنها تريد أن تبدو أرق وأهدأ..
ـ لا تريد أن تعمل مع سلمى الجميلة؟..
قالتها هي تبتسم بتلك الطريقة التي كانت تسحرني قديماً..
لقد سيطرت على مشاعرها في لحظات سريعة بطريقة تحسد عليها.. إنها لمتمكنة..
لكن الأن وهنا.. هذه هي الدعابة التي لا تضحك أحداً يا سلمى..
قلت لها في بغض :
ـ فاطمة كانت أجمل وأطهر وأبهى منك..
ازداد توهج عيناها وبدأت حنجرتها تصدر أصواتاً ببرية خافتة..
ـ كيف تجرؤ على الرفض أيها الفاني؟.. أنت لا تتصور ما الذي يمكنني أن أفعله بك الآن..
الرفض يؤلم مشاعرهم حقاً.. كأني أرفض الزواج منها لا سمح الله.. نظرت إليها من
أسفل في قسوة وحاولت أن تكون كلماتي أشد قسوة :
ـ لأنكم لم تستوعبوا الدرس بعد.. لقد صرت حراً يا ابنة الجحيم.. ولا يهمني ما ستفعلينه بي..
لا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها..
قالت وهي تعتدل قائمة:
ـ يمكن للشاة أن تتضرر كثيراً قبل أن تذبح..
هنا تلاشى الحقل من حولنا ووجدتني ممدداً بجوار فراش فاطمة حيث تركتها تنزف..
لقد حدث هذا الانتقال بطريقة شيطانية لا شك فيها.. فأنا لست (مسطولاً).
ـ هذه هي فتاتك الرقيقة التي تنزف بلا سبب..
نظرت في جنون إلى سلمى التي وقفت بجواري واضعة كفيها في خاصرتها وهي
ترمق ببرود فاطمة في فراشها..
ـ لن تمسيها بسوء..
هزت كتفيها وقالت كأنها لا تسمعني :
ـ في الحقيقة كان هناك سبب لنزفها.. إنه تخصصي..
في اللحظة التالية رأيت جسد فاطمة يرتفع في الهواء بثيابها الهفهافة البيضاء، وعينيها
مغمضتين فبدت لي كشبح أبيض رقيق يسبح في الفراغ..
شبح أبيض رقيق يقطر دماً!..

***

عمرو مصطفى
12-01-2018, 09:29 AM
11ـ وداعاً يوتوبيا

ـ دعيها أيتها الـ...
قلتها وأنا أثب نحو سلمي بكل الغل والحقد الذي يعتمل في نفسي..
لكن طبعاً تلقيت لطمة عاتية طرت على إثرها كالقذيفة لأرتطم بالجدار..
للحظات تصورت أنني خرقت الجدار وصرت عند الجيران لكن هذا لم يحدث للأسف..
وتنامى إلى مسامعي صوتها وهي تنفض كفيها باستمتاع قائلة:
ـ اجلس وراقب..
كنت أتلوى أرضاً من الألم المادي والمعنوي..
فاطمة ستموت نزفاً أمامي وأنا الوحيد الذي باستطاعته إنقاذها فقط لو رضخت
لتلك الشيطانة..
ـ لماذا أنا بالذات؟.. هناك الملايين غيري مستعدون لبيع أرواحهم وأكثر..
قلتها من بين أسناني وأنا أزحف بحذر تجاه صوان السرير.. إنه هناك منذ تهاوت
الكتب تحت قدمي، لا أدري لماذا قررت وضعه هناك بجوارها؟
قالت سلمى :
ـ أنت لا تفهم قوانين عالمنا أيها الفاني..
فتحت باب الصوان، و سلمى تسترسل كأنها لا تراني :
ـ إنه محكوم بقواعد صارمة للغاية.. لو فشلت معك ستكون عواقب ذلك وخيمة..
لقد صرت وحيدة بلا أهل.. هذا يعني أنني سأتلقى العقاب كله وحدي..
أخيراً قبضت يدي على الكتاب.. وشعرت بتيار من القوة والرهبة يجتاحني..
ـ ما رأيك إذن لو لحقت بإخوتك الأغبياء..
نظرت لي في حدة وصاحت :
ـ ماذا تفعل عندك ؟..
هنا وقفت مواجهاً إياها بالكتاب..
" قبل أن ترحل.. سأعطيك شيئاً.."
" حاول أن تثبت أنك ابني حقاً.."
الآن فقط أرى الذعر في عينيها.. إنها أضعف مما تخيلت..
وانهار جسد فاطمة فوق الفراش دفعة واحدة، بعد أن قررت سلمى التخلي عنه أخيراً..
فتحت المصحف وبلا تحديد بدأت أقرأ بصوت مرتجف.. وكان ما قرأته عجيباً..
" واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، وما كفر سليمان ولكن الشياطين
كفروا يعلمون الناس السحر..."
صوت صراخ سلمى الرهيب جعلني أتوقف ذاهلاً.. نظرت لها، ثم للكتاب و..
صرخ صارخ بداخلي : لا تتوقف الآن يا أحمق..
وبالفعل واصلت..
" فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه..."
لمحت بطرف عيني فاطمة تتقلب في الفراش وهي تصدر أصوات همهمة
غامضة كأنها في حلم ما..
" وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله..."
سلمى تتلوى على الأرض..
تضع كفيها على أذنيها، لا تريد أن تسمع المزيد.. لكنها محاولات عابثة، يائسة..
إنه حق يخترق الحواجز والجدران ويفتت الصوان.. تفتتي يا سلمى.. تعذبي كما
تعذبت فاطمة.. تعذبي بكل قطرة سالت من دمائها الطاهرة..
هنا فوجئت بها تتكور على نفسها ثم طارت لأعلى لترتطم بالسقف ثم ارتدت عنه
مثل كرة المطاط، تكرر المشهد حتى كادت تصيبني بالحول.. صوتها كان أقرب
لمواء هرة تمزقها أنياب كلب بري..
وأخيراً طار جسدها كالقذيفة مخترقاً باب الشرفة.. إلى الهواء الطلق..
جريت إلى الشرفة خلفها ، نظرت إلى أسفل حيث الطريق الخالي من البشر في
تلك الساعة.. لا أثر لها هنالك.
ثم اتسعت عيناي دهشة.. لقد لمحت تلك الفجوة التي تلتئم تدريجياً في الأرض، تخيلت
سلمى وهي تخترق الأرض مثل المسبار وهي تموء مثل الهرة الحبيسة و...
لم تلحق بإخوتها للأسف، لكنها عادت إلى عالمها على الأرجح..
هل ستعود إلي ثانية؟
لا أعتقد..
لقد كان الدرس قاسياً بالنسبة إليها.. لعلها الآن تتلقى العقوبة نيابة عن كل عائلتها الكريمة...
ولو عادت فسأكون مستعداً لها بكتابي هذا.
وعدت لفاطمة التي كنت على وشك بيع روحي للشيطان من أجلها..
نظرت إليها في الفراش، لقد توقف النزيف.. بل تلاشى كأنه لم يكن أصلاً..
و في لحظة نسيت كل ما مر بي من خطوب، وانحنيت عليها برفق طابعاً قبلة حانية
على جبهتها الوضاءة..
هنا رأيتها تفتح عينيها ببطء.. وسمعتها تهمس :
ـ مجدي .. لقد عدت..
ربما أفلت قلبي دقتين.. وربما اختل توازني للحظات.. ثم استوعبت أن هذا هو صوتها، هاتان
العينان الناعستان عيناها، وهذا الأبله الواقف أمامها هو أنا..
ـ نعم يا حبيبتي ..
تمتمت في وهن :
ـ حمداً لله على سلامتك ...
لقد نست ما جرى وما كان من بطشي بها ولم يشغلها إلا سلامتي.. أي حيوان كنته؟!
طبعاً لم أتحمل كل هذا القدر من الطهر والنقاء.. لذا بكيت.. بكيت بين يديها كطفل كاد
أن يفقد أمه للأبد..
ـ مجدي أنا بخير ..
رفعت طرفي إليها وشهقت مستجمعاً أنفاسي المتلاحقة :
ـ حقاً؟!..
كان وجهها متورداً من أثر حمرة النوم.. لم يكن ذلك هو الوجه الذي تركتها عليه.. رباه..
كأن ما مضى بي كله حلم عابر..
قلت لها من بين دموعي :
ـ كنت.. كنت تنزفين.. و.. و..
ثم صرخت فزعاً وقد تذكرت :
ـ لقد.. لقد ضربتك.. نعم ضربتك بوحشية يا فاطمة وما كان لي أن أفعل..
قالت وهي تمسح دموعي بأناملها الرقيقة:
ـ أنا لا أذكر شيئاً مما تقول..
هذا غريب.. لا أريد أن أصدم قلبي بحقيقة أن كل هذا كان جزء من كابوس.. لكن أي كابوس؟..
أنا لم أستيقظ صارخاً في فراشي بعد..
أم تراه وهم توهمته..؟!
ـ كنت تنزفين يا فاطمة.. وكان المفترض أن تظلي تنزفين حتى الموت.. لكنني أراك
الآن كأبهى ما يكون.. ولا أريد ان أسترسل في الحلم فأقول أنك قد.. قد شفيت
تماماً من ذلك النزيف اللعين..
ابتسمت برقة وهي تداعب وجنتي :
ـ وأنت تعب.. و تبدو كمن خرج لتوه من معركة طاحنة..
نظرت إلى ثيابي المتربة وقد تمزقت في عدة مواضع ثم رفعت طرفي إليها قائلاً :
ـ كنت بالفعل في قلب معركة رهيبة ومريرة..
ثم لوحت لها بالمصحف في يدي وقلت بابتسامة مبللة بالعبرات :
ـ لكنني خرجت منتصراً..
أراحت رأسها على عاتقي قائلة :
ـ مجدي أنا لا أفهمك..
ضممتها إلى صدري قائلاً في إنهاك :
ـ لا تشغلي بالك يا حبيبتي.. لا تشغلي بالك..
وهمست لنفسي : وداعاً يوتوبيا..

***

كان خبر احتراق بيت علوش قد شاع وصار حديث الناس في كفور الصوالح..
و تردد بينهم أن البيت احترق بفعل فاعل .. لكن من فعلها؟
هنا لا استطيع أن أجزم أنني خرجت من دائرة شكوكهم.. خصوصاً أهل فاطمة، لكن
من يستطيع أن يثبت شيئاً.. ومن الذي ينكر على من يقتل ثعباناً.. لقد ذهبت
مع ديريني وعبد الرحيم إلى موضع البيت المحترق.. إنهما لم يتخلصا بعد من رهاب علوش..
مازال يخيفهم حتى وهو كومة من الرماد..
أخذا يرددان بعض الآيات القرآنية وأنا معهما كذلك مما أثار الدهشة في عيونهما..
لكنني لم التفت.. وجاء العمدة ورجال المركز وعملنا الإجراءات المطلوبة.. رأيت بعضهم
يتنفس الصعداء بموت علوش هذا.. وقيل لي :
ـ لا شك أن الحادث لا يخلوا من شبهة جنائية.. لكن لو كان الأمر بيدي لأعطيت للفاعل نيشاناً ..
حتى العمدة عظيم الكرش رأيت على وجهه ارتياحاً لهلاك علوش..
وبعد فترة قصيرة تمت ترقيتي فابتسمت متذكراً كلام وكيل النيابة لقد تغيرت كثيراً جداً ..
وأنا الذي جئت لأغير تلك القرية البكر التي نظرت إليها يوماً باحتقار ..فغيرتني
وكشفت لي حقيقتي.. كنت أشعر بسعادة غامرة وطمأنينة لم أشعر بها من قبل ..
فاطمة بدت لي أجمل وأبهى من ذي قبل..
صار بإمكاني الاقتراب منها ولمسها ومداعبة وجنتيها فيتوردان خجلاً وقد زالت
عنهما الصفرة المقيتة وغزاهما دم الحياة.. والحياء..
وغداً آخذها لزيارة عائلتي ..
نعم يا فاطمة لقد كنت كاذباً حينما ادعيت أنني مقطوع من شجرة .. فلدي عائلة ..
وسأفخر جداً حينما أقدمك إليهم ..
وإلى جوار افتخاري بك سأعترف :
أنني كنت الأحمق الذي تحدى الدجل بالإلحاد..
واجهت الشر بالشر.. أنكرت الشمس في وضح النهار ..
وكان الدرس قاسياً ..

***

عمرو مصطفى
12-01-2018, 09:31 AM
خاتمة


ـ لقد انتهيت .
ظل الشاب ينظر إلي بعينين حمراوين كالدم من فرط الإرهاق والتعب بلا أي تعليق..
القصة لم تكن متوقعة له بالمرة..
ـ هذه القصة حدثت لك بالفعل؟..
ـ هل تريديني أن أقسم لك على هذا ؟.
ـ إنها أقرب لجو الروايات الخيالية..
قلت له مبتسماً :
ـ أنا لست روائياً.. ولا أحب قراءة الروايات أصلاً..
قال بشك :
ـ هل أنت متأكد؟..
قلت بلهجة جادة :
ـ تماماً كما أنني متأكد من كوني ضابط شرطة وأنت متهم هنا بالانتماء للشيوعية..
تراجع الفتى في مقعده وهو يهرش خلف أذنه.. ثم عاد ليقول :
ـ هذه الحكاية ببساطة أقرب لقصص الرعب منها لقصة تائب من الفكر الإلحادي..
ـ معك حق لكن أنا لا أريد منك أن تقبل الجانب الخارق من هذه القصة أو ترفضه..
فقط أريد منك أن تفكر في كل هذا الذي تعتقد.. هل رفاقك هم رفاقك فعلاً.. ربما كانوا
مثلك ضحية للشيطان.. وربما كانوا هم الشيطان ذاته في جثامين إنس..
ـ أنت تحاول إخافتي مثلما كانت أمي تصنع معي كي أنام مبكراً.. هذه أغرب طريقة
في الإقناع قابلتها..
ـ أنت لست طفلاً كما أنني لست بأمك..
ابتسم في حرج فعدت أقول له بلهجة صادقة :
ـ صدقني ليس لهذا علاقة بالوضع السياسي للبلد.. هناك مشاكل بين الدولة والأحزاب
الشيوعية نعم.. لكن ما يهمني الأن هو ذلك الشاب الذي سيفقد مستقبله من أجل فكرة خائبة..
وسكت برهة ملتقطاً أنفاسي ثم أردفت بنبرة لا تخلو من حزن :
ـ الحقيقة أنني لم أكن بحاجة لخوض كل تلك الأحداث حتى أومن.. أنا فقط أوفر عليك كل هذا..
يمكنك أن تأخذ فرصة وتبدأ بداية حقيقية.. أو تواصل المشوار مع شياطين اليوتوبيا..
لكن لا أحد يضمن النتائج.. أنا لم أنجو لأني كنت الأذكى والأبرع في هذا الصراع..
لقد نجوت لأن الله قدر لي النجاة.
وقمت بجمع الأوراق التي أمامي بمعنى أنني قد انتهيت..
وظل هو جالساً أمامي مطرقاً للأرض يفكر..
كنت أعرف أن قصتي زعزعت عقائده لكنه لا يريد أن يعترف بسهولة.. إنها خبرة
سنوات سابقة مع أصحاب هذا الفكر الإلحادي المادي.. معظمهم يعرفون في قرارة
أنفسهم أن الإلحاد فكرة مخالفة للفطر السليمة.. لكنها كذلك وسيلة سهلة للتخلص
من عبء التكاليف الإلهية.. معنى وجود إله خالق لهذا الكون أن هناك قوانين
تحكم الجميع.. هناك ثواب وعقاب.. جنة ونار.. أفعل ولا تفعل.. وهذا صعب على
النفوس التي دأبت على الحياة البهيمية..
ـ ما يدريك أنني لن أخدعك وبمجرد الخروج سأعود لنشاطي..
قالها وهو ينظر لي بحذر .. قلت له ساخراً :
ـ ستكون قد أخذت فرصتك كاملة.. وحينما تفكر في العودة لتلك الأفكار فستجد
نفسك جالساً هنا أمامي ثانية.. ساعتها ثق في أنك لن تستطيع التفرقة
بيني وبين بقية الزملاء الأعزاء بالخارج.
ثم إني قمت من وراء مكتبي وتناولت سترتي من على المشجب قائلاً :
ـ كما أنني أثق في أنك ستخلص التوبة..
ـ من أين لك بكل هذه الثقة؟..
أجبته وأنا وأحكم غلق الأزرار :
ـ إنها الخبرة..
نظر لي بدهشة وأنا أستعد للمغادرة.. صاح :
ـ لكنني لم أعلن لك عن تراجعي بعد..
لوحت له بكفي قائلاً في ملل:
ـ ستفعل.. وأعدك أن إجراءات خروجك لن تطول.. فقط حاول حينما تعود لوالدتك
أن تستسمحها.. أذهب معها لرؤية كاميليا أو سوسن.. أياً كانت.. لاشك أنها
ستكون زيجة رائعة..
وتركته وغادرت المكتب قبل أن أسمع منه أي تعليق..
بالخارج قابلت أحد الزملاء الظرفاء فلما رآني صاح في دهشة:
ـ حمداً لله على سلامتك.. لقد خشينا عليك جداً!
ـ كانت جلسة علاجية طويلة.
ـ وهل أخرجت الجني الذي تلبس بالفتى أخيراً..؟
ابتسمت وأنا أواصل طريقي قائلاً في ارتياح :
ـ بلى.

***

تمت


عمرو مصطفى
القاهرة
1439 هـ
2017 م

نادرة عبدالحي
12-05-2018, 09:20 PM
التشويق هو جذب واحتواء القارئ وجعله متابعا للقصة من بدايتها حتى نهايتها وهذا يتحقق في

ما يُطرح في القصة من عوامل التشويق التي تبث المتعة والاستئناس والاستمتاع بالقراءة

وهذا يعبر عن تنوع وتفرع وتعدد بالمواقف والحوار والشخصيات والأحداث والمفاجئات التي لا يتوقعها القارئ

إنما يجيدها الكاتب وهذا من باب كون القصة تنهض على قضية أو قضايا المُراد إبرازها .

ومن ثم تظهر قضايا أخرى تخطر ببال الكاتب فتتشعب مع القضية الرئيسة فإن صنعتها تكشف

عن وعي جمالي بالكتابة السردية،

ويُبين للكاتب هنا قضية الخزعبلات ومدى تمسك الإنسان بها التي تُسيطر على عقل ونفس الإنسان مهما عاش


في عصر حديث ، ويتعمد الكاتب من إدخال القارئ لعمق المشهد


فنجاح العمل كوحدة فنية متكاملة، يُبين الصراع النفسي للإنسان بينه وبين افكاره معتقداته وذاته

الصراع الإجتماعي لصاحب الأفكار والصدام في مواجهة مجتمع بكامله.


أن يكون قادراً على التحكم العالي في لغته، متمكناً من النسج البارع لها، أي متمكنا من صناعة

القضية الإنسانية المطروحة . مشاهد وقضايا إنسانية من الحياة


في أحداث قصة يوتيوبيا دمج الكاتب الأحداث الواقعية والمشاهد الخيالية

الخيال يوظف المعرفة للوصول إلى الحقائق التي نُحاول بأي وسيلة تقبلها. فيأتي الخيال

ليثبتها بطريقة أو بضؤ جانبي فالاحداث الواقعية التي نجدها في القصة هي أحداث سبق

أن عرفنا البعض منها ربما بمشاهد مصورة او مقروءة أما المشاهد الخيالية فلا يجدها القارئ

بمكان أخر لانها من صنع خيال الكاتب ولا تمت بصلة للواقع .إذا الخيال هو سبيل فريد من نوعه

ينتمي للعقل الإنساني المُبدع


أما نهاية القصة تُبين مدى قوة الإرادة والإيمان بالله سبحانه وتعلى إن تحلى بها الإنسان

فتراها تُخرج الإنسان من بواطن الظلمات إلى فضاءات من نور وهُدى ,


الكاتب المبدع عمرو مصطفى

من الاصوات القصصية التي ستترك بصمة واضحة على القص الابداعي

باسلوبك المتميز وسردكَ الذي يأسر لب القارئ . فهذا العطاء الأدبي الحقيقي

لهُ إمتداد واسع نحو نبض إبداعي له تأثير واضح في نفس القارئ.

عمرو مصطفى
12-08-2018, 11:55 AM
الأستاذة الفاضلة / نادرة عبد الحي..
مشاركتك تستحق أن تنقل لقسم المقال لا أن تكون مجرد تعليق على قصة..
وكما قلت سابقاً.. رأيك هنا أعتبره شهادة تقدير من كاتبة حقيقية لكاتب هاوي..
أشكرك بشدة على هذا المقال الأدبي المفيد.

عمرو مصطفى
11-01-2022, 01:20 AM
روابط تحميل الرواية كاملة
https://foulabook.com/ar/book/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D9%8A%D9%88%D8%AA%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D9%86-pdf

https://www.noor-book.com/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D9%8A%D9%88%D8%AA%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D9%86-pdf