المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قردة وخنازير (رواية)


عمرو مصطفى
04-29-2019, 04:11 PM
تهميد

(في البدء كانت الفكرة)

اجتمعوا في قبو أحد القصور المهجورة..
تسعة متشحين بالسواد، يرتدون أقنعة بيضاء و يجلسون حول طاولة مستديرة عليها شموع بعدد الجالسين..
هذه ليست حفلة تنكرية، وليست جلسة لتحضير الأرواح .. حينما تنصت لما يقولون ستدرك أن هذا اجتماع لإحدى الحركات السرية..
قال كبيرهم :
ـ بسم المهندس الأعظم لهذا الكون، نفتتح الجلسة..
عطس أحد الجالسين فطار قناعه وكاد يطفئ الشموع.. حدجه كبيرهم من وراء قناعه بنظرة حادة.. لو انطفأت الشموع لفروا أجمعين..
ضحكة رقيعة أفلتت من أحدهم فازداد الموقف سوءاً.
كل ذلك كان يجرح جو الرهبة الذي تعمدوا بثه في ذلك الاجتماع..
لكن لا بأس.. فكل الحاضرين من الشباب.. وغداً حينما يعرفون مدى المسئولية الملقاة على عواتقهم فسيودعون نزق الشباب للأبد ..
بعد برهة عاد السكون يغلف المكان، وواصل كبيرهم الكلام :
ـ إن العالم يسبح في الفوضى مذ نشأ.. لأن مقاليد الأمور توسد إلى العقليات الرجعية التي تقدس الظلام ، وتكره النور.. لقد قضيت ليلة أمس مفكراً في إيجاد حل لمأساة عالمنا.. العالم مقسم لدول وممالك متباينة فيما بينها من حيث اللون والجنس والدين.. وهذه الاختلافات الثلاث كانت أحد الأسباب الرئيسة في النزاعات والحروب التي جرت بين الأمم على مدار التاريخ.. ولقد حان الوقت لمحو كل تلك الأسباب التي تعيق التعاون والتآخي بين البشر..
وجال فيهم ببصره قائلاً :
ـ لاحظوا أن بيننا يهود ومسيحيين ومسلمين وهندوس وبوذيين.. بيض وحمر وصفر وزنوج .. هذا ليس متحفاً للأجناس أو مجمع للأديان.. نحن هنا لنعلن للعالم أن المرء أذا أراد أن يزيل الغشاوة التي على عينيه ويبصر النور الحقيقي، يمكنه أن يسمو فوق الجنس واللون والدين.. يمكنه أن يندمج في عمل جماعي يرتقي بالبشرية كلها..
ثم استطرد :
ـ إن لدينا فرصة لإقامة مشروع نظام عالمي جديد.. لكن أقول لكم بصدق: أن فكرتنا لا يمكنها أن تنجح في ظل الحكومات القائمة اليوم.. لذا..
وضرب المائدة بقبضته مردفاً :
ـ لابد من تدمير سائر حكومات العالم وبلا استثناء..
كاد قناعه أن يسقط عن وجهه لولا أن تداركه بيده بسرعة.. تأكد من تثبيته جيداً ثم عاد ليواصل الكلام لكن بحماس أقل:
ـ فقط ينقصنا لتحقيق ذلك الهدف السرية التامة.. والتمويل.. وحتماً سنجد بعض السادة الأثرياء من الهواة ومحبي الغموض والإثارة.. فمثل هؤلاء يغدقون الأموال على حركات سرية بعدد شعر الرأس.. لكن ليس بين هاته الحركات من يرقى إلى عقولنا كاملة الاستنارة..
تدخل أحد الأعضاء قائلاً:
ـ اسمح لي أيها الأستاذ الأعظم.. فأنا لدي عم عجوز وثري وليس له وريث غيري..
ـ هذا النوع لا يموت ميتة طبيعية غالباً.. لأن الوريث المنتظر حتماً سيفتقر إلى الصبر..
قال العضو بلهجة ساخرة :
ـ أنت تقرأ أفكاري أيها الأستاذ الأعظم.
ـ وأنهاك كذلك عن التصرف بحماقة حتى لا تخسر ثروة عمك.. وربما حياتك نفسها حينما تعلق في حبل المشنقة.
تحسس العضو عنقه لا إرادياً على حين عاد الأستاذ الأعظم يواصل حديثه لبقية الحضور.. قال:
ـ وإلى أن نجد الممولين المناسبين لهذا المشروع الكبير فسنقسم الآن جميعاً على المضي قدماً في هذا المشروع مهما كلفنا من تضحيات.. ومهما واجهتنا من عقبات..
تنحنح أحدهم.. ثم تساءل :
ـ معذرة أيها الأستاذ الأعظم.. ولكن لماذا أغفلنا العنصر النسائي في تنظيمنا هذا.. فكلنا هنا من الذكور.. وهذا منافي لنظرتنا التقدمية التنويرية.
وانبرى ثان قائلاً :
ـ هذا سيظهرنا بمظهر الحركات الذكورية الرجعية.. وستسود صورتنا أمام بقية الحركات السرية المنافسة.
رد كبيرهم قائلا:
ـ مازال أمامنا وقت طويل حتى نجد العناصر النسائية المناسبة للتضلع بدورهن إلى جوار الرجال.. فنحن سيكون لدينا طقوس رذيلة حتمية في المستقبل القريب.. نحن لسنا بأقل من الحركات السرية الأخرى..
ابتهج الجالسون للأخبار السارة وبدو أكثر انسجاماً.. فواصل كبيرهم بلهجة منتصرة :
ـ أرى أننا الآن مستعدون للقسم..
قالها ثم وضع كفيه مبسوطتين على المنضدة، فحذا الجميع حذوه.. بعدها قام كل منهم بوضع راحته اليمنى على يسرى المجاور له والعكس بالعكس.. فكونوا دائرة مغلقة من الأكف المتلاحمة.. عندها قال كبيرهم بصوت جهوري :
ـ لنردد معاً القسم..
هنا تحطم باب القبو وأحاط بهم جيش من رجال الشرطة مدججين بالسلاح..
نظر الأستاذ الأعظم للفوهات المصوبة إلى رؤوسهم، ثم التفت للعضو الذي تكلم عن ميراث عمه وسأله في مغضباً :
ـ أقتلت عمك؟
هز العضو رأسه نافياً في عنف.. فالتفت الأستاذ الأعظم لرجال الشرطة قائلاً في سخط :
ـ ما هذه الهمجية ؟ نحن جمعية سرية محترمة ولا نمارس أي نشاط معادي للدولة..
قال كبير الشرطة :
ـ تقصد لا تمارسون نشاطاً معادي لدولتنا وحدها.. لقد تم تسجيل كل شيء.. مؤامرتكم قد انكشفت.
صرخ الأستاذ الأعظم :
ـ خيانة..
رد عليه قائد الشرطة بنبرة ساخرة :
ـ بل هي حماقة.. فنصف أعضاء جمعيتك من رجال الشرطة.
صاح الأستاذ الأعظم متشدقاً:
ـ كجماعة محترمة لابد أن يكون لنا رجال في شتى المجالات.. لدينا أطباء ومحامون ومهندسون كذلك و..
ـ وفر هذه المعلومات المهمة لحين يتم استجوابكم.
لم يكد كبير الشرطة يتم عبارته، حتى هجم رجاله على أعضاء الحركة وطرحوهم أرضاً، ثم قاموا بتقييدهم قبل أن يسحبوهم للخارج وسط ضجيج وصراخ وتوسلات وعويل..
لكن لم ينس الأستاذ الأعظم وسط كل هذا الصخب أن يصيح برفاقه وهم يسحبون على وجوههم :
ـ غداً حينما نسيطر على العالم.. ذكروني أن أمحو هذا المشهد من ذاكرة التاريخ.
***

عمرو مصطفى
04-29-2019, 06:29 PM
الشرطي


(1)

أول ما يفتح عينيه.. يطالعه شعار النظام العالمي الجديد..
صورة رمزية لقرد وخنزير كتب تحتهما :
" أنت تحيا في ذروة المجد البشري!.."
إنه يدعوك للفخر والانتشاء.. يدعوك لاحتقار الأجيال السابقة التي لم تعش تلك اللحظة ولم تملأ عينيها كل صباح من ذلك الشعار..
ثم يظهر ذلك الممر المعدني البارد، ومعه عبارة :
" شرطي مكافحة التمرد.. هل أنت جاهز؟.."
قال بلا تردد أنه جاهز.. جاهز جداً.. ترسانة الأسلحة التي معه تقول هذا.. أعصابه المشدودة تقول له هذا..
ظهرت له عبارة تقول :
" في نهاية الممر ستجد غرفة على اليسار.. هناك خمسة يجتمعون للكيد لنا.. أقتل هؤلاء الحثالة البشرية. "
هتف :
ـ المجد للنخبة في الأعالي.
ظهرت له عبارة " انطلق " لكنه لم يكد يتحرك خطوتين حتى ساد الظلام ..
***
" أنت تحيا في ذروة المجد البشري "
حينما قام من الفراش تعثرت قدمه في بقايا طعام الأمس.. الأمس كان حافلاً وعليه أن ينتظر فرق التطهير الألية حتى يعاوده الإحساس بأنه في وحدة آدمية وليس في حظيرة خنازير..
غسل وجهه في كابينة التطهير العضوي الملاصقة لفراشه، ثم تأمل وجهه في المرآة قليلاً.. همس لنفسه :
ـ إيهاب أنت مقبل على الحياة بلا داعي..
إنه يتقدم في السن .. لا زوجة.. لا أسرة.. لا مستقبل ..
لكن أليس هذا الوجه البائس الذي يرمقه الآن عبر المرآة هو وجه أمه؟ هذا الذبول الذي يعتريها، ليس بسبب فقدان الزوج الذي مات بالسلالي، لكن بسبب إصابتها هي أيضاً بالسلالي.. لقد حل على بدنها الهش كضيف ثقيل لا يمكنها رده.. ومع الوقت صارت روحها ضيفاً ثقيلاً علي بدنها الذي صار ملكاً لضيف الأمس..
نام نوماً مثقلاً بالهموم مفعماً بالكوابيس، واستيقظ ليجد روبوت مفزع قد حل محل والدته.. قال له بلطف ألي: أن أمه تركته ورحلت هي أيضاً إلى حيث رحل والده.. وأنه سيتولى تربيته من اليوم حسب القانون .. هكذا صار هو تربية روبوتات.. وحمد الله على أنه كان قد فطم، فلم يضطر للرضاعة من روبوت.. يتذكر هذا وهو يضحك.. طبعاً نشأته في كنف روبوت محترم أهلته للالتحاق بشرطة مقاطعة إلوسيوم.. هذا لم يحلم به والديه.
أن تثق فيك النخبة وتقبلك في صفوف شرطييها، فهذا يعني أنك صرت مواطن نخبوي من الطراز الأول..
يداهمك هذه الأيام إحساس غريب بأنك مفتقد لشيء ما.. هل هو فقدان الوجهة والهدف؟.. كيف وأنت تعمل من أجل رضى النخبة الأممية؟ أليس هذا هدف سامي بحد ذاته .. إذن ما سبب هذا الإحساس؟ .. قديماً كانوا يقولون هذه وساوس شياطين، لكن النخبة الأممية حسمت الأمر في ميثاقها.. لا وجود للشياطين على الحقيقة في هذا العالم، وإن كانت الأديان قد ذكرت الشياطين في كتبها فهذا من قبيل الرمز .. فوسوسة الشيطان ترمز لرغباتنا السيئة والمكبوتة، وعلاجها الوحيد هو جلسات البرمجة اللغوية العصبية في الوحدات النفسية.. في بعض الحالات يتحول المواطن بسبب تلك الجلسات إلى نوع جيد من النبات .. لقد فكر إيهاب في تجربة تلك الجلسات كثيراً، ثم قرر أن يؤجلها إلى حين يقرر التقاعد من الحياة..
فيما بعد قرأ عن مذهب فلسفي يسمى العبثية وقد راق له كثيراً.. إنه سيزيف أخر لا يكل ولا يمل من العبث بدحرجة الصخرة عالياً وهو يعرف أنها حتماً ستعاود السقوط.. العبثية هي قانون هذا العالم ..
إذن سيظل منطلقاً في عالمه، كرصاصة مجهولة المصدر، إلى هدف غير معروف.. لا يهم إلى أين ومتى.. إنه بانتظار الارتطام العظيم والانفجار المروع.. ثم لا شيء..
غادر كابينة التطهير، وفتح المرئي فطالعته المزيد من الإعلانات..
الإعلانات معظمها عن رحلات لعوالم افتراضيه .. رحلات صيد في البراري الافتراضية، وكذلك رحلات فضائية لاستكشاف الكون عن طريق كبسولة المحاكاة ..
المواطن من الشريحة جـ لا يظفر بالحقائق غالباً، بل بالمزيد من العوالم الافتراضية ..
عليك فقط أن تقوم بتحميل البرنامج المعلن عنه، عن طريق شريحة التواصل المزروعة خلف أذنك، ثم تدخل في غرفة مظلمة وتضع عصابة سوداء على عينيك.. بعدها ستجد نفسك تسبح في المستنقعات وتدخل رأسك بين فكي تمساح.. أو تلمس النجوم.. يمكنك أن تقود جيوش الإسكندر، أو تهزم نابليون في واترلو.. يمكنك أن تدمج أشياء من ذكرياتك وواقعك الكئيب بالعوالم الافتراضية في محاولة لتغييرها للأحسن على طريقة ماذا لو الشهيرة..
ومقابل ذلك تدفع المزيد من العملة الافتراضية، التي تتسرب عبر شريحتك الائتمانية المزروعة تحت إبطك.. تتسرب كالتبول اللاإرادي..
لماذا يلجأ المواطن من الشريحة جـ للعوالم الافتراضية مادام يحيا في ذروة المجد البشري؟
هذا السؤال ببساطة يعد نوع من التجديف..
كذلك ليست العوالم الافتراضية هي وسيلة المتعة الوحيدة في النظام العالمي الجديد..
في تلك اللحظة طالعت عيناه ذلك الإعلان الهام.. الليلة سيكون هناك حفل إعدام للمتمردين .. بالأمس كانت سهرة ممتعة.. بث مباشر من هيدز التي تعج بحثالة البشر أعداء المجد..
أما اليوم فالسهرة ستكون مشاهد ممتعة لعملية الإعدام على الخازوق النيوتروني..
المتمردون لا يكاد يخلوا منهم زمان.. وكذلك الخوازيق بشتى أنواعها..
إنهم كالعادة يعتبرون أنفسهم ثوار، ويعتبرون النخبة التي تحكم النظام العالمي مجموعة من الطغاة ، وأن العالم سيصير أفضل بدونهم.. النتيجة هي سلسلة من العمليات التخريبية بين الحين والحين، تنتهي بسلسلة من المداهمات لأوكار المتمردين، ومن يبقى حياً بعد المداهمة يصير فرجة العالم في المساء والسهرة..
إيهاب يعتبر المتمردين جماعة تبحث عن تغيير لنمط حياتها الذي تعتبره مملاً خالياً من الإثارة.. يريدون بعض الإثارة الحقيقية لا الافتراضية.. ولهذا يسببون المتاعب لشرطة النظام العالمي ..
هل هذا نوع تعاطف معهم؟
استعاذ بالله من الشيطان الرجيم.. ثم استعاذ بالله من استعاذته من الشيطان الذي لا وجود له على الحقيقة! .. هؤلاء المتمردون كفار نعمة.. يريدون أن يعود العالم فوضى كما كان قديماً قبل أن يوفق الله النخبة الأممية في تدشين النظام العالمي.. هكذا صرف الخاطر السيء عن ذهنه وقرر أن يواصل برنامجه اليومي الممل..
***
" أقتل الحثالة.."
تتردد الكلمة بين الحين والحين بينما يتقدم إيهاب في الممر شاهراً مسدسه الألي.
الغرفة على اليسار.. لا يجب أن ينسى هذا.. الحثالة هناك.. سيمزقهم بالرصاص.. أمامه طريق طويل لابد أن يقطعه حتى يحصل في النهاية على نجمة الوحدة .. ويصير هو الشرطي الأول..
" أقتل الحثالة.."
الباب يلوح.. عليك أن تكون حذراً يا إيهاب.. ليس مداهمة حشد من المتمردين بالأمر الهين.. كتم أنفاسه ووقف على جانب الباب.. أعد مسدسه للإطلاق ثم دفع الباب بقدمه..
لم يحدث شيء .. إنهم حذرين جداً.. أم تراه أخطأ الغرفة.. هذه أول غرفة على اليسار تقابله.. فكر في أن يعود للخلف ليتأكد.. إنه يسرح كثيراً هذه الأيام.. ذكرياته لا تتركه حتى وهو في خضم معاركه مع المتمردين..
لم يكد يتراجع بظهره خطوتين حتى برز له من الغرفة أول متمرد..
رباه أنها الغرفة الصحيحة إذن.. وبلا تردد ضغط على الزناد.. كان المتمرد ـ لحسن الحظ ـ مجرد مستكشف أعزل.. لذا فقد خر صريعاً قبل أن يفهم..
هنا فتحت أبواب الجحيم.. وابل من الطلقات انهمر عبر فتحة الباب، جعله يتراجع ملتصقاً بالجدار أكثر..
ظهرت له عبارة مساعدة من مركز القيادة " معك ثلاث قنابل يدوية"
هذا خبر سار جداً.. لكنه لا يريد استنفاذها بهذه السرعة.. إنه مازال في بداية الطريق..
لحظة.. لقد هدأت أصوات النيران.. إنهم يلقمون أسلحتهم .. إذن هي فرصتك يا إيهاب، ولتوفر قنابلك اليدوية..
أولج مسدسه عبر فتحة الباب وأفرغ خزينة كاملة.. هناك أصوات صرخات.. لكنه لم يقتلهم كلهم..
لم ترسل له القيادة تأكيدها بعد.. لقم مسدسه بخزينة جديدة ووقف مستنداً على الجدار وهو يتنفس بعمق.. لقد قتل اثنين على أقل تقدير
بالإضافة للمستكشف الأعزل.. إذن مازال هناك اثنين من المتمردين بالغرفة .. إنه يسمع تهامسهم بالداخل..
هنا سمع صوت الارتطام المكتوم.. بعدها تدحرج جسم كروي على الأرض ليستقر في النهاية بين قدميه..
لقد ألقوا عليه قنبلة يدوية !..
فكر بسرعة، هل يحملها ويعيدها إليهم أم يجري مبتعداً عنها؟..
في مرات عديدة لا يفلح في تناول القنبلة من ثم تنفجر في وجهه وترديه قتيلا.. لذا قرر سلك الطريق الأسلم.. جرى بكل قوته وانبطح أرضاً ..
القنبلة لم تنفجر.. لقد أخرجت أدخنة خضراء اللون سرعان ما بدأت تنتشر في الممر.. إنها قنبلة دخان ستخدره أو ستشل حركته.. أو على الأقل لن تجعله يرى مهاجمه الذي سيلوز بالفرار..
" معك قناع الغاز الواقي "
شكراً للقيادة.. إنهم حاضرون معه دائماً.. والفضل للشرائح الذكية التي تملأ جسده..
ارتدى القناع بسرعة ووثب قائماً وهو يشهر مسدسه.. القناع يمكنه من الرؤية كذلك وسط الدخان.. إنه يعطيه إشارات تشبه علامة التصويب على الهدف.. صوب مسدسه على علامتي التصويب التي ظهرتا أمامه وأطلق النار..
سرعان ما اختفت علامتا التصويب .. وبدأت الأدخنة الخضراء تلاشى بالتدريج..
ها هو الممر يعج بجثث المتمردين، بينما وقف هو يعبئ سلاحه وينتظر الجديد..
هنا سمع صوت خطوات معدنية ثقيلة قادمة من جهة الغرفة فصوب سلاحه متأهباً..
ثم أدرك سريعاً أن مسدسه الألي ما هو إلا دمية أطفال بالنسبة للخطر الذي يواجه الآن..
كان العنصر الأخير من المتمردين روبوت متحمس تشتعل أضوائه غضباً.. إنه من النوع المقاتل الذي يحتاج إلى طائرة حربية لإيقافه لا إلى فرد في شرطة المكافحة..
إن فرص نجاته تكاد تكون منعدمة..
***

عمرو مصطفى
04-30-2019, 06:14 PM
(2)

يذكر إيهاب اليوم الذي ابتاع فيه روبوت رياضي مستعمل للتدريب على بعض الرياضات العنيفة في المنزل، حتى يحافظ على لياقته البدنية، التي يحتاجها في مواجهاته التي لا تنتهي مع المتمردين..
ثم اكتشف أن الروبوت مصاب بتصلب في المفاصل وحركته بطيئة كأنه يتدرب مع عجوز قعيد في التسعين .. لذا اضطر لاستقدام بعض الخبراء لمعالجة برنامجه وتزويد سرعته بمقابل فلكي جعل شريحة النقود لديه تئن جوعاً..
لكنهم على الأقل استطاعوا إحياء ذلك الروبوت التحفة ..
وهكذا وقف أمامه وقفة الاستعداد ثم أعطى الإشارة الصوتية لبدء الهجوم ..
شعر بسعادة غامرة حينما تلقى لكمة عاتية في فكة وركلة ساحقة في خاصرته .. بالأمس كان يصاب بالنعاس أثناء اللعب مع نفس الروبوت ..
ـ مرحى .. أعطني أكثر ..
وبالفعل أعطاه أكثر.. أكثر بكثير مما كان يأمل في الحقيقة..
ضربات الروبوت صارت كالبرق .. لم يعد الأمر مجرد تدريب .. هذا الروبوت المجنون سيقتله حتماً.. يبدو أن الفني الوغد قد أخطأ في شيء ما و......
صرخ وهو يتمرغ في الأرض :
ـ أوقفوووووووه !..
لكن الوغد الألي لا يتوقف ولا يعطب .. سحب إيهاب مسدسه من جرابه الملقى على الفراش واستدار ليفرغه في صدر الروبوت .. لكن الأخير ضرب كفه بخفة، فطار المسدس ليخترق جهاز الميكروويف ..
نظر إيهاب بجزع وغير تصديق للميكروويف المهشم .. طبعاً ليتلقى لطمة عاتية على صفحة عنقه ألقته أرضا..
بعدها وثب الروبوت فوقه وأخذ يشيع لكماته وركلاته إلى كل الأماكن التي تم تخزين مواضعها في ذاكرته ..
بعد نصف ساعة كانت بطارية الروبوت قد فرغت، وتحول إلى قطعة حديد جامدة على وقفة قتالية شامخة.. ومن حوله تناثر أثاث الوحدة أشلاء، فبدا المشهد كلوحة معبرة عن الانتصار الساحق للألة على الإنسان ..
لكن أين إيهاب ؟
***
إيهاب الآن يواجه روبوت مختلف..
إنه مزود بمدفعين سريعي الطلقات بالإضافة لكون جسمه المعدني مضاد للرصاص.. ولديه عين في منتصف جبهته تطلق شعاع ليزر قادر على شطر فيل إلى نصفين..
" مهمتك التالية.. سيطر على الروبوت.. "
انهالت عليه الطلقات كالمطر وهو يعدو في الممر بخط متعرج.. طبعاً هذا الكابوس لا يمكن أن يدمر..
إنه صناعة نخبوية عالية الجودة والكفاءة.. ولسوء الحظ تمكن المتمردون من السيطرة عليه .. المطلوب منه الآن إعادته إلى صوابه..
لكن كيف؟
لاح له باب في نهاية الممر كأنه نشأ من الفراغ فقط ليعطي له حبل نجاة في أخر لحظة من الطلقات وأشعة الليزر..
اقتحم الغرفة وأغلق بابها خلفه بإحكام، ثم وقف يلهث وهو يفحص أسلحته.. لا يوجد من بينها وسيلة للسيطرة على ذلك الكابوس..
" ستجد جهاز التحكم مع أحد المتمردين.."
أطلق سبة بذيئة وضرب كفه بالجدار.. كيف سيعود ثانية ليفتش في جثث القتلى وذلك الكابوس قادم من أجله.. عليه أن يهدأ ويفكر..
صوت الخطوات المعدنية الثقيلة يقترب .. سيقتحم عليه الغرفة بعد ثوان وعليه أن يكون قد أعد خطة..
لا مجال لاستعمال الأسلحة التقليدية.. عليه أن يناور الوغد الألي كي يتمكن من الانسلال إلى غرفة المتمردين.. وهكذا انتظر بجوار الباب حتى سمع صوت الليزر يذيب الإطار من الخارج.. وسرعان ما تهاوى الباب تلقائيا بعد عملية الجراحة الممتازة التي أجراها له الروبوت.. كتم أنفاسه منتظراً اللحظة المناسبة.. واللحظة المناسبة حانت حينما عبر الروبوت الباب، وتقدم داخل الغرفة وهو لا يرى إيهاب الذي وقف منتظراً في الركن.. وهكذا انسل من خلفه وانطلق يعدو خارج الغرفة بكل قوته..
ها هو الممر المفروش بالجثث.. هناك خمس جثث.. ترى هل سيجد الجهاز مع أول جثة.. مع ثاني جثة..
تباً .. خطوات الروبوت المعدنية تقترب من جديد.. هذا يثير أعصابه ويفقده التركيز..
ثالث جثة إذن..
ها هو قادماً من أجله بعد أن اكتشف خدعته البسيطة..
رابع جثة..
أخيراً.. ها هو ذا..
بعدها ظهرت له عبارة " حصلت على جهاز التحكم.. قم بالسيطرة على الروبو..."
لم ينتظر إكمال العبارة.. استدار بسرعة مصوباً جهاز التحكم ناحية الروبوت الذي ظهر في تلك اللحظة وهو يستعد لنسفه نسفاً..
لكنه لم يكد يضغط على أزرار التحكم حتى بدأ الروبوت يرقص.. نظر لجهاز التحكم في يده بدهشة.. هناك شيء ما خطأ..
" قم بالسيطرة على الروبوت "
صاح في غيظ وهو يعيد ضغط الأزرار:
ـ إنني أحاول بالفعل..
هنا توقف الروبوت عن الرقص..
للوهلة الأولى خيل إليه أن الروبوت سيعاود الهجوم عليه .. لكن فجأة صدرت عنه أضواء بنفسجية هادئة وبدأت مدافعه اليدوية ترتخي ببطء.. ثم سمع الصوت المعدني الذي أثلج صدره:
ـ تحت أمرك سيدي.
هنا ظهرت عبارة " تمت المهمة بنجاح "..
بعدها ساد الظلام..
***
ـ وصل فريق التطهير .. على سائر المواطنين إخلاء الوحدات ..
تردد الصوت المعدني في أذن إيهاب، وهو قابع في الظلام أسفل الفراش، مختبئاً من الروبوت الرياضي الذي جن تماماً..
ضغط على أذنه بكفه بطريقة معينة ليتمكن من الرد عبر شريحة التواصل.. قال بصوت مهشم :
ـ جاري إخلاء الوحدة..
لم يصل صوته للأسف، وشعر بتلك الوخزة في أذنه، فعاد يضغط عليها بكفه.. شريحة الاتصالات بحاجة لشحن، أو .. تباً يبدو أن الروبوت الوغد قد أفسدها، أو أفسد أذنه ذاتها ..
لكنه يدرك أنه لو فقد أذن فسيزرعون له شريحة جديدة في أذنه الأخرى.. وطبعاً سيفقد وظيفته الحالية، لأنه سيصير من أصحاب العاهات..
وهكذا زحف خارجاً من تحت الفراش بحذر وقد تحول وجهه إلى لوحة لمأساة إغريقية .. رمى الروبوت الرياضي بنظرة خاوية قبل أن يبصق عليه بصقة دامية أودعها كل حنقه وألمه .. ثم واصل زحفه لوحدة التطهير العضوي في محاولة لإسعاف ما يمكن إسعافه ..
وخرج بعدها وقد امتلأ وجهه بالضمادات .. ارتدى زيه بسرعة وهو يتجاهل حركة روبوت التطهير، الذي اقتحم الغرفة وبدأ يقوم بعمل التنظيف اليومي.. إنه يشبه الخنزير في الهيكل الخارجي ويقوم بنفس دوره.. يأكل القمامة أكلاً .. وكذلك هو لا يكف عن التعليقات الروتينية التي يعتبرها إيهاب فضائح..
ـ بقايا طعام.. مشروبات.. مخدرات من النوع المصرح به للشرطة.. التهوية لا بأس بها هنا.. هناك حالة فوضى عارمة كأن الوحدة ضربها زلزال عنيف ..
ثم إن الروبوت اكتشف وجود إيهاب فالتفت إليه قائلاً :
ـ لم يتم الإخلاء بعد.. هذه مخالفة يا سيد إيهاب سيتم خصم جزء إضافي من شريحتك الائتمانية..
مازالت الروبوتات هي سيدة هذا العصر بلا منازع..
لكنهم ولله الحمد لم يستغنوا عن العنصر البشري تماماً.. وإلا فمن التعس الذي سيذل..
لقد كادت البطالة أن تكون هي التحدي الأكبر للإدارة النظام العالمي الجديد؛ وذلك بسبب الاعتماد شبه الكامل على الآلات..
ولما حدث التمرد الكبير من الآلات وواجهت النخبة الأممية أزمة كادت تعصف بها، لم تتمكن من إعادة الأمور إلى نصابها إلا بالعنصر البشري.. إيهاب كان أحد أبطال تلك الملحمة.. يذكر حصار مبنى الكابيتول بمقاطعة إلوسيوم.. الروبوتات تعتصم بالداخل والشرطة من الخارج.. أوقات عصيبة مضت حتى تم اقتحام الكابيتول والسيطرة على الروبوتات الشقية.. ثم حفل التكريم الذي نال فيه نوط الواجب والشرف، وامتلأت شرائحه الذكية بالنقود الافتراضية..
توقع كغيره من رجال الشرطة، أن تتغير سياسة الاعتماد على الآليين بعد حادثة التمرد تلك .. لكنهم فوجئوا حين عودتهم لوحدة مكافحة التمرد أنهم عينوا روبوت يدعى (س-600) قائداً للوحدة!..
ترك إيهاب الخنازير الألية تأكل قمامة وحدته السكنية وغادر.. بالخارج ظل يذكر نفسه .. هذه ستكون المرة الأخيرة وعليه أن يجدد الترخيص.. يمكن لتلك الروبوتات أن تهشم رأسه لو انتهى ترخيصه..
ابتسم بكأبة للدعابة وهو يتحسس شريحة النقود المزروعة تحت إبطه الإيسر.. إنه يعرف معنى تلك الذبذبات التي تدغدغه كلما تم سحب جزء من رصيده.. إنها بحاجة إلى شحن.. وعليه أن ينتظر حتى موعد الشحن الشهري..
لما خرج إلى الشارع سمع صوت حوامات التطهير تجوب السماء.. إنه الصباح حيث يتم رش سماء إلوسيوم بمواد كيماوية مثل تلك التي كانت تقتل الحشرات والآفات الزراعية بالحقول.. لكنها هنا تعمل على قتل ما بقي فيهم من آدمية..
يقولون أن هذه من ضمن برنامج النخبة للرعاية الصحية لمكافحة السلالي.. بالرغم من ذلك فإن المرض اللعين يحصدهم حصدا.. ربما لو كانوا يرشونهم بالسلالي نفسه لما كانت نسبة الإصابة ستتجاوز الرقم الحالي.. بل ربما تقل..
بعد حمام الكيماوي الذي حول المارة إلى أشباح بيضاء اتجه إيهاب إلى رصيف القطار الكهربي.. جلس بجوار النافذة ليستمتع بوميض الأضواء التي تمضي بسرعة خاطفة على جانبي القطار..
بعد ثوان قليلة سيصل إلى مقر عمله.. لديه لقاء مهم في مركز القيادة
وعليه أن يكون مستعداً..
***

عمرو مصطفى
05-01-2019, 03:47 PM
(3)

" مقر القيادة "..
وقف على الباب المعدني بانتظار الإذن بالدخول ..
القائد (س ـ 600) ينتظره شخصياً.. لابد أن المهمة هذه المرة غير تقليدية..
غاص الباب في الجدار كاشفاً عن حجرة ضخمة تعج بالروبوتات المتحمسة، التي تنبعث منها أضواء عديدة بحسب الحالة المزاجية لكل منها.. وفي وسط الحجرة يجلس القائد (س ـ 600) على مقعد يشبه العرش .. ذكره مشهده بملكة نحل في وسط الخلية وحولها تحوم اليعاسيب.
ـ مرحباً.. إيهاب..
ابتلع ريقه بصعوبة وتقلصت أحشائه كلما كان مقدماً على مهمة جديدة..
ـ مرحباً سيدي.
كانت أذرع (س-600) الأربعة مشغولة في عدة اتجاهات ..
إحداهما تفحص صورة خارطة ثلاثية الأبعاد، بينما الثانية تحاول ضبط التكييف .. وذراعه الثالثة والرابعة كانتا خاضعتان للصيانة من قبيل فريق من الآليين من القسم الفني لشرطة المكافحة.. طبعاً فالقائد لا يثق في الفنيين البشريين..
لقد ولى زمن الروبوتات التي تقترب لحد مريع من البشر في شكلها الخارجي.. فمن حق الروبوت التميز عن باقي البشر.. حتى وإن كان في الأصل من صنعهم.. اليوم خلقت أجيال من الآليين تم صنعهم بمعرفة آليين أمثالهم.. هؤلاء آليون أبناء آليين.. وكان السيد (س-600) من هذه النوعية المعتزة بعرقها الآلي!..
كان جسده يصدر أضواء بنفسجية هادئة مما يعني أن حالته المزاجية مستقرة..
ـ كيف أنت إيهاب؟
رد بتلقائية :
ـ أحيا بشرف في ذروة المجد البشري..
رآه يلتفت لينهر أحد الفنيين ـ الذي يبدو أنه قد آلمه بشدة ـ ثم عاد لإيهاب قائلاً:
ـ أنت أحد الضباط المميزين بالوحدة وتعرف أنني كروبوت، مولع بالتميز.. لذا فقد اكتشفت أن قرار إحالتك للأعمال المكتبية كانت خطأ محض..
قال إيهاب بدهشة:
ـ لكنه كان قرارك أيها القائد..
ـ لا يمكن إيهاب .. تعرف أننا لا نخطئ أبداً..
يتذكر إيهاب تلك الأيام.. حينما أحاله (س ـ 600) بعد أحداث التمرد الكبير للأعمال المكتبية.. كان يقوم بوظيفة مراقبة شرائح المواطنين في إلوسيوم ..
هناك شاشات مراقبة الشرائح الذكية لآلاف البشر في المقاطعة..
هناك شريحة الهوية المزروعة عند الصدر فوق موضع القلب تماماً طالما هذه الشريحة تضيء بلون أخضر فهذا يعني أن صاحبها مواطن شريف لا يفكر في شر.. وإذا ما بدأ الأخضر يتحول للأصفر فهذا مؤشر غير صحي.. نحن على وشك التفكير في الشر.. هنا يبدأ إيهاب في تسليط الضوء أكثر على صاحب الشريحة.. أما تحول الإضاءة للون الأحمر فهذا يعني وقوع المحظور.. يتم رفع تقرير بالحالة ويتم البت في أمره خلال ثوان.. إما أن يخرج القرار بإعادة تأهيل المواطن من جديد، أو بتحرك فرق المكافحة لشطب اسم المتمرد من الوجود .. وفرق المكافحة هنا ليست إلا الشريحة الذكية ذاتها. تتحول إلى شرائح للقتل الذكي والنظيف .. فلان المواطن أصيب بالسكتة الدماغية فجأة .. فليرحمه الله ..
وهكذا صار من الصعب اليوم التفرقة بين حالات السكتة الطبيعية والذكية!
وهكذا ظل إيهاب يمضي أيامه في إحصاء أنفاس البشر ورفع التقارير التي تساهم في تحديد مصائرهم..
إلى أن جاء اليوم الذي عاد فيه مرة أخرى إلى العمل الميداني الذي يعشقه..
قال :
ـ للأسف النسيان أفة بشرية لا فكاك منها يا سيدي..
قال القائد بانتشاء ألي :
ـ هذه فائدة أن تكون روبوت.. أنت لا تخطئ ولا تنسى أبداً.. الروبوتات هي آلهة العصر بلا منازع.
قال إيهاب وهو يكتم أفكاره السوداء:
ـ إننا نتشرف كوننا نعمل بناء على توجيهاتكم سيدي..
قال (س ـ 600) :
ـ حسناً إيهاب.. مهمتك القادمة ستكون في النطاق النظيف!
يتذكر إيهاب متى ظهر هذا المصطلح لأول مرة.. لقد ظهر بعد حادثة التمرد الكبير مباشرة..
منذ هذا اليوم بدأ الاعتماد على الروبوتات يقل وإن لم يتوقف.. بل بدأ البعض يفكر في أن التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي يمثلان تهديداً للأمن والسلم العالمي..
من هنا بدأ الأثرياء من الشريحة ب يفكرون في إنشاء نطاق خالي من التكنولوجيا الحديثة..
وهكذا ظهر في العالم مصطلح النطاق النظيف.. هناك قطاعات صممت على الطراز الروماني واليوناني والفرعوني.. وبعض القطاعات يعتمد على الحياة البرية في الغابات..
لابد أن تكون مواطن من الشريحة ب كي تتمكن من الذهاب إلى هناك كسائح أو مقيم.. أما أبناء الشريحة جـ فهم بحاجة إلى وساطة كي يذهب الواحد منهم إلى هناك ضمن العمالة التي لا يستغني عنها الأثرياء في أي نطاق كانوا..
في البداية لم يهتم إيهاب بشأن النطاق النظيف.. إنه لا يعرف كيف يعيش المرء بلا شرائح ذكية تحصي عليه أنفاسه.. أنت بدون تلك الشرائح في العراء وبلا غطاء.. كيف يستغني المرء عن العين التي تحرسه ليل نهار..
لكن رأيه هذا تغير حينما قررت هالة الذهاب إلى هناك..
***
هالة كانت تملك أجمل عينين وتقيم روحها في وحدة قلبه..
إنه الحب في ذروة المجد البشري..
في ذلك اليوم الموعود، حلقت روحيهما ساعة بين المروج الخضراء وفوق قمم الجبال الشاهقة.. ساعتها فكر إيهاب في أن الشريحة واحدة والمقاطعة واحدة.. فلماذا لا يتحد قلبانا إذن في وحدة سكنية واحدة.. حتى يتم حرق ذراتنا بفرق التطهير العضوي بعد عمر طويل؟..
السبب وجيه جداً وقد صرحت به هالة في ذلك اليوم..
ـ أنا أطمح في الذهاب إلى النطاق النظيف..
فتقول لها بدهشة :
ـ هل هبطت عليك ثروة؟..
ـ لا.. تعرف أنهم هناك يحتاجون بشدة للأيد العاملة من الشريحة جـ..
ـ ولماذا لا نقنع بحياتنا هنا؟
ـ القناعة بالموجود سبة في جبين المجد البشري..
ـ أنا لا أستطيع ترك عملي هنا لألحق بك هناك .. معنى هذا أننا سنفترق..
تبتسم لك هالة في ود مفزع وتقول :
ـ ستكون هذه فرصة جيدة ليبدأ كل منا من جديد..
تلاشت صورة الجبال والهضاب والمروج الخضراء حينما ضغط إيهاب على ذر وقف بث صور الخلفيات الطبيعية.. كانا منذ البداية في وحدة التنزهات الخلوية الافتراضية.. ووقف هو مصدوماً يتأمل هالة كأنه يراها للمرة الأولى..
قالت لك وهي تمسك بساعدك فيرتجف في يدها:
ـ إيهاب لقد سئمت شريحة ألعاب الفيديو هذه..
تبعد يدها عنك في رفق وتقول هامساً :
ـ أنت لا تعرفين ما الذي قد تجدينه هناك ..
ـ بل أعرف.. والكل هنا يعرف.. هناك النقيض لكل ما نحياه هنا.. هناك لفظوا التقنيات الحديثة بكل أنواعها وعادوا للماضي.. لا ملوثات ولا أمراض سلالية.. حياة مديدة بلا ملل ولا أوجاع العصر الحديث..
كانت تتكلم بحماس ملتهب كأنها رأت ما تحكي عنه رأي العين .. يبدو أنها قد تلقت عرضاً ما من أحدهم.. تمنى لو عرف هذا الوغد ليأكله بأسنانه.. للأسف قد لا يستطيع المساس به أصلاً لو عرفه..
لم يجد شيء يرد به عليها فسألها :
ـ و ماذا ستعملين هناك؟
تتسع ابتسامتها وهي تداعب خصلات شعرها فتفهم..
ـ لا يهم .. المهم أن أصير هناك وكفى.
شعر بقبضة من حديد ساخن تعتصر قلبه.. مشكلة إيهاب أنه مازال يحمل بداخله مشاعر كادت أن تنقرض.. ربما وجوده هو الذي يمنعها من الانقراض..
تمنى لها إقامة سعيدة في نطاقها النظيف، وتمنت له حياة سعيدة في نطاقه المسموم.. ووقف وحيداً يراقبها وهي تبتعد .. وتبتعد ..
حتى ابتلعها الزحام.
رباه.. ماذا لو تحليت بالصبر يا هالة..
***
ـ هل أنت معي يا إيهاب؟
انتفض قائلاً :
ـ معك سيدي.
أدار (س ـ 600) صورة الخريطة ثلاثية الأبعاد ليريه الموضع الذي سيذهب إليها.. بدا له المشهد كحفل تنكري أسطوري لا يمت لذروة المجد البشري بصلة.. إنه أقرب لجو ألف ليلة..
ـ هذا حفل سنوي يعقده أثرياء الشريحة ب في قطاع الأساطير.. قطاع الأساطير !.. الحفل هذه المرة على شرف ثري يدعى جعفر..
قال لنفسه : أكيد ستكون هالة هناك.. إنها أقرب لحسناوات ألف ليلة فعلاً.. مؤكد سيلقاها هناك..
وضع كفه على قلبه كي لا يصل صوت دقاته العنيفة إلى أذن القائد فائقة الحساسية.. لكنها حتماً ستصل للوغد الذي يراقبه في قسم الضمير الشرطي.
قال له القائد وهو يصفع أحد الفنيين الآليين على قفاه كي لا يسرح أثناء عملية الصيانة :
ـ إن مهمتك ستكون الاندساس وسط الحفل ولتكن مستعداً للتدخل في أي لحظة لإنقاذ السادة الأثرياء ..
انتهى عمال الصيانة من عملهم فقام بفرد ذراعيه وثنيهما عدة مرات قبل أن يقول بلهجة آلية راضية :
ـ تعرف أنا أشفق على البشر لأن لهم ذراعين فقط.. أنت لم تجرب أن يكون لك أربعة أذرع مثلي..
قال إيهاب منافقا:
ـ هذا قصور بشري لا شك فيه..
حرك القائد رأسه المستدير وأضاءت عينيه كناية عن مشاركته نفس الرأي..
ـ إن عملي هنا يتلخص في معالجة قصوركم البشري هذا.. مهمتك تلك ما هي إلا معالجة للقصور البشري الناتج عن رغبة بعض الأثرياء في التخلص من التكنولوجيا والعودة للماضي.. كنت أتمنى أن يقوم بهذه المهمة روبوت من لحمي ودمي.. لكن هذا محال في النطاق النظيف كما هو معلوم.. لذا سنعالج هذا القصور البشري بعنصر بشري..
ثم أردف:
ـ لا تنس أن عقوبة من يدخل للنطاق النظيف بوسائل تقنية حديثة، قد تصل لحد الإعدام على الخازوق النيوتروني ..
قال في توتر وقد قرأ ما بين السطور :
ـ هذا يعني أنني سأعمل بمعزل عن أي دعم خارجي..
قال القائد برنة ألية ساخرة :
ـ طبعاً هذا محال.. ستظل محتفظاً بشرائحك وأسلحتك سراً.. وفي الوقت المناسب لن يلومك أحد لو استعنت بالشيطان نفسه من أجل حمايته من خطر محدق..
ـ والخازوق النيوتروني؟
ـ كل قانون وله استثناءات كما تعرف.. لكن لو انكشف أمرك قبل الأوان، فربما كانت نهايتك على يد رجال جعفر الأشداء أسوأ من الإعدام على الخازوق النيوتروني.. إنهم قوم يبغضون التكنولوجيا كالعمى.
ـ إذا كان لديهم أمنهم الخاص فلم لا يتعاملون هم مع متمردي الحفل؟
قال (س ـ 600) بسخرية ألية:
ـ هؤلاء المجانين يمنعون حتى أمنهم الخاص من استعمال التقنيات الحديثة في عمليات التأمين..
ثم أردف بشراسة مفاجئة:
ـ إنها فرصتنا لنثبت لأثرياء الشريحة ب أن النطاق النظيف ليس نظيفاً كما يدعون.
***

عمرو مصطفى
05-02-2019, 05:20 PM
(4)

" مرحباً بكم في الحفل السنوي بقطاع الأساطير.."
الحفل كان مزيجاً فريداً من رائحة البخور الممتزجة بالشواء والتوابل، الممتزجة بالموسيقى التي تخدر الأعصاب.. وسط حشد من كبير من أثرياء الشريحة ب.. رجال ونساء يرفلون في ثياب حريرية على وسائد من ريش النعام وحولهم الخدم والحشم..
كادت أن تفلت منه شهقة حينما لمح الجواري يطفن على رؤوس الحضور بالكؤوس.. هؤلاء لسن مجرد جواري .. هؤلاء حوريات.. اكتشف في لحظة أنه كان واقعاً في غرام قردة اسمها هالة..
هناك كميات مريعة من الطعام والشراب سيفتك بها حشد من الكروش المنتفخة.. أحد تلك الكروش يخص جعفر حتماً.. لابد أنه أكبرهم كرشاً هنا..
هؤلاء لا يشعرون بالعالم الخارجي.. هم غارقون حتى الآذان في العسل.. مالهم وللعالم الغارق في التلوث والمحاصر بالروبوتات المعصومة..
تحرك بحذر وسط هؤلاء السادة المنعمين وهو يشعر بالدوار.. عليه أن يحترس كي لا يدوس على ذيل أحدهم فتحدث الكارثة.. أخيراً وجد له مكان بجوار أحد الأعمدة الرخامية.. فوقف هناك يرتقب..
للحظات كاد أن ينسى مهمته وسط كل هذا الجو الساحر..
ثم تذكر أن هؤلاء في نطاقهم النظيف قد يتعرضون في أي لحظة لاختراق من المتمردين.. ولن ينقذهم سواه.. هو المواطن من الشريحة جـ الحقيرة سينقذ أثرياء الشريحة ب المرفهين..
ـ أنت!
تسمر في مكانه وقد هرب الدم من عروقه.. التفت ليرى ذلك الرجل النحيل ذو اللحية القصيرة والغديرة التي تنسدل على كتفيه من تحت العمامة.. وثيابه تشبه ثياب البحارة العرب القدامى.. هيئته تشير إلى أنه غير مرفه ولديه قوة شكيمة واضحة كأنه قائد عسكري.. كان ينظر إلي إيهاب في شك..
ـ يخيل إلي أنني أعرفك.
اندفع إيهاب يقول بحماسة :
ـ كيف لا تعرفني.. أنا علاء الدين ..
كان هذا هو التنكر الخاص بإيهاب في هذا الحفل لكن يبدو انه كان غير مقنعاً.. قال الرجل في ملل :
ـ تباً.. لقد قابلت عشرة أشخاص كلهم يتنكرون في شخصية علاء الدين.. وكأنه لا يوجد في عالم ألف ليلة سوى علاء الدين هذا..
سأله إيهاب بفضول:
ـ وأنت ..
هز رأسه في خيلاء قائلاً :
ـ أنا مختلف طبعاً.. إنني وبلا فخر السندباد البحري!
قال إيهاب وهو يمد إليه كفه مصافحاً :
ـ مرحباً يا سيد سندباد .. أعتقد انك ستكون الفائز في هذا الحفل.. صافحه السندباد بتعالي قائلاً:
ـ أنا لم آت هنا للفوز في مسابقة أفضل تنكر يا هذا.
قال إيهاب باسماً :
ـ ولا أنا..
ـ غريبة!
قالها السندباد وهو يعقد ساعديه أمام صدره وعينه تجوب الحفل.. قبل أن يتوقف على مجموعة من الرجال الأشداء يرتدون مثله ثياب بحارة وإن كانوا أكثر شراسة وفوضوية ..
ـ ها هم رجالي..
ثم ترك إيهاب واتجه إليهم صائحاً:
ـ أين كنتم يا حثالة؟
تجاهلهم إيهاب وقرر أن يمارس عمله الذي جاء من أجله.. سيجلس ويراقب..
كان هذا حينما تعالى الهتاف :
ـ وصل السيد جعفر..
خفتت أصوات الصخب المنبعثة دفعة واحدة.. وكأن أحدهم قد ضغط على زر كاتم للصوت.. ورأى إيهاب أعناق المدعوين تشرئب إلى السماء ..
***
كان هناك صوت خفقان أجنحة قوي يأتي من أعلى..
وحينما رفع الجميع أبصراهم ، سرعان علت شهقاتهم..
تمتم إيهاب بذهول :
ـ يا أبناء المجانين!
كان السيد جعفر قد قرر أن يظهر بصورة لا تقل أسطورية عن كل ما حوله.. بل تفوقها بمراحل.. الجواد المجنح أيقونة مهمة في عالم الأساطير، خصوصاً ألف ليلة؛ لذا كان من العار أن يمر حفل كهذا من دون حصان مجنح أو بساط سحري..
أما جعفر نفسه فكان بعكس غالب المدعوين، شديد النحول شديد جحوظ العينين.. كأنه يريد أن يقول لكل من تقع عينه عليه : أنا شرير يا حمقى .. إنه من هؤلاء المفتونين بأدوار الشر لا الخير .. فالخير بالنسبة إليه خلاعة وابتذال.. لذا بدا منظره وهو يركب الجواد المجنح متناقضاً.. الشر المطلق يمتطي الجمال والرقة المطلقة..
ـ ووو..
ـ رائع..
ـ مذهل..
وهتفت إحدى الحسناوات :
ـ هذا هو فتى الأحلام!..
حط الجواد المجنح بين الحضور المنبهر، وترجل من فوقه جعفر وهو يجول ببصره في الجموع بنهم عجيب، كأنه يتغذى على نظرات الافتتان التي تطل من أعينهم..
صاح أحد أصحاب الكروش المنتفخة :
ـ إذن هذه هي مفاجأة الحفل يا سيد جعفر..
لوح الأخير بكفه بخيلاء مشيراً للجواد الذي بدا أشد خيلاء من سيده..
ـ لقد وعدتكم وأوفيت بوعدي..
اقتربت إحدى الفاتنات من الجواد وهي تقول بلهجة حالمة:
ـ هل ستسمح لنا بتجربة هذه التحفة؟
كان إيهاب يحاول التوغل بين الجموع ليرى أقرب.. هل هذا حصان حقيقي أم خداع بصري؟.. أم..
أم خداع تقني؟..
وهل لهذا السبب لا يسمح لأحد هنا باستصحاب أي تقنيات حديثة؟.. كي لا يسهل انكشاف أمر واحد مثل جعفر ..
إذن فجعفر هذا نصاب كبير.. أخ لو كان معه جهاز كشف الروبوتات الأن، لكشف للحضور أنهم يقفون أمام جواد ألي ليس إلا..
ـ هذا الجواد السحري سيختار من بينكم سعيد الحظ الذي سيركبه..
قالها جعفر كأنه مقدم لأحد برامج المسابقات.. علت همهمات الجموع المستغربة فرفع كفه صائحاً :
ـ هدوء يا سادة.. إن الصخب يزعجه.. ربما رفض أن يلمسه أحد غيري..
عض إيهاب شفته السفلى وهمس :
ـ طبعاً يا ابن النصابة!
كان قد اقترب من الجواد جداً لدرجة أنه بدأ يشعر بأنفاسه.. لا يمكن.. إنه يبدو حقيقي أكثر من اللازم.. الروبوتات مهما بلغت دقتها فهي لا تكون لهذه الدرجة من الإتقان.. داعب إيهاب أنفه مفكراً.. ثم لاحت له الفكرة فبرقت عيناه.. نعم ربما كان الجواد حقيقي لكنه تم تزويده بأجنحة ألية مثلاً.. إذن لنقترب من الأجنحة لنفحصها عن قرب و..
هنا رفرف الجواد بجناحيه..
هاج الحضور وتراجعوا إلا إيهاب الذي كان يتجه لفحص الجناح الأيمن حينما فوجئ بلطمة الجناح العاتية ترفعه من أسفل لأعلى بحركة خاطفة أفقدته توازنه.. ووجد نفسه يدور في الهواء دورة رأسية وهو يصرخ صرخة مدوية .. وحينما اكتملت دورته وعاد للهبوط، وجد نفسه مستقراً على ظهر الجواد..
وكان مشهداً مهيباً.. إيهاب فوق صهوة الجواد المجنح يرمق بذهول الجموع المتحلقة من حوله وهي تهلل ..
ـ مرحى .. لقد اختار الجواد فارسه..
الوحيد الذي لم يهلل مع المهللين كان جعفر.. وقف يداعب ذقنه المدبب وهو ينظر لإيهاب نظرة شك واضحة ..
ـ من أنت يا هذا؟..
هز إيهاب كتفيه قائلاً بتلقائية :
ـ أنا علاء الدين..
هتفت الجموع :
ـ هذا هو المختار يا سيد جعفر..
أشار الأخير إلى الجواد وصاح في حنق :
ـ الجواد لم يتحرك بعد لنجزم أنه قد اختاره..
ثم أشار إليه فوق صهوة الجواد صارخاً بحراس الحفل :
ـ انزلوا علاء الدين هذا من فوق جوادي..
هنا وقبل أن يتحرك الحراس لتنفيذ الأمر، فرد الجواد جناحيه وأطلق صهيلاً قوياً، ثم انطلق محلقاً كنسر عملاق في سماء الحفل ..
ـ وووه..
ـ إنه المختار بلا شك..
ونتف جعفر حاجبيه صارخاً في الحرس :
ـ أريد جوادي أيها الحمقى.
ثم التفت إليهم وقد تصلبوا جميعاً :
ـ ما ذا دهاكم؟
هنا أدرك لماذا وقفوا متخشبين.. كان في قفا كل واحد منهم مدفع ألي أما حاملي السلاح انفسهم فلم يكونوا سوى بحارة السندباد ..
وقبل أن يفوه جعفر بكلمة وجد مسدس السندباد نفسه في قفاه هو ، وسمع صوته البارد القاسي يفح في أذنيه :
ـ لقد قدمت عرضك الخاص.. وحان الوقت لتقديم عرض أفضل.
هنا علت صرخات النساء وشهقات الرجال لكن قطعها سيل من الطلقات التحذيرية في الهواء..
وصاح السندباد وهو يدفع جعفر أمامه بمسدسه :
ـ مازال الحفل في أوله.. لا ينبغي أن تستهلكوا طاقتكم في الصراخ هكذا..
هنا حاول بعض رجال الأمن التحرك، فكانت النتيجة أسرع من الخيال وامضى من السيف.. لقد حصدته طلقات البحارة وحصدت معه كل الحراس دفعة واحدة..
و صاح بحار عجوز في السندباد وهو يعيد تلقيم سلاحه:
ـ كان ينبغي أن نتخفف من عبء الحراس منذ البداية..
صاح به السندباد وهو يخطوا فوق جثث الحرس :
ـ معك حق يا جدي.. لكن تذكروا .. لا أريد أن ينتهي الحفل وقد تخففنا من كل هؤلاء السادة الظرفاء.. ما زال لدينا وقت طويل لنساوم النخبة الأممية..
قال جعفر وهو يرمق السندباد بحقد طبقي رهيب :
ـ هل تعرفون عقوبة دخول النطاق النظيف بأسلحة نارية؟
كانت العبارة كافية لينفجر المتمردون كلهم في الضحك..
ثم أن السندباد اقترب بوجهه من جعفر، وهو يمسح الدموع التي سالت من عينه من شدة الضحك..
ـ تقصد الخازوق النيوتروني؟
ابتلع جعفر ريقه ولم يرد.. فالتفت السندباد للجموع الممتقعة وهتف:
ـ الحقيقة أن هذا تناقض لا شك فيه يا سادة الشريحة ب.. من يدخل النطاق النظيف بتقنيات عصرية يعاقب بعقوبة عصرية.. أليس هذا تناقضاً؟
ثم رفع قبضته عالياً وصاح برجاله :
ـ أليس من حقنا أن نطالبكم بخازوق حقيقي من خوازيق الزمن الجميل..
هنا هوى فوقه إيهاب بالجواد المجنح وهو يصيح :
ـ ما رأيك بهذه الوسيلة الأسطورية؟
ولم ينتظر إيهاب ـ الذي نسى الجميع أمره تماماً ـ ليرى مصير قائد المتمردين الذي سحق غالباً تحت أقدام الفرس.. كان يمسك بمسدسين آليين في كل يد ويطلق منهما الرصاص ببزخ من فوق صهوة الجواد المجنح..
صراخ.. عويل.. هرج.. دماء.. وحينما أفرغ أول خزنتين كانت الأرض قد افترشت بجثث المتمردين المتنكرين في ثياب البحارة..
وزحف جعفر من بين الجثث والشظايا مقترباً من إيهاب.. رفع كف مرتجفة إليه وقال بصوت مبحوح:
ـ لقد.. لقد أنقذت حياتنا.. لقد كان الجواد محقاً حينما اختارك.
و ظهرت عبارة تقول " تمت المهمة بنجاح".. ثم ساد الظلام..

***

عمرو مصطفى
05-03-2019, 06:29 PM
(5)

كان (س ـ600 ) منهمكاً في شحن بطارياته التسع باستمتاع حينما تحطم زجاج نافذة مكتبه، وعبرها إيهاب فوق صهوة الجواد المجنح..
ـ إيهاب هل جننت؟
هبط إيهاب من فوق صهوة الجواد، وربت على منخره ثم التفت في برود إلى قائده قائلاً :
ـ لقد أنهيت مهمتي.. وحصلت على ذلك الجواد الأسطوري كمكافأة.
قال (س ـ 600) :
ـ يمكنك أن تحتفظ به للتنزه فيما بعد..
أطلق إيهاب صفيراً مميزاً ففرد الجواد جناحيه وانطلق مغادراً حجرة القيادة من حيث أتى..
ـ هل هناك مهام أخرى؟
ـ هل أوحشتك الإقامة في وحدتك بالشريحة جـ ..
أجاب كاذباً :
ـ جداً.. من الجنون أن يسعى المرء للحياة بعيداً عن تكنولوجيا عصره..
ـ رائع .. لقد صرت فيلسوفاً كذلك.. لكنك لن تعود لوحدتك بهذه السرعة.. مازال لديك مهام أخرى في النطاق النظيف..
ابتهج إيهاب وتجدد الأمل في أن يلقى هالة هذه المرة.. قال له الروبوت القائد بأن مهمته هذه المرة ستكون في القطاع الديني! ..
قال مستغرباً :
ـ هل لدى مواطني الشريحة ب دين؟
ـ إنها أديان يا عزيزي.. كل منهم يمارس دينه كما يحلوا له.. ومهمتك أنت ستكون في كاتدرائية كاثوليكية.. هناك تنظيم سري للمتمردين يجتمع هناك للكيد للنخبة.. عليك أن تصل إليهم وتدمرهم.. لا تنس أن القطاع الديني بالنطاق النظيف أكثر تشدداً من غيره بخصوص التقنيات الحديثة.. خصوصاً الكاثوليك إنهم يعتبرون التكنولوجيا الحديثة ضرب من السحر الأسود ..
وسكت هنيهه قبل أن يردف :
ـ وطبعاً أنت تعرف ما الذي قد يفعلونه بك لو اكتشفوا أمرك..
***
وقف إيهاب يتأمل الصرح الكاثوليكي ذو الطراز القوطي، والذي كان ينقصه لسان من البرق يضرب بين أبراجه ليكتمل فيلم الرعب..
كان يرتدي ثياب تشبه ثياب الرهبان ففهم أنه سيدخل الكاتدرائية بصفة دينية..
" اتبع الرهبان "
لم تكد العبارة تتلاشى حت لمح طابور من الرهبان، يتحرك بالفعل
باتجاه بوابة الكاتدرائية.. انضم إليهم وسار في ركابهم حتى نجح في عبور البوابة..
داخل الكاتدرائية تخلف عن الطابور وتوارى بين الأعمدة.. الآن هو بحاجة لإرشاد أخر..
" فتش عن القبو "
مرة أخرى يتذكر إيهاب حبيبته هالة.. إنه لم يجدها في قطاع الأساطير فهل يجدها هنا في قلب القرون الوسطى..
من يدري ربما وجدها قد صارت راهبة.. هذا أفضل بكل تأكيد من جواري ألف ليلة المائعين..
هبط درجات السلم المؤدية لقبو الكاتدرائية ولم يكد ينتهي عند الباب الخشبي العتيق حتى بدأ يسمع الأصوات الغريبة..
***
وضع أذنه على الباب ليسمع أوضح..
شعر برجفة في أوصاله لا يدري سببها.. هل بسبب تلك الأصوات الرتيبة أم اللغة الغريبة التي يتكلمون بها أم..
وارب الباب قليلاً حتى يبصر ما بالداخل..
هناك مشاعل بالداخل تضفي على المكان جو مثير وخانق.. ماذا يفعلون بالداخل؟
إنهم حتى لم يحكموا غلق الأبواب.. الرجفة تزداد كلما اقترب من المجتمعون بالداخل.. لا تبدو هذه تراتيل صلاة.. هؤلاء المدثرون بالعباءات السوداء والمتحلقين حول ذلك الصنم الغريب ليسوا كاثوليك أصلاً..
وقف إيهاب يراقب المنظر من خلف أحد الأعمدة.. هؤلاء جماعة تمارس طقوس وثنية ما.. نظر بتركيز للصنم وبدأ يحاول التذكر..
كاثوليك ليسوا كذلك.. صنم له رأس جدي.. تراتيل غامضة.. الآن فهم إيهاب من يكونون.. ترى هل يعيد المتمردين إحياء ذلك التنظيم القديم أم.. أم أنهم امتداد له..
إنهم يمارسون هنا نفس الطقوس بحذافيرها.. يسبحون في النهار باسم الصليب وفي الليل يقلبونه ويبصقون عليه ويتقربون إلى رأس صنم يدعى بافوميت..
ما سر تلك الرائحة القذرة التي هلت فجأة؟..
هنا شعر بالملس البارد على صفحة عنقه وسمع من يهمس كأنه لا يريد أن يشوش على المجتمعين:
ـ تحرك معي ولا تصدر أي صوت..
كالعادة يأتي هذا الكشف المهم في اللحظة السوداء التي ينكشف فيها أمره..
قال بصوت مبحوح وهو يندفع تحت حد السيف :
ـ أنا راهب مثلكم..
ـ لقد اكتشفت بنفسك أننا لسنا رهبان ..
ـ دعوني أعتذر.. فقد دفعني الفضول لا أكثر..
ـ وماذا فعل الفضول بالهر..
هنا وجد نفسه وسط حلقة الرهبان المزيفين وفوقه رأس التيس مباشرة والمشاعل تلقى عليها ظلال مريعة.. بسبب هذا المشهد لن يفكر في أكل رأس التيس حتى يموت..
قاموا بتفتيشه واستخراج كل ما معه من أسلحة أمام عينيه..
الآن صاروا متعادلين.. هم ليسوا كاثوليك وهو ليس راهباً كما يدعي..
وتقلصت أحشاء إيهاب وهو يتخيل مصيره.. الكاثوليك كانوا سيحرقونه لو اكتشفوا حقيقته.. ماذا إذن سيفعل به هؤلاء المارقين من الكاثوليكية؟.. بل من النظام العالمي كله؟..
ـ ما هو اسمك الحقيقي يا فتى؟
ـ إيهاب.. الضابط إيهاب لا تنسى هذا جيداً..
ـ إيهاب اسم عربي .. ربما مسلم كذلك..
قال إيهاب بتلقائية حمقاء :
ـ وموحد بالله ..
قال الصوت الذي يصعب تحديد مصدره وسط تلك الحلقة المحدقة به كالسوار بالمعصم..
ـ عربي مسلم بيننا يا رفاق .. إنه يوم تاريخي ..
تعالت الصيحات المنذرة من حوله ففطن إلى مدى حماقته لكن بعد فوات الأوان طبعاً .. عربي مسلم بين جماعة من المتمردين يحيون طقوس فرسان الهيكل القدامى.. لو كان محظوظاً فلسوف يأكلونه حياً كالضباع ..
ـ سيحدد الرأس المقدس مصيرك..
وتعالت الضحكات.. هؤلاء ليسوا مخابيل.. طريقتهم ولهجتهم توحي بالثقة وكذلك توحي بشيء ما شيطاني ..
لماذا يدورون من حوله؟.. سيصيبونه بالدوار حتماً.. لماذا عادو لتلك التراتيل الغريبة والمخيفة؟..
ـ لا.. توقفوا..
هكذا صرخ إيهاب فتوقف الجمع فعلاً لكن ليس من أجله..
صاح أحدهم :
ـ انصتوا للرأس المقدس!.. من الفم للأذن.
وأمام عيني إيهاب الذاهلة بدأ رأس التيس يهتز.. الفم المدبب يتحرك.. وهناك صوت قادم من حفرة من حفر جهنم يتردد بلغة شيطانية ما.. أكيد هي اللاتينية.
هلل الجمع في حبور فيبدو أن ما قاله الرأس أعجبهم.. يبدو أنه أمرهم بذبحه وأكله..
ـ ستنال تحية البركة..
ـ تا.. تحية ماذا؟
مال عليه أحدهم وهمس في أذنه بنبرة ساخرة:
ـ إننا نمارس هنا كل طقوس الفرسان الأوائل، والتي اعترف بها بعضهم فعلاً.. نبصق على الصليب ونحتقر المسيح ونعبد رأس بافوميت.. ونمارس الشذوذ.. وهو ما نطلق عليه مجازاً تحية البركة..
وتعالت الضحكات الشيطانية المجلجلة من حول إيهاب، الذي صرخ بكل ما يعتمل في نفسه من رعب وغيظ وتقزز :
ـ اللعنة عليك يا (س-600) ..

***

سيرين
05-03-2019, 08:56 PM
تمهيد يقبض على خيوط الاحداث بإتقان لم نعهده إلا من أكبر كتاب الروايات
تبارك الله .. كما لو أقرأ سيناريو بدقة تفاصيل الحوار والحركة المسموعة والمرئية
حد لم يغفل ادقها تحت مظلة السلاسة والتشويق لفكرة نعايشها لتلك الجماعات التدميرية
المكان والشخوص وملابسهم دلالات تزيد من صدق واقعية الرواية
لي عودة سريعة لقراءة باقي الاجزاء .........
سلمت يمناك كاتبنا المبدع \ عمرو مصطفى
مودتي والياسمين

\..

عمرو مصطفى
05-04-2019, 10:44 AM
تمهيد يقبض على خيوط الاحداث بإتقان لم نعهده إلا من أكبر كتاب الروايات
تبارك الله .. كما لو أقرأ سيناريو بدقة تفاصيل الحوار والحركة المسموعة والمرئية
حد لم يغفل ادقها تحت مظلة السلاسة والتشويق لفكرة نعايشها لتلك الجماعات التدميرية
المكان والشخوص وملابسهم دلالات تزيد من صدق واقعية الرواية
لي عودة سريعة لقراءة باقي الاجزاء .........
سلمت يمناك كاتبنا المبدع \ عمرو مصطفى
مودتي والياسمين

\..

أكرمكم الله أستاذة سيرين، وجزاكم خيراً على تشجيعكم للعبد الفقير..
التمهيد هزلي بعض الشيء.. مجموعة من الشباب العابث لا أكثر.. لكن ماذا لو انقلب الهزل جداً.. والفكرة صارت واقعاً ملموساً..
كيف سيكون شكل العالم.. وأين سنكون نحن.. هل سنصير جزء منه ندور في فلكه.. أم نتمرد عليه.. أم نتغرب في الصحاري والقفار..
يبدو أنني قد حرقت أحداث الرواية..

عمرو مصطفى
05-04-2019, 08:14 PM
(6)

لم يتصور إيهاب يوماً أنه سيتعرض لموقف كهذا.. ولا في أسوأ كوابيسه حالكة السواد..
أكيد (س-600) ينتقم منه شر انتقام..
لكن رب ضرة نافعة.. فقد جعله هذا يصاب بسعار حيواني.. سيأكل حنجرة أول وغد يفكر في الاقتراب منه.. صحيح انه فقد كل أسلحته الحديثة لكن من قال انه سيستسلم لهذا المصير المشين؟
رآهم يتخففون من ثيابهم ويريحون أسيافهم على الأرض فازداد جنونه.. وبدون تفكير وثب على أقرب قراب منه، وبمجمع قبضتيه سل منه السيف بالغ الثقل..
ـ سأفصل رأس من يقترب مني عن جسده..
تبادلوا النظرات ثم انفجروا في الضحك الشيطاني إياه..
إنهم لا يبالون به.. الأمر يبدو لهم أقرب إلى رجفة ذبابة تحتضر.. ربما جرح واحد أو اثنين ثم.. لا وقت للمجازفة إذن .. لابد أن يحدد هدف واحد ويوجه له ضربة واحدة ..
وبدون تردد دار على عقبيه وهوى بالسيف على رأس بافوميت نفسه..
هنا انفتحت أبواب الجحيم..
دخان أزرق كثيف تصاعد من مكان الرأس المبتور مع صوت خوار حيواني امتزج بصرخات الفرسان الذين روعهم المشهد.. رأس صنم يتكلم ويطلق خوار ثور ذبيح حينما تبتر رأسه، ويتصاعد من موضع البتر دخان أزرق .. هذا سحر أسود لا شك فيه.. الحقيقة التي اكتشفها من خلال تجربتين في النطاق النظيف، أنه لا يوجد نطاق نظيف في هذا العالم، أنت محصور إما بين جنون التكنولوجيا الحديثة وملوثاتها، أو هوس العودة للماضي المظلم بكل وثنيته ودجله وسحره ..
حينما نظر إيهاب للفرسان أدرك فداحة الأمر بالنسبة إليهم .. إنهم ينتفضون.. يتشنجون.. ينتفون شعورهم كالثكالى، ويتمرغون في الأرض.. ترى ما هي العقوبة الجهنمية التي تليق به بعد ما فعل؟
لم ينتظر ليفكر.. كان عليه استغلال الدخان الكثيف وحالة الجنون التي انتابت فرسان الهيكل كي..
كي يسترد أسلحته التي سلبوها منه وكوموها في جانب.. كي يستدير إليهم بكل مقت وتقزز.. كي ينظر لهم نظرة الوداع وهو يضغط على زناد سلاحه الألي..
كي يراهم وهم يتساقطون كالذباب تحت قدميه..
ـ موتوا.. موتوا..
ووقف ينتفض والدخان يتصاعد من فوهة سلاحه بانتظار رسالة من القيادة تعلمه بنجاح المهمة..
" أيها الشرطي.. خطر المتمردين لم ينتهي بعد.. لقم سلاحك وكن على حذر.."
ـ تباً..
قالها وهو يلقم سلاحه وعينه تجوب المكان من حوله.. لا شيء سوى جثث.. ورأس تيس مقطوع.. و..
هنا بدأ يلاحظ..
رأس التيس المقطوعة ليست على ما يرام.. هناك شيء يبرز بالتدريج من عند العنق.. بل أشياء.. وبدون تفكير صوب ناحية الرأس قبل أن يستكمل نموه الغريب وأطلق النار..
لكن الرأس لم ينتظره.. سرعان ما تحرك على ما يشبه الأقدام متوارياً خلف أحد الأعمدة..
" دمر رأس الشر"
أنه لا يحب المفاجئات في العمل.. لكن ليس لديه حل أخر حتى يخرج من هنا سالماً.. تقدم من العمود الذي توارى خلفه الرأس وقلبه ينبض بعنف.. ثم دار بحذر من حوله وهو يكتم أنفاسه وأصبعه السبابة يداعب الزناد..
هنا شعر أن الدنيا قد أظلمت فجأة أمامه فتراجع تلقائياً وهو يصيح في فزع..
الخوار المريع يصم أذنيه والمشهد الأبشع يذهل عقله عن الاستيعاب. لقد نبت للرأس جسد ضخم له فراء كفراء الدب.. لقد عاد للحياة كالعنقاء لينتقم.. الوثبة الهائلة التي قطعها المسخ كانت لا تتناسب مع حجمه الهائل.. وسرعان ما كان يجثم فوق أنفاس إيهاب..
دوت عدة طلقات مكتومة بعدها طار المسخ من فوق إيهاب وهو يطلق خواراً متألماً.. ونهض الاخير من تحته وهو يعب الهواء عباً..
إنه لا يموت.. سرعان ما يعاود الهجوم بضراوة أشد.. لكن لاحظ إيهاب أن حجمة قد قل عن ذي قبل..
وقفز إيهاب جانباً متفادياً الوثبة العارمة وهو يطلق الرصاص..
إن مؤشر صحة إيهاب يتضاءل.. لقد أصيب من جراء هجوم ذلك الكيان المريع، لكنه في المقابل يفقد المزيد من حجمه وقوته..
لا بأس أنت تقترب يا إيهاب.. أخيراً صار المسخ يزحف وهو يجر أطرافه الأربع.. بدا حجمه أقرب للجدي الحقيقي.. فقرر إيهاب أن يوفر طلقاته ويتعامل معه على أنه مجرد جدي ضال..
انتزع مديته ووثب فوقه فاطلق الرأس ثغاء أقرب للبكاء.. بسرعة مرر المدية من تحت الذقن المدبب ولم يتوقف حتى انتزع الرأس كاملة.. حينما رفعها عالياً اكتشف أن جسد المسخ تحول إلى بقعة سوداء بلا معالم.. شعر إيهاب بأنه يقف في بركة وحل ..
" دمر رأس الشر"
فهم الرسالة هذه المرة.. لن يكرر خطأه.. أخرج قنبلة يدوية ونزع صمامها، ثم حشرها في فم التيس ورماها بعيداً..
لم يكد يدوي الانفجار حتى ظهرت له عبارة " تمت المهمة بنجاح "
و ساد الظلام..
***
تأمل (س-600) التقرير الرقمي الذي قدمه له إيهاب فور عودته إلى الوحدة وبدا راضياً من إضاءته البنفسجية..
ـ ممتاز يا إيهاب.. لكن لماذا ترغب في طلب نقل من وحدتك؟
قال إيهاب وهو يتذكر رحلته المرة من النطاق المشئوم حتى وصل إلى هنا بثياب الرهبان :
ـ لقد تعبت..
قال (س – 600) بلهجة استخفاف معدنية :
ـ هذه طبيعة عمل الشرطة في أي وحدة أخرى..
كان يتمنى لو صارحه بأن هذه طبيعة من يعمل مع روبوت مثله، لكنه آثر السلامة قائلاً :
ـ أريد أن أعود للأعمال المكتبية..
ـ خسارة.. أنت ضابط ممتاز..
ـ مهمتي الأخيرة كانت مباراة اعتزال..
ـ حسناً.. سأقبل طلب نقلك لكن بشرط.. أن تقبل مهمة أخيرة.. مهمة أخيرة من أجلي..
***

عمرو مصطفى
05-05-2019, 06:11 PM
(7)

ركب إيهاب حوامة الشرطة وهو يسب ويلعن..
هذه المرة ستكون مهمتك مختلفة.. لن تسعى خلف المتمردين في قلب النطاق النظيف.. بل ستذهب لتتسلم أحدهم من على مشارف غابات القطاع البري.. وتعود به سالماً إلى الوحدة..
لم ير إيهاب غابات حقيقية من قبل هذه المهمة.. ولم يتخيل أن يكون هناك بشر أثرياء أسوياء قد قرروا ترك العمران والحياة على الطريقة البرية .. لكن مازال النطاق النظيف يتحفه كل يوم بمفاجأة..
هبطت الحوامة بالقرب من مجرى مائي صغير ينطلق كالأفعى بين الأشجار صاعداً إلى أعلى.. في بقعة خالية من الأشجار حيث وقف بالأسفل مجموعة من الرجال والنساء يرتدون أسمالاً بالية ، وأحدهم تم تقييده بحبال غليظة من ليف.. وكان فمه مكمماً بخرقة ربما كانت كم قميص مزقه أحدهم ليصلح ككمامة..
هبط إيهاب وبدأ تعارف سريع بينه وبينهم.. هؤلاء مجموعة من الأثرياء المعاتيه يعيشون هنا في البرية على طريقة الإنسان البدائي الأول.. لكنهم لم ينسوا واجبهم تجاه النظام العالمي الذي سمح لهم بهذا، فقاموا بالقبض على ذلك المتمرد المكبل وجاءوا به هنا لتسليمه..
تفرس إيهاب في وجوه النسوة فلم يعثر على وجه هالة للأسف..
قال له أحدهم وهو يركل المتمرد :
ـ إنه خطر جداً.. كان القبض عليه أصعب عملية صيد واجهناها..
رمق إيهاب الرجل المكبل.. كان يرتدي نفس الأسمال من باب التنكر طبعاً، في عينيه نظرة خاملة تقول أنه قد خسر كل شيء ولم يعد لديه ما يخشى عليه..
قال إيهاب :
ـ لننهي إجراءات التسليم سريعاً..
قال أحدهم وهو يلوح برمح في يده :
ـ بلغ تحياتنا للسيد (س-600)..
تساءل وهو يضغط على أسنانه :
ـ أتعرفونه؟
ردت إحدى النساء وهي تهرش تحت إبطها كالقردة :
ـ إنه من ألطف الروبوتات..
حرك إيهاب فكه يمنة ويسرة وهو يرمقها بعين لا تطرف..
ـ تخيلي يا سيدتي هذا هو رأينا كلنا في وحدة مكافحة التمرد..
الوغد الألي يجامل هؤلاء على حساب راحته.. لكن لا بأس.. ستكون هذه أخر مهمة له مع ذلك الأخطبوط المعدني القبيح..
ساعدوه على حمل المتمرد إلى الحوامة التي تدار ألياً، ثم وقف إيهاب يلوح بكفه متمنياً لهم أن يصادفوا فيلاً غاضباً يسحق عظامهم جميعاً..
أقلعت الحوامة وبدأ إيهاب في حل قيود المتمرد ليستبدلها بقيود الشرطة المصنوعة من الألياف المرنة..
ـ معي تصريح بقتلك عند أي بادرة سوء..
قالها للمتمرد محذراً.. فرمقه الأخير بنظرة خاوية ولم يرد طبعاً بسبب الكمامة التي ظلت على فمه.. فقط تركه يحل قيوده بلا أدنى مقاومة.. لم يكن هناك غيرهما بالحوامة التي تدار آلياً بواسطة عقل إلكتروني لذا لم يستغرق الأمر سوى دفعة قوية وخاطفة، وجد إيهاب نفسه يطير ليرتطم رأسه بجدار الحوامة.. وحينما أفاق من الدوار والمفاجأة، ونهض مستلاً سلاحه، جحظت عيناه وهو يرى المتمرد يعبث بأزرار الحوامة بطريقة سريعة وخاطفة و.. ومحترفة..
ـ توقف وإلا..
التفت إليه المتمرد بسرعة ورفع كفيه مستسلماً وهو يقول بابتسامة بريئة وقد تخلص من الكمامة التي أخرسوه بها:
ـ لا بأس.. لقد انتهيت..
صرخ فيه إيهاب:
ـ ماذا فعلت أيها التعس؟
هز كتفيه قائلاً :
ـ لقد غيرت مسار الرحلة.. سنخترق النطاق النظيف بحوامة ألية.. هذه جريمة في عرف النظام العالمي عقوبتها تصل للإعدام على الخازوق النيوتروني كما تعلم..
***
إيهاب لم يكن يفقه شيئاً في كيفية التعامل مع الحوامات التي تدار ألياً..
فقط هو يركبها وهي التي توصله للمكان الذي تمت برمجتها عليه.. الآن يدفع ثمن جهله في مواجهة ذلك الموقف الصعب..
قال له المتمرد باسماً :
ـ حتى لو قتلتني فلن تستفيد شيئاً.. أنت تعرف عقوبة خرق النطاق المحظور بشريحة ذكية فما بالك بحوامة شرطة..
قال إيهاب وهو يجذب إبرة إطلاق النار:
ـ أنت تثير حماستي فعلاً..
أشار له المتمرد بسبابته قائلاً :
ـ لكن لو أبقيت على حياتي فربما أخرجتك من هذا الموقف الحرج مثل الشعرة من العجين..
ـ تريد مساومتي؟
ـ أكيد!
هنا سمع إيهاب صيحة القائد الألي الباردة تنذرهم بأنهم يخترقون النطاق المحظور لقطاع الحياة البرية.. نظر للمتمرد في رعب وقال :
ـ ماذا تريد بالضبط؟
فرك المتمرد كفيه ومط شفتيه قائلاً :
ـ الانتقام!
لم يفهم إيهاب في البداية لكنه استدرك :
ـ تنتقم من النخبة طبعاً.. هذا هو هدف كل متمرد..
هز الرجل رأسه كأنما يخاطب طفلاً..
ـ أنت كأغلب شريحتك لا تجيدون سوى دور الببغاء.. يردد كل ما يتلى على مسامعه بدون إعمال للعقل..
لوح إيهاب بالسلاح في وجهه وهو يقول بسخرية لا تخلوا من رنة سخط:
ـ مرحى .. لأول مرة أقابل متمرد من شريحة راقية..
ـ لا يوجد متمردين هنا أيها المغفل الكبير.. نحن مجموعة من أثرياء الشريحة ب جئنا إلى قطاع الحياة البرية للاستمتاع بالحياة على طريقة الإنسان الأول..
ضحك إيهاب بافتعال، وهتف متجاهلاً إنذارات القائد الألي المتكررة والمستفزة :
ـ خدعتك تلك لا تنطلي على طفل صغير..
واصل الرجل كأنه لم يسمعه :
ـ كنا نجري مسابقة في الصيد رصدنا لها مكافأة من الذهب الخالص.. وكنت على وشك الفوز لولا الغش في اللعب..
بدأ إيهاب يتوتر.. ما معنى هذا كله؟..
ـ لقد دبروا لي تلك المكيدة.. لا أدري هل رؤسائك في الشرطة مشتركون فيها أم لا، لكن أقسم بشرف عائلتي أن يدفع كل من تورط في هذه العملية القذرة الثمن غالياً ..
قال إيهاب بجزع :
ـ يعني.. لا يوجد متمردين؟!..
قهقه الرجل قائلاً:
ـ المتمردون أسطورة اخترعتها عقلية النخبة الأممية للسيطرة على العامة..
ـ لكنني واجهت العشرات منهم بنفسي..
قال الرجل بسخرية لاذعة :
ـ هل اطلعت على أرواقهم الثبوتية.. قالوا لك أقتل الحثالة فقتلت بلا وعي.. الحقيقة انه لا يجرؤ أحد على التمرد الحقيقي في هذا العالم.
ـ لكنني شاركت بنفسي في مواجهة تمرد الآلات الكبير..
ـ بالضبط.. لا يوجد بشر متمردين.. لأنهم لا يستطيعون ذلك أصلاً في ظل قبضة النظام العالمي المحكمة.. أما تمرد الآلات المزعوم فقد يحدث هذا فعلاً، من قبيل الخلاف العائلي..
حك إيهاب قذاله بكعب مسدسه وقال في غباء:
ـ لا أفهم..
ـ النخبة التي تحكم العالم، ما هي إلا آلات فائقة الذكاء..
شعر إيهاب كأنه تلقى لطمة عاتية على وجهه.. الحقائق أحياناً تؤدي نفس عمل الصفعات المؤلمة، حتى أنه تخيل وجهه الآن أحمراً كالطماطم ..
ثم شيئاً فشيئاً بدأ يسترجع ذكريات قريبة.. بعد تمرد الآلات الشهير عاد ليجد روبوت متربع على وحدة مكافحة التمرد.. نفوذ الروبوتات المريب استمر رغم حادثة التمرد إياها.. لكن لابد أن القيادة ترى وتسمع هذا الحوار الآن.. أن كل نفس يتنفسه يصلهم عبر شرائحه الذكية..
ما معنى هذا كله؟..
في تلك اللحظة كانت الحوامة تهبط بسلاسة إلى المكان الذي حدده لها الرجل الغريب في قلب غابات القطاع البري..
قال الغريب لإيهاب وهما يغادران الحوامة كصديقين:
ـ إنه النظام العالمي الجديد يا فتى.. صفقة عقدت منذ عقود بين أغنياء العالم المتنفذين والآلات الذكية.. ستعمل الآلات على إدارة العالم وإحكام السيطرة على البشر من الشريحة جـ .. وينعم الأغنياء من الشريحة ب بالثروات في النطاق النظيف بعيداً عن التكنولوجيا.. أما حادثة التمرد إياها فكانت خلاف عائلي بين الروبوتات وبعضها البعض.. أو سمه خطأ تقني تم تداركه بمعرفة الإدارة الألية نفسها.. وانتهى الأمر..
تساءل إيهاب بصوت كالبكاء :
ـ ومشاهد إعدام المتمردين اليومية على الخوازيق النيوترونية؟
ـ كلها جزء من العوالم الافتراضية التي تقنع بها شريحتك البائسة..
ـ و.. وهيدز؟!
ـ هيدز الحقيقية ليست تلك التي كنت تشاهدها عبر الشاشات، هيدز الحقيقية هي كل ما حولك، العالم كله هيدز ..
كان إيهاب في أسوأ حال ممكن.. لا يمكنه تصديق الرجل وفي نفس الوقت لا يستطيع تجاهل عشرات الأسئلة التي تنهش رأسه، ولا يجد لها إجابة إلا من خلال تصديق نفس الرجل.. هنا تنبه لنقطة مهمة فهتف كمن وجد قشة في خضم الغرق :
ـ لكن لحظة.. لماذا تخبرني بكل هذه الحقائق التي ينبغي إخفائها عن أمثالي؟
هنا شاعت ابتسامة ماكرة على وجه الرجل..
ـ هذا هو الذكاء الذي يأتي متأخراً جداً.. الإجابة ببساطة هو أنك لن تعيش يا مسكين بعد كل ما سمعت..
لم يكد يقولها حتى رأى إيهاب عشرات الرماح تحاصره من كل جانب، ووراء كل رمح وجه إنسان بدائي ملطخ بالأصباغ التي تثير الرعب في القلوب..
وسمع الرجل يكمل وهو يتمطى متنفساً هواء البرية :
ـ هؤلاء أصدقائي من السكان الأصليين هنا.. ويؤسفني أن أقول لك أنهم لن يتركوك تخرج من هنا قطعة واحدة.. لديهم طقس وثني لا يكتمل من غير أضحية بشرية كما هو معلوم.. لا أنصحك باستعمال سلاحك لأنه سيزيد من مأساتك..
هكذا إذن..
لقد فهم إيهاب أخيراً حقيقة اللعبة التي أقحم فيها.. لعبة الأثرياء من الشريحة ب التي أتت به إلى هنا.. واللعبة الأكبر التي يدار من خلالها العالم..
إنه الآن في قمة الرضا عن النفس.. صحيح أنه لن يلتق بهالة أبداً في هذه الحياة، لكنه على الأقل لن يموت حماراً!
" فشلت المهمة "
ظلام
***


(8)
نزع إيهاب العصابة السوداء عن عينيه وأدار بصره فيما حوله..
هذه وحدته الشخصية في عالم الواقع.. خيوط العناكب تحاصره من كل جانب .. حتى بدا كذبابة وقعت في شباك عنكبوت..
لقد كفت روبوتات التطهير عن زيارته منذ.. منذ.. وما قيمة الزمن..؟ لم يعد للزمن قيمة لديه منذ.. منذ..
" أنت تحيا في ذروة المجد البشري "
شعار النظام العالمي لم تطمس معالمه خيوط العناكب بعد..
حسناً إنه فقط بحاجة لكوب من الديسكافيه بسرعة.. طاشت يده في المطبخ وأسقط عشرات الأطباق والملاعق التي علاها التراب، إلى أن اكتشف في النهاية أن وحدته خالية من الديسكافيه..
هل يبحث عند صديقه وجاره باسم؟
ذلك الوغد المختفي.. ترى ماذا يفعل الآن وفي أي العوالم يسرح؟
طرق على وحدته حتى أيقظ جميع الجيران في إلوسيوم.. ولما تأكد أن باسم قد غادر أو مات، قرر أن يغادر المجمع وهو يترنح كالسكارى متوجهاً لأقرب مطفح..
كل هذه أعراض طبيعية لمن أدمنوا العوالم الافتراضية.. شيئاً فشيئاً تعود له ذكرياته الحقيقية لا تلك التي حشرتها اللعبة الافتراضية في رأسه.
بالخارج اكتشف أن الوقت ليلاً.. إضاءة الشارع خافتة، لكن رائحة الأسلاك المنصهرة، التي تميز مقاطعات الشريحة جـ الملوثة تنعش ذاكرته أكثر..
إيهاب أنت شرطي سابق تم الاستغناء عن خدماته منذ عدة سنوات.. هناك روبوت وسيم قد حل محلك هناك .. أما أنت فقد صرت تعمل في تجارة الروبوتات الخردة.. إنها تدر عليك ربح يسمح لك بالغياب في العوالم الافتراضية الممتعة وقت الفراغ.. تلك العوالم التي تسمح لك بلعب دور الشرطي الذي خسرته للأبد في الواقع..
مع الوقت يصاب مدمني هذه العوالم باختلال وعدم اتزان عقلي.. ويصير يتعامل مع الواقع على أنه خيال افتراضي والعكس بالعكس.
هل وصل إيهاب لهذه المرحلة؟
مازال قادراً على تذكر بعض المعلومات الحقيقية عن نفسه.. لكن البعض الأخر صار يختلط عليه.. هل هو حقيقي أم افتراضي؟
بعض ذكرياته الحقيقية تقتحم عليه العوالم الافتراضية ، فيحدث الخلط بين ما هو حقيقي وافتراضي..
ويظل يسأل نفسه : هل أنت في الواقع أم في عالم افتراضي ؟.. هل الطعام الذي تأكله ، والفضلات التي تخرجها حقيقية؟ .. أم هي أيضاً جزء من العوالم الافتراضية..
من أدراه أنه عاد الآن لواقعه الحقيقي؟.. لعله مازال يسبح هناك في العوالم الافتراضية ولم يخرج منها بعد..
هذا مجرد عالم افتراضي أخر، سيستيقظ منه بعد أن تنتهي صلاحية اللعب.. هذا كله مجرد جزء من لعبة..
إذن عليه أن يستمتع بذلك العالم، ولا يضيع وقته وماله في أسئلة سخيفة عما هو حقيقي وزائف.. وما جدوى البحث عن ذلك أصلاً؟ أنت ربما لم توجد أصلاً في هذا العالم.. ربما أنت مجرد شخص افتراضي يحلم به أحدهم الآن.
إيهاب أنت لم توجد..
هي العدمية إذن..
نعم هي العدمية.. هؤلاء المارة مكتئبي الوجوه، وهذا الشارع البارد، وهذه الأبنية المعدنية، والأضواء الواهنة، ورائحة الأسلاك المنصهرة.. كلها أشياء ليست حقيقية..
وحتى خيط اللعاب الذي بدأ يسيل من فمك على صدرك ليس حقيقياً..
***


نهاية الجزء الأول
ويليه الجزء الثاني (المتمرد ) إن شاء الله بعد شهر رمضان المبارك.

نادرة عبدالحي
06-12-2019, 11:08 PM
الكاتب يُبين القدرة أساسية لأي مفهوم حقيقي او غير حقيقي لأن المرء يجب أن يكون قادرًا على

التفكير بأنه يراعي ظروف الناس المضرورين في المجتمع،


السرد هنا أكثر تأثيرًا على القارئ في الانتقال والإقناع من أي بحث يقوم به القارئ للحصول على

المعلومات عن جماعة ما، أو عن شخصية مُعينة يحدث التأثير بسبب قدرة السرد على تحريك مشاعر

المشاركة مع الأشخاص الذين لا نعرف اطوارهم ، ولسنا مطلعين على مفاهيم تفكيرهم ،

وربما كان هذا الخيال المحول واقعا اكثر إسعافا في فهم العالم من الملموس الحي ذاته “.

كما يختصر الكاتب صراع الشخصيات داخل وضع عام يكون إما ضد وسط اجتماعي أو قدر أو ظرف

سياسي سائد يضفي على القصة تكثيفا أكثر . وتشويقا لمواصلة الأحداث الباقية،

القَصص الخيالية تجدها ممتعة للغاية، فهي قادر ة على تحسين فهمنا للآخرين


ولأنفسنا، أما بالنسبة كيف تجدها قادره على أن نفهم أنفسنا بمعنى نكتشف أنستطيع

تقبل أفكار ومعتقدات البقية بمعنى نكتشف هل بوسعنا الإنضمام ، او محاربة هذه المعتقدات

او الوقوف جانبا وكأن الأمر لا يؤثر على المجتمع الذي نعيش فيه والعالم أجمع ،

فإن هذا التشخيص لذاتنا من شأنه تأكيد قيمته التي تتخطَّى مجرَّد الاستمتاع.

وتشير نتائجنا البحثية إلى أن أهم الخصائص المميِّزة للقصة الخيالية هي محتواه الذي يكون مكتنز

بالأحداث الغريبة والخطط والأساليب الغير مقبولة على المجتمع ،

الذي لا يتقبل الجماعات التي تتخذ لها معتقدات تؤمن بها والشخصيات الغريبة الأطور ،

ما يؤمن به الافراد او الجماعات هي أمور لا يسهل فهمها على نحو مباشر. ومن جهة أخرى تُناقِض

نتائجنا البحثية فكرة يتبناها العديد . ولكن المحيط لا يسمح لهم بالإنخراط بسهولة ،

وفي نهاية حديثي هذا لا يسعني إلا أن أثني على مجهودكَ وإبداعكَ المختلف في ظل

الأدب الذي يكرر نفسه ، يعطيك الف عافية ودمت دائما نجما مبدعا ،

عمرو مصطفى
06-15-2019, 09:52 AM
الكاتب يُبين القدرة أساسية لأي مفهوم حقيقي او غير حقيقي لأن المرء يجب أن يكون قادرًا على

التفكير بأنه يراعي ظروف الناس المضرورين في المجتمع،


السرد هنا أكثر تأثيرًا على القارئ في الانتقال والإقناع من أي بحث يقوم به القارئ للحصول على

المعلومات عن جماعة ما، أو عن شخصية مُعينة يحدث التأثير بسبب قدرة السرد على تحريك مشاعر

المشاركة مع الأشخاص الذين لا نعرف اطوارهم ، ولسنا مطلعين على مفاهيم تفكيرهم ،

وربما كان هذا الخيال المحول واقعا اكثر إسعافا في فهم العالم من الملموس الحي ذاته “.

كما يختصر الكاتب صراع الشخصيات داخل وضع عام يكون إما ضد وسط اجتماعي أو قدر أو ظرف

سياسي سائد يضفي على القصة تكثيفا أكثر . وتشويقا لمواصلة الأحداث الباقية،

القَصص الخيالية تجدها ممتعة للغاية، فهي قادر ة على تحسين فهمنا للآخرين


ولأنفسنا، أما بالنسبة كيف تجدها قادره على أن نفهم أنفسنا بمعنى نكتشف أنستطيع

تقبل أفكار ومعتقدات البقية بمعنى نكتشف هل بوسعنا الإنضمام ، او محاربة هذه المعتقدات

او الوقوف جانبا وكأن الأمر لا يؤثر على المجتمع الذي نعيش فيه والعالم أجمع ،

فإن هذا التشخيص لذاتنا من شأنه تأكيد قيمته التي تتخطَّى مجرَّد الاستمتاع.

وتشير نتائجنا البحثية إلى أن أهم الخصائص المميِّزة للقصة الخيالية هي محتواه الذي يكون مكتنز

بالأحداث الغريبة والخطط والأساليب الغير مقبولة على المجتمع ،

الذي لا يتقبل الجماعات التي تتخذ لها معتقدات تؤمن بها والشخصيات الغريبة الأطور ،

ما يؤمن به الافراد او الجماعات هي أمور لا يسهل فهمها على نحو مباشر. ومن جهة أخرى تُناقِض

نتائجنا البحثية فكرة يتبناها العديد . ولكن المحيط لا يسمح لهم بالإنخراط بسهولة ،

وفي نهاية حديثي هذا لا يسعني إلا أن أثني على مجهودكَ وإبداعكَ المختلف في ظل

الأدب الذي يكرر نفسه ، يعطيك الف عافية ودمت دائما نجما مبدعا ،

ربما أفكر في جمع مشاركاتكم تلك، على المدى البعيد .. فمن يدري ربما أصبح لدي يوماً ما كتاب قيم في فن النقد
من تأليفكم..
أستاذة نادرة لا حرمنا الله من مقالاتكم الماتعة..

عمرو مصطفى
06-17-2019, 05:25 PM
المتمرد

(1)

كتب باسم على الجدار :
( الاكتئاب في ذروة المجد البشري..)
ما حدث لصديقه وجاره إيهاب كان درساً قاسياً له ولغيره.. لقد زاره في وحدة مجانين إلوسيوم، ورأى بعينيه ما صار إليه.. صحيح أن الأطباء يقولون أنه يعاني من صدمة مؤقته، وأنه قد يعود لحياته الطبيعية من جديد. لكن باسم كان قد اتخذ قراره النهائي.. لابد أن يتوقف عن ارتياد العوالم الافتراضية التي تدفع الناس للجنون ببطء..
كان ينبغي عليه أن يكف يوم أن طلق زوجته ليلى في إحدى تلك العوالم..
المشادة جرت بينهما داخل لعبة ( الزومبي يجتاح المدينة ).. والسبب كان الخلاف على طريقة اللعب.. اللعبة زوجية وتقتضي اللعب بروح الفريق وإلا فتك بهما الزومبي الحانق.. لكن الأمور تطورت بينهما وحدث ما حدث..
لكن هل طلقها فعلاً بسبب تلك المشادة؟ أم لأنها فشلت في منحه الطفلة التي كان يتمناها.. كان بعكس غالب الرجال الذين يتمنون إنجاب الذكور ويتعبون معهم زوجاتهم.. لكن هذا لم يشفع له لدى زوجته.. لم تعطيه الطفلة التي تمناها من الدنيا .. ولم تكن ممن يتحلون بالروح الرياضية في اللعب كذلك!
الزواج في ذلك الزمن يحتاج شجاعة غير عادية.. إنه كزواج اليعاسيب.. تعرف أنك ستموت مبكراً جداً بالسلالي، فيكون قرار زواجك معناه أنك تريد أن تفعل شيئاً ما قبل أن تموت.. على الأقل ستجد من يدفنك.. والطلاق قبل الإنجاب معناه أنك غالباً ستموت وحدك كالكلب..
ثم حدثت واقعة صديقه إيهاب، فدق جرس الإنذار في عقل باسم وقرر أن يقلع عن ارتياد العوالم الافتراضية للأبد..
لكن فائدة العوالم الافتراضية أنها تنسيك واقعك الكئيب.. ومعنى أن تقلع عن ارتيادها أنك ستصاب بالاكتئاب.. إذن أنت مخير بين اختيارين إما الاكتئاب أو الجنون.. وهكذا فضل الاكتئاب فصار ملفه في العمل يحتوي على الكثير من الدوائر الحمراء المشعة، والتي كلما ازدادت كلما ازدادت احتمالات طرده من العمل..
من قال أن الاكتئاب لن يصل بك لحد تلف الأعصاب والجنون.. كل شيء في هذا العالم يقود للجنون في النهاية..
لهذا تلفت أعصاب باسم وصار كالقنبلة التي تنتظر الأحمق الذي سينزع فتيلها..

***

كان يعرف أن بقائه حياً مرهون بالوقت الذي سيستغرقه فحص حالته شرائحه في وحدة مكافحة التمرد. هل هي حالة تمرد أم جنون؟
وكان باسم ينتظر.. يخط على الجدار عبارات تسخر من النظام العالمي الجديد، ثم يستلقي على ظهره وينظر لسقف وحدته.. أحلام اليقظة هذه لا تتركه وشأنه .. حلم الفرار من ذروة المجد البشري..
صحراء ممتدة بلا نهاية .. سماء صافية مرصعة بالنجوم .. وهدوء .. أهم شيء الهدوء ..
ويستيقظ من صحرائه على صوت أزيز شرائحه الذكية الجائعة.
لكن مهلاً هذا الأزيز يبدو أكثر حدة هذه المرة.. كما أنه قد بدأ يتشنج.. أه.. يبدو أن ساعته قد حانت.. في الصباح سيجدونه قد مات بالسكتة الذكية..
تمرغ في الأرض.. حاول التشبث بأحد قوائم الفراش، لكن أعصابه خانته .. ها هم قد جاءوا من أجلك..
***
ادخلوه في كابينة تخاطر تشبه ثمرة خرشوف كريستالية، ثم قاموا بسرد تاريخه المظفر أمام عينيه، قبل أن تظهر له صورة ثلاثية لفاتنة شقراء تلوك اللادن.. أعلنت له أنه مواطن ذو سجل غير مشرف.. إنه عار على مقاطعة إلوسيوم المجيدة.. هنا انفجر فيها باسم:
ـ وما الجديد أيتها القردة الشقراء؟
تباطأت سرعة مضغها للادن وكأنها تزن كلمات باسم الغريبة..
ـ هل تراني قردة شقراء؟
قال ملوحاً بذراعه في وجهها :
ـ نعم.. أنا أراك قردة شقراء.. لا تنس تدوين ذلك في سجلي الغير مشرف..
هتفت كأنها تخاطب شخص أخر لا يراه باسم :
ـ لديه هلوسة بصرية كذلك يا سيد جاد..
وثب باسم ناحية صورتها ثلاثية الأبعاد، وظل يوجه لها لكمات متتالية وهو يصيح :
ـ أنا لم أخرج كل ما لدي بعد يا أبناء الـ... هه.. هه..
ـ جنون عام.. مسكين..
وقف يلهث من فرط الجهد، لكنه شعر بتحسن حتى توقع أن يرى وجه الشقراء متورماً.. صاح وهو ينظر لوجهها البارد في غل :
ـ متى ستذهبون بي إلى الشريحة صفر؟
سألته باستمتاع:
ـ من قال لك أن هناك شريحة صفر..
ـ أكيد هناك واحدة..
ـ المؤكد أن هناك وحدة خاصة للمجانين..
خر باسم على ركبتيه وقبض على عنقه صارخاً :
ـ بل أريد أن أذهب للشريحة صفر..
اختفت صورة الفتاة، وسمع صوت باب الخرشوفة الكريستال يفتح.. استدار ليجد ذلك الروبوت العملاق ذي الكلابات يقترب منه.. وقبل أن يبدي أي حركة أطبقت كلاباته على أطرافه الأربع وثبتتها إلى الأرض..
بعدها شعر بتلك الوخزة فتشنج جسده قليلاً ثم بدأ يرتخي.. لقد تم حقنه بمخدر ما.. شعور لذيذ ووعيه يتسرب منه كما يتسرب الهواء من البالون المثقوب.. لقد ثقبه ذلك الروبوت؛ لذا سيظل يطير كأي بالون يحترم نفسه .. يطير.. يطير .. حتى يصل إلى ذاك الكوكب البعييييييييد............
...........................

***

حينما فتح عينيه ثانية وجد نفسه مقيداً في فراش وهناك خراطيم تدخل وتخرج من كل شبر في جسده.. حوله عدد من الصور ثلاثية الأبعاد تصور فصوص دماغه.. حركة أمعائه.. قلبه.. هناك رجل ودود يبتسم له برقة وهو لا يدري إن كان حقيقة أم صورة ثلاثية أخرى.. كان يرتدي زي الأطباء المميز..
قال له الودود :
ـ عود أحمد..
انفرجت شفتي باسم عن ابتسامة منهكة وهو يتمتم :
ـ لم أر أحدهم يبتسم في وجهي منذ قرون.. هل أنت حقيقي؟
اقترب منه الودود وهو يقول :
ـ لقد وجدنا أنك مجنون بشدة..
ـ ولي الشرف..
ـ سيتم إيداعك في وحدة خاصة بالمجانين الخطرين..
ـ أحب العزلة..
مال عليه الودود بوجهه وازدادت ابتسامته وهو يقول بخفوت:
ـ حمداً لله على سلامتك يا بطل..
همس باسم وهو يشعر بثقل في جفنيه:
ـ بطل؟
ـ تكلم على راحتك.. المكان نظيف كقلب طفل.. ولقد تم تخليصك من كل الشرائح البغيضة التي زرعوها في جسدك لتحصي عليك أنفاسك..
ـ من أنت بالضبط؟
ـ يمكنك أن تعتبرني مندوباً من عند الرفاق..
اتسعت عينا باسم وبدأت ضربات قلبه تتسارع.. الرفاق هو الاسم الذي يطلقه المتمردون على أنفسهم.. لكنه ممنوع على أي مواطن خاضع للنخبة بأن يسميهم بغير اسم المتمردين..
ـ كيف؟
تساءل باسم بصوت مبحوح فبدأ الودود يشرح له.. إنهم يرصدون أي بادرة تمرد تطرأ على مواطني الشريحة جـ الكادحة.. من ثم يتدخلون في الوقت المناسب لالتقاطهم.. من حسن الحظ أنهم نشطون جداً في مقاطعته إلوسيوم، لذا فحينما أفقدوه وعيه في وحدة التخاطر وقاموا بنقله للوحدة الطبية للكشف على قواه العقلية، كانوا لا يدرون أنه سيكون بانتظاره مندوب من الرفاق يتولى أمره..
ـ التنظيم لا يقبل متطوعين أبداً.. بل هو الذي يختار دائماً..
قال باسم وقد بدأ يستوعب المفاجأة:
ـ لقد كنت بدأت أشك في وجودكم أصلاً..
ـ هذا جزء من خطة الخداع..
الآن هو خارج عن سيطرة النظام العالمي.. لم يشعر في حياته بمثل هذا الإحساس.. كلمة حر لا تعبر أبداً عما يجيش بنفسه الآن..
ربما عبرت تلك العبرة الحانية التي سالت على خده.. سينضم للأخيار ويحارب الأشرار.. تماماً مثلما كان يفعل في ألعاب الفيديو..
ـ ماذا بعد؟
قالها وهو يغمض عينيه مسترخياً في فراشه فسمع صوت الودود يجيب :
ـ سيتم إرسالك إلى مقاطعة أخرى لتبدأ فيها من جديد مع إحدى أسرنا هناك.. ستذهب إلى .. تارتاروس..
فتح باسم عينيه متسائلاً :
ـ تارتار ماذا؟!
ـ تارتاروس.. ستصير هناك شخصاً مختلفاً.. ستنس كل شيء عن حياتك الماضية.. أنت منذ هذه اللحظة إنسان جديد..
تمتم باسم :
ـ أنتم متغلغلون جداً في النظام العالمي..
ـ النظام العالمي كأي نظام لا يخلو من الثغرات .. ونحن نحسن استغلال تلك الثغرات..
هنا سأل باسم سؤالاً مباشراً :
ـ ماذا تريدون من النخبة ؟
ظل الودود صامتاً وإن كف عن متابعة الشاشات.. ثم استدار ببطء ليواجه باسم.. لقد تلاشت ابتسامته الودودة وحلت محلها صرامة وقسوة غير عادية وهو يجيب:
ـ لا نريدهم على الإطلاق.. العالم سيكون أفضل بدونهم..

***

عمرو مصطفى
06-18-2019, 10:26 PM
(2)

عفاف كانت زوجة وأم..
زوجة لرجل يعمل ضابطاً في الجيش الأممي.. يدعى حسن..
وأم لطفل جميل في السادسة أصر والده على تسميته عماد الدين لسبب غير مفهوم..
زوجها كان طبيعياً حتى قرر أن ينغمس في قراءة كتب الماضي.. فغاب عن حاضره.. وكانت عفاف تخبره أنها تنتظر اليوم الذي سيعرضونه في متحف للحفريات بفارغ الصبر..
كانت تدرك أنه قد بدأ يبغض النظام العالمي وكل ما يمت إليه بصلة منذ انغمس في القراءة.. زوجها هو الوحيد الذي ما زال يملك كتباً حقيقية في عالم الإلكترونات السابحة والعوالم الافتراضية.. وكان بحكم كونه في الجيش الأممي يخضع لنظام شرائح مستقل غير شرائح المدنيين .. وتعرف أنهم قريباً جداً سوف يستدعونه ويحاسبونه على أفكاره المعادية التي لا يمكن كبحها.. سيحاكم بتهمة الخيانة ويضرب بالرصاص .. ربما سيجعله هذا سعيداً فعلى الأقل سيموت بوسيلة قديمة.. لن يقضي بسكتة قلبية كما هو الحال مع المدنيين المتمردين..
هكذا كانت عفاف تعد نفسها لحمل لقب أرملة من قديم.. لكن زوجها قرر أن يرحل بدون صخب.. لا تهم خيانة ولا رمي بالرصاص..
واستيقظ عماد الصغير يوماً ليجد فراش أبيه خاوياً.. واستغرب لماذا لم تبك أمه وهي تعلمه بالخبر.. ولماذا اختفت كتب أبيه مع رحيله عن العالم..
هل كانت تنتظر وفاته بفارغ الصبر لتتخلص من كل ما يمت له بصلة ؟
حينما كانت تنظر في عيني ولدها كانت ترى نظرة انكسار تثير أعصابها.. كانت تردد في نفسها بغيظ : أفهم أنه قد صار ظهرك مكشوفاً للعراء.. مهما دثرتك بالأغطية الثقيلة.. فغطاء الوالد لا يعوض.. أفهم هذا ولا أجد لك حلاً إلا أن تسكت عينيك التي ترمقني بها بهذه الطريقة..
ـ لماذا مات والدي؟
قالت له وهي تقلب بصرها في إعلانات المرئي :
ـ كل الناس يموتون..
ـ ويذهبون إلى الجنة..
تركت النظر في الشاشة بعد أن اكتشفت أن ولدها بدأ يستعمل عقل الطفل الجهنمي في جلب المتاعب عن طريق الأسئلة المستفزة.. قالت: :
ـ الطيبون منهم فقط، و المزعجين يذهبون لهيدز..
ـ وأبي كان طيباً؟
قالت من بين أسنانها :
ـ أكيد..
ـ متى أراه ثانية؟
ـ اطلب له الرحمة.. وغداً حينما نموت جميعاً سنلتقي جميعاً في الجنة..
ـ ولماذا نؤجل عمل اليوم للغد؟
أغلقت المرئي بعصبية..
لعلها الآن تدرك فائدة الأب في حياة الأسرة.. فهو الشخص الذي كان سيريحها من كم الأسئلة والاستفسارات التي تنهال على رأسها الآن.. هذا يذكرها باختبار لمادة لم تذاكر منها سوى صفحة واحدة من أول الكتاب وصفحة من أخره.. وعليها أن تستنج ما بينهما..
لكن عذابها هذا لم يطل.. لأن عذاب أكبر كان بانتظارها.. كان طفلها الوحيد على موعد مع المرض الذي سيعجل به..
سيكون لديها متسع من الوقت لتجن.. لتظل تنهش مرتبة الفراش التي ترقد عليها جثته.. جثة تركها السلالي اللعين هيكلاً عظمياً مدهون بالشمع..
في الأيام التالية سيكون لديها متسع من الوقت لتكره نفسها وتكره النظام العالمي الذي تحيا فيه، وستتمنى لو شاركت في هدمه على رؤوس من فيه..
لم تكد تفكر في هذا حتى فوجئت بأن كل شرائحها الذكية معطلة.. وحينما غادرت وحدتها متجهة إلى أقرب مركز معتمد للصيانة فوجئت بذلك الزائر الودود على باب دارها..
ـ الشرائح الذكية لا تعمل في وجودنا..
ـ من أنتم؟
ـ نحن العدو رقم واحد للنخبة الأممية..
قالت وهي تبتسم ابتسامة غامضة :
ـ لقد وقعتم على منافس جيد لكم في كراهية النخبة..
كانت جملتها تلك بمثابة توقيع على عقد انضمامها للرفاق..
نزعوا عنها شرائحها وأخبروها أنها سترحل إلى مقاطعة أخرى
لتبدأ فيها من جديد..
قال لها الودود :
ـ في تارتاروس حيث ستذهبين.. توجد أسرة من أعرق أسر الرفاق.. ستكونين واحدة منهم.. عسى أن يعوضك هذا عن حياتك الأسرية التي دمرت في إلوسيوم..

***

في تارتاروس نسب التلوث مرتفعة جداً.. لذا لن يمكنك السير خطوتين في الهواء الطلق بدون قناع واقي على وجهك..
والبعض كذلك كان يحمل على ظهره أنابيب أكسجين للطوارئ.. والجو أصفر مكفهر كوجه الزمنى، والزحام شديد ودرجات الحرارة مرتفعة بفعل التلوث والعوادم..
هذا هو المكان الذي اختير لباسم ليبدأ فيه من جديد..
إنه انحدار في مستوى المعيشة بلا شك، لكنه انحدار من أجل القضية.. هكذا قالوا له هناك.. وهكذا مضى في طريقه بحذر كي لا يصطدم بأحد بسبب قناعه الذي يرى منه بالكاد.. الجو العام هنا يذكره بجو الحروب الكيماوية القديمة..
المقاطعات الأسوأ هي الملاذ الآمن للرفاق دائماً، فمع ارتفاع نسب التلوث والعوادم تخف قبضة النظام العالمي، ويدب العطب في أجهزته الذكية.. وهذا هو كل ما يريده الرفاق..
يخيل إليه أنهم توصلوا لاتفاق ضمني بينهم وبين النخبة ههنا.. لكم الاسم ولنا نحن الإدارة الحقيقية.. فمن يعبأ بمشاكل تلك المقاطعات التي هي على شفا البركان..
كان على وشك فقدان الوعي حينما قابل عارف لأول مرة..
كان طويل القامة ضخم الجثة وعضلاته تعلن عن نفسها من تحت الثياب.. تبادل معه كلمة السر بالإشارة، لأنهم لن يستطيعوا الكلام من وراء الأقنعة.. لذا يلتزم جميع المواطنين هنا بتعلم لغة الصم والبكم للتفاهم في الطرق العامة..
سيتولى عارف تدريبه وأقلمته على حياته الجديدة.. سيكون رفيقه الأكبر، أي أستاذه ومعلمه..
بعد التعارف اصطحبه إلى فندق لوتس حيث سيقيمان سوياً.. حينما دخلا إلى اللوبي سلموا أقنعتهم لأحد العاملين ووقفوا يتنفسون هواءً نقياً نوعاً ما.. هناك فلاتر تقوم بتنقية الهواء بالداخل حتى يتمكن البشر من التحرر من الأقنعة المرهقة والتخفف من حمل أنابيب الأكسجين..
صاحبة الفندق عاهرة قديمة وجاسوسة نشطة لصالح شرطة النظام العالمي .. اسمها ليليان.. يمكنك أن ترى في عينيها وتجاعيد وجهها تاريخها الأسود المليء بالمآسي والويلات..
قال له عارف فيما بعد أنه فخور لكونه يعمل تحت سمع وبصر تلك البومة العجوز.. ليس من السهل خداع العقارب كما هو معلوم..
لكن لماذا نسكن في فندق صاحبته عميلة للشرطة؟
الجواب أن هذا ليس من شأنك أنت، لكل مقام مقال..
المكان بالداخل لا يشجع على الإقامة فهو قاتم وغير نظيف.. كاد يصارح عارف برأيه لكنه فوجئ به يقول وهو يغمز بعينه كأنه سمع أفكاره:
ـ هذا أرقى فندق في تارتاروس كلها..
طبعاً ابتلع باسم ريقه ولم يعقب..
بعد أن أكلا طعاماً لا يقل شناعة عن المكان طلب منه عارف أن ينام قليلاً قبل أن يبدأ التدريب.. نام باسم قليلاً جداً حتى اضطر عارف في النهاية إلى هزه في عنف كي يهب من فراشه مفزوعاً وهو يصيح:
ـ من أنت؟
تجاهل عارف سؤاله وهو يقول ببرود :
ـ لم أطلب منك أن تموت هنا.. قم فلدينا عمل طويل..
علمه الرفيق عارف كيف ينظف المكان الذي يسكن فيه من أجهزة التنصت التقليدية.. كان يتمنى لو علمه كيف ينظف المكان من الحشرات والأتربة والبقع الصفراء كذلك ، لكن هذا لم يكن يوماً من اختصاصهم .. الرفاق يريدون تنظيف العالم من النخبة التي تحكمه بالحديد والنار.. أما القذارة فستزول بالتدريج مع زوال الطغاة..
بعد درس التنظيف بدأ عارف يلقنه أساليب الرفاق في التخفي.. كيفية المراقبة والهروب من المراقبة..
ولما تحول عقل باسم إلى خلية نحل طنان قال له عارف :
ـ لنواصل غداً..
ـ هل تستعدون للحرب ههنا؟
قالها باسم مداعباً، لكن عارف لم يبتسم كعادته.. قال :
ـ أنت لم تنضم لفريق الكشافة المدرسية..
هز باسم رأسه محبطاً بمعنى بلى.. الحقيقة أنه لم يتصور التمرد بهذه المشقة..
كان يسمع عن عملياتهم من خلال النشرات فيمتلئ بالإثارة كأنه يتابع مباراة كرة قدم لفريقه الأثير.. ولما صار جزء من الفريق نفسه تبين له أن صناعة الإثارة ليست مثيرة دائماً..
إنه يتلقى تدريبات غاية في الغرابة والخطورة.. كيف تصنع متفجرات من الطعام الذي تطهوه لك الأخت ليليان؟.. كيف يمكنك تحويل مسكنك لجحيم لو تمت مداهمتك في أي لحظة؟.. هؤلاء محترفون للغاية في التدمير.. تخيل باسم أنهم ربما يفكرون في تدمير نصف الكرة الأرضية حتى يتمكنوا من حكم النصف الأخر ببال رائق..
بعد عدة أيام من التدريبات القاسية والمتواصلة قال له عارف أن عليهما زيارة الأسرة الكبيرة في تارتاروس .. هذا يعني أن باسم قد اجتاز تدريبات القبول الأولية داخل الأسرة بنجاح .. وأنه قد حان الوقت لمقابلة ربها..

***

عمرو مصطفى
06-21-2019, 09:36 PM
(3)

عشرون نفراً كانوا مجتمعين في ذلك اليوم..
وهناك نفر واحد يعتبر وجهاً جديداً؛ لذا فقد شعر أن كل الأنظار مسلطة عليه.. حتى تمنى لو انخسفت به الأرض من شدة الخجل والارتباك.. هناك مائدة مستديرة تشبه مائدة الإدارة التي تجتمع حولها النخبة الأممية، الفارق هنا هو أن المجتمعون حول تلك المائدة يريدون إزالة الهواء الذي تتنفسه النخبة.. فوقهم كشاف قوي مسلط من السقف يعطي ظلالاً مريعة تليق فعلاً باجتماع سري لحفنة من المتمردين..
ثم وصل رب الأسرة فقاموا جميعاً لتحيته باحترام مثير..
كان ضخماً مهيباً ذا صوت رنان.. تجاعيد وجهه والشيب الذي وخط فوديه ونظرات عينيه الثاقبة كلها تقول: أنه الأكثر خبرة وحنكة وقسوة في هذه الأسرة..
كان عارف قد أوصى باسم بألا يشارك في الحديث إلا إذا وجهت له الأسئلة؛ لذا فقد جلس أكثر من ساعة يستمع لإنجازات أفراد الأسرة خلال الشهر الماضي..
هؤلاء دقيقون جداً مثل بندول الساعة.. باسم الذي يحب المرح ويميل للفكاهة وجد نفسه بين هؤلاء الجادين الصارمين غير قادر على التنفس، بالرغم من كون الفلاتر تعمل بصورة ممتازة في الغرفة..
أخيراً جاء دور عارف في الكلام، وكان أخر المتكلمين، فبدأ يسرد ما حدث له منذ التقى بباسم وحتى وصولهما إلى الاجتماع بدقة عجيبة.. هناك تفاصيل نسيها باسم نفسه لكن عارف ذكرها بالساعة والثانية.. انتهى عارف من الكلام فسادت فترة صمت مطبق.. ثم أعن رب الأسرة أنه قد حان وقت توزيع مهام الشهر القادم..
قال له عارف قبل الاجتماع:
ـ لا تنصت إلا لمهمتك وفقط.. ولا تنس حرف مما قيل لك.. لا تسأل عن أي شيء يخص مهام بقية أفراد الأسرة.. لا تنظر في عيني رب الأسرة أبداً لمصلحتك..
لذا أرهف سمعه بشدة انتظاراً لمهمته الأولى .. قلبه يدق بعنف والعرق يتفصد منه لكنه لن ينسى حرفاً مما سيقال له مهما حدث ..
فهم باسم من طريقة توزيع المهام أن الأسرة مقسمة لفرق صغيرة.. فرق ثنائية وأخرى ثلاثية ورباعية.. وهناك من يعمل بمفرده كذلك .. طبعاً هو وعارف سيشكلان فريقاً ثنائيا..
المهم أن رب الأسرة قال أخيراً بصوته المميز :
ـ الرفيق عارف والمبتدئ..
ضايقه أنه لم يذكر اسمه لكن حاول صرف تركيزه لما هو آت..
ـ نريد منكما تجنيد فتاة ليل في حانة النجوم الساهرة..
هكذا فقط.. بدت له المهمة تافهة وأقرب لعملية تدريب ليس إلا..
تجنيد فتاة ليل ثم ماذا؟..
قال له عارف بعد انتهاء الاجتماع وانصراف رب الأسرة :
ـ لا تشغل بالك إلا بما طلب منك فقط.. أنا وأنت ترس في ألة أضخم من أن تستوعب في جلسة.. أسرتنا ما هي إلا حلقة في سلسلة ضاربة في السماء..
شعر باسم بالحنق، ويبدو أنه قد ظهر شيئاً منه على وجهه، لأن عارف قال له في صرامة :
ـ لا تبدو مسروراً.. مجرد أن تظهر تبرماً أو غير رضا لطريقتنا في العمل يعرضك للعقوبة..
طبعاً لم يزده هذا إلا حنقاً..
لكنه فوجئ بانقلاب الجلسة تماماً بعد انصراف كبيرها..
جاء أفراد الأسرة للتعرف على باسم وتهنئته بالانضمام إليهم.. بدأ يسمع عبارات مزاح وصوت ضحكات من القلب.. هناك جبل من الشطائر وأطنان من المشروبات ظهرت من مكان ما.. أشعره هذا بجو أسري لطيف أذاب الجو القاتم للاجتماع السابق..
حتى عارف بدا أكثر ليونة وتجاوب مع المازحين بطريقة أدهشته.. وهكذا تناول باسم شطيرة من الجبن وبدأ في تفرس ملامح الموجودين رجالاً ونساء.. وجوه لا يمكنك أبداً أن تشك فيها لو قابلتها في الطرقات .. ليست لهم ذيول ولا يمشون على أربع .. لقد تخيل يوماً وهو صغير أن المتمردين كائنات أخرى غير البشر ..
كان هذا حينما ارتطمت عيناه فجأة بعيني تلك السيدة هناك..
كانت ترمقه بعين لا تطرف وهي ممسكة بشطيرتها بلا شهية.. إنه نوع من المشاركة الظاهرية فقط.. لكنه بعكسها كان جائعاً..
شعر بالحرج فصرف بصره وبدأ يلوك شطيرة الجبن.. هنا سمعها تقول له:
ـ أنت من إلوسيوم؟
نظر لها فوجدها لم تغير جلستها ولا الطريقة الثابتة التي ترمقه بها.. هز رأسه إيجاباً وهو يزدرد الطعام..
ـ إذن نحن بلديات..
هز لها رأسه مجاملاً دون أن ينطق بحرف.. أشعره هذا بسخافة موقفه، كأنه مراهق يحدث فتاة لأول مرة في حياته.. يبدو أنه نسي كونه مطلق وأن هذه سيدة بالغة ويبدو من نظراتها الجامدة أنها ليست على ما يرام كذلك .. كأنها مصدومة وعلى وشك الانفجار في البكاء.. امتقع وجه باسم وبدأ ينظر لعارف مستنجداً كي ينقذه من تلك المصيبة..
هنا اقتربت منه السيدة بوجهها فتراجع للخلف متحسساً حنجرته.. لكنه فوجئ بها تقول له هامسة :
ـ اسمي عفاف..
تنفس الصعداء وقال لها مغتاظاً :
ـ وأنا باسم..
لم يكد يقول لها اسمه حتى تراجعت للخلف وشردت ببصرها بعيداً عنه كأنها لم تره ولم تحدثه.. مجنونة.. هكذا فكر.. وهكذا سحب نفسه واتجه لعارف الذي كان مشغولاً بحوار جانبي مع أحد أفراد الأسرة..
سحبه من كمه فنظر له الأخير في ضيق.. همس وهو يميل عليه :
ـ ما حكاية هذه السيدة بالضبط؟
نظر عارف إلى حيث يشير بطرفه فظهر على وجهه الفهم..
ـ تقصد عفاف.. هل وقعت معها؟
ـ تبدو غير طبيعية..
ـ لقد فقدت زوجها وطفلها الوحيد قبل أن تنضم للأسرة..
ظهر التأثر وتأنيب الضمير على وجه باسم.. فقال له عارف وهو يربت على كتفه :
ـ لا تتصعب هكذا يا رفيق.. إنها من أشرس أفراد أسرتنا.. يمكنها خنق طفل رضيع لو كان هذا فقط عمل يغيظ النخبة الأممية..
كالملسوع أدار بصره إليها حيث جلست، فوجدها على نفس حالة الشرود إياها.. لكن هذه المرة أضفى عليها حديث عارف هالة من الرهبة.. هذه النظرة الميتة لا يمكن أن تكون لأم ثكلى أبداً.. بل هي أقرب لليليث قاتلة الأطفال..
هكذا قرر باسم ألا يقترب من عفاف هذه أبداً وألا يتورط معها في أي حديث أخر..

***

لم يبق من عفاف القديمة إلا اسمها فقط..
منذ انضمت للرفاق صارت مخلوق أخر غير تلك الزوجة التعسة التي فقدت زوجها وابنها الوحيد في ضربتين متتابعتين.. لقد أخرج الرفاق ذلك الوحش الكامن في أعماقها.. من الجيد أن تجد من يروض وحشيتك ويجعلها ذات هدف سامي يرضي ضميرك الذي لم تتخلص منه نهائياً بعد.. أن تصير وحش مناضل.. تقتل فترفع لك القبعات.. تفجر منشئات فتحصل على ترقية.. اليوم صارت عفاف إحدى عجائب الأسرة السبعة.. امرأة المهام الصعبة.. المهام التي تحتاج إلى أعصاب من حديد وقلب من صوان.. لقد سمعت كثيراً عن أسطورة ليليث التي فقدت أطفالها فصارت مسخ يمتص الدماء ويقتل الأطفال الرضع..
بدت لها الأسطورة أكثر شاعرية مما توحيه للبعض من بشاعة..
بل هذه هي العدالة الشعرية في أروع أمثلتها..
أنا ليليث في ذروة المجد البشري.. تقولها لنفسها في المرآة وتبدأ في نوبة ضحك هستيري..
مازالت رائحة الدماء التي سفكتها تفعم أنفها وتشعرها بانتشاء لا يوصف..
في أول اجتماع لها في تارتاروس كلفها رب الأسرة بقتل أحد رجال الشرطة لكنها لم تكتف بهذا.. تسللت لمنزل الشرطي بلا سلاح.. أحضرت سكين طويل من المطبخ وبدأت تمارس طقوسها الخاصة..
ذبحت الشرطي أولاً، ثم طعنت الزوجة عدة طعنات في أماكن بعينها كي تبقيها حية لأطول وقت ممكن.. بعد ذلك سحبتها من شعرها للخارج.. إلى غرفة الأطفال طبعاً.. سمعت نداء رفاقها عبر جهاز الاتصال المزروع خلف أذنها..
ـ عفاف انسحبي.. لقد انتهت العملية بنجاح..
الزوجة كفت عن المقاومة وبدأت تحشرج.. أجلستها عفاف لتتمكن من متابعة المشهد المروع الذي أعدته لها خصيصاً.. يشبه كثيراً مشهد ذبح الأرانب..
الأطفال في تلك المواقف يشبهون الأرانب كثيراً.. لكنها لم تقرر سلخهم أمام عينيها كما يفعل بالأرانب ..
للأسف لم تتمكن الزوجة من الصراخ.. لكن عينيها قالت الكثير.. كيف كان مقدار الألم الذي عانته وهي ترى أطفالها يستنزفون أمام عينيها؟..
ـ عفاف.. ينبغي أن تنسحبي قبل فوات الأوان..
حينما انتهت عفاف من طقس شرب الدماء الذي أدمنته مؤخراً، التفتت للزوجة فرأتها تحرك شفتيها الجافتين كأنها تقول شيئاً لكن لا بلا صوت..
انحنت عليها لتسمع ما تقول، فبدت كلبؤة قد مرغت وجهها في أحشاء حمار وحشي..
ـ ماذا تقولين يا حلوتي؟
بعد جهد جهيد قرأت ما تقوله بحركات الشفاه..
ـ اقتليني!

***

عمرو مصطفى
06-22-2019, 09:42 PM
(4)

مساء اليوم التالي اتجه عارف وباسم إلى حانة النجوم الساهرة..
نزعوا أقنعتهم على الباب وسلموها للعاملين بالأمانات، ثم انغمسوا وسط الضجيج وسحائب الدخان ورائحة الخمور الرديئة والأنفاس الكريهة..
قال باسم وهو يسد أنفه:
ـ لماذا تخلينا عن الأقنعة الواقية؟
قال له عارف وهو يجوب ببصره في الحاضرين :
ـ ألم تدخل حانة في حياتك؟
ـ لقد دخلت واحدة في لعبة ثلاثية الأبعاد.. فأنا من مقاطعة محافظة..
أختار عارف أحد الموائد في أبعد مكان عن الصخب وسحب الدخان حتى لا يفقد باسم وعيه من أول عملية.. إنه لديه خبرة واسعة في التعامل مع هؤلاء المبتدئين المائعين..
سيكون أمام باسم وقت طويل كي يكف عن الشعور بأشياء عديدة كالخوف و الاشمئزاز والتقزز وسائر مشاعر الرفاهية الفارغة!..
قال عارف:
ـ جرب أن تختار واحدة..
ابتلع باسم ريقه وبدأ في الفرز.. الفتيات هنا كالذباب.. عليه أن يختار ذبابة تصلح للتجنيد .. ذبابة واحدة وسط كومة القمامة التي يجلسون فيها..
هنا وقعت عينا باسم عليها.. احتاج إلى عدة ثوان كي يتأكد.. إنها هي بلا شك.. تمتم في مقت :
ـ أين عينك يا صديقي؟
التفت إليه عارف متسائلاً فأشار بطرفه للمائدة التي تجلس عليها فتاة بارعة الحسن بجوار أشيب وقور :
ـ أنا أعرف تلك الفتاة..
صفر عارف بصوت خافت وقال :
ـ إنها هايدي فتاة سراج..
هايدي !.. لقد غيرت اسمها بما يناسب وضعها الجديد كذلك.. طبعاً سراج هذا هو الوغد الذي أضاء لها طريق الرذيلة.. واصل عارف:
ـ إنها غالية جداً على أمثالنا يا عزيزي لو كنت تفكر.. كما أنها حالة ميؤوس منها..
نظر له باسم مستفهما؛ فقرر أن يوضح أكثر :
ـ لقد وضعتها تحت الاختبار في فترة سابقة.. هذه الفتاة مادة خام للرذيلة.. لا تحاول البحث عن لحم ودم أسفل جلدها.. لا يوجد إلا عفن..
ظهر الضيق على وجه باسم وكأن الكلام جرح مشاعره هو؛ فسأله عارف:
ـ هل كانت بينكما علاقة سابقة؟..
هز رأسه في بطء نافياً وقال :
ـ بل مع صديق سابق .. كان شرطياً سابقاً في إلوسيوم.. تركته جثة فاقدة للأهلية وجاءت إلى هنا فيما يبدو لتحقق ذاتها..
ـ إن صاحبك لمحظوظ..
بالرغم منه وجدت بسمه شاحبة سبيلها إلى شفتي باسم وهو يغمغم:
ـ ليته يعرف ذلك..
هنا نصحه عارف بأن يكون على حذر في التعامل مع النساء في تارتاروس عموماً، وفي الحانات خصوصاً، فنصفهن جواسيس وعملاء للإدارة.. إنهم يتبعون هنا وسائل التجسس البدائية ..
النخبة تريد أن توصل رسالتها للنزلاء، أنها موجودة وبقوة حتى في ذلك الجحيم.. وبأقدم أساليب التجسس والوشاية.
هنا قام أحد الشباب المتأنقين ليصطحب هايدي إلى خارج الحانة، على حين شاع البشر والسرور على وجه مؤجرها الأشيب.. لقد دفع له الزبون مبلغاً وقدره..
تمتم باسم :
ـ خنزير!
ثم سأل عارف عن كنه الرجل الذي اصطحبها.. مال عليه عارف وغمز بعينه قائلاً :
ـ إنه أحد رجال الشرطة..
ـ تركت رجل شرطة كان يريدها زوجة لتذهب مع أخر يريدها دمية.
ثم إنه تساءل في توتر حذر:
ـ ألهذا السبب نحن هنا؟
طقطق عارف بلسانه كي يحذره من محاولة استنتاج ما وراء المهمة التي جاءوا من أجلها..
ـ الحانة مكتظة بهم..
راقب باسم هؤلاء الشباب الذين يملئون الحانة وهم يتضاحكون ويحتسون الشراب.. ولما وجده عارف قد أطال النظر صرف بصره عنهم هامساً :
ـ لا تطل النظر إليهم هكذا..
تمتم باسم :
ـ لماذا لا نكتفي بالفرز فقط..
ـ تريد أن تتهور هنا؟
ـ لا توجد فرصة أكبر من هذه..
ـ وماذا تتوقع أن يحدث بعد؟..
هز باسم رأسه في أسف..
ـ لا شيء..
أومأ عارف برأسه.. ثم لوح بكفه لإحدى الفتيات قائلاً :
ـ لكننا نسعى لتغيير كل شيء..
نظر باسم للفتاة التي قامت من مائدتها تاركة ذلك الأشيب الوقور، وأتت إليهم تمشي بخطوات واثقة..
تساءل باسم بصوت خافت :
ـ من هذه؟
ـ إنها أمل فتاة شاهين..
نظر باسم للأشيب الذي تركته الفتاة فوجده يخرج ورقة وقلماً ليدون شيئاً ما.. ثم التفت للفتاة التي توقفت عند مائدتهم وحيتهما قبل أن تجلس في عدم اكتراث.. نظرت إليه ملياً ثم قالت لعارف :
ـ معك وجه جديد يا عارف ..
عرفها بباسم سريعاً ثم نادى على النادل وطلب بعض المشروبات..
عينا باسم قالت أنه لا يريد أن يشرب شيئاً في هذا المجرور.. فابتسم عارف في مقت وقال مربتاً على يده :
ـ صديقي لا يتعاطى الكحول..
هشت له الفتاة وبشت وأعلنت أنها تثق في الرجل الذي لا يتعاطى الكحول وترتاح معه أكثر.. طبعاً شعر باسم بعدم الارتياح لعبارة الفتاة، فأشار للأشيب الجالس هناك وحده مثل الغراب وقال :
ـ لماذا لا تدعين والدك ليجلس معنا؟..
ضحكت الفتاة وهي ترجع رأسها للخلف، على حين قال عارف من بين أسنانه وهو يرمي باسم بالشرر:
ـ صديقي يجيد المزاح أيضاً..
ابتلع باسم ريقه وقد جعلته عينا عارف يبتلع سخريته..
لكن نظرات الفتاة العابثة جعلته يرتبك.. قالت:
ـ سيأتي حينما تريدون أنتم ذلك..
داعب عارف شاربه الرفيع وقال في تفكير :
ـ الحقيقة أنني أفكر لك في نهاية مختلفة يا أمل..
هنا تلاشت ابتسامة الفتاة وحل محلها غباء مدقع..
وفهم باسم ما يرمي إليه عارف.. هذه تجربة عملية على الاستقطاب بعد الفرز..
وسط هذا الصخب الصاخب تتم عملية من أخطر وأدق عمليات الرفاق.. التجنيد أصعب من القتل والنسف والتدمير..
لابد أن عارف قد وضع هذه الفتاة تحت الاختبار لفترة، ربما كان يستعد ليوم يتم فيه تكليفه بتجنيد واحدة .. ها هو اليوم يحاول أن يراودها شيئاً فشيئا.. لن يتم كل شيء في جلسة واحدة.. اليوم سيلقي إليها كلمة وغداً جملة.. وربما يمر الشهر قبل أن تجد الفتاة نفسها في شرنقة لا فكاك منها أبداً..
تساءلت الفتاة :
ـ عن أي نهاية تتكلم يا سيد عارف ؟
ابتسم عارف كأنه يلاطفها أمام الناس، وإن خرجت كلماته الهامسة في جد صارم:
ـ نهاية كل ساقطة في تارتاروس..
***
لم يحدث شيء بعد هذا اللقاء..
قام عارف وباسم وشكرا شاهين على مجهوداته لكن يبدو أن الأجر الذي طلبه لم يكن يناسبهم..
وفي اليوم التالي وافق شاهين على مبلغ أقل.. يبدو أن حالة السوق ليست على ما يرام هذه الأيام.. نادى شاهين على أمل فجاءت راسمة على وجهها ابتسامة شاحبة و في عينيها نظرة عطشى.. لا للمال بل لسماع بقية كلام عارف الغريب.. لقد ألقى أمس في بركة حياتها الراكدة بحجر، وترك الدوائر تعمل عملها في تلافيف مخها..
اليوم ستذهب معهم وستعرف عنهم أكثر..
باسم المحافظ في ذروة المجد البشري، لا يصدق عينيه وهو يرى شاهين يتقاضى أجره بعد فصال مرير مع عارف.. القواد المحترف والرفيق المحنك والبغي الجميلة خاوية الرأس.. إنه مثلث القرف.. لكن هناك ضلع رابع منفرد يشعر بغصة في حلقة.. هو لم يأت هنا ليعيش في هذا الجو.. ملوثات بالخارج وبالداخل.. لكن التعليمات هي التعليمات.. سواء كانت من الموالين للنخبة، أو من المتمردين عليها..
أثناء خروجهم مع فتاة الحانة رأى باسم حفنة من رجال الشرطة وهم يتشاجرون مع بعضهم، وقد تطور الأمر إلى تهشيم زجاج الخمر وضرب الرؤوس بالمناضد.. قال باسم لنفسه : إن زرع قنبلة موقوتة في الحانة يمكنها أن توفر عليهم جهد تجنيد فتاة ليل للتجسس على هؤلاء.. هنا انتزعه عارف من أفكاره وقال وهو يناوله قناعه الواقي ويجذبه للخارج :
ـ الشجار هنا طقس أساسي.. حانة بدون نساء وشجار وتهشيم زجاجات الخمر فوق الرؤوس ليست بحانة.. الغريب هنا حينما يقف رجل بالغ مثلك مبهوتاً أمام شيء عادي كهذا فيجلب الوبال على رأسه..
أمام باب الحانة وقف ثلاثتهم يرمقون الطريق من وراء الأقنعة..
ثم جاءت سيارة أجرة تشبه سيارة سباق بعد انقلابها عدة مرات، لعلها أيضاً تعمل بمياه الصرف المعالجة؛ لأن العوادم التي تخرج منها تسللت رائحتها إلى أنوفهم رغم وجود الأقنعة.. وكان السائق محاصراً بعشرات الأسلاك والخراطيم كأنه في غرفة الرعاية المركزة ..
فتح عارف باب السيارة لأعلى كي تدخل الفتاة، ثم التفت إلى باسم الذي تسمر في مكانه وأشار له بكفه في غيظ بمعنى : هيا يا أخي فالعدادات هنا لا ترحم..
أشار له باسم وهو يعبث في الأرض بحذائه بمعنى أنه ربما من الأفضل أن يبتعد عنهم الآن و..
هنا رأى عارف يشير له بمعنى : هل جننت؟ أنسيت أن كل منا قد دفع للسيد شاهين أجرة الفتاة ..
ودفعه برفق في ظهره ليركب بجوار الفتاة ثم صعد بدوره وهو يشير للسائق راسماً بكفيه زهرة لوتس ..

***

ـ مساء الخير يا فاتنتي..
قالها عارف وهو يلوح للعجوز ليليان فابتسمت له بإشراق.. ثم حانت منها التفاتة سريعة لأمل أطل خلالها عبر عينيها وميض حقد له مغزاه..
كنت مثلك أيتها الشابة يوماً ما وربما كنت أجمل كذلك .. لكنه الزمن..
أما الفتاة فقد أبصرت مستقبلها في انعكاس عيني العجوز.. هل هذه هي نهاية كل ساقطة في تارتاروس؟.. أخبرها عارف بعد أن صعدوا للغرفة أن هذه العجوز تعد فلتة في تاريخ عاهرات تارتاروس .. معظم العاهرات يقضين في عمر الزهور.. والسبب أنهن مجرد دمى جميلة مصممة خصيصاً من أجل اللهو.. الذي ينتهي في أحيان كثيرة إلى الحرق والتعذيب لإشباع الغرائز المريضة.. والتي قد لا تقنع أحياناً إلا بتدمير الدمية نفسها والبحث عن غيرها.. هذه هي حقيقة حياتك هنا يا فتاة..
في تلك الليلة استسلمت أمل.. وتحدثت عن كل شيء..
عن حياتها السابقة.. كيف سماها أبوها أمل طمعاً في غد أفضل لها وللأسرة..
كيف علمها والدها الكثير من الفضائل، لكنها لم تعد تذكر منها سوى أشياء ضبابية، سرعان ما تتلاشى على أثر صخب الحانات وهدير السيارات التي تعمل بمياه الصرف المعالجة والجو الأصفر الغائم دائماً، وهدير فلاتر التنقية..
عواطفها تجيش بأشياء لا تدري كنهها.. أشياء من الماضي البعيد.. ربما وجه والدها الحاني وهو يقدم لها كوب من الحليب الصافي.. ثم يقتحم وجه شاهين المشهد وهو يلوح بكأس من شراب ويبتسم لها بلزوجة.. كل القوادين لزجين.. إنه في نفس سن والدها لكن الفارق بينهما تماماً كالفارق بين الخمر والحليب.. بين الجنة والنار..
حتى مصطلحات مثل الجنة والنار.. صارت لها دلالات أخرى في النظام العالمي الجديد.. كلما تترقى كلما تفهم أكثر وتنكشف لك الرموز.. الجنة رمز والنار رمز.. ليس كل من يدخل الجنة ينعم.. ولا كل من دخل النار يتعذب.. الإله رمز.. النخبة آلهة ذلك العصر، ولكل عصر آلهته..
قال عارف :
ـ النخبة هم التطور الطبيعي لسائر الأمم الاستعمارية منذ بزوغ فجر التاريخ.. والتطور هنا له ثمرته وأثره.. لقد هضموا سائر الأفكار الغابرة وتجنبوا الثغرات والآفات التي تنخر في عظام الأمم.. ظلوا قروناً يعملون في الخفاء كمدبري فتن ومكائد.. حتى تم لهم التغلغل في أنسجة المجتمعات.. صاروا كداء الكلب لا يترك مفصلاً إلا ودخله..
تساءلت أمل :
ـ ونحن؟..
هز عارف رأسه في بطء وأوضح :
ـ نحن لسنا حفنة من المتآمرين.. بل نحن رجال رفضوا الخضوع لإدارة العالم الواحد التي تآمرت على بني الإنسان باسم الإنسانية تارة.. وباسم الإخاء تارة.. وباسم المساواة تارات.. ولما تمكنوا قسموا الناس إلى شرائح يستعبد بعضها بعضاً..
نظرت له أمل بأمل وهمست :
ـ وهل هناك أمل؟
ـ بلى.. ما دام هنالك عرق ينبض.. ما دام هناك إيمان بما وراء هذا العالم الزائف ..
ـ وهل وراء هذا العالم من شيء؟
ـ الله..
حركت الفتاة لسانها بالكلمة دون أن تنطقها.. شعرت بحنين جارف يدغدغ أعصابها.. تذكرت وجه أبيها فسرت رعشة خفيفة في يدها..
باسم كان من المفترض حسب تقاليد الرذيلة أن يبقى في غرفته المجاورة وينتظر دوره مع الفتاة.. لكنه مكث معهم في غرفة عارف من أجل أن يتعلم..
فكر وهو يقلب بصره بينهما، أن بعض الناس الذين يبدون في الظاهر بصورة مقززة، قد يحملون في داخلهم نقاط مضيئة تومض أحياناً وتخفت أحايين.. هذه الفتاة التي أمست في أول الليل عاهرة.. صارت في أخره نقية طاهرة.. بمجرد أن وجدت من يزيح الغبار عن عقلها ويذيب الصدأ الذي غلف قلبها..
من يتصور أن الشابين الذين صعدا أمام عيني العجوز بفتاة ليل قد قضوا الليل في مثل هذا الكلام.. ترى ماذا سيكون رد فعل العجوز ليليان لو علمت؟
ابتسم باسم لتلك الخاطرة ولم يعلق.. فقط واصل الإنصات للدرس..
كانت الفتاة تتساءل:
ـ لقد صرت منكم؟..
أجاب عارف :
ـ بلى..
ـ أنا سعيدة لذلك..
ـ لا ينبغي أن تتجاوز سعادتك حدود هذه الغرفة.. ستغادرين مثل أي فتاة تغادر.. ستعودين لحياتك كأن شيئاً لم يكن..
عبث وجهها.. ثم أطرقت للأرض وقالت :
ـ لا أريد أن أعود..
عقد عارف ساعديه أمام صدره وقال بنبرة شبه صارمة:
ـ إذن سينتهي أمرك سريعاً.. اسمعي يا أختاه.. لا أحد بيننا يرضى لك هذا الدنس.. ونحن لم ندعوك إلا لكي ننقذك .. لقد أنقذنا اليوم روحك وغداً سنخلص جسدك الطاهر من بين الأوحال..
كل شيء له وقته كما كان يقول له عارف دائماً .. لكن باسم لم يستطع هضم تلك القاعدة اليوم والآن.. هناك شيء ما خطأ في كل هذا .. فطرته تقول له هذا .. وقلبه يقول له هذا.. لكن لسانه لا يملك حق الاعتراض ..
وحينما بزغ فجر اليوم التالي، عادت أمل إلى شاهين بعد أن أعطاها عارف موعداً في مساء الغد كي يبدأ في تدريبها على أساليب الرفاق. واستسلم رفيقي السر للنوم بعد سهرة عمل شاقة.. ساعتين من نوم هنيء بلا أحلام بعد أن اجتازوا الشق الأخطر من المهمة..

***

عمرو مصطفى
06-24-2019, 03:58 PM
(5)

في اليوم التالي جلس الرفيقين في نفس المائدة البعيدة عن الزحام، ليراقبوا الحياة في حانة النجوم الساهرة..
فتيات يرحن ويجئن.. قوادين منتفخي الجيوب بالأوراق الخضراء.. رجال الشرطة يتبادلون السباب والشجار.. أمل تحاول أن تشق طريقها من بين الأنياب والمخالب.. تحاول ألا تتمزق وهي تتقدم من مائدة باسم وعارف..
يناديها شاهين.. هناك زبون يريدك يا عزيزتي.. إنه الشرطي مهاب هذه المرة..
يهز لها عارف رأسه بمعنى : اذهبي إليه.. تتحرك حنجرتها دلالة على وجود غصة صعبة البلع.. وتتراجع للوراء بوجه شاحب..
هايدي تنظر بحقد لأمل.. لقد فزت أيتها القردة بالسيد مهاب هذه الليلة.. لتكن تلك ليلتك الأخيرة.. سراج غير راضي بالمرة من أداء هايدي.. تباً هناك من يسحب البساط من تحت أقدامنا أيتها السافلة..
وباسم يقبض على كأس الليمون فيوشك على أن يسحقه..
ـ هل هذا معقول؟
قال له عارف مهدئاً :
ـ تشجع.. الحياة صعبة وتحتاج لأعصاب من حديد..
ـ بل تحتاج لأعصاب خنزير من حديد..
ـ لسنا خنازير..
نظر باسم لعارف في غل وهمس :
ـ لماذا لا ننصرف إذن؟
نظر له عارف وابتسم في رقة كأنه يشكره على معروف :
ـ انصرف أنت لو كنت لا تحتمل.. لكن بلا ضوضاء..
هب باسم واقفاً وقال:
ـ سأتمشى.. أريد بعض الهواء النقي بالخارج..
لم يرد عارف على عبارته الساخرة رغم مرارتها، بل لم يلتفت حتى إليه، فازداد حنق باسم واندفع مغادراً الحانة..
حاول أن يتجاهل صوت الضحكات المائعة وضرب الكؤوس.. لكن صوتاً واحداً أوقفه..
صوت صرخة أمل..
التفت ليجد ذلك الشرطي يستمتع بإيلامها.. إنه منهم إذن..
سيظل يضرب الفتاة طوال الليل، ثم سيعلن في الصباح أنها باردة كلوح ثلج، وأنه بحاجة لدمية أخرى غيرها، لأنها لم تعد تصلح ولا حتى لتسليك أسنانه..
النهاية البشعة التي تحدث عنها عارف.. يتصاعد الدخان الأسود أمام عيني باسم.. يلتفت لعارف مستجدياً فيشير له الأخير بكأسه كأنه يحيه.. لكن عينه قالت له بوضوح صارم : انصرف بهدوء..
لكن عينا أمل قالت له أبقى..
توجه كالسهم إلى المائدة التي تجلس عليها بجوار ذلك الشرطي وقال له بنبرة لم يألفها :
ـ دعها..
كالعادة يتوقف العبث والضحك وضرب الكؤوس.. ذرات الهواء نفسها تجمدت..
فقط قلب باسم هو الذي يدق بعنف.. لقد ارتكب خطئاً جسيماً.. لقد خالف الأوامر.. أفلتت أعصابه في تارتاروس كما أفلتت منه في إلوسيوم.. في لحظة يتخيل كل ذكرياته وحياته تمر أمامه.. وتتوقف عند مشهد واحد.. سحنة ضابط الشرطة الذي ظل يرمقه بعين لا تطرف..
فجأة وثب عارف وسط المشهد ليأخذ بذراع باسم صائحاً :
ـ يا للبائس المخمور..
هب الشرطي مهاب واقفاً ووضع يديه في خاصرته قائلاً:
ـ هذه ليست سحنة المخمورين..
ثم التفت للشلة مردفاً :
ـ بل هذا هو التجديد الحق..
تعالت الضحكات المرحبة من حفنة الشباب المحيطين .. وفهم عارف أنهم يعتبرون باسم فقرة جديدة تقدم مجاناً ..
وأشار مهاب إلى أمل التي شحب وجهها كالأموات وقال باستمتاع:
ـ هل ترغب في هذه الفتاة؟
تقدم منه باسم خطوة رغم قبضة عارف التي تطبق على ساعده لتمنعه من التهور أكثر.. وقال بحزم :
ـ دعها وفقط..
التفت مهاب لرفاقه وقال متهللاً :
ـ إنها قصة حب إذن.. فتاة الحانة والصعلوك.. تعرفون أحب تمثيل دور مفرق الأحبة هذا..
والتفت إلى باسم قائلاً في شراسة مفاجئة:
ـ تريد الفتاة.. تعال وخذها إن كنت رجلاً..
ودون مقدمات انفلت باسم من قبضة عارف، ووثب محيطاً وسط مهاب بذراعيه وحمله حملاً وهو يصرخ في غل.. الغريب أن مهاب كان يضحك باستمتاع حقيقي وباسم يندفع به للوراء ويطرحه على مائدة الشراب..
هنا تراجع عارف للوراء.. عدل من هندامه كأنه يستعد للخروج من المنزل ثم استدار عائداً لمائدته ..
كان عملياً فقد انتهى أمر باسم.. لن يتبقى منه شيء حينما يفرغ منه رجال الشرطة المتحمسين.. إذن لا داعي للمزيد من الخسائر..
وهكذا جلس يراقب الحفل الذي أقيم على شرف باسم..
زمرة رجال الشرطة بزعامة مهاب وجدوا أخيراً وسيلة لتلميع أحذيتهم .. صوته المكتوم وهو يتلقى ركلاتهم كان يفتت الأكباد .. لكن عارف يعرف أنه لا مجال هنا للشفقة أو للمغامرة .. ليدفع المغامر ثمن مغامرته.. ويكفيه ما خسره من وقت أضاعه في تدريبه وتهذيب روحه المتمردة.. رسم على وجهه تعبيراً مستمتعاً ليداري به الغل الذي يأكله من الداخل، وصفق بكفيه ليأتيه أحد سقاة السم ..
حاولت أمل أن تحول بين باسم وبين سيل الركلات التي تنهال على جسده.. إنها حماقة الأبطال الأبدية التي تزكي المأساة .. النتيجة أن ركلات الشباب المتحمس والمتلذذ لم تعد تفرق بينهما .. سيخسر عارف أمل أيضاً .. ضربتين متتاليتين في وقت قصير.. يبدو أن هناك من دعا عليه هذا الصباح..
وجاء شاهين يحاول إنقاذ فتاته ومصدر رزقه.. لكنه تلقى دفعه في صدره طار على إثرها ليسقط بجوار مقعد عارف ..
كؤوس تقرع وهتافات ترحب.. هايدي تضحك بانتشاء ملوحة بكأسها.. وعارف يصفق ويضرب بقبضته المائدة.. أعطوهما أكثر .. أكثر.. إنهما يستحقان.. أمحو أخر أمل لأمل.. واشطبوا باسم من سجل أخر الرجال المحترمين..
وحينما فرغوا من الضرب حملوا باسم خارجاً وألقوه على الرصيف بلا قناع يحميه من الهواء الملوث.. كان ما يزال حياً لكنه لن يستمر كذلك لفترة طويلة بلا قناع .. نفضوا أيديهم منه وعادوا إلى الداخل ليجدوا الضابط مهاب يحتفل مع جثة أمل على طريقته الخاصة.. ظل يرقص بجثتها فوق الموائد حتى صرعته الخمر، واستطاع العاملين بالحانة تخليص جثة الفتاة منه بأعجوبة، وسلموها لشاهين الذي ظل يندب حظه العاثر وهو يصيح :
ـ ماذا سأفعل بجثة عاهرة؟..
هنا برز له شاب طويل نحيل محني الظهر تحت عينيه هالات سوداء.. ناوله مبلغ من المال وحمل جثة الفتاة واتجه لباب الحانة مسرعاً كمن وجد ضالته بعد طول انتظار..
نظر شاهين للنقود التي أعطاها الشاب إياه ثم دسها في جيبه وهو يهز رأسه في رضا.. من حسن حظه أن مجانين النيكروفيليا متوفرون في حانة النجوم الساهرة .. يحطون على جثث العاهرات كما تحط النسور على جيف الحيوانات النافقة..
كل شيء هنا له ثمنه .. المشاعر الأسطورية النبيلة دفنت في المقابر.. دفنت مع باسم وأمل .. وهكذا عادت الحانة إلى ما كانت عليه قبل .. العاهرات يمارسن عهرهن .. والقوادين يقبضون الثمن.. وعارف يبحث عن صيد صالح للتجنيد .. كل شيء عاد طبيعياً كما كان .. أو هكذا بدت الأمور للوهلة الأولى .. لكن الليلة ستكون غير كل الليالي السابقة في حانة النجوم الساهرة.. الليلة لم تنتهي بعد يا سادة..
تذكروا هذا جيداً يا رواد النجوم الساهرة..
واضحكوا كثيراً فلن تبكوا بعد اليوم..

***

على الرصيف المقابل لحانة النجوم الساهرة تكوم باسم مهشم الأوصال مبعثر الأطراف.. للحظات ظن أن أطرافه الأربع ليست في أماكنها الصحيحة.. هناك هواء مسمم يتسرب إلى رئتيه فيسعل بصوت مذبوح.. هناك أشباح تروح وتجيئ من حوله غير عابئة به.. الجو الأصفر المقيت يتجه للسواد.. هي الغيبوبة إذن..
أخيراً رأى أحدهم يضع على وجهه قناعاً قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.. بدأ يميز وجه فتاة صغيرة باسمة لا ترتدي أي أقنعة كأنها من عالم أخر.. سحب نفس عميق ثم أطلق شهقة طويلة آلمته في صدره.. وحينما بدأ يشعر بتحسن كانت الفتاة قد اختفت..
كأنها جزء من حلم أو هلوسة سببها له الهواء الملوث.. لكن الهلوسة لا تترك لك قناع واقي على وجهك..
عليه أن يسترخي قليلاً.. ليلته لم تنتهي بعد.. لقد تلقى علقة العمر، لكنه ما يزال حياً.. تذكر أمل فعض على شفتيه قهراً.. لم يلقوا بجثتها خارج الحانة بعد.. ترى هل ما تزال حية؟.. لم يكن يعرف أنها ستواصل اللية مهمة البغي حتى وهي ميتة.. بغي رغم أنفها.. روحها تحررت وصارت في البرزخ، وجسدها سيظل ينتهك في الدنيا حتى تبدأ في التعفن..
عارف تركه.. الرفاق خذلوه.. لكن ليلته لن تنتهي قبل الأون.. فقط عليه أن يسترخي.. بعدها..
الخطة رسمت في عقله وهو ينهض من رقدته ببطء.. شعور بخدر لذيذ يسري في عروقه وكأنه لم يتلق علقة قاتلة منذ قليل..
وبخطوات مترنحة اتجه عائداً إلى باب الحانة..
عشرات الأقنعة كانت متراصة هناك على الجدار وعلى البنك كانت هناك زجاجات خمر تركها أحدهم وذهب ..
عليه هو أن ينجز مهمته سريعاً قبل أن يعود..
هذه مهمته التي لم يكلفه بها أحد .. الآن يشعر إنه لم يأت إلى تارتاروس إلا من أجل هذه اللحظة.. بل لم يولد إلا ليعيشها..
تصاعدت ألسنة اللهب لتأكل أقنعة رواد الحانة وهي تفح كالثعابين.. لم يشعر أحد بالكارثة إلا حينما بدأ الهواء الفاسد يتسلل إلى الأنوف..
هناك من أتلف الفلاتر التي تنقي الهواء داخل الحانة!..
صار هناك هرج ومرج وتدافع باتجاه الأقنعة الواقية.. حينئذ أدركوا الفخ القاتل الذي وقعوا فيه جميعاً.. رجل واحد يرتدي قناع كان يمشي مشية عرجاء قليلاً بينهم، وهم يتشنجون.. يتساقطون..
تمتد الأيدي إليه أن أفعل شيئا يا ذا القناع الوحيد.. يهز رأسه في بطء بمعنى.. لقد فعلت كل شيء ممكن ولو كان بيدي لطلبت من السماء أن تمطر عليكم حجارة من سجيل..
إنه يريد أن يرى الموت الزاحف في عين أعدائه.. كل أعدائه..
عين مهاب الضابط السادي.. عين شاهين القواد العجوز.. عين هايدي حبيبة صديقه السابقة.. و..
وعين عارف رفيق الأمس..
كانت لحظات قاسية وممتعة لأقصى حد..

***

عمرو مصطفى
06-25-2019, 10:16 PM
)6)

الأخبار اجتاحت تارتاروس كلها..
)حادث اختناق جماعي في حانة النجوم الساهرة ).. والحادث تم بفعل فاعل.. وبما أن الحانة كانت مكتظة برجال الشرطة فالعمل لن يخرج عن كونه عمل إرهابي يحمل بصمة المتمردين.. وهكذا صار كل شرطي في المقاطعة مكلف بشكل رسمي وشخصي بالبحث عن الفاعل الأثيم..
الفاعل الذي كان يجوب الشوارع كالشبح لا يدري متى توقفه طلقة رصاص حاسمة..
إنه سعيد وينتظر الموت في أي لحظة.. إنه مسلح بمسدس أخذه من مهاب وهو يحتضر.. كان بإمكانه أن يطلق عليه رصاصة الرحمة، لكنه ظل واقفاً يرقبه وهو يتعذب.. أمل.. أرجو أن تهدأ روحك هناك..
زحام.. غبار.. تلوث.. عوادم سيارات تعمل بمياه الصرف.. رجال شرطة في الأزياء الرسمية وغير الرسمية يفتشون تحت كل حجر..
لكنه سعيد لأنه لأول مرة يشعر بالحرية الحقيقية..
هو غير خاضع للإدارة الطاغية.. ولا لمتمردي اليوم طغاة الغد.. لذا لم ينس أن يقف قليلاً على رأس عارف وهو يرتجف ارتجافة الموت.. أراد أن يريه نفسه قبل أن يموت.. أنا هو صانع هذا الجحيم.. أتمنى من كل قلبي أن يكون مصيرك عند خالقك أشد وأبكى..
مؤكد أن الأخبار وصلت للأسرة كذلك.. ولابد أنهم اكتشفوا حقيقة ما حدث.. لقد فقدوا عارف واختفى العضو الجديد.. يمكن بقليل من التحليل والخيال رسم الصورة كاملة والوصول إلى الجاني ربما قبل الشرطة.. لدينا هنا عنصر متمرد على الأسرة..
لابد أن هناك اجتماع طارئ عقد للأسرة في مكان جديد لا يعرفه العنصر المتمرد.. لابد أن رب الأسرة تكلم كثيراً عن الخطر الذي يحدق بهم..
ـ هناك شخص يعرف عنا الكثير يجوب الأن شوارع تارتاروس.. إنه مبتدئ لذا لن يمكث طويلاً قبل أن يسقط في قبضة الشرطة.. سيقومون بعصره قبل أن يرسلوه إلى هيدز..
ونظر في عيونهم على ضوء الكشاف الساقط من أعلى.. دائماً هناك واحداً في كل مقرات الأسرة السرية.. وأكمل :
ـ لابد أن نعثر عليه قبلهم..
ـ حياً؟..
تساءلت عفاف وهي تقرض أظافرها بعصبية.. طرق رب الأسرة على المائدة بأنامله كأنه مستغرق في التفكير.. بعد قليل صمت حسم أمره..
ـ حسب تقاليد الرفاق ينبغي أن نقبض عليه حياً ونحاكمه.. ونقدم تقرير للقيادة العليا .. لكن تعرفون أن هذا سيظل وصمة عار في جبين أسرتنا.. أسرة تارتاروس تمرد أحد أفرادها.. هل تتخيلون معي الفضيحة؟
هزوا رؤوسهم متفهمين..
حوالي عشرون صياداً سينتشرون في أرجاء تارتاروس بحثاً عن طريدة واحدة.. قالت عفاف وهي ترتجف بنشوة :
ـ أنا أولى به منكم.. فأنا وهو بلديات..
قال رب الأسرة :
ـ عفاف مهمتك هذه المرة ستكون إنقاذ شرف أسرتنا..

***

الشرطي شهاب كان صديقاً مقرباً من الشرطي مهاب وشلته الذين راحوا ضحية حادث حانة النجوم الساهرة.. لقد كان محظوظاً لأنه لم يكن معهم في ذلك اليوم، فهو لا يكاد يفارق شلة الحانة إلا نادراً..
مهاب وسمير وراشد.. شلة الدراسة والعمل.. والنزوات كذلك..
حينما علم الخبر حشى مسدسه بالطلقات ولم ينتظر التعليمات التي عممت على سائر أفراد الشرطة.. سيبحث عن الفاعل بمفرده، وسيمثل به..
هناك متمرد قام بتجاوز الحد المسموح به ههنا.. معلوم أن تارتاروس تعج بهم، لكن زمن التسامح قد ولى..
شارك في عدة مداهمات فاشلة وعاد بعد أيام إلى بيته وأسرته منهكاً..
قالت له زوجته أن فلاتر التنقية لا تعمل بصورة جيدة.. نظر لوجوه أطفاله الثلاثة فرأى بوادر الاحتقان الذي يميز زيادة نسبة تلوث الهواء داخل البيت.. لا يوجد سلالي هنا، إنه لا يقوى على الحياة في تلك الأجواء المسممة.
ـ تعرفين أن إصلاح الفلاتر يحتاج لمبلغ وقدره..
قالت له وهي تسعل :
ـ أفعل شيئاً من أجل أولادك.. إنهم أولى من شلة الأنس التي تسعى للانتقام لها..
قال وهو يمسك رأسه كي لا ينفجر :
ـ يمكنك أن تأخذي الأولاد وتذهبي إلى والدتك..
ـ الأقنعة الواقية للأطفال بحاجة لإصلاح أيضـ..
هنا تركها وقام إلى فراشه متثاقلاً.. ربما سمعها تشتم وربما لا.. لم يعد يهتم كثيراً بما تقول.. الحمقاء لا تدري أن هناك مكافأة مجزية في الطريق لو نجحوا في القبض على الفاعل..
لم يكد يأوي لفراشه حتى جائه اتصال من الوحدة.. هناك مشتبه به في شارع... لم نشأ أن نستمتع من دونك.. سأكون هناك قبلكم أيها الأوغاد..
نهض من الفراش وطمأن زوجته.. لن يغيب كثيراً.. الحقيقة أنها تعرف أنه قد لا يعود لكنها تعودت على تلك العبارات.. هكذا احتضنت الأطفال وجلست بجوار المذياع، تنتظر الأخبار وتسعل..
الشارع المعني تم إخلائه تقريباً من السكان، حتى لا يحدث هرج ومرج يستغله المشتبه به..
سيارات الشرطة تفرض حصاراً على مدخل ومخرج الشارع.. بعد قليل سيتم القبض على الرجل الذي هز تارتاروس كلها..
رجال الشرطة يغادرون العربات بأقنعتهم المميزة لإطباق الحصار على العقار الذي تم تحديد الهدف فيه.. ثم اقتحامه..
شهاب يقبض على سلاحه وصور رفاقه لا تفارق ذهنه.. صدر الأمر بالهجوم فدخلوا العقار وبدأوا ينتشرون باحترافية..
بعد ثلاث أو أربع ثوان دوت سلسلة من الانفجارات المتتابعة أطاحت بالجميع..
هناك من زرع عبوات ناسفة في مناطق متفرقة من العقار ليتحول في لحظة بعينها إلى جحيم ..
للأسف لن يعرفوا حقيقة ما حدث وقد تحولوا إلى أشلاء.. وشهاب لن يعود لإصلاح فلاتر بيته كذلك..
ستقيم زوجته عند أمها لأجل غير مسمى..

***

بالأمس مكث باسم في إعداد كل شيء بنفسه..
إنه وقت استرجاع الدروس التي تلقاها على يد عارف.. صناعة قنابل شديدة الانفجار من أبسط الأشياء المنزلية.. هناك دوائر كهربية كذلك..
كلمات الرفيق عارف مازالت تدوي في أذنيه وهو يعلمه.. ويده تنفذ ما تسمع بالحرف..
المبنى الذي اختاره مهجور منذ فترة.. والفلاتر هنا عششت فيها العناكب.. ربما مات سكانه ولم يدر بهم أحد.. هناك بقايا هياكل عظمية وجدها في بعض الغرف.. مكان لا يطيق أحد البقاء فيه لذا كان هو أفضل مكان للاختباء.. استطاع إصلاح بعض الفلاتر كي يتمكن من خلع قناعه الذي أهدته إليه تلك الفتاة الغامضة.. وجلس ليتنفس في عمق ويفكر في كل ما مر به.. هل كانت حياته في إلوسيوم سيئة لهذا الحد؟..
هل كان زواجه فاشلاً فعلاً؟.. أم أن أعصابه التي ألهبتها الشرائح الذكية وألعاب الفيديو ثلاثية الأبعاد كانت هي السبب؟..
ثم توصل إلى أن حياته كانت تتجه دائماً من السيء للأسوأ.. ربما كان الآن في الذروة.. وربما كان يتجه إلى مزيد من السوء.. على الأقل عليه أن يحاول وقف مؤشر التدهور..
تمرد على النخبة.. ثم صار متمرداً على المتمردين على النخبة.. هل هذا هو الطريق الصحيح؟
مازال يتمنى لو غادر هذا العالم كله.. بكل ما فيه من طغاة وثوار وملوثات سمعية وبصرية.. مازال يبحث عن الشعور بالأمان..
شعر بتأثر شديد وحاجة ماسة إلى البكاء.. إنه بالرغم من كل ما صنع وصنع به ما يزال يحمل في داخله قلب طفل مذعور..
حتى وهو يضغط على زر المفجر فيتحول مدخل العقار إلى جحيم..
هو مجرد طفل.. طفل في لعبة فيديو أخرى..
طار أفراد الشرطة المقتحمين وارتج المبنى وبدا وكأنه على وشك الانهيار..
وكان هذا هو الوقت الذي قرر فيه باسم التحرك..
حمل قناعه وغادر مكمنه .. سيصعد إلى سطح العقار ومنه سيقفز إلى مبنى ملاصق لظهر العقار.. بعدها سيكون في الشارع يستوقف أحدى سيارات الصرف الصحي.. يقصد الأجرة..
لكنه لم يكد يرقى بضع درجات حتى سمع صوت خطوات قادمة من أعلى..
هناك شخص قادم إليه خصيصاً من السطح حيث يتوقع فراره ..
امتشق مسدسه وصوبه إلى أعلى وقلبه يدق .. هنا رآها تهبط بخطوات واثقة .. رتيبة .. جنائزية ..
لقد أرسلت الأسرة عفاف شخصياً من أجلك..

***

عمرو مصطفى
06-26-2019, 05:55 PM
(7)

كانت واقفة أعلى السلم وهي تخفي يدها اليمنى وراء ظهرها وفي عينيها نظرة ميتة لا انفعال فيها..
كان عليه أن يتوقع هذا على كل حال.. لا يفل الحديد إلا الحديد.. يمكنه أن يخدع رجال الشرطة.. لكنه لن يخدع أبناء كاره فهم الذين دربوه على كل تلك الوسائل .. لذا هم يتوقعون كل تحركاته..
لكن كيف علموا أنه هنا أصلاً ؟.. هذا السؤال خطأ كبير في حق الأسرة..
للحظات ظل الموقف جامداً.. هي لا تتحرك ولا تطرف عيناها، وباسم يصوب إليها سلاح الشرطي مهاب وهو يفكر.. كيف تتصور أنها ستصنع شيئاً بسكينة مطبخ وهو يصوب إليها مسدس؟
ـ أنا لا أريد إيذائك..
هنا فاجأته بسؤال غريب كأنها كانت مشغولة أثناء هبوطها بحل الكلمات المتقاطعة :
ـ هل تعرف معنى تارتاروس؟
سؤال غريب في وقت أغرب.. قال لها وهو يحكم التصويب إلى عينها الميتة:
ـ إنه اسم كسائر الأسماء التي يعج بها النظام العالمي الجديد..
ـ تارتاروس عند الإغريق هو أسوا مكان في الجحيم..
هز مسدسه في وجهها وصاح في غيظ :
ـ ما شاء الله أنت مثقفة جداً.. لكن لو تدرين.. لو لم نتحرك الآن سيتحول المكان كله إلى جحيم حقيقي ..
قالت وهي تواصل الهبوط ببطء كأنها لا تسمعه :
ـ سينتهي كل شيء بسرعة.. وبهدوء..
ـ حذار لا تتقدمي أكثر..
لكنها رفعت سكينها وهجمت عليه ..
ضغط الزناد تلقائياً وهو يميل جانباً ليتفادى هجمتها الشرسة.. كان جسده يرتجف من رأسه إلى أخمص قدميه.. وظل فترة مستنداً بظهره إلى الجدار وعينه لا تفارق جثتها التي انكفأت على درجات السلم .. الغريب أن السكين ظل في يدها..
لم يصدق أن هذه المرأة الكابوس انتهت هكذا في طرفة عين.. كأنها كانت مقدمة على الانتحار لا أكثر.. لقد قتل الكثيرين في تارتاروس.. القتل شيء سيء لكن الأسوأ أن تكون أنت المقتول..
هكذا انتزع نفسه من تأملاته وارتدى قناعه بسرعة ثم بدأ يثب فوق درجات السلم ..
أخيراً السطح..
اتجه عدواً إلى حافة السور.. ومنها قفز إلى سطح المبني الملاصق..
وهكذا ظل يثب من سطح إلى سطح حتى ظن أنه ابتعد عن الخطر بالشكل الكافي، فتوقف عند أحد الأسطح واتجه إلى السلالم..
حينما بدأ يهبط الدرج اكتشف أن المبنى الذي اختاره أشبه بمصنع مهجور.. وكان هذا مناسباً تماما.. فليس لديه وقت يضيعه مع الفضوليين.. لكن عند نهاية السلم شعر بتلك الوخزة في فخذه فتوقف.. نظر فرأى ذلك السهم مغروساً في أعلى فخذه.. رفع طرفه ثانيه فرأى شبح شخص يختبئ هناك خلف مجموعة من الصناديق..
هناك من يريد تخديره لسبب مجهول.. بدأ يفقد الإحساس بساقه المصابة فأخذ يثب على ساقه الأخرى محاولاً الخروج من هنا قبل أن.. تباً إن ساقه الأخرى تخذله هي أيضاً.. سمع صوت الخطوات من خلفه فاستل مسدسه وأستدار بصعوبة شاعراً أن قدميه مغروستان في قالبين من الخرسانة المسلحة..
هنا رآه بوضوح وهو يحمل قاذفة أسهم بدائية في يده.. كان شاباً طويل القامة نحيل، محني الظهر، تحت عينيه هالات سوداء.. إنه لا يرتدي قناعاً.. إذن الجو هنا مفلتر .. وبدا في وقفته مطمئناً وكأنه واثق من أن باسم لن يتمكن من إيذائه..
بالفعل حاول باسم أن يطلق الرصاص لكن يده خذلته.. وخر على قدميه والرجل يضحك..
ـ ما.. ماذا تريد؟
كانت تلك أخر كلمة قالها قبل أن ينعقد لسانه بفعل المخدر.. طبعاً عبارته تلك لم تتجاوز قناعه فلم يسمعها غيره ..
حينما اقترب منه الرجل بوجهه الشاحب، كان يبتسم في ود مفزع وهو يتفرس في ملامحه ..
ـ يا للمصادفة الكبرى.. أنت الشاب الذي كاد يفقد حياته بالحانة من أجل العاهرة.. تعرف عندي لك مفاجأة سارة.. لقد احتفظت لك بجثتها هنا في وكري.. اطمئن هذا المكان مهجور لا يوجد به أحد إلا أنا وأنت وجثة فتاتك.. لقد مللتها خصوصاً بعد أن بدأ العفن يدب في جسدها.. لكنني احتفظت بالأعضاء المهمة قبل أن تتلف.. سأضمها إلى أعضائك الطازجة طبعاً وستجتمعان يوماً ما في جسد أحد الأغنياء من الشرائح العليا والذين يدفعون كثيراً لأمثالي في مقابل هذه الأشياء..
كان الخدر قد سيطر على كل جسده فلم تبق إلا عبرات يائسة تسيل من عينيه الجامدتين..
شيء قاسي جداً أن تجد نفسك بعد كل ما فعلت، قد وقعت بالصدفة في قبضة مريض بالنيكروفيليا، وتاجر في الأعضاء البشرية كذلك.. وأنت معه بلا حول ولا قوة.. شيء قاسي جداً حينما تعرف المصير الأسود الذي صارت إليه أمل.. والذي ستصير أنت أيضاً إليه بعد قليل.. ولا تملك حتى أن تصرخ محتداً.. العزاء الوحيد أنك ستغادر هذا العالم الكئيب بعد قليل.. لا يهم ما سيصير إليه جسدك، المهم أن روحك ستحلق بعيداً عن هنا .. ربما حلقت هناك في العالم الذي حلمت به يوماً .. صحراء ممتدة بلا نهاية .. سماء صافية مرصعة بالنجوم .. وهدوء .. أهم شيء الهدوء ..
عاد بوعيه الشارد لعالمه الأسود ليرى الشاب مشغولاً في المفاضلة بين مجموعة رائعة من السكاكين البراقة .. لم ينتهي هذا الأحمق منه بعد..
هنا تراها.. رأسها الدقيق يبرز من خلف كتف الشاب حيث جلس القرفصاء.. إنها نفس الفتاة الصغيرة التي أعطتك القناع الواقي يوم الحانة ..
إنها تبتسم في رقة، وتلوح لك بكفها الدقيق.. ترى هل جاءت لتنقذ حياتك ثانية؟.. أم أنها جاءت لتقول لك: الوداع ..

***

ليلى تعاني آلام المخاض..
تفكر في زوجها الأحمق الذي طلقها وجن قبل أن يعرف أنها حامل..
حامل في الطفلة التي يريدها..
لكنها للأبد ستظل تعمل من أجل تحقيق حلمه في ابنته.. سترحل بها بعيداً بعيداً عن كل هذا الصخب المحموم ..
صحراء ممتدة بلا نهاية .. سماء صافية مرصعة بالنجوم .. وهدوء .. أهم شيء الهدوء ..

***
نهاية الجزء الثاني..
ويليه الجزء الثالث والأخير..
( اللامنتمي).

عمرو مصطفى
06-27-2019, 02:47 PM
اللا منتمي

(1)

فارس وحيد جوه الدروع الحديد..

رفرف عليه عصفور وقال له نشيد..

منين منين و لفين لفين يا جدع..

قال من بعيد، و لسه رايح بعيد..

***

ألقى جثة الأرنب البري بجوار باب الكوخ، وانحنى ليغسل وجهه ويديه في طست مليء بماء أصفر مجاور لفراشه.. الأصفر صار يميل للبني.. عليه أن يستبدل هذا الماء في أقرب فرصة..
رقد على ظهره ونظر للسقف الخشبي.. شعر بتلك القبضة الباردة تطبق على قلبه.. لقد تعلم كيف يفرق بين أزمات قلبه وبين انقباضه.. هذه المرة هو انقباض بسبب مجهول.. هل هناك كارثة ما تقترب في الأفق؟..
يقولون أن هذا يحدث حينما يتعرض لك قريب بسوء.. هل له أقرباء في هذا العالم؟..
نعم.. كان لديه زوجة وابن وحيد تركهما مجبراً ليحيا على هامش العالم على طريقته..
في هذا الخلاء يمضي يومه بين الصيد للعشاء والجلوس للقراءة بجوار النار.. في بعض الليالي الرائقة، يهاجمه ذئب جائع فيمارس معه بعض الرياضة، التي يحافظ بها على لياقته التي عملت فيها السنون بأنيابها ومخالبها..
اسمه حسن.. حسن شعيب .. ربما يجلس الساعات ليتذكر اسمه الذي لم يعد له قيمة هنا.. هنا يحيا على طريقته الخاصة التي اختارها لنفسه.. بعيداً عن ضوضاء النظام العالمي .. بعيداً عن التكنولوجيا..
اعتدل وهو يشعر بتلك الرعشة في أوصاله.. هناك شيء ما يجري، هل سيموت الآن؟.. لا بأس.. سيكون سعيداً حينما يموت حيث أختار أن يعيش.. وربما صارت جثته وجبة سهلة لذئب جائع.. سيكون مفيداً حتى وهو ميت..
قام مترنحاً وهو يتذكر وجه ولده الوحيد.. عماد الدين.. لابد أنه قد صار رجلاً الآن .. وللمرة المليون يلوم نفسه على تركه وحيداً في ذلك العالم القاسي..
بصق في التراب مشمئزاً وغادر الكوخ..
أخ!.. لقد نسي صيده ، وما كان ينبغي له أن ينساه..
سلخ الأرنب بعد عذاب، ثم بدأ يشق بطنه ويخرج الأحشاء..
هنا تذكر يوم قرر الفرار من بين براثن النظام العالمي .. سيعيش على طريقته الخاصة لن يضع شرائح في معصمه وتحت إبطه وداخل أذنه لتحصي عليه أنفاسه.. لن يشرب القهوة من يد روبوت ثرثار.. لن يقضي عمره رقماً يضاف لرصيد النخبة.. مجرد رقم..
لقد حرص على غرس تلك القيم في ولده الوحيد.. رأى في عينيه مستقبل أسود.. إما مع النخبة أو مع المتمردين على النخبة.. وعليه أن يختار بين أن يخسر روحه أو أن يخسر حياته..
أيقن أنه حينما يكبر لن يكون له عليه سلطان في ذلك العالم الذي انحلت فيه عرى الأسر.. لذا ففرصته الوحيدة هي في تدعيمه الآن..
كتب له يوماً :
) تلك التكنولوجيا يا ولدي هي لعنة العالم الحديث.. منذ أن بدأ الإنسان يرتقي في سلم التطور والتكنولوجيا، بدأ العد التنازلي للحياة على الأرض..)
كتب له عبارات كثيرة على أمل أن يجدها يوماً ويقرأها ويفهما .. لم يكن باستطاعته التصريح بهذا الكلام في ذروة المجد البشري .. بحكم كونه يخدم في جيش النخبة، كانت جملة كتلك تكفي لاتهامه بخيانة النظام العالمي.. سيتم استدعائه في وحدته العسكرية وسيحاكم في خمس دقائق ويعدم رمياً بالرصاص بعد خمس دقائق أخرى..
لكنه لا يريد لنفسه تلك النهاية السريعة.. يريد أن تصل صرخته لنهاية العالم.. يسمعها الزنوج العراة في الغابات الحارة، ويتردد صداها فوق قمم الجليد..
إنه يقرأ ويقرأ ويقرأ.. إن تعبير دودة القراءة صار لا يناسبه.. إنه حوت بالع.. وكلما قرأ كلما ازداد هماً وهرماً..
الكتب أضاءت له الطريق، فكان ما رآه مريعاً.. ومع ذلك أنت لا تستطيع الكلام حتى مع أقرب الناس إليك.. لأن الشرائح الذكية لن ترحمك .. كان بحكم عمله العسكري قد تلقى تدريباً في كيفية تضليل الشرائح الذكية في حالة الحروب، لكن مجرد استعمال تلك الوسائل السرية في وقت السلم ووسط المدنيين تعد جريمة عسكرية عقوبتها قد تصل للإعدام.. بالرغم من ذلك هو يعرف جيداً أن كثيراً من زملائه يرتكبونها معتمدين على ثقتهم في مهارتهم..
فكر كثيراً فوجد أنه لم يعد لديه حل أخر حتى لا يموت كمداً.. لكنه فوجئ حينما بدأ عملية التشويش أن لديه تحت سقف واحد زوجة مخلصة جداً للنظام العالمي.. مخلصة لأبعد الحدود.. لقد ثارت عليه واتهمته بأنه يعرض حياتهم للخطر، وأنه لا يتصرف كجندي في جيش النخبة وإنما كمتمرد وضيع.. إنها لا تسمع ولا ترى إلا ما تراه النخبة.. الكتب هراء.. والماضي سوءة في جبين البشرية..
ولم تهدأ حتى وعدها بألا يعود لفعلته تلك ثانية.. لكنه كان يعود لها حينما تكون هي خارج الوحدة.. كان يستغل غيبتها في تعطيل شرائحه وشرائح ولده ويبدأ في سكب ما لديه على أذنيه.. كانت سنه صغيرة على الاستيعاب، لكنه أمل في أن تظل عباراته تلك مخزنة في رأسه الصغير حتى يكبر ويبدأ في عملية الاستدعاء..
إلى أن جاء اليوم الذي تلقى فيه عرضاً مثيراً..
تذكر الرجل الودود الذي زاره في غيبة زوجته، بينما طفله الوحيد يغط في نوم عميق بحجرته.. تذكر ذلك الأزيز الذي أصاب شرائحه كلها يوم الزيارة.. إنه يعرف معناه جيداً، ولم يكن هو السبب هذه المرة..
ـ أنت تشوش على الشرائح؟
كذا سأل حسن الرجل الودود بطريقة صارمة كما تقتضي الحكمة.. قال الودود وهو يرفع ذراعيه كالمستسلم :
ـ إنها معنا تكون بلا فائدة..
ـ معكم؟!
قال وهو يبتسم في غموض:
ـ إنني أعمل لحساب الرفاق..
هنا جذبه حسن من ياقته للداخل وأغلق الباب خلفه في عنف .. بالداخل وجد الودود نفسه منطرحاً على وجهه وحسن جالس على ظهره وقد كبل يديه خلف ظهره.. بالرغم من ذلك لم تتلاشى ابتسامة الودود عن وجهه رغم ما سببه له حسن من ألم ..
كانت الأفكار حيوان مسعور تنهش رأس حسن.. ما معنى هذا كله؟ يبدو أنه لم يكن حريصاً كما ينبغي.. هل هذا الرجل من المتمردين فعلاً؟ أم مجرد فخ من المخابرات العسكرية؟.. لو كان من جهة النخبة فقد نجح في الاختبار، أما لو كان متمرداً فعلاً فهو لا يعرف ماذا يصنع معه؟
بعد قليل اكتشف أن الرجل مندوب من المتمردين حقاً.. معنى هذا أنهم وصولوا لما لم تصل إليه أجهزة استخبارات النخبة العسكرية!
أصاب حسن الذهول حينما أدرك أن المتمردين لديهم حاسة سادسة يشمون من خلالها بوادر التمرد قبل النخبة الأممية ذاتها.. هو الذي استطاع أن يداري أفكاره السوداء لسنوات يكتشف أن قلبه كان كتاب مفتوح أمام تنظيم المتمردين.. وما وجدوه كان جديراً بالاهتمام.. إن ضم عنصر من جيش النخبة الأممية لتنظيمهم لحدث جلل.
إنه يدرك من خلال عمله أنهم مخترقين للجيش الأممي نفسه لكنهم خاملين إلى يوم الوقت المعلوم. لن يكون هو الأول ولا الأخير.
قال له الودود :
ـ الآن.. هل يمكننا أن نجلس جلسة طبيعية؟
نهض حسن من فوق ظهره وسمح له بالجلوس.. ثم قدم له كوب من القهوة الساخنة!..
لاحظ أن الودود يرمي ببصره جهة غرفة الطفل الغافي فشعر بقلق مبهم ..
ـ كيف حال عماد؟
ـ لا شأن لك به.
تشمم الودود الأبخرة المتصاعدة من كوب القهوة باستمتاع.. ثم قال :
ـ لقد اشتقت لمثل هذه القهوة منذ زمان..
ثم إنه وضع كوب القهوة جانباً وسأل حسن في حزم :
ـ أنا بانتظار ردك.
يذكر حسن تلك اللحظة الفارقة.. تلك اللحظة التي تغيرت بعدها حياته للأبد..
ـ لا!
لم يصدق الودود في البداية .. ظن أنه لم يسمع جيداً.. هل أخطأ الرفاق في تقدير حالة حسن؟ لم تقابله حالة مماثلة لكنه يعرف القواعد جيداً..
قال وهو يدس يده في جيب معطفه:
ـ خسارة.
وحينما أخرجها كانت تقبض على مسدس صغير وأنيق.. ما حدث بعدها كان بسرعة البرق.. قام حسن بضرب رسغ الودود بكلتا يديه فأطاح بالمسدس.. وقبل أن يفهم شيئاً وجد نفسه منطرحاً على وجهه ثانية وحسن جالس على ظهره مرة أخرى.. لكن الفارق هذه المرة أن الأخير كان يضع المسدس الصغير والأنيق في قفاه..
ـ أنت لن تقتلني هنا..
ضغط حسن بفوهة المسدس على قفاه أكثر وقال بخشونة:
ـ ربما قتلتك لو تسببت في إيقاظ الطفل.
ـ أنت تهتم لأسرتك أكثر من اللازم.. كان عليك أن تقبل.
ـ لما؟
ـ لأن لنا نفس العدو المشترك..
ـ قد يكون عدونا واحد.. لكننا مختلفون كل الاختلاف.. في الطريقة والأسلوب الذي به نواجه هذا العدو..
ـ أنت رجل واحد.. ونحن تنظيم ضخم ومتكامل..
قال حسن في مقت :
ـ وكذلك النخبة.. هذا يذكرني بقول القائل: داوني بالتي كانت هي الداء..
ـ لا يفل الحديد إلا الحديد..
ـ هذا هو الضياع بعينه.. ضياع الهدف.. ضياع البوصلة.. اختلاط الوسائل والمقاصد.. أنتم تتعبون أنفسكم وتتعبون البسطاء معكم.. تلعبون مع النخبة لعبة القط والفأر.. تقدمون للنخبة تسلية أخيرة.. من الممتع أن تشعر النخبة الأممية بالإثارة.. أن تكون لها معارضة هزلية هدفها تثبيت دعائم ملكها.. وكل يوم يقبضون على حفنة منكم ويرسلونهم إلى هيدز ليصيروا فرجة العالم.. ليقال هذا هو جزاء من يعادي النخبة.
ظل الودود يستمع بلا مقاطعة حتى سكت حسن ليلتقط أنفاسه المبعثرة.. صدره يعلو ويهبط انفعالاً، لكنه يحب ما يقول.. يؤمن بما يقول.. يكره عكس ما يقول..
بعدها قال الودود بلا أي ود بسبب ثقل جسد حسن فوق ظهره والذي بدأ يخنق عباراته:
ـ أنت جندي .. كيف تريد أن تحارب النخبة إذن؟
ـ سأترك الخدمة في جيش النخبة من أجل التفرغ لحربها..
تساءل الودود باستمتاع رغم وجهه المحتقن:
ـ كيف ستحاربها؟
ضغط حسن بفوهة المسدس على رأس الودود، وهمس:
ـ من هنا..
رمش الودود بعينه عدة مرات كأنما يحاول ابتلاع صدمة الجواب.. ثم غمغم:
ـ هل تعتقد أنك ستصل يوماً ما؟..
ـ لا يهمني أن أصل.. المهم أن أموت وأنا أحاول الوصول..
ساد الصمت بينهما برهة .. ثم قطعه الودود بلا أي ود:
ـ قبل لي الصغير حينما يستيقظ..
قال حسن وهو يقوم عنه :
ـ سأفعل لكن ليس من أجلك..
نهض الودود وعدل من هندامه قائلاً:
ـ أحرص على الفرار بعيداً.. لأن العد التنازلي لحياتك سيبدأ من اللحظة التي أغادر فيها وحدتك.
ـ بعيداً.. إلى أين؟
ـ المكان الوحيد الذي يصلح لأمثالك هو الصحراء..
وقف حسن يرمق عماد وهو نائم .. تذكر كلام مبعوث المتمردين وشعر بغصة في حلقة.. لا فائدة من البقاء في هذا العالم حقاً..
حتى لو نجا بمعجزة ما من المتمردين، فلن ينجوا من شكوك المخابرات العسكرية.. ربما قام المتمردين بالوشاية به للمخابرات العسكرية، فهذه طريقة معتادة لديهم للتخلص من بعض أتباعهم المتمردين.. متمردين على المتمردين!..
ولو نجا من ذاك وتلك وظل خاضعاً للنظام العالمي فسيكبر ولده وسينشأ إما نخبويا ً غارقاً في دنيا الشرائح الذكية كأمه، وإما متمرداً.. وهو لا يريد له ذاك أو تلك..
الصحراء.. ولم لا..
ـ أرحل وحدك..
هكذا قالت له عفاف وهي تحول بينه وبين غرفة الصغير النائم..
كان حسن قد نزع عن نفسه الشرائح الذكية بعد أن قام بالتشويش عليها واستعد لتحرير ولده الوحيد حينما وصلت عفاف.. لم يخبرها بما دار بينه وبين مندوب المتمردين، لذا بدا لها قراره نتيجة حتمية لانغماسه في كتب الماضي.. الجنون.. جنونه سيضيعها وسيضيع ولدهما الوحيد..
قال :
ـ هذا ابني وأنت زوجتي .. يجب أن تطيعني..
ـ أنت مخبول.. تريدني أن أتبعك إلى الصحراء.. تريد لابننا أن ينشأ بين العقارب والحيات.. يعود للعصر الحجري.. عماد هو أملي.. سأربيه جيداً.. سأجعله أفضل مني ومنك..
قال في مرارة :
ـ كيف سيكون أفضل في ظل النظام العالمي؟
ـ النظام العالمي هو الضمان الوحيد لحياة أفضل..
كانت تتكلم وخلفها على الجدار شعار النخبة..
ـ سآخذ ولدي بالقوة..
هنا فوجئ ببريق السكين الضخم يلوح في يدها المرتعشة .. كانت تتكلم بشراسة واللعاب يتناثر من فمها مع الكلمات:
ـ مرحباً بك في النظام العالمي الجديد أيها الرجل الحجري.. أنت لن تستطيع لمس شعرة واحدة من ولدك.. سأخبرهم عن تعطيلك للشرائح الذكية.. سأخبرهم عن آرائك في النظام العالمي.. سأخبرهم بكل شيء.. كل شيء..
نظر لها في ذهول.. شعر أنه يواجه وحشية النظام العالمي الجديد في صورة زوجته .. أنها تنتمي إلى هنا ولا لشيء أخر.. أما هو فغير منتم..
ربما كان رحيله منفرداً حل مريح لجميع الأطراف.. ابنه سيتربى مع أمه على كل حال ولا أحد يدري ما في غد.. المتمردون لا يريدون إلا رأسه هو..
حسن شعيب أنت ورم خبيث لابد أن يستأصل من النظام العالمي..
ـ ماذا ستقولين لابننا حينما يستيقظ؟
أجابت ببرود وهي لم تتخل بعد عن سكينها:
ـ سأجعله يدعو لك بالرحمة..
غادر حسن عالم النخبة بلا شرائح بلا أمل في أي مستقبل.. غادر عالم المدنية الذي نشأ به وترعرع إلى الصحراء المترامية.. يجوبها بسيارة عتيقة مكشوفة هي أخر ما كان يملك..
عاد إلى الطبيعة التي حرم منها البشر.. يتمتع فيها بالحياة على طبيعتها بلا ملوثات ذكية أو رقمية..
حياته العسكرية السابقة أهلته للتغلب على قسوة الصحراء، بل على ترويضها.. شعر في ذلك الكوخ الذي ابتناه لنفسه في قلب الصحراء لأول مرة بأنه إنسان على فطرته التي خلقه الله عليها ..
في الليل يجلس ليرقب النجوم التي تؤنس وحدته، ثم يعود إلى جوال الكتب التي أحضرها معه.. كتب لم يعد لها وجود ولا قيمة في عالم النخبة.. الثقافة هنا جاهزة مثل الأكلات الجاهزة.. يتم شحن الدماغ بها عن طريق الشرائح اللعينة.. لست بحاجة للكتب التي تذكرك بالماضي الذي كان.. الماضي لم يكن وإن توهمت أنه كان.. النخبة هي الماضي والحاضر، هي هناك منذ الأزل وستبقى إلى ما لانهاية..
كم مرة وقف وحده في قلب الصحراء يصرخ بالحل، فلا يجيبه إلا صدى صوته الملتاع..
الحل هنا..
الحل سهل ممتنع لكن لا أحد يفهم.. ويتلفت حوله فلا يجد سوى الصحراء المترامية .. لا أحد يفهم لأنه لا يوجد أحد غيره أصلاً..
يعود للرقاد وتأمل النجوم .. يغلبه النعاس فيحلم بأحلام عجيبة..
إنه يحاول أن ينقذ عماد من مصير أسود .. إنه يذوب كالملح في حساء النخبة .. والنخبة تتناوله بملاعق ذهبية عملاقة..
هناك صرخات حادة ملتاعة يائسة تأتي من لا مكان .. والنخبة تتناول حسائها بلا اكتراث ..لكن هذا ليس صوت عماد .. إنه صوت أنثى.. تنتبه حواسه أخيراً فيفتح عينيه ويبدأ في إدراك ما هو حلم وما هو حقيقة..
هذا صوت أنثوي يستغيث بالفعل وقد تداخل مع الحلم.. هناك غرباء قد اقتحموا نطاق عالمه الخاص..

***

عمرو مصطفى
06-28-2019, 03:04 PM
(2)

التقط بندقيته وغادر الكوخ محنقاً..
ظل يمسح بعينيه المرهقة الصحراء القاحلة، هناك على مسافة لا بأس بها توجد سيارة متوقفة تنبعث منها الأضواء. إنه محنق لأن عالمه الخاص قد اخترق من قبل الغرباء، يحدث هذا على فترات متباعدة فليس وحده المتشرد هنا.. لكنه الوحيد الذي يتشرد لمبدأ..
الجديد هنا أن هناك أنثى حمقاء واقعة في مشكلة ما..
السيارة مكشوفة كسيارته، وبجوارها مجموعة من المتشردين يطوقون فتاة في مقتبل العمر مهلهلة الثياب ومنكوشة الشعر.. كانوا في قمة الانبساط والضحك وهي تسبهم وتضربهم ..
إنهم مستمتعين بضرباتها.. يعرفون أنها تلعب بقواعدهم هم.. سينتهون منها حينما يملون اللعبة.. نفس منطق النخبة..
هاجت مشاعره وغلى الدم في عروقه .. لقم البندقية وضغط على الزناد فانتفضوا جميعاً.. وقبل أن يتحرك أحدهم سمعوا صيحة حسن التحذيرية :
ـ ضعوا أيديكم فوق رؤوسكم..
بادر الجميع وبلا تردد إلى أمره حتى الفتاة المعتدى عليها، و قبل حتى أن يروه قادما نحوهم وهو يصوب بندقيته بإحكام..
تمتم الأول :
ـ من هذا العجوز؟..
همس الثاني :
ـ يبدو إسماعيليا..
أما الفتاة فقد وقفت تتأمله وهو يقترب بخطوات واسعة ثم قالت لهم بنبرة ساخرة:
ـ الإسماعيليين لا يسمحون بإهانة امرأة في أرضهم..
زجرها الثالث قائلاً :
ـ إنهم يرجمون الساقطات كذلك..
انتهى حسن إليهم فأشار للفتاة كي تخفض يدها، ثم التفت باشمئزاز لبقية المجموعة.. هو يعرف هذه النوعية التي تحيا على هامش الدنيا.. هؤلاء الحثالة لم يقدروا على العيش داخل نظام النخبة ولم ينضموا للمتمردين لأنهم لا مبدأ لهم ولا هدف.. يقضون الساعات في التسكع والعبث بالصحاري.. ربما عثروا على شيء ما يخطف من هنا أو يسرق من هناك.. لقد عانى من أمثال هؤلاء المتشردين كثيراً حينما وفد إلى الصحراء أول مرة .. كان هذا قبل أن يعلمهم الأدب طبعاً..
هتفت به الفتاة :
ـ يريدون سرقتي؟
هتف الثالث :
ـ أنها تكذب عليك يا رجل .. إنها كذابة أبنة..
قاطعة حسن بصرامة:
ـ لا تتطاول عليها أمامي..
ثم أشار للفتاة فلحقت به، واحتمت بظهره منهم، فلم يرها وهي تخرج لسانها لهم.. أشار لهم بالبندقية صائحاً:
ـ سأعد حتى ثلاثة.. إذا لم تغادروا بعدها.. فلن تغادروا أبداً.. واحد..
انطلق ثلاثتهم نحو السيارة وأولهم يصيح في جزع:
ـ حسناً يا أبت فقط لا تتعصب هكذا..
واصل حسن بصرامة :
ـ اثنان..
وثب الرجلان الباقيان إلي السيارة والأول يدير محركها بسرعة هاتفاً:
ـ هيا أيتها اللعينة..
ونظر لحسن في بغض وحرك شفتيه بكلام غير مسموع خمنه الأخير بالطبع.. صوب البندقية نحوهم وهو يهتف :
ـ ثلاثة..
وانطلقت سيارة الأوغاد الثلاثة مثيرة خلفها عاصفة من الغبار..
خفض حسن بندقيته ثم أطلق زفرة حارة.. دار على عقبيه ليتأمل عن كثب الفتاة التي وقفت خلفه وهي تبتسم له بامتنان.. أشار باتجاه كوخه قائلاً :
ـ كوخي على مقربة من هنا.. ستكونين فيه بأمان..
ـ لو كنت مكانك لأطلقت النار عليهم مباشرة..
ـ الحمد لله أنك لست في مكاني..
مشت خلفه وهي تقول :
ـ أنت شجاع..
ـ هل كنت تعرفينهم؟
باغتها السؤال فهزت كتفيها قائلة :
ـ ر.. ربما..
غمغم وهو يواصل المشي صوب الكوخ :
ـ أنا لا أريد مشاكل هنا..
ـ كنت أقول لك أنك عجوز شجاع..
ـ وأنت فتاة خرقاء تجوب الصحاري مع حفنة من المتشردين.. أليس لك أهل؟
ـ لقد كنت تهددهم ببندقيتك منذ قليل..
توقف وقال لها بدهشة :
ـ هؤلاء الحثالة أقاربك؟..
ـ ليس تماماً.. لقد نشأت بينهم ولا أعرف لي أحد سواهم..
هز رأسه في فهم ثم واصل المشي ..
إنه يعرف حياة الضياع تلك.. يوماً ما خشي على ولده الوحيد من مثل هذا المصير.. ربما كان مصيراً أسوأ من مصير الاندماج مع النخبة أو مع الثوار على النخبة.. التشرد..
وصلوا إلى الكوخ.. دخل وأشار لها لتجلس على الفراش.. الكوخ ليس به مقاعد.. فراش وطاولة وكتب متناثرة هنا وهناك..
ـ ما اسمك؟
تساءل وهو ينظر لها بتركيز .. قالت وهي تتثاءب:
ـ لوسي..
ـ تشرفنا.. وأنا حسن..
ـ تشرفنا.. هل أنت متشرد؟
ـ نعم.. ولا..
ابتسمت له بركن فمها، فشعر بشيء يختلج في صدره.. هذه لا تعدو كونها طفلة غريرة.. ضحية أخرى من ضحايا النخبة الأممية.. وهي كذلك في عمر ولده عماد.. قال لها موضحاً عبارته :
ـ متشرد بمعنى لا أهل ولا وطن فنعم .. أما على طريقتك أنت وعائلتك اللطيفة فلا..
هزت رأسها في فهم وإن كانت لم تفهم شيئا.. سألها:
ـ هل أنت جائعة؟..
قالها ولم ينتظر إجابة.. ألقى إليها بفخذ أرنب، وجلس يرقبها وهي تأكل بنهم.. كانت جائعة.. متشردة.. ولم تستحم منذ دهور..
وكان بداخله صراع محتدم بين شعورين متنافرين.. شعور نحوها بالشفقة البالغة.. وشعور نحو نفسه بأنه أحمق كي يأمن لمتشردة مثلها في كوخه..
قالت لما رأته يطيل النظر إليها :
ـ هل ستتركني أبيت هنا الليلة؟
ـ بشرط..
هزت رأسها مستفهمة.. فأكمل :
ـ أن تستحمي أولاً..
بدا على وجهها الذعر وعدم التصديق.. لم تتوقع أن يكون العجوز بهذه القسوة البالغة كي يطلب منها الاستحمام.. أخيراً ابتلعت ريقها وقالت باستسلام:
ـ من أين تأتي بالماء هنا؟
ـ هناك بئر قريب عدة كيلومترات من هنا..
ـ وتملك بئراً ؟!
ـ هو ملك لبعض أصدقائي من البدو..
سكتت هنيهة.. ثم عادت تسأله بمسكنة وهي تهرش في شعرها المنكوش :
ـ لابد أن أستحم؟
فرك عينيه قائلاً :
ـ هذا شرطي الحالي..
ـ وستحميني من عصابة دان؟
عصابة.. ودان.. تذكر ملامح الرجال.. إنهم ليسوا متشردين عاديين.. إنهم إحدى العصابات اليهودية التي تعج بهم الصحراء .. هذا ما كان ينقصه..
ـ هل تعتقدين أنهم سيعودون؟
ـ لن يتركوني بسهولة..
ـ ماذا أخذت منهم؟
فردت كفيها أمامه قائلة في براءة :
ـ لا شيء..
نظر لها بمعنى : أنت تكذبين.. فابتسمت له برقة جعلت قلبه يخفق من جديد.. غريبة تلك الفتاة .. تجمع بين التشرد والرقة في آن..
قال لها بلهجة أبوية كان مفتقدها منذ زمن :
ـ تعرفين.. ربما أمكنك المكث هنا لفترة أطول.. لكن عليك أن تتخلي عن حياة التشرد مع عصابة دان وغيرها.. سأعطيك فرصة ربما لن تتكرر..
قالت وهي تجول ببصرها في أرجاء الكوخ واضعة كفيها في خاصرتها:
ـ يمكنني أن أنظف لك الكوخ وأطهو لك الأرانب..
ـ وأنا يمكنني أن أنظف لك عقلك وأجلي لك بصرك..
التفتت إليه بدهشة..
ـ أنت تتكلم بطريقة غامضة وغير مفهومة..
ـ ببساطة.. سأعيد تربيتك من جديد.. لتكوني فتاة صالحة..
ـ هذا أغرب ما سمعت من رجل..
سكت برهة وهو ينظر إليها طويلاً.. كان يلمح عبر بريق عينيها صورة باهتة لولده عماد.. ودون أن يشعر وجد نفسه يهمس لها :
ـ لا أدري لماذا الآن يا لوسي؟.. لا أدرى..
نظرت له في غباء، فأطرق هامساً لنفسه :
ـ لكن.. الحمد لله على كل حال..
اقتربت منه ومالت عليه سائلة :
ـ تعرف الله؟..
ظهر الإعياء على وجهه فجأة فصاحت به :
ـ ماذا دهاك؟
ـ لا شيء فقط ستقتلينني برائحتك.. متى استحممت أخر مرة؟
تراجعت للخلف، ثم أخذت تعد على أصابعها ناظرة للسقف، فوثب بها حسن وجرها من يدها ناحية الفراش..
ـ لا أريد أن أعرف..
ثم انحنى ليسحب طست ضخم من أسفل الفراش مردفاً:
ـ هذا هو المغطس الخاص بي.. سأحضر لك الماء وسأتركك لتنعمي بحمامك ..

***

عمرو مصطفى
06-30-2019, 12:22 AM
(3)

جلس خارج الكوخ يحاول إشعال جذوة من النار يصطلي بها..
حينما ابتعد عن الفتاة انتابه شعور بالسخف.. ماذا يظن نفسه فاعلاً؟..
لوسي بقايا إنسان.. سيستيقظ في الصباح ليجدها قد سرقته وفرت..
صحيح هو ليس لديه شيء يسرق.. لكنها ستجد ما يصلح حتماً.. ربما ذبحته وباعت جثته لمن يريد قطع غيار بطريق غير شرعي..
ربما كانت تلك التمثيلية كلها مع رفاقها من أجل ذلك في النهاية..
حتى هنا لا تتركك أدران النخبة لحالك..
بعد قليل خرجت الفتاة وهي ترفل في أحد ثيابه بعد أن غسلت ثيابها وتركتها لتنشف.. نظر إليها فوجدها زهرة برية تتحسس طريقها بين عالم من الأشواك القاسية.. وفي لحظة تلاشت من رأسه كل أفكاره السوداء تجاهها..
ـ عماد كف عن ارتداء ثياب والدك إنها لا تناسبك..
ـ حينما أكبر ستناسبني حتماً..
ـ دعيه يا عفاف..
ـ الثياب ستتسخ..
قالت لوسي وهي تمشي بحرص:
ـ سأغسلها لك..
نظر لها وهي تتحرك بحرص كي لا تفسد الثوب ثم جلست بجواره أمام النار.. قال لها ووهج النيران ينعكس على تعبيرات وجهه :
ـ لقد تغيرت مائة وثمانون درجة..
ضحكت قائلة:
ـ لن يعرفني دان لو عاد ليأخذني..
ـ يبدو أنك مهمة جداً بالنسبة إليهم..
ـ في عالمنا تستعمل الفتاة كطعم جيد للإيقاع بالحمقى..
قال وهو ينكت في النار بعود :
ـ لكن ليس كل الحمقى يطلبون منك أن تستحمي كذلك..
ضحكت وقد فهمت ما يرمي إليه.. قالت وهي تمرر يدها في شعرها الملتوي كالحلقات :
ـ لقد كنت على وشك إطلاق النار على رجال دان .. لا أظن أن هذا كان جزءاً من الطعم..
ـ كانوا يريدون شيئاً منك.. شيئاً سلبتيه إياهم..
ـ لم أسلبه منهم.. لقد حصلت عليه بنفسي.. وهم يريدون مشاركتي فيه؟
ـ ما هو؟
مدت يدها في جيب سترته وأخرجت شيئاً في راحتها.. حينما نظر إليه حسن أدرك أنه لم يبتعد كثيراً عن أعين النخبة..

***

لم يصدق دان حينما أخبره المتشردين الثلاثة بما حصل مع لوسي..
كان جالساً باسترخاء أمام كوخه القذر.. وحوله تلال من السيارات القديمة المكومة فوق بعضها البعض، وقطع متفرقة من روبوتات وشاشات حاسب وأجهزة بث ثلاثي الأبعاد، وأثاث منزلي متابين بين العتيق والمتوسط والحديث..
أما دان نفسه فكان في العقد السادس ممتلئ الجسد قليلاً وله عينان خضراوان وبشرة لوحتها الشمس.. وقد كان رد فعله مدهشاً حينما أخبره الرجال العائدون بما جرى.. لقد أوسعهم ركلاً ولكماً وسباًً وبصقاً..
إنه لا يصدق أن لوسي التي رباها على يديه قد فرت بصحبة عجوز إسماعيلي..
ـ لابد أنه قد حدث لها مكروه يا أولاد الأفاعي..
صاح أحدهم وهو ينحني ليتفادى لوح من الصاج قذفه دان في وجهه:
ـ بل قد طمعت في بعض الشرائح التي نتعب ونكد حتى نحصل عليها من أجلك..
ـ وتتهمونها بالسرقة أيضاً!
وحمل أسطوانة غاز وهم أن يقذفها عليهم، لولا أن توقف فجأة وترك الأسطوانة، و بدأ يهدأ.. هو يعرف أن لوسي تربيته.. وبما أنه لص كبير فلا ينبغي أن ينتظر من تلميذته أن تصير قديسة.. بل هو يعرف أنها لن تتورع عن سرقة أحشائه نفسها لو كانت ذات فائدة لها..
قال بصوت أقرب للبكاء :
ـ أريد شرائحي..
ـ إننا نحفظ مكان الكوخ التي تقيم به..
هرش تحت إبطه في غل قائلاً :
ـ كم عددهم يا شامير؟..
قال المدعو شامير:
ـ إنه مجرد رجل واحد ومسن..
تدخل ثان قائلاً :
ـ لكنه يبدو قوياً ومحنكاً..
ركل دان الأرض صائحاً :
ـ وأنا أريد شرائحي أيها الأوغاد..
ثم أشار إليهم بسبابته واحداً تلو الأخر وهو يردد أسمائهم :
ـ شامير.. ديفيد .. إيزاك.. إعادة الشرائح والفتاة هي مسئوليتكم..
سأله المدعو ديفيد:
ـ والعجوز؟
لوح بذراعيه صائحاً :
ـ لا مكان للعجائز..

***

كانت بالفعل مجموعة من الشرائح الذكية تم لفها بشريط لاصق..
نهض كالمجنون وانتزعها من يدها صائحاً :
ـ لو كنت أعرف أن هذه الأشياء معك لما سمحت لك بالدخول هنا..
ثم ألقاها في النار أمام عينيها الذاهلتين..
ـ مجنون..
قالتها وهي تنهض وعيناها تتسع لمشهد الشرائح وهي تتموج وتذوب في قلب النار..
ثم وثبت عليه في توحش وهي تصرخ :
ـ أنت عجوز مجنون..
أمسك يدها ولوى ذراعها قبل أن تخمش وجهه بمخالبها.. بدت له كهرة صغيرة متنمرة لا أكثر..
ـ هذه الأشياء تتجسس علينا..
ـ هذه الأشياء تساوي مالاً يا أحمق..
دفعها لترتطم بجدار الكوخ قائلاً :
ـ أنا في مثل سن أبيك..
اعتدلت وهي تكور قبضتيها كأنها ستعاود الهجوم عليه.. ثم قررت أن تتراجع وهي تصرخ بغيظ :
ـ لن أبيت معك.. أنت عجوز مختل..
أشار إلى ثيابه التي ترتديها ..
ـ ردي إلي ثيابي إذن..
ـ إليك ثيابك اللعينة..
قالتها وهي تخلع الثياب عنها وتقذف بها في وجهه حتى وقفت كيوم ولدتها أمها.. أشاح حسن بوجهه عنها هاتفاً:
ـ يا معتوهة..
لكنها انطلقت مبتعدة وهي تسبه وتلعن اليوم الذي رأته فيه.. وظل هو واقفاً ينظر لقدميه متردداً.. هل يلحق بها أم يتركها لمصيرها.. تخيل فتاة مثلها تجوب الصحراء عارية.. ما المصير الذي ينتظرها؟.. خصوصاً بعد أن استحمت!..
ركل الحصى بحذائه ثم عاد للجلوس أمام النار وهو يزفر.. نظر لألسنة اللهب وهي تتمايل وهمس لنفسه:
ـ مرة أخرى تفشل في أن تكون أباً يا حسن..

***

حينما هم لإطفاء النار والعودة لفراشه لمح خيالها في الظلام يتسلل إلى الكوخ.. انتظر حتى تأكد أنها ارتدت ثيابها، ثم دخل عليها قائلاً:
ـ الثياب لم تجف بعد؟
ـ وما شأنك أنت؟
اقترب منها وقال مبتسماً :
ـ الثياب المبتلة قد تؤذيك..
نظرت له باستغراب ثم هزت رأسها بلا معنى واتجهت لباب الكوخ..
استوقفها قائلاً :
ـ ستعودين لعصابة دان؟
ـ لماذا تهتم؟
ـ لو كانت لي أبنة مثلك لما تركتها تذهب إلى وغد مثل دان.
أدارت وجهها إليه فرأت وجهه متأثراً.. بدا لها عجوزاً تعساً رغم جسد المشدود وبنيته القوية.. مجرد عجوز أصلع الرأس، والذي بقي من شعره على جانبي الرأس لم يتركه الشيب وشأنه..
قالت وقد هدأت حدة لهجتها نوعاً :
ـ ربما عدت لدان.. وربما بحثت عن غيره..
فرك حاجبيه بأنامله كالمرهق وقال :
ـ هذه ليست حياة يا لوسي..
ـ وأنت هل لديك حياة مختلفة؟
سكت قليلاً فظنت أنها أفحمته.. لكنه عاد ليقول لها في صرامة مفاجئة:
ـ أنا اخترت تلك الحياة على الأقل..
ـ اخترت أن تكون متشرداً مثلي؟
ـ قلت لك أنا لست متشرداً مثلك.. أنا أحيا في الصحراء بعيداً عن النظام العالمي الذي أفرز أمثالك من المتشردين يعيشون على هامش الحياة.. يسرقون وينهبون ويفرون في الصحراء.. هدفهم حيواني بحت.. البقاء على قيد الحياة أطول فترة ممكنة..
سألته بدهشة:
ـ وهل لديك هدف أخر في الحياة؟
جذب نفساً عميقاً قبل أن يجيب :
ـ بلى..
سألته بلهفة:
ـ وما هو؟
قال بهدوء :
ـ إجابة هذا السؤال قد تحتاج وقتاً طويلا..
هزت كتفيها قائلة :
ـ ليس لدي ما أقوم به حالياً..
أشار للخارج وقال بلكنة ساخرة :
ـ ربما عليك أن تلحقي بدان وعصابته.. قد يحالفك الحظ ويغفر لك سرقة الشرائح.. لكن لا أدري ماذا سيفعل لو علم أن الشرائح قد ذابت في النار..
قطبت جبينها قائلة:
ـ هل ستتركني أعود إليه ليقوم بربطي بسيارته ويجوب بي الصحراء..
أولاها ظهره كي يداري ابتسامته..
ـ بابا أنت لن تتركني هه؟
ضم شفتيه وهو يغمغم :
ـ ممممم.. دعني أفكر..
احتضن عماد ساقيه وهزه صائحاً :
ـ بل لن تتركني.. لن تتركني.. لن..
هنا لا يتمالك نفسه .. ينفجر في الضحك وهو يستدير ليرفعه عالياً و..
اختل توازنه فاستند على قائم الفراش كي لا يسقط.. تسأله لوسي:
ـ هل أنت بخير؟
قال وهو يحاول أن يبدو متماسكاً :
ـ أنا بخير يا لوسي..
وسكت قليلاً وهو ينظر إليها بثبات جعلها ترتبك..
قال بلهجة حانية محت ارتباكها ليحل محله إحساس غامض:
ـ ولن أتركك.. لن أكرر نفس الخطأ مرتين..
تأملته الفتاة كأنها تنظر له لأول مرة.. ولا تدري سر ذلك الإحساس الغامض الذي داهمها وهي تنظر لعينيه المنهكتين التي تشع طيبة وحنان وإرهاق..
هذا العجوز البائس بحاجة ماسة إليها وهي أيضاً بحاجة ماسة إليه..
لذا ستبقى..

***

افترش أمام باب الكوخ ووضع بندقيته تحت الوسادة المحشوة بالقش والخرق القديمة، حملق في سجادة السماء المرصعة بالنجوم وتنهد.. سبحان الله.. كيف بدأ يومه وكيف انتهى؟ بالأمس كان سيد هذا المكان بلا منازع.. والآن صار بواباً لفتاة متشردة من قلب الصحراء..
لم يكد يغمض عينيه حتى سمع صوت محرك سيارة يأتي من بعيد.. قبضت يده على البندقية بتلقائية وغمغم من بين أسنانه وهو مغمض العينين :
ـ بدأنا..

***

عمرو مصطفى
06-30-2019, 11:19 PM
(4)

حينما وصلت الأشباح الثلاثة إلى الكوخ لم يكن هناك أثر لحسن على باب الكوخ..
توقعوا أنه غافي بالداخل مع الفتاة منذ البداية؛ لذا استعدوا بأسلحتهم لاقتحام الكوخ وتصفيته بسرعة، واستخلاص الفتاة والشرائح..
وهكذا وقف ديفيد بالخارج بينما اقتحم شامير وإيزاك الكوخ شاهرين أسلحتهم..
ـ لا أحد بالداخل!
هنا جاوبهم صوت عظام تتحطم بالخارج، مع صوت صرخة مكتومة..
حينما غادرا الكوخ وجدا زميلهما ملقى على الأرض مهشم الأوصال، وقد استلب منه سلاحه..
ـ ديفيد ماذا حدث؟..
جائم الجواب من الخلف حينما سمعا تكة السلاح المميزة مع صوت حسن يطلب منهما إلقاء السلاح..
ألقيا السلاح بلا تردد واستدارا ببطء.. وجدا حسن يصوب إليهما سلاح ديفيد وهو يقول بهدوء:
ـ بالنسبة لرفيقكم فقد كسرت ذراعه اليمنى وساقه اليسرى.. لكنه قد يكون أسعد حظاً منكما لو حاولتما إغضابي..
ـ لا تنفعل هكذا يا أبت..
قالها إيزاك مصطنع المزاح، فقال له حسن بصرامة :
ـ أبحث عن أبيك بعيداً عني يا هذا.
ابتلع إيزاك لسانه ونظر لشامير مستنطقاً إياه..
وضع الأخير يديه فوق رأسه وصاح بصوت مبحوح:
ـ لم نأت لإيذائك يا أبت.. فقط أردنا الفتاة والشرائح..
ـ الفتاة لا تريدكم.. والشرائح قمت بحرقها بنفسي..
هنف إيزاك محنقاً:
ـ تباً.. هذا سيغضب دان..
قال له حسن ببرود :
ـ سأعد حتى ثلاثة.. أريدكما خلالها أن تحملا رفيقكما وتغادرا المكان..
صاح شامير في ذعر :
ـ لا ليس ثانية .. ثلاثة قليل جداً يا رجل.. لن أتمكن من أن..
قاطعه حسن ببرود:
ـ واحد!

***

ـ لقد رأيتك من بعيد وأنت تهشم عظام ديفيد.. أين تعلمت أساليب القتال تلك؟..
دخل حسن الكوخ فألقى قطع السلاح التي غنمها في ركن، والتفت إليها حيث هرولت خلفه.. قال لها :
ـ لقد خدمت في شبابي في الجيش..
كورت لوسي قبضتيها ووقفت وقفة قتالية مضحكة وهي تقول بحماس طفولي :
ـ لن أدعك حتى تعلمني..
أشار إلى فراشه الذي هجره من أجلها وقال :
ـ نامي الآن وفي الصباح سأعلمك كل شيء..

***

العجوز يعرف الكثير فعلاً..
هذا ما تأكدت منه في الأيام التالية التي قضتها معه.. لم تتركه حتى علمها كيف تدافع عن نفسها بسلاسة حتى وإن كان من يهاجمها كل عصابة دان دفعة واحدة.. فستعرف كيف تحولهم إلى حفنة من ذوي العاهات في ثوان.. هذا هو الإحساس الذي داهمها بعد كم التدريبات التي لقنها إياها..
قال لها :
ـ لا يهم كم عدد من يهاجمك.. ولا يهم مقياس قوتهم إلى قوتك.. المهم هو هنا..
وأشار إلى جهة قلبها..
ـ عقلك وهدوئك هو المقياس الحقيقي لقوتك.. احترسي من الخصم العاقل والهادئ، وإن كان أقل منك قوة، بأكثر مما تحترسين من القوي الأحمق والغضوب..
لم تنتهي دروسها مع العجوز على تعلم فنون القتال بالأيدي أو بالسلاح وفقط ..
لقد رأت منه أشياء أعجب وتعلمت منه أشياء أخرى لم تكن تجري بخاطرها..
كانت تحب مراقبته وهو يصلي، وتنصت إليه وهو يقرأ بصوت رخيم في كتاب صغير يدعوه مصحفاً..
سألها مرة عن ديانتها فقالت أنها لا تدري..
قال:
ـ توقعت أن تكوني يهودية مثلاً..
ـ من أجل دان وعصابته من اليهود؟.. أنا لا أعرف لي دين معين منذ وعيت على الدنيا..
ـ ملامحك عربية.. من يدري ربما تكونين مسلمة على الأرجح..
قلبت شفتيها وهي تهز كتفيها بمعنى أنها لا تدري.. ولا تعبأ..
نظر لها ملياً ثم سألها :
ـ هل تمانعي لو اخترت لك اسماً عربياً غير اسمك هذا؟
فاجئها السؤال.. فكرت قليلاً ثم ردت بسؤال :
ـ وماذا ستسميني؟
نظر للصحراء الممتدة كأنه يستلهم منها اسماً ، ثم عاد ليهمس لها :
ـ ليكن .. ليلى..
قالت باسمة :
ـ إنه قريب من لوسي..
هز رأسه ببطء نافياً ..
ـ شتان..
ساد الصمت بينهما برهة، ثم خطر لها سؤال فقالت:
ـ ما معنى أن أكون مسلمة؟
جذب نفس عميق ثم أغلق المصحف ورد على سؤالها بسؤال:
ـ ما هو هدفك في هذه الحياة؟..
ـ هدفي أن أحيا آكل وأشرب وأنام ملء جفوني..
ضحك وقال:
ـ هذا هو هدف سائر البهائم والحيوانات يا ليلى.. أما البشر فقد خلقوا لغاية وهدف أسمى.. أمانة عظيمة تحملها الإنسان وأشفقت منها سائر المخلوقات.. لكن ذلك الهدف وتلك الغاية طمست معالمها في غالب عقول البشر..
فتحت عينيها وقلبها لكلامه.. تلاشت الصحراء القاحلة من حولهما وحلت محلها مروج خضراء وينابيع عذبة.. شعرت بحلاوة في حلقها، فقالت لنفسها ذلك هو مذاق الحياة الحقيقية التي لم تعرفها.. لأول مرة تشعر بكينونتها.
طلبت منه المزيد، ففتح لها كتب في الدين والأدب والتاريخ، فتح لها باباً على دنيا عاشتها لعقدين من الزمان، ولم تعرفها..
تحت فروة رأس ذلك العجوز يوجد كنز أغلى من الشرائح التي عملت على سرقتها مذ نشأت مع عصابة دان..
أعطاها نبذ من تاريخ العالم القديم والحديث، كيف بدأت الدنيا وإلى أين صارت بالبشر في دوامات من المحن والابتلاءات والدسائس والمؤامرات، حكى لها عن النخبة الحاكمة أصلهم وفصلهم، كيف سيطروا على مقاليد الأمور في العالم، وصهروا الدول والشعوب والقبائل والطوائف تحت ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، ثم صاروا هم يفرقون ويميزون بين البشر، درجات وشرائح بعضها فوق بعض، وهم وحدهم على قمة هرم النظام العالمي..
استيقظ العالم على نظام هو أبشع ما توصلت إليه قرائح الطغاة عبر العصور..
استغربت كيف يعرف كل هذا رجل يحيا وحيداً بالصحراء، إنه يعرف عن النظام العالمي أكثر من هؤلاء الذين يحيون ليل نهار يسبحون بحمده، أو حتى هؤلاء الذين يناصبونه العداء.. سألته عن حياته السابقة فحكى لها ماضيه مع النظام العالمي الجديد .. لعلها المرة الأولى التي يحكي فيها تلك التفاصيل لكائن حي.
ـ لماذا اخترت الصحراء؟
ـ لا يوجد أصفى ولا أنقى من جو الصحراء..
ـ وكذلك لا يوجد أقسى منها..
ـ النظام العالمي أشد قسوة .. أما الصحراء فهي أقرب لأب يقسوا على ابنه كي يصقله..
قالت له وهي تمسك بحفنة رمل، ترفعها أمام عينيها ثم تنثرها في الهواء:
ـ هل ترغب في أن يحذو الناس حذوك؟
قال وهو ينكت بعود في يده :
ـ لا أجد لهم طريقاً أخر..
ـ تريد من الناس أن يتركوا العمران والحضارة ويعودوا للصحراء؟
ـ أنا لا أدعو للتصحر.. أنا أدعوهم حيث كانوا أن يزيلوا غبار القرون الذي علا فطرهم .. لقد لذت بالصحراء لأنها كانت أرحم بي من الخلق.. حتى من أقرب الناس إلي.. ولو وجدت يد حانية في عالم العمران والحضارة لما جئت لهنا..
قالت بشفقة تسللت كقطرات الماء العذب عبر شقوق روحه العطشى:
ـ تحيا هنا بلا أنيس ولا جليس؟
هز رأسه نافياً، وقال:
ـ لم أعد كذلك يا ليلى..

***

عمرو مصطفى
07-02-2019, 10:54 PM
(5)

أخذها بسيارته المكشوفة إلى مخيمات البدو التي تقبع بالقرب من كوخه.. قال لها أن هناك عقيقة وهو مدعو إليها، لم تفهم ما هي العقيقة لكنها أدركت أنه سيكون هناك الكثير من لحم الضأن..
كانت تخشى مثل تلك الرحلة فحياتها مع عصابة دان علمتها أن البدو هم أعدائها الطبيعيون.. حاول أن يطمئنها فقال لها أنهم من بقايا الزمن الغابر الذي لم يتلوث بمعاول الحضارة بعد.. ربما لضيق ذات اليد.. وربما لأن جيناتهم ترفض عالم النخبة المعدني البارد الخالي من الحياة..
بعكس الصحراء التي تشعرك بأن كل ذرة رمل فيها لها حياتها المستقلة وإن امتزجت مع مثيلاتها لتنسج تلك السجادة الصفراء الشاسعة التي يفترشونها صيفاً وشتاءً..
كان يحمد الله على أن يد النخبة الطائلة لم تصل بعد إلى الصحراء.. الصحراء هي المكان الوحيد الذي يهمله الطغاة غالباً ولا يلتفتون إليه..
حينما وصلوا إلى مخيمات البدو رأت ليلى حشد من الأطفال الصغار حفاة الأقدام باسمي الثغور يعدون ناحيتهم مهللين.. ولم يكد حسن يترجل حتى أحاطوا به من كل جانب وجعل هو يضمهم إليه بحنان جارف، كأنها عودة أب غائب لأولاده من صلبه. إنه يحفظ أسمائهم جميعاً ويسأل كل منهم عن حاله وحال أبيه، كم حفظت من القرآن يا على؟ أنت تتقدم على أقرانك يا فتى، وأنت يا بلال؟
بدأوا يلتفتون لليلى بوجوههم المغبرة برمال الصحراء الطاهرة وعيونهم التي تشع ذكاءً.. كانوا مستغربين من رؤيتها مع صاحبهم الذي كان شعاره الوحدة والتفرد.. من هذه يا عم؟
ـ أختكم ليلى..
ـ أنت لديك بنات؟
يبتسم حسن وهو ينظر لليلى :
ـ رزقت بها منذ أيام..
قال لها وهم يمشون بصعوبة بين الرؤوس الدقيقة، أن هؤلاء الأطفال كنز المستقبل.. لقد نشأوا على فطرتهم بعيداً عن صخب العالم وملوثاته السمعية والبصرية، وبقليل من الجهد والمثابرة سينشئون رجالاً كما ينبغي أن يكون الرجال.. النموذج المثالي الذي تنهض بسواعده الأمم.. النموذج الذي يحلم به حسن..
البدو هنا لا يستوعبون كثيراً من كلامه هذا، لكنه لا يشعر باليأس أو الإحباط أبداً. يقول لنفسه: غداً سيفهمون، ويكفي أنهم يثقون فيه.. يعتبرونه حكيم الصحراء الذي يأتي إليهم بين الحين والحين لينثر عليهم فيض من حكمه التي لا تنتهي.. إنه الوحيد الذي يملك كتباً في هذا الجزء من العالم الذي كف عن القراءة منذ عقود، فسكان الصحاري قد عادوا لتلقي العلوم عن طريق السماع.. أما أن يكون مصدر علومك هو الكتب فأنت بالنسبة للبدو تعد علامة زمانك وأوانك؛ لذا كانوا ينصتون إليه ويحاولون فهمه قدر المستطاع، وهو كذلك كان يحاول تبسيط الأمور لهم قدر المستطاع.. كذلك لم تتوقف فوائده لهم على النواحي الثقافية فقط، فخبراته القتالية التي لم تفارق دمه إبان خدمته العسكرية، كانت مفيدة جداً لهؤلاء الذين يعيشون حياة قاسية لا تخلوا من الصدامات العنيفة مع عصابات الصحاري.. هؤلاء الذين جاءوا من شتى بقاع الدنيا بعد أن لفظهم النظام العالمي، ليجدوا لأنفسهم هنا مرتعاً خصباً للممارسة شتى أنواع الجريمة بلا رقيب أو حسيب..
لقد نقل حسن إلى البدو خبراته العسكرية النظامية، وجعلهم يفاجئون تلك العصابات بأساليب لم يألفوها في قتال الصحراء الذي يعتمد غالباً على الفطرة الصحراوية، لذا فقد عاد إليهم قدر كبير من الأمن والرخاء مع ظهور ذلك الرجل الغريب والفريد في حياتهم.
مجرد رجل واحد ووحيد، فماذا لو كان هناك دستة منه في هذا العالم؟ حسن كان يعتقد أن من هم على شاكلته لا يلتقون غالباً، لأنهم جميعاً هائمون على وجوههم في الصحاري والقفار، فارين بأرواحهم من هوس النظام العالمي..
وصلوا لخيمة شيخ البدو الذي استقبلهم بوجه بشوش وإن لم يفت ليلى تلك النظرة المستغربة التي رماها بها.. إنه عجوز متماسك مثل حسن، وهو سليل قبيلة عريقة يعرفها الأخير جيداً.. توقعت ليلى أنه سيثب بها متهماً إياها بسرقة بعض رؤوس الماشية العام الماضي.. هؤلاء البدو لا ينسون الوجوه بسهولة.. أما هي فتنسى دائماً وجوه ضحاياها.. لكن لم يحدث شيء لحسن الحظ.
سألته وهم يقدمون لهما القهوة العربية مع التمر، لماذا لم يقم معهم بدلاً من حياة الوحدة تلك؟ قال لها أنهم يرحبون به، لكنه يحب الاكتفاء بزيارتهم غباً ليزدادوا له حباً..
شيخ البدو لا يكف عن تجاذب أطراف الحديث مع حسن.. أحياناً يدور حديثهم عن أحوال القبائل.. مشاكلهم.. خلافاتهم.. ثم يتطرق الحديث إلى العالم الخارجي.. فالبدو يسترقون السمع من هنا وهناك وينقلون لحسن شذرات من أخبار العالم الذي هجره منذ زمان .. فينصت باهتمام شديد كأنه ينتظر أن يسمع خبراً من هنا أو هناك عن زوجته وابنه الوحيد .. ثم لا يلبث أن يهز رأسه محبطاً وهو يردد أن هذا كله عقوبة من الله..
لاحظت ليلى أن الشيخ صداح قد أسر لحسن ببعض الكلام.. أدركت أن الكلام عنها فاضطربت .. إن لم تكن لهم معها سابقة سرقة أو نصب، فغالب الظن أنه يوصي صاحبه بالحذر في التعامل معها..
بعدها دخل شاب يشبه صداح يحمل وليداً في قماطه.. ثم لم يلبث أن ناوله لحسن، فنظر الأخير في وجه الوليد، وسرحت خواطره بعيداً.. ـ ماذا ستسميه يا حسن؟
ـ عماد.. عماد الدين..
تلاشت الذكرى فوجد نفسه يحدق في وجه أبو الوليد.. سأله عن اسمه فقال :
ـ عابر ..
غمغم حسن :
ـ عسى أن يكون له نصيب من اسمه.. ويعبر بنا المحنة.
هز صداح رأسه ممتناً لدعاء حسن، وأمر بصب المزيد من القهوة .. سأله حسن أن يلقي عليهم بعض أبيات الشعر.. فالشيخ صداح يحفظ دواوين من الشعر العربي القديم بالسماع ويجيد فن الإلقاء كذلك.. أما حسن فكان من المتذوقين..
وجيء بشاتين فوضعتا في السفود على النار، ورأت ليلى أجمل مشهد شوي في حياتها.. لقد أكلت لحوم نيئة من قبل، وأكلت أطعمة فاسدة من مخلفات المقاطعات، لكنها لم تر مثل هذا المشهد البدائي الخلاب في آن..
فكرت في الهجوم على الشاة وهي على النار، لكنها أحجمت كي لا تسبب فضيحة لحسن..

***

انتحى الشيخ صداح بحسن جانباً وقال له:
ـ عرفناك دقيقاً في علاقاتك مع بني البشر.. فكيف انحدر بك الحال إلى مصاحبة فتاة من سن أولادك وهي ربيبة لعصابة يهودية..
أومأ حسن برأسه كأنما توقع ما سيقول ..
ـ لقد أنقذتها من هلاك محقق.. كادوا يفتكون بها لولا تدخلت.. ولما كانت من سن أولادي كما ذكرت.. قررت أن أمارس معها دور كنت مفتقده بشدة منذ عقود.. دور الأب..
ـ إنها فتاة متشردة؟
ـ القسمة والنصيب..
ـ وعصابة دان لن تتركك..
ـ إنهم جبناء كغالب بني جنسهم..
ـ أخشى عليك غدرة الجبان..
ـ الله المستعان..
قال صداح وهو يبتسم في مكر :
ـ أنت عجوز ..
بادله الابتسام قائلاً :
ـ أنت لم ترهم وهم يعدون أمامي كالأرانب البرية..
كان اللحم قد نضج أخيراً، فتوقفوا عن الكلام .. ليلى كانت تنتظر على أحر من الجمر الذي نضجت عليه الشاة.. ولما وضعوا أمامها اللحم الساخن لسعت لسانها بسبب عدم صبرها على اللحم حتى يبرد.. وظلت تتحدث بقية يومها بلثغة مثيرة للضحك..
بعدها أخذوها لخيمة الحريم فلم يرها حسن إلا حينما قرر أن ينصرف، ساعتها رآها تغادر الخيمة وهناك شال مطرز يكسو شعرها الثائر، وقرط متدلي من أنفها لم تكد تبتسم لحسن حتى سقط منها فتلقفته بسرعة وحاولت تثبيته مرة أخرى بشتى الطرق..
ـ لا بد أن أصنع ثقباً في أنفي حينما أعود..
جذبها حسن وهو يلوح للشيخ صداح وبقية الرجال مودعاً..
ـ ومن سيسمح لك بهذا..
نظرت له بدهشة وهو يسحبها خلفه، لكنها دهشة لم تخل من سعادة غامرة لم تستطع أن تخفيها..
في طريق العودة قالت له وهي تسترخي في مقعدها :
ـ لماذا يعاقبنا الله ؟
ألقى عليها نظرة جانبية عابرة ثم قال :
ـ وأي شيء مما نفعله لا يستحق العقوبة من الله.. أتظنين أن النخبة هبطت علينا من المريخ؟ وأن العالم استجاب لها بالحديد والنار؟..
شعرت بالشفقة نحوه، إنه مهموم دائماً ومثقل بالجراح.. قالت له محاولة التسرية عنه :
ـ لكن الله موجود أيضاً..
هز رأسه أن نعم وقال:
ـ كل ما نحن فيه يؤكد تلك الحقيقة يا لوسي.. لكنه لا يتولى الظالمين.. كنا قديماً سادة هذا العالم حينما سرنا مع الله.. وقبلها لم نكن نساوي شيئاً بين الأمم.. قبائل متناثرة متناحرة.. الآن ترين أننا عدنا من حيث بدأنا لما تخلفنا.. على هامش العالم..
حلقت ببصرها في السماء الصافية ثم همست:
ـ تعرف.. بالرغم من كل ذلك.. أنا سعيدة..
انفرجت شفتيه عن شبح ابتسامة باهتة رغم ما به من هموم.. كانت ليلى كالفراشة العابثة التي تحلق بين الزهور، و لا تكاد تستقر لها على موضوع معين حتى تثب إلى موضوع أخر..
قال :
ـ السعادة شيء عزيز المنال في عالمنا هذا يا ليلى..
ـ لا أدري كيف أشرح لك.. لكن..
ولوحت بكفها كأنها تستدعي كلمات مناسبة للتعبير عن حالتها .. ثم أردفت وهي تهز كتفيها:
ـ لم يهتم بي أحد من قبل مثلك..
ظل حسن يقود بوجه جامد وعين لا تطرف.. شعرت ليلى بخيبة أمل من رد فعله البارد فأطرقت.. لكنه سرعان ما التفت إليها قائلاً :
ـ أنا أيضاً سعيد يا ليلى..
رقص قلبها وهي تسأله بدلال :
ـ وما سر تلك السعادة يا ترى؟
قال باسماً:
ـ لأنني لم أهتم بأحد منذ زمن بعيد مثلما اهتممت بك..
نظرت طويلاً لتجاعيد وجهه المرهق وهي تفكر.. ترى هل لو كانت قد عثرت على أبيها الحقيقي.. هل كانت ستشعر معه بنفس الاطمئنان والدفء الذي تشعر به الآن وهي إلى جواره؟..
شردت ببصرها في الصحراء المترامية التي تنهبها السيارة وتمنت أن يطول الطريق أكثر.. لم تحب الصحراء من قبل لكن حسن جعلها تهيم بها حباً.. مثله لا يمكن أن يظل بقية حياته مشرداً هكذا.. مثله كان في أمس الحاجة لمثلها..
ـ لا يمكن!
نظرت لحسن فرأت وجهه مسوداً وعيناه تضيقان..
الكوخ يلوح من بعيد.. لكن لماذا تتصاعد منه الأدخنة؟
زاد حسن من سرعته مثيراً خلفه عاصفة من الرمال.. الكوخ يقترب ومعه تتضح الرؤية.. أخيراً أطلقت السيارة فرملة عاتية ووثب منها حسن وهو يحمل بندقيته صائحاً :
ـ أبقي هنا..
لكنها لم تبق.. وثبت خلفه لترى المأساة التي سببتها لذلك العجوز البائس..
لقد عاد دان مع عصابته أثناء غيبتهم، وقرر أن يترك بصمته على كوخ حسن..
بصمة ربما لن تنمحي آثارها من روحه إلا مع مغادرتها لجسده..

***

عمرو مصطفى
07-04-2019, 01:50 PM
(6)

أطلال حزينة سوداء تتصاعد منها الأدخنة كالزفرات الحارة..
هذا هو ما تبقى من كوخك يا حسن ..
ليلى لم تدر ما تقول أو تفعل.. تراجعت للخلف خشية تهور العجوز الذي وقف يحدق في الكوخ ذاهلاً.. يرفع بندقيته ثم يخفضها.. يدور حول نفسه.. تدور الأرض من حوله.. راح كوخه.. راحت كتبه..
ألقى البندقية وارتمي في أحضان الأطلال الباقية.. مرغ وجهه في الرماد الحار.. ثم قام وقد تحول وجهه إلى كتلة غضب سوداء مبهمة الملامح وفي وسطها جذوتين من لهب مستعر ..
هل كان كل ذلك يستحق؟..
سمع النشيج من خلفه فاستدار إليها ببطء.. هالها منظره المخيف فوضعت كفها على فمها لتكتم بكائها..
لم يقل لها سوى عبارة واحدة مقتضبة:
ـ لم يبق لي غيرك يا ليلى..
انسابت الدموع الحارة على خديها وهي تردد :
ـ أنا التي جلبت الوبال على رأسك..
التقط البندقية ووضعها على كتفه ثم اتجه للسيارة قائلاً :
ـ بل هم الذين جلبوا الوبال على رؤوسهم..
ركبت بجواره وجلسا صامتين لبرهة.. ثم مدت كفها بحذر وحاولت أن تمسح الرماد الأسود عن وجهه .. سألها بصوت مشروخ:
ـ تعرفين كيف نجدهم؟
مسحت دموعها هي فلطخت وجهها بالهباب.. قالت :
ـ إنه وكر يعج باللصوص.. هذا يعني أن مصيرنا لن يختلف كثيراً عن مصير الكوخ..
ـ دليني فقط على الطريق..
قالت باستسلام :
ـ اتجه شمالاً..

***

مشهد الغروب الحزين يغلف الصحراء المترامية خلف وكر دان..
على مقربة من أكوام الخردة والمسروقات التي تحيط بالكوخ، قام الرجال بإشعال النار والجلوس حولها استعداداً لبرد الليل القارص، فجو الصحراء المتقلب يريك فصول السنة الأربعة على مدار اليوم والليلة..
دان في غرفته الخاصة في قلب الوكر يستمتع بفحص شرائحه الذكية.. إنهم لا يحتاجون لمثل هذه الأشياء هنا في الصحراء، لكنه أقنع رجاله بأن الأمر بالنسبة إليه أشبه بهواية جمع الطوابع النادرة والغالية، ولقد دفع ثمن هذه الكذبة حينما أغرت لوسي بسرقة بعض هذه الشرائح والفرار من قبضته طمعاً في بيعها لأحدهم..
لكن الحقيقة هنا إنه يجمع من خلال تلك الشرائح تاريخ مئات البشر، لديه سجل كامل لحياتهم، يمكنه عن طريق جهاز معقد صغير سرقه من إحدى الوحدات الشرطية أن يسرد كل تفاصيل أصحاب تلك الشرائح. بعض التفاصيل تكون خاصة جداً، لذا كانت تلك هي متعته الخاصة حينما يدخل الليل..
يقرر أن يمارس دور النخبة الأممية حينما تحصي أنفاس البشر وتتجسس على أدق تفاصيل حياتهم..
تلك الشريحة كانت مع أم ربيبته لوسي.. مازال يذكر ذلك اليوم جيداً.. كانت تدعى ليلى.. لقد حصل على تذكاره الخاص منها وهي تجود بأنفاسها تحت وطأة الحمى.. عرف قصتها كاملة من شرائحها الذكية، وقرر أن يسدي لها معروفاً في ابنتها الرضيعة.. سيجعل منها لصة محترفة.. وسيسميها لوسي كذلك على اسم فتاته التي ماتت بالسلالي العام الفائت.. لكنه لم يستوعب أن الدماء التي تجري في عروقها دماء إسماعيلية وأنها ستخونه مع أول إسماعيلي تقابله..
صب لنفسه كوب من الديسكافيه.. ذلك المشروب السحري الذي يسرقه بانتظام من مقاطعات الشريحة جـ.. وجلس يتسلى بمشاهدة ما تبثه الشرائح المتنوعة من معلومات وصور ومشاهد ثلاثية الأبعاد.. هذا حريق ضخم في مكان ما.. يبدو أن صاحب تلك الشريحة كان يعمل في فرق الإطفاء.. هناك مشاهد نيران وأدخنة وجثث متفحمة.. خيل إليه كأن الأدخنة غادرت إطار الصورة المبثوثة وبدأت تنتشر في أرجاء الغرفة.. وحينما سمع صوت الانفجارات خيل إليه أنها تدوي من حوله بالفعل لكنه عزى ذلك للجودة العالية لذلك الفيديو الذي يشاهده..
لكن هل تصل جودة الفيديو إلى حد يجعله يشم بالفعل رائحة شياط ..
هنا انتفض قائماً وجرى ناحية الباب.. لكن لم يكد يضع يده على المقبض حتى أطلق صرخة مدوية، وتراجع وهو يرفع كفه أمام عينيه المتسعتين.. كان هناك حرق بشع في راحته بحجم مقبض الباب..
صرخ :
ـ إلي يا رجال !
لكن انفجار مروع أطاح بالباب، واندلع عبره لسان من نار لفح وجهه فارتد للوراء وهو يصرخ مدارياً وجهه بساعديه..

***

بالخارج اكتشف الرجال الجالسين الكارثة مبكراً..
وحينما هرولوا بدلاء الماء ناحية ألسنة اللهب التي اندلعت بين أكوام الخردة أطاح بهم أول انفجار..
بعدها توالت الانفجارات وتحول الوكر في ثوان إلى قطعة من اللهب..
ومن بعيد جلست ليلى داخل سيارة حسن ترقب المشهد وقلبها يخفق بقوة.. ثم فجأة شعرت بأحدهم يقفز بجوارها على مقعد القيادة فكاد قلبها يطير..
ـ لقد انتهيت..
قالها حسن بهدوء شديد، ثم جلس معها يراقب المشهد المهيب.. الانفجارات ما زالت تدوي حيناً بعد حين.. ومع كل انفجار تتألق عينا حسن بنشوة ظافرة..
قالت ليلى بأنفاس مبهورة ووهج النيران ينعكس على قسمات وجهها:
ـ أنت فعلت كل هذا وحدك!
قال حسن بعين لا تطرف:
ـ العين بالعين..
ثم أردف:
ـ هناك مثل يقول: من كان بيته من زجاج فلا يقذف الناس بالطوب.. لقد أحرق دان كوخي ونسي أن مخزنه قنبلة موقوتة.. إنه مليء بالوقود وأسطوانات الغاز وغيرها.. وأنا مازالت خبراتي السابقة تلح علي.. كنا قادرين على إحداث دمار شامل بأشياء لا يمكن تصورها.. أشعر أنني عدت للوراء أكثر من ربع قرن..
هنا لمحا سوياً تلك السيارة التي انبثقت فجأة من قلب الجحيم.. واندفعت بكل سرعتها في قلب الصحراء.. كان بداخلها رجل واحد..
صاحت ليلى :
ـ هذا هو دان..
أصر حسن على أسنانه وهو ينطلق خلف سيارة الأول كالسهم ..
ـ تشرفنا!
سألته في لوعة :
ـ ماذا ستفعل معه؟
قال بتلقائية وهو يدير المقود:
ـ سأقتله..
في نفس الوقت كان دان ينظر لهما عبر مرآة سيارته ..
ـ لوسي و الإسماعيلي العجوز!..
و ضرب على المقود بيديه مردفاً في غل:
ـ ليكن.. هيا.. تعالوا.. تعالوا خلفي..
بالرغم من دمار وكره، ومصرع رجاله، والحروق التي طالت وجهه وذراعيه، إلا أنه كان سعيداً لأنه استطاع إنقاذ شرائحه الأثيرة.. كل شيء يمكن تعويضه إلا الشرائح..
زاد من سرعته موغلاً في قلب الصحراء، ومن خلفه سيارة حسن المكشوفة.. يشقان الصحراء الناعمة في خطين متتابعين.. ثم التحم الخطان ليصرا واحدا.. وصارت المسافة بينهما تتضاءل.. وتتضاءل..
ـ تعالي إلي يا لوسي الساقطة أنت وحبيبك المومياء..
قالها دان و ضغط على الفرامل فجأة لكي تصطدم به سيارة حسن..
لكن الأخير أدار المقود بسرعة لتنحرف سيارته في اللحظة الأخيرة وتتفادى الارتطام القاتل.. صرخت لوسي بينما تناثرت الرمال على شكل دوامة وعربة حسن تدور حول نفسها.. وحينما نجح في السيطرة عليها كان دان قد انطلق بسيارته ثانية وهو يقهقه..
ترك حسن المقود لليلى وشهر بندقيته باتجاه سيارة دان..
ضغط الزناد وهو يتمنى أن يفعلها بهذا الوضع الحرج، لكن طلقاته طاشت كلها بعيداً عن جسم السيارة.. لابد أن يعترف لنفسه : أنه لم يعد كما كان.. التصويب من سيارة مسرعة فوق الرمال الغير ممهدة.. تلك كانت لعبته الأثيرة أيام خدمته في الجيش.. أما اليوم فهو بحاجة لأرض ثابتة ليقاتل عليها.. أما اليوم، فهو في معركة حقيقية وليس في تدريب..
تهتز السيارة.. ترتفع وتنخفض.. الأيام الخوالي تتراءى لناظريه.. فيختل توازنه.. وفي أخر لحظة يتماسك قبل أن يسقط من العربة المسرعة..
ليلى تتضرع إليه كي يجلس، فيلتفت إليها هاتفاً بحرقة :
ـ لقد أحرق منزلي يا ليلى.. ذلك اليهودي أحرق منزلي.. لماذا لا تفهمين؟
انكمشت في مقعدها وهي تنظر له في رهبة.. لقد بدا لها للحظة وكأنه يناضل من أجل شيء أخر أكبر من كوخه.. ربما أكبر من تلك الصحراء المترامية أمامها..
كأن هناك ثأر موغل في القدم بينه وبين دان الذي واصل الانطلاق بسيارته وهو يترنم بانتشاء :
ـ هافا ناجيلا.. هافا ناجيلا.. هافا ناجيلا فينسماخا..
( لنفرح.. لنفرح.. لنفرح ونسعد )
ومن بعيد تبدت أمامه تلك الأسوار المحاطة بالأسلاك والأبراج، فتألقت عيناه متمتماً في جذل:
ـ وصلنا إلى بر الأمان..
وواصل الترنم بصوت أعلى وهو يهتز بنشوة :
ـ هافا نرنينا.. هافا نرنينا..
( لنغني.. لنغني )
انعقد حاجبي حسن حينما لمح المشهد..
ـ هذه قاعدة عسكرية ..
عقبت ليلى :
ـ إنها كذلك.. دان له علاقات وطيدة معهم.. ولاشك أنه سيلجأ إليهم لحمايته..
ثم نظرت له في قلق وأردفت:
ـ إنها نهاية الرحلة بالنسبة إلينا..
نظر لسيارة دان وهي تواصل الانطلاق باتجاه القاعدة وشعر أن عقله قد توقف عن العمل..
هافا نرنينا فينسماخا..
تمتم من بين أسنانه :
ـ النخبة.. لطالما حالت بيننا وبينهم..
سألته ليلى بغباء:
ـ بينكم وبين من؟..
التفت إليها صائحاً :
ـ اتركي لي القيادة..
عورو.. عورو..
( استفيقوا .. استفيقوا..)
صاحت:
ـ لقد اقتربنا أكثر من اللازم..
تجاهل حسن صياحها وهو يركز على سيارة دان، التي أخرج منها الأخير كفه براية تبدو وكأنها شارة متفق عليها بينه وبين حراس الأبراج؛ كي يسمحوا له بالعبور..
لكنهم طبعاً سينسفون أي ذبابة تفكر في العبور خلفه..
عورو.. عورو
عورو أخيم بِلِف سَمِيّاخ..
( استفيقوا يا إخوان بقلب سعيد )
عورو أخيم بِلِف سَمِيّاخ..
عورو أخيم بلف سمياخ ..
عورو أخيم..
عورو أخيم..
عورو أخيم..
بلف سمياااااااااااخ..................

***

فجأة ظهر أمامه ذلك الجمل الشارد ..
وبتلقائية أدار دان المقود وهو يطلق السباب..
ومن بعيد كان المشهد بالنسبة لحسن ولوسي خرافياً..
سيارة دان انحرفت فجأة وهي بأقصى سرعتها، لتتفادي الارتطام بسفينة الصحراء.. فانقلبت عدة مرات متتالية قبل أن تزحف مسافة لا بأس بها وسط عاصفة من الرمال..
وتوقفت أخيراً بعد أن تحولت إلى كتلة معدنية مبهمة الملامح..
بينما واصل الجمل طريقه بلا مبالاة وكأنه لم يصنع شيئا..
وحينما وصل حسن إلى موضع الحادث، أوقف السيارة وقفز منها متجهاً ناحية سيارة دان المعجونة ليشفي منه غليله.. اتجه إلى موضع كابينة القيادة وانتزع بابها وألقاه جانباً، ثم مد يده ليمسك بتلابيب دان ويجذبه خارجاً ..
كان دان حياً وإن كانت جراحه تقول أنه لن يستمر كذلك طويلاً..
هناك جرح قطعي في البطن تتدلى عبرها أمعائه بالإضافة للدماء التي كانت تغرق وجهه المحطم.. تقلصت قبضة حسن وهو يتردد في سحق ما بقي من عظامه.. ثم ترك جسده على الرمال وتراجع بظهره للخلف..
سمع شهقة ليلى من خلفه ففهم أنها رأت المشهد البشع ..
ـ لوسي.
كانت هذه من دان وهو يرنوا إلى ما وراء كتف حسن.. حيث وقفت لوسي واضعه كفها على فمها ودموعها تنساب في صمت..
ـ ساعدني يا لوسي.. أنا الذي ربيتك..
قال له حسن :
ـ جرحك قاتل.. لا يستطيع أحد مساعدتك.
حاول دان أن يرفع طرفه ليري ما حل ببدنه ثم تأوه وسقط رأسه للخلف..
ـ أدن مني أيها الإسماعيلي..
تقدم منه حسن ومال على صدره ليسمع ما يريد قوله.. كانت شفته ترتجف وصوته يزداد ضعفاً فبدا أقرب للهمهمة ..
ـ أطلق علي رصاصة الرحمة.
هز حسن رأسه ببطء وقال :
ـ وما يدريك أنها سترحمك؟
ظهر الرعب على وجه دان الدامي وهو يهمس :
ـ لا تتركني أتعذب طويلاً.. أرجوك.
رمقه حسن بنظرة طويلة ساهمة.. ثم مال على أذنه وقال شيئاً..
أصغى إليه دان وصدره يقعقع.. بعدها لانت ملامحه تدريجياً وبدا وكأنه يحاول جاهداً تحريك شفتيه ليقول شيئاً بدوره..
ليلى لم تفهم ما يدور هناك لكنها لم تجرؤ على الاقتراب..
وأخيراً نهض حسن وهو ينفض كفيه.. التفت لليلى فرأت على وجهه التأثر..
ـ مات؟
أومأ لها برأسه إيجاباً، واتجه ناحية سيارته..
لكن فجأة ثارت عاصفة من الرمال حجبت عنهما الرؤية.. وسمعا صوت هدير فوق رأسيهما مباشرة.. لقد حركت القاعدة العسكرية إحدى حواماتها من أجلهم..
كان هناك جندي يصوب بندقية آلية إليهم، وصوت يتردد عبر مكبر صوت يطلب منهم عدم الحركة..
رفع حسن كفيه مستسلماً وهو يغمض عينيه كي لا تؤذيهما الرمال.. قال لنفسه وهو يسمع وقع أقدام الجنود :
ـ بعد كل هذه السنوات يا حسن.. تعود إليهم برجليك..

***

عمرو مصطفى
07-11-2019, 03:29 PM
(7)

احتجزوهم في حجرة صغيرة بلا نوافذ أو مقاعد..
طرحوهم أرضاً على وجوههم وقاموا بتقييد أيديهم وأرجلهم..
حينما رفع حسن طرفه بحذر رأى معهم بالغرفة ثلاثة جنود مدججين بالسلاح، كانوا ينظرون إليهما بلا مبالاة..
ترى هل سيحاكمونهما بتهمة الاقتراب من نطاق قاعدة عسكرية؟ أم سيتهمونهما بقتل صديقهم دان ؟..
بالنسبة لحسن كان هناك احتمال ثالث وهو أن يكتشف أحدهم ماضيه وتتم محاكمته محاكمة عسكرية..
بعد قليل سمعوا صوت خطوات ثقيلة تنم عن ثقل ظل صاحبها.. ثم ظهر ضابطاً برتبه، له ملامح أجنبية لوحتها الشمس ويضع على عينيه منظار داكن ويبتسم في لزوجه.. أحضر له أحد الجنود مقعد معدني صغير، فقربه من حسن وليلى وجلس عليه بالعكس..
ـ لوسي.. لقد تغيرت كثيراً.. لم أعرفك في البداية .. النظافة أفقدتك الكثير من جاذبيتك..
توتر حسن وهو ينظر لليلى.. إنهم يعرفونها كذلك بحكم علاقتها بدان.. مال الضابط على ليلى فتحفز حسن وانقبضت عضلاته بشده، سيأكل حنجرته لو تجاوز حدوده معها وليكن ما يكون..
ـ لماذا انقلبت على دان يا لوسي.. من أجل العجوز؟
وازدادت ابتسامته لزوجة ومكراً وهو يضع قدمه على عاتق حسن مردفاً :
ـ لا أفهم سر تفضيلك لكبار السن دائماً..
قال له حسن باشمئزاز :
ـ إنها ابنتي..
ارتفع حاجبي الضابط في دهشة مصطنعة ثم التفت لأحد رجاله ضاحكاً:
ـ أنظر يا بيرت لقد وجدت لوسي الشقي الذي فعلها مع أمها يوماً ما..
هنا كان حسن قد انشب أسنانه في ساق الضابط، فأطلق الأخير صرخة عاتية وركل حسن في وجهه..
ـ كلب عقور!
وانهالت النعال العسكرية على حسن من كل جانب، فصرخت ليلى وهي تحاول حمايته بجسدها رغم القيود..
ـ أبي.. أبي..
نسى حسن الركلات التي تنهال عليه.. تلاشى كل شيء من حوله.. لم يعد يرى سوى ليلى الملتاعة.. والتي كفت عن اللوعة حينما رأته ينظر إليها بثبات وكأن الجنود يضربون شخصاً أخر..
لقد كاد ينسي طعم هذه الكلمة منذ عقود..
(أبي )
لو قتلوه الآن فلسوف يفعلونها وهو في أسعد حالاته.. فقد بيته وكتبه، وسيفقد حياته ضرباً بالأحذية.. لكنه نجح من جديد في أن يكون أباً حقيقياً..
سمع صوت الضابط وهو يأمر جنوده بوقف الضرب.. فعاد إليه وعيه وألمه.. رأى وجه الضابط يطل عليه من أعلى، فخيل إليه أن النخبة الأممية ذاتها قد تجسدت في ذلك الوجه الذي يطل عليه الآن من عل..
ـ لماذا كنتما تطاردان دان؟
لاهثاً أجاب وصدره يعلو ويهبط:
ـ كان مدين لي.. وتم تسديد الدين كاملاً..
التقط الضابط طرف الكلام وبدأ يسأله عن طبيعة هذا الدين..
هنا بدأ حسن يحكى له كل شيء.. حتى حكاية حرقه للشرائح الإلكترونية.. كأنه يتعمد استفزاز الضابط النخبوي.. لكن الأخير ظل يستمع له بوجه بارد خالي من المشاعر..
انتهى حسن من الكلام فتنهد كأنما تخلص من حمل ثقيل فوق كاهله..
سأله الضابط :
ـ لماذا أحرقت الشرائح ؟
جاهد حسن كي يبتسم في تشفي..
ـ إنها مسألة مبدأ..
خلع الضابط منظاره الداكن ودعك عينيه الزرقاوين وهو يقول:
ـ أي مبدأ؟
أجاب حسن وهو ينظر للسقف بثبات :
ـ لا شرائح.. لا تكنولوجيا.. لا نخبة..
ـ أنت متمرد؟
ـ أنا لا منتمي..
هز الضابط رأسه متفهماً، وقال ببرود:
ـ أنت كسائر بني جنسك تدفعكم النعرات والشعارات لارتكاب الحماقات.. تتخيل نفسك في هرمجيدون.. لكنك بحسابات المكسب والخسارة.. لم تحقق أي شيء ذي نفع.. خسرت بيتك.. وحياتك.. وحتى من تحب..
قال حسن وهو يبتسم بارتياح عجيب :
ـ لقد انتقمت لبيتي الذي احترق.. استمتعت جداً وأنا أرى اليهودي ينسحق أمام عيونكم على الرمال.. فإذا مت الآن فلسوف أموت راضياً..
قال الضابط :
ـ من أجل هذا كان عليكم أن تندثروا منذ زمان بعيد.. لكنكم بالرغم من ذلك كنتم مفيدين لنا عبر العصور.. أصحاب تلك النعرات يسهل سحبهم من عواطفهم إلى المحارق.. صحيح أنكم سيطرتم يوماً ما على شطر العالم، وخيل إليكم أنكم على شيء.. لكن ميزان العالم سرعان ما انضبط.. ورجحت كفتنا.. كفة النخبة الحقيقية.
لاحظ حسن بريق الظفر الذي أطل من عيني الضابط النخبوي وهو يتكلم.. كان يشعر بالحسرة لأنه لا يستطيع رد كلامه..
قال:
ـ لم يعد هناك ميزان أصلاً..
ـ الميزان هو قانون النخبة الأممية..
ـ ميزان مطفف.. ومعيار شيطاني..
قال الضابط في خبث :
ـ أنتم يا معشر الزواحف تنسبون كل شيء إلى الشيطان.. والحقيقة أن الشيطان لا وجود له في هذا العالم.. إنه المعادل الخرافي لبواطنكم المكبوتة..
ـ لقد بذلتم الكثير حتى تقنعوا العالم بأن الشيطان لا وجود له.. وأنتم غارقون معه حتى النخاع في حلفكم الأسود البغيض..
قال الضابط وهو يهتز من شدة الضحك :
ـ نظرية المؤامرة؟..
قال حسن في بغض :
ـ لم تعد هناك مؤامرة..
عضت ليلى شفتيها في قهر ..
ـ لماذا تقول له كل هذا؟
قال لها :
ـ نهايتنا مسألة وقت يا ليلى.. مسألة وقت..
ثم نظر للضابط وأردف :
ـ وهي نهاية توقعتها منذ زمان.. الحقيقة أنها تأخرت كثيراً..
قال له الأخير :
ـ المهم هو كيف ومتى أيها العجوز..
ثم أومأ لرجاله مردفاً :
ـ وسنحاول أن تكون نهايتكم طويلة وبطيئة وغاية في الإيلام..
تهللت وجوه الجنود كأنهم مقبلين على إجازة.. وفهم حسن ما يرمون إليه فقال لهم بلهجة حازمة:
ـ تصرفوا كجنود رجال وتخلصوا منا بطريقة رحيمة..
التفت إليه الضابط فرأى في عينيه الزرقاوين بريق شهواني مخيف..
ـ نحن جنود .. لكننا لسنا رجال..
اهتز الجنود بالضحك، بينما أغمض حسن عينيه مغمغماً :
ـ نسيت أنكم جنود النخبة ..
ـ إلى القبو..
قالها الضابط لجنوده فقاموا بجرهم خارج الغرفة.. ساروا بهم عبر ممر طويل ينتهي بباب حديدي ضخم ، قام أحد الرجال بفتحه ليظهر وراءه سلم حلزوني يهبط لأسفل..
قال لهم الضابط كأنه مقبل على فقرة ترفيهية :
ـ لدينا بالأسفل كنز حقيقي.. نحن نحتفظ بوسائل التعذيب القديمة من آثار القرون الوسطى.. إنها تراثنا الذى لم نتخل عنه.. هؤلاء قومنا كانوا بارعين في فنون التعذيب لدرجة تثير الرجفة حتى في قلبي أنا..
شعر حسن بدرجات السلم المعدنية القاسية تضعضع عظامه وهم يجرونه عليها كالجوال.. لم يشغل باله سوى ليلى.. كيف ستتحمل كل هذه القسوة الكاسحة للضمائر والعقول؟..
هؤلاء الجنود مجموعة من الساديين المولعين بالتعذيب.. لابد أن الحياة في قاعدة صحراوية قد أودت بعقولهم.. ويبدو أنهم لا يجدون كل يوم فرصة كهذه لإشباع ساديتهم..
للمرة الثانية يا حسن تضيع من تعول..
انتهوا بهم إلى قبو مظلم عطن الرائحة، سرعان ما بدد الجنود ظلمته بإيقاد بعض المشاعل المعلقة على الجدران ، وعلى أضواء المشاعل رأوا هناك براميل خشبية وفئران أزعجتها الأضواء، وهناك غرفة موصده بباب خشبي عتيق وقف أحد الجنود يعالجه على ضوء المشاعل..
انفتح الباب بصرير قوي فقط لتتسرب إلى الأنوف رائحة عفنة غامضة. نظرت ليلى لحسن وقالت عيناها المتسعتان أنها لا تريد أن تدخل لترى ما بالداخل.. حاول أن يبتسم لها مشجعاً رغم الألم الذي يشعر به في كل عظمة من عظامه.. ماذا يقول لها ؟.. سنموت ميتة ملحمية يا ليلى.. سنصير بعد قليل في عداد الشهداء.. أرجوك تجلدي ولا تفزعين.. والأهم لا تتألمي ! فالألم يزيدهم جنوناً.

***

المكان بالداخل كان حافلاً..
الغرفة مبنية بالأحجار الضخمة التي تظهر عليها آثار دماء ضحايا سابقين. ربما هذا يفسر سر الرائحة الغامضة.. لم يدخل حسن مسلخاً بشرياً من قبل، لذا كانت الرائحة محيرة قليلاً.. والأهم هنا هو متحف الآثار الجامع لكل أدوات التعذيب التي ابتكرتها عقول البشر المريضة في تلك الحقبة المظلمة من تاريخ أجداد النخبة..
القوارب البابلية.. تابوت السيدة الجميلة .. قفص الدماغ الحديدي..
وهناك في الركن تقع منضدة مستطيلة، مرصوص عليها مجموعة من السكاكين والسواطير بأشكال وأحجام مختلفة، يسيل لها لعاب أي جزار..
هذا ديوان تحقيق كامل مقام أسفل تلك القاعدة العسكرية..
التفت حسن لليلى وبدا وكأنه يملأ عينيه منها قبل الرحيل.. همس لها بحنان:
ـ أنا سعيد لأنني فزت بابنة مثلك قبل أن أموت..
قالت له في شحوب:
ـ وأنا سعيدة لأنني فزت بأب مثلك.. قبل أن أموت.
أما الجنود فكانوا مشغولون بحوار أخر.. بمن نبدأ؟.. الرجل أم الفتاة؟
حسناً لنقترع يا شباب.. لكن الضابط قال بلهجة حاسمة :
ـ سنبدأ بالعجوز.. ولنترك الفتاة للنهاية فمازال اليوم طويلاً..
ـ هل نبدأ بالقوارب البابلية أم؟..
قال الضابط بشبق عجيب :
ـ بل بالسيدة الجميلة ..
وكان حسن يقول لليلى :
ـ سنتألم لبعض الوقت.. لكننا في النهاية سنغيب عن الوعي.. سننام ونصحو لنجد أنفسنا في عالم أخر.. عالم ليس فيه نخبة أممية..

***

عمرو مصطفى
07-14-2019, 04:19 PM
(8)

فكوا قيده وأوقفوه في مقابلة التابوت.. هنا رأى النصال الحادة التي تبرز من جوانبه، وفي القاع صورة لامرأة فاتنة ..
يقوم هذا التابوت بالإطباق على الضحية في عناق حميم دامي تمزق النصال فيه كل شبر من الجسد..
قال الضابط النخبوي لحسن ساخراً :
ـ بالرفاء والبنين..
تمايل الجنود على بعضهم البعض كالسكارى وهم يضحكون..
بينما ليلى تصرخ:
ـ اتركوه يا حثالة..
التفت إليها الضابط قائلاً في نشوة :
ـ سبي أكثر يا لوسي.. تعرفين أن هذا يثيرني..
ثم اقترب من حسن وهمس في أذنه:
ـ إنني أتساءل.. ما هو إحساسك وأنت مقبل على هذا المصير البشع؟
التفت إليه حسن بوجهه، فتلاقت أعينهما للحظات، شعر خلالها بمدى تلهف الضابط على الإجابة.. لعله سأل هذا السؤال لكل من مرو من قبله على السيدة الجميلة..
ـ أشعر أنني مقبل على التحرر من هذا العالم الغريب..
تنفس الضابط بعمق وهو يرمقه بعينيه الميتتين..
ـ لن يكون الأمر سريعاً.. سيمضي أبطأ مما تتوقع..
ـ لقد تعذبت لسنوات طوال.. لن يضيرني ساعة أخرى..
ـ أنت رجل شهم وشجاع وحكيم..
ووضع يده على عاتق حسن وهو يردف :
ـ وهذا ربما أفادك في العالم الأخر.. لكن هنا..
هنا دوى صوت إنذار جعل الضابط يبتلع عبارته ويلتفت للجنود الذين أرتج عليهم بفعل المفاجأة.. كأنها أول مرة في حياتهم يسمعون صوت أجهزة الإنذار .. صاح بهم الضابط:
ـ ألم تسمعوا الإنذار؟..
انتفض الجنود منتبهين واندفعوا عبر الباب مسرعين.. بينما التفت الضابط لحسن وقال في مقت :
ـ أنت أكبر وغد محظوظ قابلته في حياتي ..
ثم تركهم ومضى مغاضباً خلف رجاله.. وانغلق الباب خلفهم بدوي هائل ثم ساد الصمت.. لا شيء سوى صوت صفارات الإنذار الممض يثير الأعصاب ويشتت التركيز..
قالت ليلى وهي تتهانف :
ـ أنا لا أريد أن أموت.
ـ لم يحن أجلنا بعد يا ليلى..
قالها حسن وهو ينظر ليديه الحرتين.. لقد نسوا تقييده في غمرة فزعهم.. اقترب من ليلى وهو يحجل على ساق واحدة ، و بدأ يعالج قيدها وهو يقول:
ـ لا أريد أن أصدق هذا.. لكن يبدو أن العالم بالخارج يتغير..
هنا دوي صوت انفجار شديد ارتجت له الحجرة وصرخت لوسي في لوعة..
ـ هل قامت الحرب؟
ـ ربما..
لم يفلح في فك قيدها فأعانها على القيام وهو يردف :
ـ لنستعين بتلك الآلات المرعبة في فك قيدك..
تناول أداة حادة، ربما كانت تستعمل في سلخ الضحايا المساكين يوماً ما، وجعل يعملها في قيدها من وراء ظهرها..
ولم تكد تحرر يديها حتى دوى انفجار ثان جعلها تقفز متعلقة بحسن..
ـ المكان سينهار فوق رؤوسنا..
ـ نحن في قلب قبو أسفل قاعدة عسكرية.. اطمئني إنه قبر ممتاز..
دوي الانفجار الثالث وكان أعنف من سابقيه، فصاحت ليلى وهي تتشبث بحسن أكثر:
ـ لا أريد أن أدفن هنا!
هدأها واتجه لفحص الباب.. قال:
ـ سأعرف كيف أفتح هذا الباب وسنغادر..
قالت في ذعر :
ـ سيقتلوننا لو فررنا..
نظر لها في غيظ فأدركت مدى غباء عبارتها ..
هنا سمعوا صوت طائرات تحوم فوق المكان.. بعدها تتابعت أصوات انفجارات متتالية..
سألته :
ـ ما الذي حل بالعالم الخارجي؟..
قال وهو ينظر لآلات التعذيب بتركيز :
ـ هناك قوات منظمة تهاجم قاعدة للنخبة.. المتمردين على الأرجح..
ـ وهل هذا جيد؟
نظر لها في حيرة .. ولم يدر ما يقول..
ـ قد يكون جيداً إلى حد ما.. لقد أخر نهايتنا على الأقل.. لا ندري من الذي سينتصر بالخارج.. ربما عاد جنود النخبة ليواصلوا ما بدأوه معناً..
ارتجفت لسماع عبارته، أما هو فكان قد استقرت عينه على أداة بعينها..
ـ لحسن الحظ لدينا هنا ألف طريقة لفتح هذا الباب..
وتناول مطرقة عملاقة معلقة على الجدار ، ثم ثبت سيخاً حديدياً عند موضع المزلاج وبدأ يدقه بالمطرقة.. بعد مزيد من الجهد والعرق وتسلخ الكفين استسلم الباب ..
وعبره حسن وليلى وهما يتحسسان مواضع الأقدام..
تساءلت لوسي وهي تنظر لسقف القبو الذي يهتز بفعل الحرب الدائرة:
ـ ترى من الذي سيربح المعركة؟.. النخبة أم من خرج عليها؟..
قال وهو يثب بصعوبة فوق درجات السلم الحلزوني معتمداً على السيخ الحديدي :
ـ لا أجد فارقاً كبيراً .. سترحل نخبة وتأتي أخرى وأعوانها ..
ـ أنت متشائم؟
ـ بل أنا أحاول أن أبدو متفائلاً من أجلك..
وصلا لنهاية السلم فوجدا نفسيهما في قلب ذلك الممر الذي يفضي للغرفة التي احتجزوهم بها.. وفي نهايته باب الخروج الرئيس.. لكن الخارج لا يبدو مشجعاً للخروج أصلاً..
هنا رأوا أحد الجنود يغادر الغرفة التي احتجزا بها فالتصق حسن بالجدار ووضع كفه على فم ليلى.. لكنه وقف موليهم ظهره..
كان ينشج..
إنه خائف مثلهم مما يجري بالخارج..
وضع حسن سبابته على شفتيه في إشارة واضحة لليلى كي لا تنبس ببنت شفه.. إنه يكره ما سيفعل .. لكنه مضطر له.. سيهاجم ذلك الجندي من الخلف بالسيخ الحديدي الذي حمله معه من مقتنيات حجرة التعذيب.. سيحصل على سلاح الجندي و.. عينا لوسي المتسعتين قالت له بوضوح :هذا خطر جداً.. لكن عيناه قالتا لها : اطمئني بالاً يا صغيرتي.. سينتهي كل شيء في ثوان.
أشار لها أن انبطحي أرضاً، كي لا تكون في مرمى نيران الجندي لو فشل هو في السيطرة علية، لكنه لم يكد يخطو خطوتين حتى استدار الجندي ناحيته وهو يشهر في وجهه مدفعه صارخاً:
ـ مكانك!
قالها ثم أطلق النار مباشرة دون أن ينتظر.. كان منهاراً تماماً وقد فقد التحكم في أعصابه.. وكان حسن مستعداً لهذا منذ البداية، فانبطح أرضاً بحرفية عالية لتمرق الطلقات من فوقه، بينما أخذت ليلى تصرخ كصفارة الإنذار وقد وضعت كفيها على أذنيها بسبب شدة دوي الرصاص في الممر.. الخطوة التالية هي أن يقذف السيخ الحديدي تجاه الجندي بكل قوته.. لكنه يدرك جيداً أن مهما بلغت سرعته فلن تسبق طلقات السلاح الألي..
هنا جاء الحل من فوق..
دوى انفجار ارتج له الممر بشدة، وتبعه انهيار جارف للسقف في الموضع الذي يقف فيه الجندي..
حينما انقشع الغبار، أدركا أن الانهيار قد دفن الجندي تحته..
لكنه سد عليهما الممر بالركام..
ـ ليلى.. هل أنت بخير؟
قالت وهي تسعل :
ـ لا أدري..
قال لها :
ـ كنت أخشى مغادرتنا للخارج أصلاً.. ربما كان هذا أفضل لنا حتى تهدأ الأحوال..
صاحت وهي ترتجف ذعراً :
ـ لكنني أريد أن أخرج من هنا..
كانت على وشك الانهيار.. نظر للفجوة التي أحدثها الانهيار في السقف ثم التفت إليها ومسح على شعرها المغبر بحنو..
ـ سنخرج يا ليلى.. لكن علينا أن ننتظر قليلاً حتى تنتهي الغارة..

***

عمرو مصطفى
07-15-2019, 06:13 PM
(9)

بالخارج كانت الفوضى ضاربة بأطنابها كما هو متوقع..
عربات محترقة، وجثث متفحمة، وأدخنة تتصاعد لعنان السماء التي مازالت تجوبها الطائرات التي شاركت في دك القاعدة.. هناك عربات مدرعة لا يوجد عليها شعار النخبة تنتشر في المكان.. وتتخذ مواقع لها.. وأخرى تقوم بإنزال جنود مقنعين، أخذوا يتحركون بتلقائية وسرعة لإحكام السيطرة على كل شبر من أرض القاعدة..
ولم يكد حسن وليلى يطلان برأسيهما من وسط الركام، حتى فوجئوا
بالصيحات الهادرة تأمرهم بالتوقف والاستسلام..
رفع حسن كفيه مستسلماً، وصاح :
ـ نحن مدنيان..
لم يبد على الجنود المقنعين أنهم سمعوا شيئاً، وظلت المدافع الرشاشة مصوبة إلي رؤوسهم في تحفز.. رأى حسن من مكانه أحد الجنود يعتلي برجاً ليزيل من عليه شعار القرد والخنزير، ويضع مكانه شعار الرفاق الجديد !.. صورة رمزية لقط وفأر تحتهما عبارة:
) المجد الحقيقي للرفاق )
وارتجت القاعدة كلها بهتافات النصر المدوي.. أما حسن فقد حمد الله على أنه لم ينضم للمتمردين..
كان بعض الجنود قد خلعوا أقنعتهم مطمئنين، ثم استلوا مديهم وأخذوا يدورون بين جثث القتلى.. أشاح حسن بوجهه متوقعاً ما سيحدث من واقع خبراته العسكرية.. كانوا يفعلون هذا دائماً مع أعداء النخبة.. التمثيل بجثث الأعداء عادة محببة للجنود المنتصرين.. وهؤلاء لم ينسوا بعد ما تعلموه من خلال خدمتهم في جيش النخبة الأممية.. لاحظ حسن في أعينهم نظرة شهوانية لا تخطئها عين.. نفس نظرة عين الضابط النخبوي وهو مقبل على تعذيبهما في القبو..
من كان يتصور أن ذلك الضابط السادي وجنوده، صاروا الآن جثثاً يتم العبث والتمثيل بها بلا حول ولا قوة..
كان الجهد والإعياء قد بلغ من حسن وليلى مبلغه، والجنود لا يتفاهمون إلا بالمدافع.. لم يرهم يتبادلون الكلام فيما بينهم إلا فيما ندر، فمعظم تفاهماتهم إشارات بالرأس والسلاح..
ثم وصلت أخيراً سيارة عسكرية هبطت منها رتبة عسكرية كبيرة..
هرول إليه أحد الضباط وأعطاه التحية العسكرية، ثم مال على أذنه وقال شيئاً.. أنصت صاحب الرتبة لكلام الضابط وعيناه تمسحان كل شبر في القاعدة.. قبل أن تتوقف عند حسن وليلى..
هز رأسه متفهماً، ثم اتجه ناحيتهما بخطوات واثقة..
ـ أخفضاً أيديكما..
لم يصدق حسن وليلى الأمر في البداية.. لكن أيديهما المتصلبة صدقت وانصاعت للأمر قبلهما.. تقدم الضابط الكبير من حسن وظل ينظر في عينيه بثبات مقلق.. حسن لا يذكر أنه خدم مع هذا الوجه من قبل.. لكن عيني الصقر التي تحدقان فيه الآن، لا يمكنها أن تنسى الوجوه بسهولة.. لكن فجأة وبلا مقدمات، مد الضابط الكبير كفه مصافحاً حسن بحرارة.. ابتلع حسن ريقه وجسده كله يرتج من أثر خضخضة المصافحة.. وتمنى من قلبه ألا يقرر مصافحة ليلى حتى لا ينخلع ذراعها في يده..
سأله الضابط الكبير هل هناك مدنيين غيركم بالقاعدة؟ فقلب حسن شفتيه بمعنى أنه لا يدري بالضبط..
ـ لم أر هنا سوى جنود النخبة..
سأله عن ظروف اعتقالهم، فحكى له حسن قصة خروجه للصيد مع ابنته، وكيف اخترقوا النطاق المحظور للقاعدة بالخطأ فتم اعتقالهم.. استمع له العسكري الكبير باهتمام شديد حتى انتهى، ثم هز رأسه بوقار وقال:
ـ لا بأس.. أنتم أحرار الآن .. والعالم كله في سبيله للتحرر من قبضة الطغاة ..
حاول حسن أن يبدو متحمساً مثله وهو يفرك جبينه بإرهاق قائلاً:
ـ في الصحراء حيث أعيش.. يوجد الآلاف من البدو بانتظار من يشعل لهم شرارة المقاومة.. أعتقد أنني قادر على جلبهم للانضمام إلى صفوفكم..
ابتسم الضابط الكبير وشد على يد حسن مرة أخرى قائلاً :
ـ سنوفر لك سيارة تنقلك إلى المكان الذي تريد..
قال حسن في شرود :
ـ فقط أريد سيارتي ..

***

فكر حسن وهو يقود سيارته المكشوفة عبر دروب الصحراء.. ما الذي سيكون عليه شكل العالم غداً؟
هل سينجح المتمردون فعلاً في القضاء على النخبة التي تدير العالم؟ أم ستستمر بينهم المنازعات والحروب على حساب البشرية؟..
هل سيتغير العالم برحيل نخبة ومجيء أخرى؟ ..
) ثوار اليوم طغاة الغد..)
هذه العبارة كانت ترن في أذنه بقوة وهو يستمع لذلك الضابط الكبير في القاعدة..
هل هناك فارق بين جنود النخبة والمتمردين عليها.. ربما كان الفارق الوحيد بينهما في الرمز والشعار..
من حسن حظه أنهم قد أبقوا على حياته تبعاً لحكمة :عدو عدوي صديقي..
سألته ليلى :
ـ هل ستعود إليهم كما ذكرت ؟
ابتسم في شرود، ثم رد سؤالها بسؤال :
ـ ما رأيك ؟
ـ لن تفعل .. كنت تخدعهم فقط ..
رمقها بنظرة جانبيه، ثم عاد يركز على الطريق.. بينما ظلت هي ترمقه بثبات.. إنها تحب تعبيرات هذا الوجه المنهك.. خصوصاً حينما يبدو عليه التأثر.. يبدو نبيلاً مغترباً تهفو نفسه إلى وطن..
سألته :
ـ ما هي خططك المستقبلية ؟
الإجابة كانت مرسومة هناك في خياله منذ فارقا القاعدة ..
سيعيد بناء كوخه الذي احترق.. سيحاول تعويض ليلى عن حياة التشرد التي عانتها مع العصابات.. من يدري.. ربما وجد لها زوجاً شاباً من البدو كذلك..
لقد تعلم أن الحياة يمكنها أن تبتسم فجأة وفي أحلك الأوقات ..
ومهما كشر لك المستقبل عن أنيابه، فالأمل في أن يكون الغد أفضل لا ينقطع .. حتى وإن كان هذا الأفضل على مستواك الشخصي..
فللكون سننه التي لا تتبدل ولا تتغير..
كررت سؤالها.. ماهي خططك المستقبلية؟.. فانتبه من شروده والتفت إليها قائلاً :
ـ المستقبل يا ليلى.. قطعة من الغموض المقلق والمثير..
قالت بعد تردد:
ـ أنا.. أنا خائفة.
هنا شاعت على وجهه ابتسامة حزينة وهو يهمس :
ـ الآن نضجت يا ليلى!

***

فارس وحيد جوه الدروع الحديد..

رفرف عليه عصفور وقال له نشيد..

منين .. منين.. و لفين لفين يا جدع..

قال من بعيد.. و لسه رايح بعيد..

***

عمرو مصطفى
07-15-2019, 06:17 PM
قردة وخنازير

(الختام)


شهور طويله قضاها عبر دروب الصحراء، التي يحفظها عن ظهر قلب بحكم نشأته.. ولم يصدق نفسه حينما رأى لأول مرة بداية العمران.. بمعنى أصح بقايا ما كان من عمران..
العالم يمر بفترة حالكة السواد، بل هي الأشد سواداً في تاريخ الكرة الأرضية.. الفتن في كل مكان.. الحروب مزقت الممزق.. حتى سادة الحروب وأباطرة المال تمزق شملهم ولم يعد أحد يسمع بهم. لأول مرة يكتوي الساحر بسحره.. ومن آثر السلامة صار التغرب في الشعاب هو شعارهم..
سار عابر بين أطلال الماضي الذي كان يسمع عنها الحكايات وهو صغير.. و لم يدرك منها وهو كبير إلا الخراب اليباب..
انطبع ما شاهده على وجهه المكدود.. صار وجهه لوحة للويلات التي اجتاحت العالم..
المقاطعات الشهيرة صارت مجرد مدن أشباح. لا يوجد فيها أثر لإنسان.. على الجدران مازالت بقايا شعارات قديمة ورموز لأنظمة بادت ..
أنهكه السير الطويل، والألم المرير.. فاستند إلى جدار وأخرج جراب الماء.. جرع منه جرعة، ثم نثر بعضاً منه على رأسه الأشعث، ليشعر بعدها بنسمات من الهواء البارد تداعب وجنتيه.. عليه أن يغفو قليلاً حتى تهدأ حرارة الشمس ..
لم يدر كم ظل غافياً لكنه فتح عينيه فجأة على صوت أحدهم وهو يعبث في حاجياته..
نهض مذعوراً ليجد فوق رأسه ثلاثة أطفال في حالة يرثى لها..
يبدو أن الحرب قد عصفت بالكبار وتركت هؤلاء الأطفال الصغار لمصير أبشع.. الموت البطيء.. لم يبد على وجوههم الخوف .. فقط البؤس والقنوط .. هذه وجوه رأت ما يشيب لهوله الولدان، ولم يعد هناك ما يخيفها.. لقد دفعهم الجوع للتفتيش في حاجيات رجل غريب بحثاً عن الطعام.. هؤلاء يمكنهم دس أيديهم بكل أريحية بين فكي الأسد بحثاً عن لقمة تسد جوعهم.
أخرج لهم عابر ما معه من طعام فتواثبوا من حوله .. حتى وثباتهم كانت هزيلة عليلة، جعلت عابر يخشي عليهم من صدمة الشبع .. سألهم بإشفاق :
ـ أين ذويكم؟
توقفوا عن المضغ والبلع وغشت عيونهم تعاسة .. أجاب عابر نفسه مشفقاً عليهم :
ـ نار الحرب طالتهم..
قال له أكبرهم سناً:
ـ نار الحرب طالتنا جميعاً..
تشمم عابر الهواء في قلق:
ـ إذن هو الوباء..
قال الفتى بسخرية مريرة فاقت سنوات عمره :
ـ الوباء لا يفرق بين الكبير والصغير .
سأله عابر وقد بلغت منه الحيرة مبلغها :
ـ تركوكم وخرجوا بحثاً عن الطعام؟
ـ إنهم لم يتركونا لحظة..
هنا رآهم عابر قادمين على استحياء..
لابد أن رائحة الطعام هي التي جذبتهم..
وسرعان ما انضم إليهم الأطفال الثلاثة، ليجتمع شمل الأسرة من جديد..
ثلاثة أطفال، وقرد وخنزير!..

***
تمت
عمرو مصطفى
القاهرة
28 ربيع أول 1440
7 ديسمبر 2018