المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رواية قنابل الثقوب السوداء أو أبواق إسرافيل.كتارا


إبراهيم امين مؤمن
11-29-2019, 09:13 PM
قنابلُ الثقوبِ السوداءِ – أبواقُ إسرافيلِ خيال علمي

الجزء الأول
قلبٌ ذو شطريْن...
جلسَ يعقوبُ إسحاق صباحًا بجانبِ الحاخامِ الأعظمِ في أكبر معبدٍ يهوديّ على أرض إسرائيل ، وكان مرتديًا ثوباً أسود وقبعة سوداء ، وحول عنقه لفافة بيضاء طويلة.
جلسَ ليؤدّي صلاته ، وفي كلّ مرّة يقولُ له الحاخام اقرأ صلاتك بنفسك ، ويردُّ عليه يعقوب في كلِّ مرّةِ .. بل أودُّ أن أسمعها مِن فمكَ سيدي الحاخام الأعظم.
فلم يجد الحاخام بدّاً من تلبية رغبته.
فيقول له ..ردّدْ ورائي يا وزير إسرائيل ، فيعترض عليه ويقولُ أنا يعقوب فقط .
فيقول له ..ردّدْ ورائي يا يعقوب فتلا مِنَ التوراةِ ..
«اسمعْ يا إسرائيل الرّب إلهنا ربٌّ واحدٌ، فتحبّ الرّب إلهك من كلِّ قلبك، ومِنْ كلِّ نفسك ومِن كلِّ قوتك.ولتكنْ هذه الكلمات التي أوصيك بها اليوم على قلبك.وقصّها على أولادك وتكلّمْ بها حين تجلس في بيتك حين تمشي في الطريق، وحين تنام وحين تقوم ، واربطها علامة على يدك ، ولتكن عصائب بين عينيك ، واكتبها على قوائم أبواب بيتك وعلى أبوابك»
يقولها فقرة فقرة ويردّد كذلك خلفه فقرة فقرة كأنّه يلقّنه ، وبعد الانتهاء يصرُّ يعقوبُ على تلثيم رأس الحاخام .
بعدها يتناول يعقوب لفائف التوراة وفيها جميع الأسفار الخمسة يقرأ بعضًا منها باللغة العبريّة كما هي مكتوبة ، ثُمَّ يرفعها بيده ، وبعد القراءة تُطوى اللفائف وتُحفظ في كسائها ثمّ تُعاد إلى مكانها.
وبمجرد أن تُطوى اللفائف ينزوي في المعبد ليحدّثَ نفسه كالمعتاد.
وكان في هذا اليوم بالغ الأسى والحزن على حال اليهود الذي لا يستقرّ لهم مقام ، فالرئيس الأمريكيّ لمْ يؤازرهم بقوّة كسابقيه من الرؤساء ، وميوعة هذه المؤازرة
جعلته يفكر كثيرًا حتى قاده تفكيره إلى الماضي السحيق ، ماضي بني إسرائيل مع فرعون مصر.
فتذكّر محاولة فرعون مصر لاستئصال شأفتهم ، فقال لنفسه الحمد لله أن أرسل إلينا ربنُا موسى فأنقذنا منه.
كما تذكّر التيه ، تيه أربعين سنة في الأرض ، ولقد توّهته هذه الذكرى فشعر بأنّه لقيط رغم أنه وزير في دولة إسرائيل.
وتذكّرَ بختنصر بابل وكيف تعامل مع اليهود على أرض فلسطين ، فقد ..اضطهدهم ، استعبدهم ، قتلهم ، مزّق توراتهم ، خرّب بيت المقدس ..ثُمّ قال بازدراء غاضب..ألَا لعنة الله على العراق .
ثُمّ أمعن في الذكرى الأليمة لحال وطنه عندما أحرقهم هتلر، وفتكت هذه الذكرى بقلبه وكأنّ هناك مَن قذفه بشهب النار ، وبالفعل عند هذه الذكرى ارتفعتْ درجة حرارة جسده وبدا ذلك من خلال العرق الذي ألجمه تمامًا حتّى أنّه بلّل ثيابه ، ثمّ قال في نفسه متبسمًا..
ولولا ستر الله لاستأصلهم من جذورهم ولكنّ الله أراد بقاءهم لأنّهم أبناؤه وأحباؤه ، فقادهم ذكاؤهم ألّا يتجمعوا في أرضٍ واحدةٍ لإنّ العالم كلّه للأسف يتربّص بهم ويكرههم.
وظلّوا مذلولين للرومان حتى جاء الغزو الإسلاميّ وأخذَ منهم الجزية ...وبسخرية قال ..يأخذ منهم بدلًا أنْ يدفع لهم!.
وعاشوا مشتتين ، في أمريكا ودول أوروبا.
وما إن انتهى من هذه العبارة حتى ارتطمتْ أسنانه فسُمع صكيكها وقال ..ودول أوربا المسيحيّة التي ترى أنّ التوارة ألدُّ أعدائها ، اضطهدوا واستعبدوا معتنقيها طوال تاريخهم العتيق حتى سنة ثمان وأربعين وتسعمائة وألف.
فخفَّ الحِملَ عليهم ، وردّد على مسامعه قائلاً ..ولابدّ أن يخفّ الحمل نهائيًا ، لابدّ أن تركع أوروبا لدولة إسرائيل.
ثُمّ اتّجه ببصره إلى أعلى باكيًا وقال ..
أنحن أبناء الله وأحباؤه فعلاً !.
أنحن أسياد العالم فعلاً !
نحن عشنا عبر تاريخنا كلّه أراذل العالم .فلابدّ من الخلاص من هذه المسكنة والذّلّة ، لابدّ أن نتقلّد السيادة على العالم كلّه بما فيهم أمريكا.
وظلّ شاردًا حتى جاءه الحاخام الأعظم فاستنبهه وقال له ..كنتُ أودّ أن أراك ولو مرّة واحدة مبتسمًا ، دائمًا أرى وجهك كالحًا غضوبًا ، وأحيانًا حزينًا شاحبًا ، لا تخشَ على اليهود فهم أبناء الله وأحبائه فترفّق بنفسك ، ثمّ تركه مستعبرًا ودعا له وبارك .
رنَّ هاتفُه بعد مغادرة الحاخام مباشرة ، إنّه رئيس المخابرات المخلِص يخبره بإجماع أصحاب القرار الإسرائيليِّ توليته رئاسة الوزراء.
بعد أيام ..
جاء خبر تولية يعقوب إسحاق على اتحاد المقاومة الفلسطينيّة كالصاعقة وخاصة المعسكرين في الأنفاق .
وبتولية يعقوب الذي يصمونه قادة اتحاد المقاومة بأنّه أكثر رؤساء إسرائيل دمويّة على مدار تاريخ الاستعمار الإسرائيلي للمنطقة ، لم تجد المقاومة بُدّا من إثارة الأوضاع حتى الغليان ،،قالوا..لابدّ من الضرب في كلِّ أنحاء المستوطنات لكي تعلم إسرائيل أنّ اتحاد المقاومة لا يخاف من أحد حتى ولو كان مثل هذا السفاح الدمويّ يعقوب إسحاق.
وصدر الأمر من نفق الوادي الجديد بمصر بتنفيذ سلسلة العمليات القتاليّة .
وأيدهم على فعل ذلك مؤيد أصيل المصريّ إذ قال لقائد النفق الرئيس بالوادي الجديد والملقّب بعبد الشهيد..لابدّ أن يضرب الاتحاد في كلّ أنحاء المستوطنات ليعرفوا أنّنا لا نخاف.وعلى ذلك ..
تحرّكتْ كلُّ القوى في آن واحد ، تسللتْ عدة مجموعات في أماكن متفرّقة من المستوطنات الإسرائيليّة وقامتْ بتفجير عدد منها أبرزها تل أبيب وقطاع غزة والقدس المحتلة ، سقط على إثرها مئات القتلى وآلاف الجرحى في صفوف الإسرائيليين ، وكان منهم عشرات الأطفال الرُّضّع وكذلك عشرات النساء.
كما تقدّمَ العشرات من المتطوّعين الفلسطينيّين وارتدوا الأحزمة الناسفة واقتحموا هذه المستوطنات وأحدثوا فيها خسائر بشريّة وماديّة فادحة.
ولقد شنّتْ أيضًا المقاومة هجومًا متوسعًا بقذائف الهاون والصواريخ على نفس المستوطنات التي تفجّرتْ في العمليات السابقة وسقط من نتاجها أيضًا أكثر من ألفي قتيل إسرائيليّ وآلاف الجرحى.
وترامتْ الجثث الإسرائيليّة تنزف العار قبل الدماء في عيون قادتهم ، جثث جنود وأطفال ونساء وعجائز.
وقد ردّ يعقوب فورًا على حركات المقاومة الأخيرة بأنْ ذبّحَ أبناءَ الفلسطينييّن وطارد كلَّ مَن عليها مِن الرجال والشباب حتى أجلاهم مِن على الأرض فاختبأوا في الأنفاق ، فحاول مطاردتهم بيد أن تكنولوجيا أجهزة البحث عن الأنفاق إزاء تكنولوجيا التعمية عليها منَ الطّرف الفلسطينيِّ ضعيفة نسبيًا ، فلمْ يستطعِ النيل منهم وخاصة أنّ هناك أنفاقًا محصّنة تحصينًا كبيرًا ، ومنذ هذه اللحظة تبدأ مرحلة جديدة مِنَ الصراع الإسرائيلي الفلسطينىِّ مدتها ستة وعشرون عامًا تقريبًا كما ستبينه أحداث الرواية.
ومِن أجل الوصول إليهم رفعَ تظلّمًُا إلى الأمم المتحدة بشأن فندق سونستا طابا بمصر ، واستشهدَ في مظلمته أنَّ إسرائيل هي مَن أنشاته ، وليس هذا فحسب بل أنشأت أيضًا قرية رافي نلسون ، وكان ردُّ الرئيس المصريّ هو قبول تظلمه نظير مبلغ ضخم ، أرسله إلى صندوق النقد ليسدّد بعض ديون دولته بعد أخذ قدرٍ منه له ولبطانته.
وبذا أصبح ليعقوب قاعدة تجسس عريضة على حركة المقاومة في سيناء كلّها فضلاً عن تجسسه على مصر.
ثُمّ أمر بتطوير تكنولوجيا البحث عن هذه الأنفاق اللعينة.
كما دعا الشعب اليهوديّ كلَّه إلى فلسطين لتوسيع الاستيطان ، ولكي يتمّ التهويد على أكمل وجه أمضى معاهدة رباعيّة لإخلاء قطاع غزة بالخصوص من الشعب الفلسطينيِّ ، وقد وافق عليها الرئيس المصريّ بتأييد الرئيس الأمريكيّ لها ومنظمة التحرير الفلسطينيّة نظير بعض المال أيضًا ، وتمّ توثقيها في الأمم المتحدة.
يتبع يتبع تبع
الى اللقاء مع الجزء الثاني
بقلمي ابراهيم امين مؤمن

إبراهيم امين مؤمن
12-12-2019, 08:07 PM
آخر سطر في الجزء السابق
المال أيضًا ، وتمّ توثقيها في الأمم المتحدة. ...............................
والآن الجزء الثاني
عصا الثّأر بين مخالب الإلكترون..
بعد عامٍ مِن تولّي يعقوب رئاسة وزراء إسرائيل...
يجلسُ فطينُ في بيته القائم بجنوب سيناء قبيل الظهيرة وبجانبه ولده فهمان يشاهد التلفاز ويقرأ في أحد كتب الفيزياء ليبتكرَ من خلالها بعض الألعاب السحريّة الجديدة ، ويتبادلان الأراء بشأنها ، فسمع من إحدى وكالات الأنباء العالميّة نيّة العالم لاستعمار القمر، تتقدمهم الوكالات الفضائيّة الآتية ..الأمريكية ناسا ، والروسيّة “روس كوسموس”، و الأوروبيّة esa، والصينيّة (cnsa)، وتتابع الوكالة أنباءها قائلة..والاستيطان سيكون عبر تقنية المصاعد الفضائيّة بعد تذليل عقبات نصْبها.
وذكَرَتْ المصادرُ أنّ المشكلة كلّها كانتْ تكمنُ في وجود حبال تتحملُ الضغط أكثر مِن مادة الكيفلار أو الأنابيب الكربونيّة الماسيّة المعروفتين آنذاك ، حيث أنّ قوّة الشدِّ المطلوبة هى ثلثمئة غيغا باسكال وهذه القوة لمْ تتوفر في المادتين سالفتي الذكر.
وكلُّ وكالة مِن هؤلاء تقول أنّهم حصلوا على مادة أقوى بكثيرٍ مِن هاتيْن المادتيْن ولم يفصحوا عنها ، كلُّ ما يقلنه أنّها مادة خارقة وسرٌّ مِن أسرار الدولة.
ارتعشتْ يداه فسقط ما فيها ، ثُمّ نكس رأسه وهوتْ حتى كاد الانكسار وذِلّة النّفس يقتلعانها مِن جسده ، وقال إنّ العالم يبتغي سُلّم السماء ونحن العرب نبتغي السقوط في نفق الأرض .
نظر إليه فهمان خائفًا دهشًا وقال له ..ما بك يا أبتِ ؟ فلم يردّ فطين .
فأقبل تلقاء وجهه وقبّل يديه ثمّ رأسه ، بعدها مباشرة رفع رأس أبيه بكلتا يديه إلى أعلى قائلاً ..بيدي أرفع رأسك يا أبتِ فلا تحزن ولا تبتئس ، لعلّ حضارة مصر تنطلق يومًا من الأنفاق لتعتلي الشموس.
فنظر إلى ابنه واحتضنه ثمّ أجلسه بجانبه مرّة أخرى.
وظلَّا على حالهما حتى أُعلن خبر آخر ، وهو بشأن قتيل فندق هيلتون طابا ، وهو تقييد جريمة قتل العالم المصريّ المشهور ضد مجهول ، فانتفضَ فطينُ من مكانه كالليث الغضوب الأشجع قائلاً ..ماذا ؟ ماذا ؟
وتابع الإعلاميّ كلامه..
المقتول كان مِن العلماء المشهورين ، كان بروفيسورًا في كليّة الهندسة الكهربائيّة والميكانيكيّة بجامعة بيركلي الكائنة في ولاية كاليفورنيا.
وكان بصحبة بروفيسور أمريكيّ يُدعى بيتر ، تخصصه فيزياء طبيّة ، اِختفى إثر الحادث ، وما زالتْ المخابرات الإسرائيليّة تجدُّ في البحث عنه ولمْ تجده حتى الآن.
فأغلق فطين التلفاز وتساءل ..
كيف تُقيد ضد مجهول ..كيف؟
كيف وكلّنا يعلم أنّ الموساد وراء عمليّة اغتياله ؟
لماذا لم يُسمّم أيضًا بروفيسور بيتر معه ؟
سلبوا الفندق بعد أن باعه لهم رئيسنا العار ، سلبونا وقتلونا .
وكزَّ على أسنانه وظلّ يهذي ويضرب جدار الحائط بكلتا يديه ، ثمّ أمسك عصاه وضرب بها التلفاز فهشّمه ، ثمّ كوّر قبضة يده اليمنى ولكمَ بها شُباك الحجرة الحديديّ فانخلع ساقطًا على الأرض ، وجرحتْ الشرفةُ يديه ولم يشعر بهما ، تبعه فهمان بوجه أصفر وقلب مضطرب لتهدئته فلم يستطعْ ، فلمّا رأى الدّم ينزف من يديه جرى ليحضر شاشًا ليداويهما ، فلمّا أبصرهما وجد الدم يتجلّط كلّما نزف ، فعلم أنّ دم أبيه عصيّ لا يقبل الهزيمة.
فسأله فهمان وجسده ينتفض بسبب هذيان وغضب أبيه ..ما بك أبي ؟ هدّئْ من ثورتك .
فقال له فطين ..
بُني هذا العالِم برع في علم الروبوتات براعة غير مسبوقة ، وكان أمل مصر في الخروج من ديونها بعد أن أعلن أنّ قدميه لن تدبا إلّا على أرض مصر.
خرّ فطينُ مهدودًا صامتًا ، ثمّ قاده فكره إلى الوراء قليلاً ، فتذكّر مقالاً قرأه عن هذا الفندق لأحد أساتذة الاقتصاد والعلوم السياسيّة العرب حيث قرأ فيه ..
"فمن شأنه أنّه اغتصبته إسرائيل مِن قبل ، وتمَّت إعادته لنا بالتحكيم الدوليّ سنة 1988، ثُم ها هو يعود إليهم بالتحكيم الدوليّ بعد أن طعنتْ فى قرار سنة 1988، وتمَّ إعادته بلا رجعة بقرار أيضًا من لجنة التحكيم الدوليّ إثر البحث الدؤوب ليعقوب إسحاق لمحاولة استعادته ، وقدْ قام بتحريك المياه الراكدة وأثارَ العديد من القضايا التاريخيّة والتي استشهدَ بها أنّ اليهود لهم أحقيّة في أرض مصر ولكنّه اكتفى بهذا الفندق فقط.
وهي خطوة هامة ضمن المخطط الصهيونيّ لتهويد أرض فلسطين كلّها ، إذ أنّه نقطة انطلاق للوصول إلى أنفاق اتحاد المقاومة الموجودة في جنوب سيناء ومن ثمّ العمل على تدميرها بعد ذلك..
وفيما قرأ أيضًا..
قويت شوكتُهم وسيطروا على مجريات الأحداث في الشرق كلّه بلْ وعلى مجريات الأحداث العالميّة ، وتوغّلوا حتى دخلوا أبواب الأمم المتحدة وأثّروا في قرارتها ، حتى أنّ الرئيس الأمريكيّ آنذاك لمْ يستطعْ إبعادهم لأنّهم يتميّزون بالمراوغة وخفة الحركة وحسن التدبير.
ونحن العربُ منذ زوال الخلافة التركيّة وحتى الآن في انحدار مستمر ، أمّا انخفاض مستوى إنتاج النفط بدرجة كبيرة نسبيًا وكذلك المياه أيضًا مثلت الضربة القاضية ..انتهى المقال .
نظر إليه فهمان فوجده صامتًا ، فظنّ أنّ جحيم الثورة بداخله قد خمدتْ ، وأنّ رمادها تطاير في الهواء ، ولكنّه فجأة هبَّ واقفًا منتفضًا ، وعاد يزمجر ويعوي كالذئب المستلب من جديد ، فارتعد ولده وأشفق عليه .
ظلّ في صراخ متواصل حتى تساءل..كيف أطفئ النار التي تأكلني ؟
ثمّ قال بلهفة ..القصاص ..القصاص ..القِصاص إذن .
فتناول عصاه السحريّة ولبس لاسته المزركشة ومضى يرفلُ في جِلبابِه الفضفاضِ قاصدًا فندق طابا للانتقام ، غير مكترثٍ لولده الذي يرتجف جسده خوفًا ووجلاً عليه.
لمْ يعرفْ فطين الشخص الذي قتله ، لكنّه يرى أنّ كلَّ إسرائيل قتلته شعبًا وحكومةًَ.
وعلى الرغم من ذلك فقد آثر أنْ يعرفَ ....يتبع يتبع ..
بقلمي . ابراهيم امين مؤمن

إبراهيم امين مؤمن
01-19-2020, 03:04 PM
وعلى الرغم من ذلك فقد آثر أنْ يعرفَ بنفسه الشخص أو الوِحدة التي عملتْ على اغتياله بعدما عجزت أو عتّمت مصر في الوصول إليه.
هو متأكد أنّ وراء الجريمة أحد أجهزة المخابرات الإسرائيليّة وفي الغالب مِن وحدة الكيدون الخاصة بتنفيذ عمليات الاغتيال خارج إسرائيل.
هبطَ الدرجَ منتفخَ الأوداج تاركًا ولده الذي سعى خلفه باكيًا ليدركه لكنّه لم ينجح فقد استقلّ أبوه سيارة ومضى .
نزل من السيارة وقبل وصول الفندق بعدة أمتار وقف قليلاً ليعاين الداخل إليّه والخارج منه ، ولمْ يفته معاينة تكنولوجيّات بنائه الأمنيّة والترفيهيّة ، إذْ أنّ المقاتلَ لابدّ أنْ يعرف بالضبط ساحة قتالِه ..فقالَ عنه..للأسف إنّها تكنولوجيّة اسُتخرِجتْ مِن رحِم أمريكا وأوروبا عليهما اللعنة.
وظلَّ يتحسّرُ على حال المصريين والعرب ، فامتزجتْ الحسرةُ بالغضب وهذا الامتزاج مع شجاعته ولّدّ انفجارًا بركانيًا بداخله .
أمّا فهمان لم يملك شيئاً سوى الانتظارالحارق لحين عودة أبيه.
الفندق وقت الظهيرة..
هدّأ من ثورته حتى يفكر جيدًا بعقله الفيزيائيّ البارع المسرحَ القتاليّ الذي سيزيل عنه وصمة العار بالقصاص.
فأخذَ يُحدّثُ نفسه حينما رأى هذه التحفة التكنولوجيّة الهائلة التي أوجستْ في نفسه خيفةً ممزوجةً بعلامات الذهول .
شاهد في أعلى الفندق وجدرانه الخارجية مجموعة من الخلايا الشمسيّة النانويّة التي تغذي الفندق بالكهرباء نهارًا وتغذّيه ليلاً من خلال البطاريّات التي تمّ شحنها نهارًا.
فنقص المياه في مصر جعلهم يلتجئون إلى هذه الطريقة.
ويعوّض الفندق نقص الماء عن طريق مجموعة أجهزة ال mof "اختصارًا لكلمة الأطر الفلزية العضويّة"والتي تستخلصُ الماءَ مِن البخار المتطاير في الهواء وتسخّنه وتحوّله إلى ماء يمتدُّ عبر أقماع ثُم تأخذُ في الهبوط لتستقرَّ في صهاريج.
فتذكّر تلك الشفاه المشققة التى يراها ليلاً ونهارًا في أبناء وطنه لقلة الماء والزاد ، ثم استحضر في مخيلته بيوتهم الورقيّة والصوفيّة ، تلك البيوت والأنفاق التي تشعّ من كلّ جوانبها ظلمات كظلمات قيعان البحار ، تلك الظلمات التي يرسلها النظام الحاكم إليهم بعد أن قلّ الماء بسبب سوء إدارته .
نظر إلى باب الفندق الرئيس فلم يجد فيه أيّ حرّاس أمن ، فولجه على الفور ، وقبل ولوجه أمسك لهيب غضبه ببرد كظمه .
دخل إلى ردهته ، فإذا بالناظرين يحملقون فيه وكأنّهم رأوا رجلاً نهضَ مِن قبره وأتى إليهم من الماضي السحيق .
وفيه يوجد بار للمشروبات الروحيّة أمام الداخل مباشرة ، ومناضد للمشروبات والأطعمة التي تُقدّمُ مِن قِبِلِ العاملين في الفندق .
يجلسُ عليها الكثير مِن العربِ والعجمِ ، غير أنّه على ما يبدو أنّ الجنس المصريّ مختفٍ تمامًا بسبب حادثة مقتل العالم المصريّ.
كذلك بها إناث كثر ، ويبدو مِن أشكالهِنِّ أنّ أكثرهَنَّ يهوديّات ، وعلى يمين الداخل مِن الردهة راقصاتٌ عارياتٌ تمامًا ، فغضّ طرفُه عنّهن .
في آخر الردهة شريط ضوئيّ متحرك ليحدد سعر كلّ ما بداخل الفندق مِن مشروبات روحيّة وأطعمة وإقامة ، كذلك يعرض صورًا لفتيات داعرات ومقدار ما يتحصلنّ عليه من مال مقابل ممارسة البغاء معهنّ .
جلس أمام البار وهو يلهث من العطش ، فحدّج في الشريط الضوئيّ ليعرف سعر لتر الماء ، فطلبه رغم ثمنه الباهظ جدًا.
*أمّا فهمان فبرغم تفكك أوصاله بسبب الخوف على أبيه إلَا أنّه آثر أن يعدّ له طعامه الذي يحبه لحين عودته ، وبالفعل قام ووضعه على الموقد ثمّ سحب كرسيّاً وجلس في البلكونة ليترقّب عودته.
*ولمْ يغبْ عَن فطين النظر في وجوه زبائن الفندق ليحدّد هدفه مِن المسألة التى جاء من أجلها ، وهو الانتقام .
وقد ركّزَ على بعض الجالسين وتفرّسهم ، فلم يجد فيهم ما يروي ظمأه ويشفي غليله.
وفجأة رأي رجلاً ولجَ مِن باب الفندق الرئيس ، أشبه بأولئك المقاتلين الذين يظهرون على حلبة المصارعة الحرة .
تبادل الاثنان نظرات الحنق والغلّ معًا ، تلك النظرات التي جعلته يفكّرُ في شأنه بأنّه قد يكون الهدف والغاية ، على كلٍّ هو هدف دسم يبرأُ سقمه ويشفي غليله.
أمعن النظرَ فيه ، فوجده كله عبارة عن كتلة تكنولوجيّة متحركة من شرائح نانويّة متزاحمة في إشارة مرور عروقه العفنة.
تلك الشرائحُ التي تمنحه قوة فكريّة وعضليّة هائلة.
وعلى يمينه روبوت ذكّره وسماه يهوذا وكان يستحثّه بغلٍ على ضرْب روبوت آخر أنّثه وسماه حتشبسوت ، كانا مبرمجيْن على حالة غريبة تتمثلُ طول الوقت في سجود حتشبسوت ليهودا ، ويهودا يركلُها ويبصقُ عليها ، ويستنفر يهودا دائمًا كي يضربها على الدوام ، فكان يقول..اضربْ يهودا ، اضربْ هذه الحضارة الملعونة ، فحنى فطين رأسه خجلاً وقال في نفسه يا للعار، قد بدت العداوة والبغضاء منهم ونحن نؤازرهم.
فألهب حتشبسوت ويهوذا جموح الغضب لديه فاستنفِر أكثر ، وازداد يقينًا أنّه قاتل العالم الجليل ، فقرر قتله.
يقولُ فطينُ في نفسه ...
هذا الأحمقُ يلتفّ حول معصمه هاتف محمول مصمم على هيئة سوار.
وليس مُستبعدًا كما قرأتُ أنّ حساسات محموله الذكيّة الملتفّة حول معصمه تتصلُ بهاتفي الآن وتخبره أنّي أنا...
فطينُ المصريّ -مصريّ متعصبٌ -مِن قاطني جنوب سيناء -ساحر- ....الخ.
وليس بعيدًا أن يحتوي رأسه على حاسوبٍ ذكي يتصل بمجسات دقيقة يتمكن مِن خلالها التحكم فيمن حوله مِن أجهزة بمختلف أنواعها ، وكذلك رقاقات إلكترونيّة تحت الجلد تكسبه قوىً خارقة وأجهزة إنترنت بالجسد.
وما بقي له إلّا أن يتصلَ رأسُه هذا بثقبٍ أسود لتزويد جسده بالطاقة.
لكنّى أنا "فطين" ما يُعجزني شئ وما هُزمت قطّ ، ولنْ أدعَ هذا المنتفخ صاحب الخُيلاء بتكنولوجيّته اللعينة ، تلك التي أذلتنا نحن العربُ على مرِّ تاريخنا وبالأخصّ منذ يوم الاستقلال الأمريكيِّ وتطور الحضارة الأمريكيّة والغربيّة على مرِّ التاريخ الإنسانيّ الحديث.
وقررتُ الالتحام به وتصفيته.
*أمّا فهمان فجالس في البلكونة شارد الفكر ، وفجأة اشتمّ رائحة حريق فتذكّر الطعام ، فقال قاذفًا بلسانه ..الطعام الطعام ، ثمّ هرول إلى المطبخ فوجده يحترق .
وما حدث بالضبط أنّ الطعام تبخّر رمادًا من داخل الوعاء بفعل وقود الموقد ، ثمّ أمسكت في المادة الزيتية الموجودة بداخله ، ارتفع اللهب بعدها فأمسك في صورة أبيه المعلقة بجانب المطبخ ، ثمّ امتدّ فأمسك في ضلفة المطبخ الخشبيّ القريبة من الصورة وكانت تحتوي على زجاجات زيتية .
والغريب أنّ النار لم تحرق من الصورة إلّا وجه أبيه .
*وما زال فطين يحادث نفسه قائلاً ..لن أجهلَ هذا الخنزير اليهوديّ ، ولن يخيفني ولو كانتْ تتجوّل بداخله ثقوب سوداء مجهريّة أو قنابل هيدروجينيّة .
ووضعتُ نفسي في حالة ترقّبٍ واستنفارٍ لحين لحظة الانقضاض ، ولمْ انتظر قليلاً إذْ رمقنى شزرًا مُطلِقًا ألفاظ السبِّ والتهكّمِ حيث قالَ بقرفٍ..أيّها العربيّ الجِلف الساحر الملعون ، أعلمُ ما بداخل عقلك العفن .
رددتُ عليّه..أعلمُ أنّك مُجهّز برقاقةٍ لقراءة الأفكار يا صاحب الرأس الحاسوبيِّ ، كما أعلم هذا السوار الذي حول معصمِك ، سوف يأتي يومٌ نحوّله إلى أغلال وقضبان نغلّكم به ونحبسكم فيه.
اغتاظ اليهوديُّ وأومأ بسبابتيه اليمنى واليسرى إلى يهودا وحتشبسوت ليهاجماني ، هذه الحتشبسوت التي تحوّلتْ فجأة مِن حالة السجود إلى حالة الهجوم.
فتحفّزّتُ للكرِّ والفرِّ ، ارتعشتْ شفتاي مِن الغضبِ واصطكّت أسناني وفارالدّمُّ في عروقي فزأرت زئير الأسد ، وتداعى على مسامعي دمدمة الحروب وصليل السيوف وكأنّ الماضي طرقني ليذكّرني أنّي ابن الفراعنة .
ثُم قلتُ لنفسي..
يتبع ............................يتبع ...........................يتبع

إبراهيم امين مؤمن
01-30-2020, 11:23 PM
أنّي ابن الفراعنة .
ثُم قلتُ لنفسي..ألقِ عصاكَ يا فطين .
ولمْ أمهلهما وبدأتُ أنا بالهجوم ، توالت ضربات عصاي عليهما ، وكانا يدرءان ضرباتي مِن خلال أذرعهما المعدنيّة التي خُصصت لذلك.
*وفي منزل فطين النار تزداد تأججًا حتى كادت حجرة المطبخ تتحول كلّها إلى قطعة من الشهب وفهمان يعمل على إخمادها .
*في حركة بهلوانيّة خفّضتْ حتشبسوتُ رأسها ، ولفّتْ جسدها لفّةً دائريّةً على الأرض كالفرجار وذاك بفتح إحدى قدميها بينما الأخرى تمثل موضع ارتكاز، اصطدمتْ بقدمي فأوقعتني على الأرض ، فلمّا هممتُ بالنهوض وثبتْ وثبة الفهدِ ، وجثمتْ على صدري وأزالتْ لاسةَ رأسي ، ثُمّ لكزتني في صدري ووجهي ثُمّ ابتسمتْ ثُمّ لثّمتني وجلستْ على قضيبي تتهدهد فاغتظتُ لذلك ، فأعدتُ اللاسة على رأسي ، وقبضتُ على يديها ، وكدتُ أفصلهما مِن جسدها وقلتُ..نحن العربُ لمْ نعشْ مِن أجل هذا فحسب أيّتها الخائنة الداعرة .
غير أنّ يهودا أنقذها منّي ، فنهضتُ ونهضا.
أدرتُ عصاي كالمروحة في الهواء ، وهجمتُ عليهما وكانا يرجعان إلى الخلف اتقاء عصاي .
ثُمّ جندلتُ يهودا بضرْب قدمه فخرَّ على الأرض ، وضربتُ قلبَه فاتلفتُ شريحته ، ثُمّ أتلفتُ بطاريته بضربةٍ قويةٍ جدًا بوساطة العصا ، فسمعتُ صوتَ أزيز أسلاك ، وشممتُ على الفور رائحة شياط .
ثُمّ وجّهتُ عصاي إلى حتشبسوت وأطلقتُ الزئبقَ الذي كان بداخل العصا فصارت كأنّها حية تسعى .
فارتعدتْ أوصالها وولّْتْ هاربةً بالقفزِ إلى أعلى والتصقتْ بسقف ردهة الفندق.
وتعجّبَ فطينُ قائلاً..سبحان الله لو أنّ هذه الحتشبسوت لمْ تملك تلك الخلايا العصبيّة في رأسها التي تشعر لِمَ خافت.
نظرَ اليهوديُّ نظرة استعلاء وتهكّم إلى روبوتيْه وبصقَ ولعنهما ، ثُم قفزَ قفزةً على رأسي فخررتُ واقعًا ، ثُمّ حاولَ استخراج غازٍ سامٍّ مِن هاتفه الملتفّ حول معصمه ليدخله في أنفي أو فمي ، بيد أنّي فقهتُ الأمر سريعًا فقاومتُ يده حتى أبعدتها عنّي .
دفعته ، فتدحرج قليلاً ثُم نهضَ وعاود الكرّة وتقدّمَ نحوي مُهاجمًا بذراعيه ذات الشرائح الإلكترونيّة ، ولكزني في بطني ووجهي وضربني فوق رأسي فشُجّ وسقطتْ اللاسةُ مخضبة بدمائي ، ثُمّ انخفضَ برأسه مائلاً وضرب قدمي بذراعه اليمنى فخررتُ إستي .وثبَ قافزًا على صدري وكيّل لي لكمات أخرى موجعة سالتْ على إثرها الدماءُ مِن شِدقي وفمي وأنفي .
كان بارعًا جدًا في القتال ، وكان ذلك لإنّ شريحةَ الهاتف قامتْ بعمل المدرب الملقّن الذي كان يوجّهه دائمًا لأخْذ الموقع المناسب للهجوم أو الدفاع وكيفية توجيه الضربات .
تسربلَ وجهي بالدّمِ حتى حجب الرؤيا عن عينيّ .
واليهوديّ يضربني بتؤده وثقة ويختال ضاربًا ، ويبصقُ على وجهي قائلاً..مصريّ عفن ..مصريّ عفن .
لمْ تسعفني قوّتي للخلاص منه ، إذْ كان متمكنًا في جثومه.
تألمتُ مِن ضرباته ، وهناك ما أوجعني أكثر واستنفرَّ عزيمتي ، وهو أنّي أبصرتُ وشمًا محفورًا على ساعديه يُحددُ ملامحَ المنطقةِ العربيّة مِن النيلِ إلى الفراتِ وأقدام اليهود تطأُ أرأس العرب .
فانفجرتُ غضبًا وقلتُ لا.. لا.
ومع صيحات غضبي تردّدَ على سمعي وبصري قهقهاتُ الداعراتِ والنزلاءِ وعامليِ الفندق ، يقهقهون في حالة هيستريّة كأنّهم يسخرون مِن حالنا المزري ، فتذكّرتُ حالة حكّامنا عند الأزمات ، فأصواتهم تدوي في الآفاق وهُم أضعف مِن جناح بعوضة ، وأنا لست موضع سخرية ولا إمّعة ولا ضعيف ، فدفعته دفعةً شديدةً فانقذفَ مُرتطمًا بجدار الحائط الزجاجيِّ فانكسرَ ثُم هبّ واقفًا ، فأقبلتُ عليه وجندلته بالعصا بيد أنّه قفزَ إلى أعلى ليتقيها .
أدرتُ العصا بيدىَ التي أمسكتها مِن مركزها فبدتْ كأنّها تدورُ كالمروحة وهي تحفُّ حفيفًا كحفيف هواء مروحة عِملاقة حتى وكأنّها تبعثُ أعاصيرَ ، وسمعتُ لها هزيمًا كهزيم الرعد القاصف فأوقعتُ في نفسه خيفةً أصابته بالوهن وفتّتْ عزيمته فتطايرتْ مع الهزيم رمادًا.ضربته في معصم يده فتهشّمَ الهاتفُ ، فجنّ جنونه وقالَ لي..أتعلم بكَمْ هذا الهاتف يا جاهل يا متخلّف يا عائم في المستنقعات.
ثُمّ عاجلتَه بضربةِ معلمٍ ، ضربةٌ في رأسه فشُجّ ، وأُتلفتُ الشريحة الإلكترونيّة التي كانتْ تتصل بكلِّ شرائحِ جسده ، فانطلقتْ أشعةٌ مِن رأسه نتيجة تحرّر الإلكترونات مِن مستويات الطاقة مصحوبة بنزْف دمٍ مِن رأسه ، وسمعتُ سرينة إنذار تنذر بتعطّل الأجهزة بداخله .
*وأخيرًا استطاع فهمان أن يطفئ الحرائق التي نشبت في منزله.
*بعدها تحوّل إلى قِزمٍ راكعٍ أمامي يطلب الصفح والمغفرة غير أنّي لمْ أنسَ دمَ العالِم فسألته مَنْ قتله ؟
فأجاب : سلوا أنفسكم .
فنكستُ رأسي هنيهة ، وقلتُ في نفسي ..نحن الذين فتحنا لكم البابَ فدخلتم وأعملتم فينا السيف.
فاغتظتُ لحالنا واستجمعتُ قواي كلَّها وضربتَه ضربةً صاعقة فافترش الأرض وسكن ولم يتحرك ، نظرت إلى عينيه فوجدتهما جاحظتين ، فعزمت على الهروب ، وعند فراري رأيتُ حتشبسوت تنزل من السقف.
إذا كَثُرتْ الضِباع ولّتْ الأسود هاربةً..
خرجَ فطينُ مُسرعًا مِن ردهة الفندق ، مسرح القصاص ، وكان مترقبًا خائفًا.
اِِتّجه إلى منطقته التي تبعد نحو مئة كيلومتر مِن الفندق .
ظلَّ يجري حتى اتّجه إلى أحد الشوارع السيناوية الرئيسة ، ثُمّ أشار إلى إحدى سيارات الأجرة فوقف ، رمقَ السيارةَ وتفحّصها بنظراته التي لا تُخطئ أبدًا ، فوجدها تعمل بطاقة الألواح الشمسيّة كمعظم السيارات آنذاك ، ولكنّ تقنية هذه السيارة متطورة أكثر، فتفحصها فتأكد له أنّ سائقها رجل آلي وأنّها تعمل ببطاريّة هيدروجينيّة.
وأنّ هذه السيارة من السيارات الأمنية والتي تعمل على تقديم كلّ الخدمات لنزلاء الفندق .
فخاف أن تتعرف عليه من خلال رسالة وصلتها عن مواصفاته عبر حاسوبها فتقلّه آلياً إلى أحد مراكز الشرطة.
فامتزجَ الخوفُ بالحنق ، وتحوقل وأخذ يطلقُ اللعنات على التكنولوجيا التي تلاحقه وتذكّره بخيبة العرب.
وأخيرًا..بعد كلِّ هذا التفكير اِعتذرَ عن الركوب ثمّ رمقها وهي تسير في مسارها المبرمج عليها .
مرّتْ سيّارة أجرة أخرى سائقها يرتدي ثياب أهل الأنفاق والجحور فركبَها ورحل َ.
في السيارة ، بدأ يفكرُ في حادثة الفندق وتداعياتها الخطيرة على مستقبل ولده الذي لمْ يكنْ لديه إلّا إيّاه ، تارة يلوم نفسه خشية ضياع مستقبل ولده فهمان وتارة يباركها على فعلها ويحفّزها على الثبات والرجولة .
وأنهى النزاع الذي يدور بخلده بين الملامة والمباركة بترْك سيناء كلّها والهروب بابنه بعيدًا عن مسرح الانتقام الذي نفّذه ، هذا الانتقام الذي ألقى بظلاله على صدره فجثمَ وعسّكرَ فيه ليولد في مكنون نفسه الخوف والتشريد.
دفعَ الأجرةَ ونزلَ متّجهًا إلى منزله وهو يدعو نفسه للثبات ، فالزحام شديد فيها بسبب تهجيرين ، تهجير المصريين من مدنهم المكتظة إليها وذاك من أجل إفساح الطريق للطبقة الحاكمة وحاشيتها ، وتهجير الفلسطينيين من أرضها المحتلة وذاك لإفساح الطريق إلى الشعب اليهوديّ لاستيطانها.
في كلّ مرّة يتلمّس موضع قدميه حتى لا تصيب أحد الحِبّين ، ويجد لأكتافه الفولاذيّة مسلكًا حتى لا يصطدم بروحيه وحِبّيه .. المصريّ والفلسطينيّ.
لكنّه الساعة لن يكون حذرًا إذ يتوجّب عليه الإسراع إلى المنزل ليطمئنّ على فهمان ، ثمّ يأخذه ويهرب بعيدًا عن أعين المخابرات الإسرائيليّة والمصريّة .
ومن أجل أغنياء مصر وأصحاب النفوذ فيها لم يقصّر النظام الحاكم في دعوة الناس للهجرة إلى القرى وخاصة الوادي الجديد ، مبررين لهم أنّها منطقة ذات مساحة شاسعة وملآنة بالمياه الجوفية.
وقد وصلَ حد العبث بالمطرودين المصريّين إلى دعوتهم لحفر أنفاق تحت الأرض والإقامة فيها معلّلين ذلك بوفرة المياه ، ممّا أثارَ تهكّم صحف المعارضة والأحزاب وكلَّ تيارات الإسلام السياسيِّ .
وهذه بعض عبارات التهكّم والسخريّة على أحد فلول النظام الخائن عبارة تقول..
أنحن نمْل ونسكن الجحور! وعبارة ساخرة تقولُ ..أنحن مياه جوفيّة !
وثالثة ..لعلَّ الفقر والضعف هو الموت فوجب علينا أن نحيا أمواتًا في القبور.
ورابعة ..نحن لسنا أمواتًا يا سيادة المسئول .
وعالم نفس يقول..يريدون ممارسة الاستعلاء المعنويّ والماديّ معًا ، حيث يودّون السير فوق رءوسنا.
وعنوان ساخر آخر في أحد الصحف..أحسن إلى جوارك مِن الجماحم أيّها المسلم -... الخ.
وكان الرئيس يواجه كلَّ هذا بقطْف رؤوس قادتة المعارضة وتكميم أفواه تابعيهم
، فسياسة التصفية النفسيّة والجسديّة هي منهجه ، أفلحَ في الإحاطة بالمجاهرين له بمناهضته ، أمّا سرًا ، فهناك رجال مصلحون يعملون في صمت وخفية ، ولذلك لم يحطْ بأعمالهم ، ينتظرون لحظة الانقضاض لتخليص شعبهم مِن الظلم .
إنّه في ذاك الوقت كان ..المجلس العسكريّ العظيم .
المهم ..انتهتْ معركة المعجنة وما إن وصلَ إلى مدخل العمارة حتى نادى عليه أحدُ الجيران واسمه بطرس يوحنا ، وكان يلحّ على فطين دائمًا كي يبيعه شقته ، فأخبره أنّ هناك مَن يسألُ عليه نحو ساعة مضت.
سأله فطينُ عن اسمه فقال له يبدو من سمته وشكله أنّه يهوديّ.
فشحب وجهه واصفرّ على الفور ، لم يلحظ بطرس ذلك ولذلك تابع كلامه قائلاً..
ألمْ يحن بعد ؟
ردّ فطين..معك المال ؟
قال في المحل.
فردَّ عليه فطين..أحضرْه .
أبصر فهمان أبيه من البلكونة فأسرع نحو الباب ليستقبله.
بينما مضى بطرسُ مهرولاً ملهوفًا إلى محله لإحضار المال ، وفي طريق عودته إليه كان يهاتف أحدَ كبار القساوسة أنّه على مشارف الانتهاء مِن شراء منزل في أحد ضواحي جنوب سيناء.فرُدَّ عليه بأنّ يشتري بأيّ سعر.
نظر فهمان لوجه والده ، فلحظ في قسمات وجهه علامات الخوف فسأله فورًا ..أين كنت أبتِ ؟ فلم يردّ عليه فطين حيث أنّه عزم على الرحيل الآن وبسرعة.
رنّ جرس الباب ، فهمّ فهمان بفتحه لكنّ أباه أمسكه من رسغه قائلاً ..انتظر.
نظر من العين السحريّة ، إنّه بطرس ، فتح له الباب وأخذ المال وأغلقه في وجهه على الفور.
ثمّ أخذ ابنه قائلاً ..هيّا نرحل ، فما ,................. يتبع ..... يتبع
رواية كتارا لعام 2019-2020

إبراهيم امين مؤمن
02-06-2020, 04:40 PM
ثمّ أخذ ابنه قائلاً ..هيّا نرحل .
فما عاد هذا المكان آمن بعد الآن.
حدقه فهمان ولم ينبس بكلمة.
أخذه فطين وآثر الرحيل من الشرفة ، ولقد رأى فطين المطبخ الخشبيّ المحترق فلم يبدِ اهتمامًا.
ورغم أنّه الليثُ الأشجعُ لمْ يخرجْ من الباب وقفزَ مِن شرفة الحجرة الخلفيّة ، وأخذ ابنه والمال الذي قبضه مِن بيع المنزل وكذلك عصاه وركبَ أوّل سيّارة ومضى حيث لا يدري .
رحلَ تاركًا البيت الذي كان يمثل قطعة من جسده ، ففيه تزوّج بالمرحومة زوجته التي كانت مثله في العلم والوطنيّة ، رحلَ عن مكان الذكريات الحلوة.
في أوّل دقائق الرحيل لم ينتبه إلى ابنه ، وتذكّر ماضيه مع زوجته وقولَها له عندما قالتْ له ..فطين ، هذا المنزل أغلى مِن حياتي ، ففيه تزوجتك وفيه ولدتُ فهمانَ وفيه عشتُ ألذَّ أوقات عمري.
ولمّا كانتْ في النزْع الأخير قبل أنْ تُفارق الحياة قالتْ له ..لا تبعْ المنزلَ ، اجعلْ كلَّ خطوة خطوناها معًا أملاً في الوصول إليّ ، وكلّ بسمة ومودة وأنسة عشناهم معًا ذكرى أطلالٍ جميلة قد تتحول إلى واقع ، كُن وفيّاً لعلّ الله يجمع بيننا مرّة ثانية في بُعدٍ آخر ، فقد تخترق يومًا ثقبًا أسود وتعبر فتصل إلىّ في بُعدي الذي انتقلت إليه الآن ، لعلّه يا فطين أحد أبعاد نظريّة الأوتار الفائقة الذي كنّا نسميه معًا بُعد الأموات.
ولا تفرّط في كتبنا ، دعها كما هي ، كتبٌ درسناها معًا وتدارسناها لابدّ أنْ تكون قطعة من جسدك..ثُمّ تذكّر قولها..
فطين ..لا تبعِ المنزل .
فاغرورقتْ عيناه بجانب ولده الذي لحظه فبكى لبكائه.
ضلَّ الحُلماء بين الخوف والفقر...
في طريق الرحيل ..
نظر فطين إلى ابنه وسأله عن شأن المطبخ المحترق.فأجابه بالتفصيل ، لكنّ فطين لم يسمع شيئًا إذ طغى على كافّة حواسه من جديد مشهد الفندق ووصية زوجته له بألّا يبيع المنزل.
كانتْ سيّارة السائق متآكلة تنبحُ وتزأرُ ، على طول الطريق تُقدّمُ السّيّارة أعظم سمفونيّة رقْصٍ شرقيّ في التاريخ لأنّها تسير تتمايل وتتبختر على عزْف وطبْل العفشة المتآكلة والأبواب التي تتصادم في مداخلها.
فقالَ له السائقُ إلى أين؟ فلمْ يردّ، فأعادَ السائقُ السؤالَ..إلى أين ؟ قال..سرْ بنا بعيدًا بعيدًا ، فتعجّبَ الرجل وقالَ أنا نفسي لا أدري أين أذهب منذُ ولِدتْ ، لكنّي أدرك أنّه يتوجّب عليّ دائمًا الهروب بعيدًا بعيدًا من مطاردة الفقر.
فتاه فطينُ وتاه السائقُ في ظلِّ لوحة دراميّة جمعتْ بين الخوف والفقر.
فطين سكران فهو يخشى أنْ تأتيه الطعنةُ مِن بني وطنه أو حكومته ، والسائق سكران بسبب الفقر المدقع الذي توارثه من جهل بلده وحكّامها.
بُرعم حضارة ينمو في رحِم الشرقِ...
بعد ساعتين مِن العزف الموسيقىِّ الشرقيّ ، نزلَ فطينُ في مكانٍ خالِ ليعطي نفسه فسحة مِن الوقت لأخْذ قرار سليم بشأن اتقائه إعدام محتمل.
-نظرَ فطينُ إلى ابنه مُتسائلاً من جديد :ما شأن المطبخ ؟
-فردَّ..ألمْ أقلْ لكَ أبتِ ...
-ردّ فطينُ بتعجّبٍ أوَ قلتَ ؟ ..ثُمّ تابع كلامه ..قلْ مرّة أخرى .
-فذكر له القصة من أول وضع الطعام والجلوس في البلكونة لانتظاره ثمّ رائحة الشياط نتيجة الحريق الملتهم في الصورة ثمّ المطبخ الذي تحوّل شعلة من نار مشتعل ثمّ أكمل قائلاً ..
قمتُ بقفل محبس الغاز الرئيس على الفور ، ثمّ أحضرتُ زجاجات المياه التي بالثلاجة رغم علمي أنّها غير فعّالة في إطفاء الحرائق .
خفتُ وأصابتني رعدة ، ثُمّ تمالكتُ نفسي وفكّرتُ أن أسحبَ الأكسجين مِن المطبخ والذي هو سبب الحرائق .
ذهبتُ إلى الثلاجة مرة أخرى بعد أن اتّخذت القرار السليم وهو استخراج كلَّ قطع الخمائر التي كانتْ في الثلاجة التي تستعملها أنت في أعمال الخبز .
-وماذا ستفعل بالخميرة ؟ أتترك الحرائق وتأكل "فطين يعلم دور الخميرة في إطفاء الحرائق "؟.
-لا ..بل إنّي أعلم أنّ الخميرة تنفخُ العجينَ ، كما أعلم كذلك أنها مادة قلويّة .
يتبع .................................................. .... يتبع

إبراهيم امين مؤمن
02-17-2020, 10:36 PM
-لا ..بل إنّي أعلم أنّ الخميرة تنفخُ العجينَ ، كما أعلم كذلك أنها مادة قلويّة .
بعدها ..فتحتُ حقيبةَ ألعابك السحريّةِ ، فوجدتُ ثلاثَ زجاجات خلّ ، سكبتُ اثنتين منها في حلة مِن حُليِّ المطبخ على الخمائر فتحرّر ثاني أكسيد الكربون ، ثُمّ سكبته على بعض الشموع التي نحتفظ بها في منزلنا للإضاءة ، فترسّبَ الغازُ في قاع القدر لأنّه أثقل مِن الهواء ، ثُمّ ألقيته على النار فانطفأتْ إلّا قليلاً منها ، فأحضرتُ زجاجة الخلّ الثالثة ووضعتها على الخميرة وفعلتُ كذلك ما فعلته أولاً فانطفأت .
-فرِحَ أبوه لدرجة أنّ عمل ابنه أنساه الفاجعة التي قدْ تلحق به وبابنه ، ثُمّ سأله كيف بلّورت كلّ هذا بهذه السرعة؟
-لا أدري ، لكني وجدت الفكرة تبلّورت في ذهني بمجرد التفكير فيها .
لكنّي أعلم أنّ الحرائق عبارة عن أكسدة وتشتعلُ بسبب وجود الأكسجين في الجوِّ الذي يرتفع ، وهذا يفسر ألسنة اللهب التي تعلو عند مزيد من المواد القابلة للاحتراق .
فلو أحللنا غازًا آخر أثقل مِن الهواء مثل ثاني أكسيد الكربون لترسّبَ في قاع الحرائق ومنع الأكسدة فانطفأتْ ، أيْ ضيّقتُ الخناقَ على الأكسجين .
-فردَّ عليه فطينُ متأوّهًا ..ضاع العلمُ وسط الخوف ، وما أخافنا يا ولدي إلّا الفرقة والصراع ، ثُمّ فارقه الحزن فانفرجتْ أساريرُه أخيرًا ونظرَ إلى ابنه بفخرٍ ، ثُمّ أمسكَ منكبيْه منتصبًا نظره إلى وجهه البريء وكلّمه قائلاً ..أعلمُ يا ولدي أنّك نابغة ، لكنّي أرى نبوغك يتطور ويزدهر بطريقةٍ مذهلةٍ فأسألُ اللهَ أنْ يحرسكَ ويحميكَ .
ثُمّ هزّه فخرًا وقال..أنت ابنُ أبيك فعلاً ، وأرجو مِن الله أنْ يمكّنني مِن إخراجكَ مِن مصر لتستكملَ تعليمك بالخارج .
ثمّ تمتم فطين قليلاً وتذكّر قول ابنه بشأن الصورة فقال لابنه ..صحيح يا فهمان ..ألم تقل لي أنّ رأسي فقط الذي احترق في الصورة ؟
ردّ ..نعم الصورة كلّها لم يمسّها سوء إلّا الرأس فقد احترق تمامًا.
سكتا برهة ثمّ قال له فهمان ..أبتِ أين كنت ؟ ولِمَ تركنا منزلنا ؟
فقصّ عليه الحكاية كلّها وهو يسمعه مذهولاً منصدع القلب .
ختم فطين كلامه ..أزلت العار عن مصر يا ولدي وانتقمتُ لها .
وزفرَ زفرةً طويلةً ثُمّ تابع كلامه بعدها.. بني رويتُ لك لأعوّدَك وأعلّمَكَ الثقةَ والجلَدَ والصبرَ رغم حداثة سنك ، فإنّى أشعرُ بإنّ حِمْلك ثقيل ثقيل عندما تكبر ، أشعر بأنّ هذا العالم سيحتربُ ويحتاجُ إلى علمِكِ وحسن ِخلقكَ.
التفكير مجددًا في تداعيات حادثة الفندق...
عاودَ فطينُ التفكير في حادثة الفندق مِن جديد ، فهو على يقين بأنّ المعركة مصوّرةٌ بأكثر مِن طريقة ، فهاتفُه الملتفَّ حولَ معصمه القذر مسجلٌ عليه كلَّ هويّته ، وهذا كلّ ما يعنيه لأنّ هذا الهاتف الذكي مدون به اسمه وسكنه ومهنته ، أمّا هواتف نزلاء الفندق التي قامت بتصوير المعركة فلا تعنيه في شئ ، وذاك لأنّ الأمن المصريّ سيستغرق وقتًا طويلاً حتى يعرف مكان إقامته.ولذلك باع المنزل وهرب بسبب هاتف اليهوديّ.
وفطين لا يستبعد إذا قُبض عليه أن يُتهم بالخيانة والإرهاب ، بلْ قدْ يرسلوه إلى تل أبيب للتحقيق معه حتى يعلموا مَنْ وراءه .
كل هذا لم يكن ليشغله لو أنّ الأمر يتعلق به فقط ، وإنّما يشغله ولده الذي لمْ يبلغْ عامه السابع عشر بعد ، فسوف يرمونه في “الأحداث أو الإصلاحية” أو يلقونه في غيابات الأنفاق مع السكان الجُدد ، ثُمّ انتفضَ بعد حديث النفس الصامت إلى الجهر بكلمة حازمة "لا والله لن يكون ، لك عمري يا ولدي ".
وفكّر أول ما فكّر أنْ يذهبَ إلى بلدة نائيةٍ ليهربَ ، ولكنْ ماذا يفعلُ في اسمه ، يغيّره؟ ووجهِهِ ، يبدّله؟ لمْ يفكرْ الآن إلّا في الهروب في اللحظة الآنية.
الذهاب إلى الوادي الجديد ..
لمْ يجدْ فطينُ أفضل مِن الوادي الجديدِ ، فمساحتها كبيرة وبعيدة جدًا عن جنوب سيناء .
وقدْ اكتظّتْ بالسكان لوفْرةِ المياهِ تحت الأرض ، إذْ أنّ النّاس بالفعل رحلوا إليها قادمين مِن أكثر القرى والمدن جفافًا ، أتوا إليها بسبب آبارها ومياهها الجوفيّة التي ما زالت تفيض ماءً.
ممّا حدا بأكثر النّاس فقْرًا أنْ يحفرَ بئْرًا ويقيم فيها بسبب فاتورة المياه التي ما عاد يستطيع أحد دفعها.
وممّا ساعدَ على رحيل السكان إليها أنّ بعضًا مِن المستثمرين المصريّين والعربِ شرعوا في عمل بعض المشاريع عليها بسبب توفير خدمات الطاقة ، ألَا وهي الطاقة الشمسيّة ، وكانتْ شبكة الأرصاد الجويّة تسميها بلد الشمس ، ونتيجة لهذه المشاريع تمَّ توفيرَ بعض فرصِ العملِ لأهل المحافظة وغدت البطالة بها لا تتعدّى أكثر من 96% بينما بقية المحافظات فقد وصلت إلى 99%.
حتى سيّاراتها فكلّها تقريبًا تستخدمُ الطاقةَ الشمسيّةَ للتسيير بسبب الانخفاض الحاد في الاحتياطيّ العالميّ مِن النفط.

الجزء الثالث
ُبرعم حضارة ينمو في رحِم الغرِبِ
الولاياتُ المتحدة الأمريكيّة ..ولاية كاليفورنيا.
جاك أمام التلفاز .
يشاهدُ جاكُ أحدَ خبراء ناسا وهو يتكلم عن تقنيةِ المصاعدِ الفضائيّةِ حيث يقولُ..المصعد الفضائيّ ممتدٌّ مِن خط الإستواء حتى المدار القمريّ ، وستُنشأَ قاعدتان واحدة في الأرض والأخرى على القمر من أجل نقل الخبراء والروبوتات والخامات منه وإليه.
يشاهد روادُ الفضاء الأمريكيّون وهُم يضعون مصفوفات شمسيّة على طول الشريط البالغ خمسة وثمانين وثلاثمائة ألف كيلو متر، أمّا عرضه فقد صُمم بحيث يسمح بمرورِ المركباتِ الفضائيّةِ ، يضعونها رغبةً في تشغيل المصعد بالخلايا الشمسيّةِ النانويّةِ ، فضلاً عن توفير الطاقة للشعب الأمريكيّ بأسعارٍ زهيدةٍ عن طريق شمس القمر .
إلَا أنّ هناك آراءً تقولُ أنّ دفْع المركباتِ على المصاعدِ الفضائيّةِ سيكون بالليزرِ للهروبِ مِن عجلةِ الجاذبيّةِ الأرضيّةِ ، وأنّ الدفع بالصواريخ مِن الوسائلِ التي عفا عليها الزمن .
فسعد جاك لذلك أيّما سعادة ، ورفع رأسه فخرًا حتى كاد يلامس السماء رغم تواضعه الذي يسكن في سبع أرضين .
وسمع أيضًا ...
يتبع ................... يتبع

إبراهيم امين مؤمن
03-01-2020, 04:23 PM
وسمع أيضًا ...
ولمْ تكنْ هي فحسب ، بل هناك أكثر مِن عشر دولٍ قامتْ ببناء المصاعد لأنفسها ، منهم بالطبعِ الروسُ والصينُ واليابانُ .
ثُمّ انتقلَ الإعلاميّ إلى خبرِ الزلازلِ المتوقعة حدوثها وخاصةً في ولاية كاليفورنيا وبالتحديد جامعة بيركلي .
حيثُ يقولُ..
إنّ هيئةَ المسحِِ الجيولوجيّ الأمريكيّةَ قالتْ إنّ بعضَ الولايات ستتعرض لحدوث مئة زلزال على الأقلِّ مختلفةِ القوة في شهري نوفمبر وديسمبر القادميْن.
وأنّ أخطرها سيقع في كاليفورنيا وبالتحديد جامعة بيركلي .
وأنّ الزلازلَ تنذرُ بانفجار بركانيّ قدْ يُذهبُ بآلاف السكانِ القاطنين فيها ، فضلاً عن تلفِ المحاصيلِ في معظم الولايات والدول التي تجاورها بسبب ظاهرة الشتاءِ البركانيِّ .
فامتقعَ وجهُهُ على الفورِ وقالَ..يا ليتني أفديكَ بدمي يا وطني ، وبخشوعٍ تابعَ حديثَ النفسِ الشجيّ الذي توّهه عن الدنيا..
لقد انتشلتني وأنا رضيعٌ مجهول الأبِّ والأمِّ مِن على أحد أبوابِ الكنائسِ ، ولا أدري لي اسمًا أو رسْمًا إلّا ما دعوتني به.
ولكنّي لقّبتُ نفسي "جاك الولايات المتحدة الأمريكيّة "وأنّه لاسمٌ أحبُّ أنْ يناديني به القاصي والداني حتّى أنّي أنا أنا أنادي نفسي به.
وإنْ كان هذا الاسم يحملُ دلالة تبغضها النفس وتلعنها لكنّ هذا لا يهمني ، فحبّي واعتزازي لبلدي الذي آواني وعلمني طغى على كلِّ المحاذيرِ والاعتبارات.
فلمّا أشبع نفسه بهذا الحديث انتبه إلى ما حوله فسمع الإعلاميّ يقول أيضًا..
وفي هذا الشأن فقدْ طمأنت ناسا المواطنين بأنّها والحكومة الفيدراليّة ووزارة التكنولوجيا وهيئة المسح الجيولوجيّ أُعطوا جميعًا الضوءُ الأخضرَ مِن الرئيسِ الأمريكيّ لاتخاذ كآفّة الإجراءات وعلى كآفّةِ الصُعُدِ للحدِّ مِن خطورة المناطق النشطة زلزاليًا والتي تُنذر بانفجار بركانيّ عند القشرة الضعيفة مِن الأرض .
وتتابع كلامها ..
ستخفف حدة خطورتها بتبريدها بضخ المياه إلى الحمم البركانية عبر مواسير ضخمة تضخُّ طلمبات مياهَها نحو الحِمم البركانيّة.
وأنّ الحكومةَ الفيدراليّةَ قدْ تدْعوكم إلى إخلاء بعض المناطق التي تتوقعُ حدوث زلازلٍ فيها.
هرعّ جاكُ إلى مكتبتِهِ العلميّة التي في منزلِهِ وتصفّحَ بعض كتب الجيولوجيا التي تضمها ، وقرأ عن الزلازلِ ، وتدبّرَ قولَ ناسا هذا الخاص بشأن مواسير المياه ولمْ ترقْه الفكرة بالمرّة ، ثُم تابعَ قائلاً.. فليحمِ الربُّ أمريكا .
واستسلم للواقع..
ثُمّ ركبَ دراجته الناريّة الوحيدة عنده ، ركبها ومضى إلى محل ليشتري منه عشر زجاجات مياه غازيّة ، اِشتراها وشربها كلّها ثُمّ وضعَ العلبَ الفارغةَ في جوال مربوط ٍ خلف الدراجةِ.
ثُمّ استمرّ ماضيًا نحو أحد الشوارعِ الفارغةِ كعادته لعمل مناورات بها ، مناورات أشبه بالمعجزات حتى أنّ أحد زملائه كان يلقّبه بفتى الدراجة الطائرة عندما يشاهد ها.
وقال له ذات مرّة مداعبًا لا هازئًا ..أريد أنْ تطيرَ بدراجتك مِن كاليفورنيا إلى واشنطن.
فرد جاك مبتسمًا..مع العزيمة لا يوجد مستحيل .
الجزء الرابع
الطريق إلى مملكة الرؤوس الثلجيّة ..
قرار زراعة رأس...
ظلّا سائرين نحو ثلاث ساعات ، ثمّ أخيرًا ركبا سيارة قاصدين الوادي الجديد ، وما زال الخوف يسيطر على كليهما.
فلمّا وصلا اتّصل بأحد سماسرة العقارات واشترى شقة متواضعة على الفور.
تمددا على السرير وناما من الإعياء الشديد ، نام فطين محتضنًا المال المتبقى من شقة جنوب سيناء بعدما استخرج منه المال الذي اشترى به الشقة الحالية.
الخوف يعتصر قلبه ، وفهمان أشدّ خوفًا منه لأنه يحبّ أبيه جدًا فضلاً عن قلبه الضعيف الذي لا يستطيع تحمل أدنى الكوارث.
ومرجع خوف فطين أنّه لأول مرّة في حياته يعيش طريدًا رغم بعده الشديد عن مسرح الجريمة ، وكان يواسي نفسه ويطمئنها من خوفها بعد إجراء العملية التي عزم على إجرائها.
استيقظ فطين ، بينما ابنه لم ينم إلّا غفوات ، ارتدى ملابسه ومضى وقد آثر فهمان ألّا يسأله عن وجهته.
ذهبَ إلى إحدى المكتباتِ الشهيرةِ في القريةِ واشترى بعضًا مِن كتبه المفقوده وحاسوبًا جديدًا وعادَ إلى المنزل .
بحثَ في بعضها عنْ تقنيات زراعة رأس إنسان أو وجه ، وبعد التحرّي والتمحيصِ قرّرَ أنْ يزرعَ رأسًا كاملاً بدل الوجه دون إشارة طبيب مختص.
فتحَ الحاسوبَ ليبحثَ عن أسماء أطبّاء يقومون بمثل هذه العمليات فحصل على أشْهَرِهم ، إنّه صاحب مشفىً كبير بالوادي الجديد واسمه..مؤيد أصيل ، والموْقع مدوّن به إنجازاته الطبيّة.
أعمق البحث ليعرفَ عنه أكثر، فعرفَ أنّ أكثر مِن مُحامٍ رفعوا عشرات القضايا ضده لأنّه يقوم بعمليات زرع أعضاء دون الحصول على إذن مِن وزارةِ الصحةِ.
وتكلّمتْ بشأنه صحفُ المعارضةِ المصريّةِ فقالت إنّه سفاحٌ وماصٌ للدماء ، والنظام الحاكم يغضُّ الطّرف عنه لأنّهم يتحصّلون منه على ضرائب باهظة.
فتتبعَ فطينُ هذه الأخبار الخطيرة واستوثقَ منها عن طريق مقابلة أحد الذين ذكَرَتُهم الصحفُ بأنّه تبرّعَ بجلد وجهه لأحد المجرمين الهاربين مقابل مبلغ ضخم مِن المال ، وبالطبع دون الحصول على تصريح مِن وزارةِ الصحةِ حتى يستطيع المجرم الهارب الإفلات مِن جريمته.
وزارة الصحة لا تستخرج التصريح إلّا بوجود المُتبَرِعِ والمُتَبَرَع له وعمل اختبارات بصمات الأصابع وخلافه للتأكد أنّ المتبرَع له غير مجرم .
وبعد التأكد التام مِن صحة الأخبار قررَّ أنْ يلتجئ إلى مؤيد أصيل ليعمل له العمليّة.
فكّرَ فطينُ كيف يصل إلى الدكتور مؤيد لمساومته على زرْع رأس له دون تصريح مِن وزارة الصحة .
خرجَ مِن بيته قاصدًا العنوان المدوّن في الإعلان الإشهاريّ للمستشفى على الحاسوب ، خرج ولم يستأذن ابنه كالعادة فعقله مغيب تمامًا عن كلّ شئ إلّا ذاك الأمر الذي قرّر فعله.
توجّه فهمان إلى الحاسوب فور رحيل أبيه مباشرة ، فوجد مواقع لمشافٍ تزرع الأعضاء ، فقرأها ثمّ تساءل ..ماذا تودّ أن تفعل يا أبتِ.
بمجرد وصول فطين المشفى سأل أحد أفراد الأمن عن الطبيب مؤيد أصيل .
فقِيِل له أنّه مدير المستشفى ، ويأتي إليها يومًا أو يومين في الأسبوع وغالبًا السبت والثلاثاء ، والسبت رئيس عنده ، ثُمّ سأله الحارس سؤالأً خبريّاً قائلاً..
-أليس اليوم السبت ؟
-ردَّ فطينُ بلى .
-كم الوقت الآن؟
-الساعة دخلتْ على الثانية عشر صباحًا.
-على وشك الوصول .
-ومتى ينتهي مِن عمله ؟
-مساءً
وجه الحارس نظرة على الطريق الذي مِن المعتاد يسير فيه الدكتور مؤيد ، وبالفعل وجدَ سيارته مقبلة ، فأشار إلى السيارة بإصبع الإبهام قائلاً لفطين ها هو قد جاء .
انتظرَ فطينُ انتظارَ المتحفّزِ، ونظرَ نظرةَ الوجل حتى وصلتْ السيّارة ونزلَ منها فرآه فطين .
شكَر الحارسُ ثُمّ مضى مسرعًا خلف الطبيب الذي ولجَ مِن الباب الرئيس لكنّه لمْ يدركْه .
حكَّ رأسه أسفل لاسته وقرّرَ أخيرًا أنْ ينتظره حتى انتهاء عمله.
ولمْ يترك المكان حتى مارس عادته المشهورة بالنظر إلى تكنولوجيا الجنس البشريّ .
فنظرَ إلى المبنى ولفتَ نظره خروج أحد المصاعد مِن المبنى لتدخل في المبنى المجاور ، هذا المبنى هو ملحق المستشفى إذْ يحتوي على الصيدليّة وبعض الحجرات لإقامة المرضى فيها.
ويبدو أنّ أحد المرضى عُملت له عملية جراحية ونقلوه بالمصعد إلى المبنى الملحق .
تفحّصَ المصعدُ واستذكرَ قراءته ، وعلى الفور علم أنّ المصعدَ يعمل بتقنية الرفع المغناطيسيِّ بديلاً من الكابلات ، وأنّه بإمكانه السير أفقيّاً ورأسيّاً فضلاً عن حركته المعروفة وهي الهبوط والصعود.
مضى فطينُ تاركًا المشفى إلى حين ، حتى إذا حانتْ لحظة غروب الشمس عاد إلى المستشفى ووقفَ على مرأىً مِن بابها الرئيس حتى إذا خرجَ الطبيبُ مؤيد تبعه.
وبالفعل خرج مستقلاً سيارته فتبعه فطينُ بسيّارة أجرة على الفور ، حتى إذا وقفتْ سيارةُ مؤيدِ أمام الباب الرئيس للفيلا كان هناك باب آخر كان يمثلُ جراجًا خاصًا له ..فُتح جراج الفيلا إلكترونيًا ودخلَ وأُغلق الجراج ولمْ يخرجْ مؤيد بالطبع .
امتعضَ فطين ، حيث كان يظنُّ أنّه سوف يخرج ثمّ يلجُ الفيلا من بوابتها الرئيسة ، فأقبلَ كالتائه إلي حارسها وقال له ..أريد مقابلة الدكتور .
فردَّ عليه ..هل أنت على موعد معه ؟ ، فردّ فطين . لا ..فقط أخبره أنّي أريده في شئ هام وخطير .
هاتف الحارسُ الطبيبَ فأمره بإحضاره إلى حجرة الاستقبال .
ولجّ فطينُ حجرة الاستقبال وقابله مؤيد وحيّا بعضهما .
-تعجّب مؤيد من هيئته ، ومن لاسته المزركشة والجلباب ، ثمّ قال له مؤيد ..أأمرْ يا معلم .
-قال فطينُ بهدوء ..رأس ، أريد زرع رأس .
-ردّ باستياء.. هذا ليس محل عمل ..قابلني في المستشفى غدًا ، اتفضلْ ..مشيرًا بيده إلى باب الخروج .
-ردّ بثقة وهدوء ، أريد زرعَ رأس ولك ما تطلب .
-احتدَّ صوته مُتسائلاً سؤال المتهكم ..مِن أنت يا رجل ؟ ولماذا لمْ تقابلنِي في المشفى؟
-بهدوء وثقة ..أريد زرع رأس بلا تصريح مِن وزارة الصحة ولا علم الحكومة ،
فأنا رجل يلوذ بك وأراكَ مُغيثًا ، ولا أظنُّ كريمًا مثلك يردُّ مستغيثًا إلّا إذا كان المستغيث لئيمًا وأنا لستُ كذلك رعاك الله .
-أتريد أيضاً أنْ تُغير اسمك ؟ قالها بسخريّةٍ وتهكّم .
-واصل هدوءه ..يا ليت .
-اشتدّتْ نبرةُ صوته أكثر، ثُمّ سأله..مَنْ قالَ لك إنّي أخالف القانون ؟ اخرجْ وإلّا طلبتُ لك الشرطة .
- أرومُ أنْ تساعدني ، صمت هنيهة إذ لمح صورة معلقة على جدار الحائط وخلف ظهره مباشرة ، يظهر فيها وهو يقوم بإحدى العمليات لأحد الأشخاص ومن خلفه بطارية ذرية لا يلحظها إلّا ذو علمٍ كبير، فعلم على سبيل الظنّ أنّ مكان العملية في أحد الأنفاق الفلسطينية وأن المريض أحد أفراد اتحادها ، فكانت الصورة بمنزلة فرصة ذهبية اقتنصها على الفور قال له ..أنا رجلٌ وطنيّ والموساد الإسرائيلىِّ يلاحقني .
-انتبهَ للعبارة "فأنا رجلٌ وطنيّ والموساد الإسرائيلي يلاحقني "وسكت على إثرها هنيهة ثُم قال بهدوء مغمغمًا بكلام متهدج ق..قل..ق..قلتُ لك اخرجْ .
لمْ يستطعْ مؤيد أنْ يكبحَ جموحه نحو انتمائه لعروبته التي لا تُضاهى ، هذا ما شعرَ به فطين عندما لجلج في الكلام . فاستبشرَ خيرًا.
وقرّرَ أنْ يصمتَ ويطول صمته حتى يستخرج ما بداخل مؤيد مِن خلال علامات وجهه ورعشة منكبيه التي بدتْ واضحةً عندما أخبره أنّ الموساد الإسرائيليَّ يلاحقه.
وآثر الهدوء والصمت .
يتبع .................... يتبع

إبراهيم امين مؤمن
04-15-2020, 12:17 PM
وآثر الهدوء والصمت .
نظرَ مؤيد بفراسته إلى فطين ، تلك الفراسة التي لا تُخطئ أبدًا ، نظرَ إليه وقوّمه في خياله ، فقال في نفسه أنّه رجلٌ تبدو عليه علامات الإجلال والقوّة معًا ، كما تبدو عليه علامات الصلاح والنبل ..فأزمع بداخله على عمل حيلة ليتأكد مِن ظنونه التي بثّها في خياله على الفور .
وهكذا تفحّص كلٌّ منهما الآخر كأنّهما خبيران في علم لغة الإشارة والجسد .
قال مؤيد بعد فكر وبصيرة ..أيّها الرجل ، اقعد ، ثُم قال أنا لا أقوم بمثل هذه العمليات لكني أصدقك فيما قلتَ .
ثمّ سرح بخياله مرّة أخرى مرددًا على مسامع أذنيه ..لابدّ أنْ أكون حذرًا خشية أنْ يفتضحَ أمري ويَهلك مَن ورائي..
والاتحاد في حاجة إليّ من موقعي المتميز في المستشفى .
ثمّ ناوله سيجارة وأخرج قداحته الأخّاذة وأوقدها له ثمّ تصنّع وقوعها على حجر فطين ، فلمّا أراد فطين ردّها إليه قال الطبيب هي وقعتْ في حجرك وهي مِن نصيبك ، خذها هدية بسيطة جدًا ، فأخذها فطين .
ثمّ أعاد مؤيد قوله ..أيّها الرجل الكريم إنّي لا أمارس هذه العمليات مطلقًا ، وإن كنتَ صادقًا فأسأل الله أن ينجيَّك مِن القوم الظالمين .
-إذًا ..هذا رأيك الأخير .
- قال بحزمٍ ..ومصرّ عليه .
نهضَ مؤيد كعلامة لانتهاء الجلسة ..وتبعه فطينُ وقوفًا على الفور ، ثُمّ استأذنه في الانصراف تاركًا القدّاحة وراءه .
ناداه أثناء دلوفه الباب ، فانتبه ، فقال له مؤيد القداحة ..لقد نسيت القدّاحة ..ثُمّ أقبل إليه وربت على كتفيه ودعا له بالسلامة.
مضى فطينُ مترجلاً هائمًا على وجهه لا يكاد يتحمّل همس الريح ، ولم يكفّ أثناء سيره عن التدخين ترويحًا عن نفسه .
كان يوقدُ السيجارة بقدّاحة الطبيب ، والطبيب يتابعه مِن خلالها ، ولمْ يسمعْ غير نقر نِعال المارة وبعض أصوات هدير السيارات إذْ كان الوقت في الهزيع الأول مِن الليل .
ظلَّ سائرًا يفكّر فيما ينتظر ابنه مِن سوء المآل ، ومؤيد خلفه ليأتي بالخبر اليقين عمّا تلمّسه في فطين من وطنيّة لا تقارن .
وصل أخيرًا إلى الحيّ ودلف باب العمارة ، فأسرع مؤيد بسيارته حتى يبصر العمارة التي يقطنها .
دلف حجرة فهمان ليطمئنّ عليه فوجده عاكفًا على الحاسوب ، بينما مكثَ مؤيد في سيارته لم يخرج منها وهو يتنصت عليه.
وكان فهمان لحظة دخول أبيه يبحث عبر المواقع الإلكترونيّةِ العربيّةِ والأجنبيّة عن خبر جريمة قتل الفندق التي كلّمه أبوه بشأنها فما وجدها ، لكنّه أعمق البحث وظلّ منغمسًا فيه حتى أنّه لمْ يشعرْ بدخوله ، وعندما زاحمه في النظر إلى الحاسوب انتبه فهمان ثُمّ قال ..اليهوديّ لمْ يمتْ يا أبتِ .
سمعها مؤيد من داخل سيارته عبر جهاز التنصت فاقشعرَّ جلده ووظّف كافة حواسه للمحادثة.
ألقى فطين بالقدّاحة بجانب الحاسوب ثمّ ردَّ بثقة ..بني ، عندما يتعلق الأمر بأمن وكرامة دولة يصبح الغريب مألوفًا والمألوف غريبًا وتتبدّل كلّ المفاهيم ، زفر زفرة ثمّ تابع كلامه.. في تصورهم أنّ قتل رجل منهم وفى عقر دارهم أمر مشين وعلى ذلك فلابدّ من ردّ فعل كبير .
بني ..هم يتربّصون بي ويبحثون عنّي متنكرين ، ولنْ يهدأ بالهم حتى يستردّوا كرامتهم .
-ولذلك قررتَ أن تغيّر وجهك .
-كيف علمت ؟ ثمّ نظر إلى الحاسوب فأجابه بنفسه ..من الحاسوب! ولدي عندما تريد أن تعرف شيئًا فسلني أنا ولا تفتّشْ ورائي .
-سمعًا وطاعة أبتِ .
-هكذا يجب أن يكون سلوكك مع أبيك ومع البشر يا بني .
ثمّ تركَه فطين وذهبَ إلى حجرته مغتمًا .
سمعَ مؤيد الحوار الذي دار بينه وبين ابنه ، وما إنْ انتهى الحوار طاطأ مؤيد رأسه مع قوله إنّ هذا الرجل هدفه ، ولابدّ أن يجنّده فهو سيمثل له ورقة رابحة ومكسبًا كبيرًا في إطار صراعهم ضد اليهود.
نزل مؤيد من السيارة ومعه الهاتف ثمّ توجّه تلقاء أحد المحال ليعرف رقم الحجرة التي يقطنها فطين.
وصل المحل وطلب علبة سجائر وزجاجة مياه ، ثمّ سأله عن فطين ، حيث قال له ..أيّها السيد ، هل يسكن في هذه العمارة رجل يلبس لاسة وجلبابًا و ...؟
رمقه عامل المحل شزرًا كأنّه يقول له ..هنا مصر، كلّ شئ له سعر حتى السؤال .
أهمله البائع ، بعد لحظات قال ..لِم تسأل عنه ؟
فأجابه..يريد الزواج بأختي وأنا لا أعرفه ، ثمّ أردف الطبيب قائلاً ..
استأذنك..كم الحساب ؟
ردّ البقال خمسون جنيهًا سعر زجاجة المياه ، ومئة وخمسون جنيهًا سعرعلبة السجائر يصبحان مئتي جنيهًا.
وأخرجَ مِن جيبه العملة المصريّة الجديدة وهي فئة الألف جنيه ، وأخذ يحركها يمنة ويسرة وعين البائع تدور حيث حركة يد الطبيب ، فقال البائع بلهفة ..سأخبرك ، اسمه فطين ولا يعيش معه إلّا ابنه وجاء هنا بالأمس فقط ..
غضب مؤيد قائلاً.. قلت لك كم رقم حجرته ؟
فأومأ البائع بعدما عدَّ أسماء السكان وأرقام حجراتهم ثمّ قال ابحثْ عنه في الدور إمّا الرابع أو الخامس..ألقى الطبيب له الورقة بقرف واشمئزاز بعدما استردّ منها سبعمئة جنيهاً ، ثمّ ولج باب العمارة وطرق باب الدور الرابع والخامس ووقف على بسطة السلم المشترك بين الدورين ، ففتح باب شقة فطين وكان بالدور الخامس فارتفع وحيّاه.
-نظر إليه فطين باستغراب مستفهمًا إيّاه ..أنت ، أنت ؟ لماذا تتبعني؟
-فقال ألَا ترحّب بضيوفك ؟ أمْ تتركني على الباب ؟
-اتفضل.
-أجلسه في ردهة المنزل ورحّب به ونادى على ولده قائلاً يابني أحضر زجاجة مياه على الفور.
-قال الطبيب..أمعك سجائر؟
أخرج له فطين سيجارة فأخذها ووضعها الطبيب بين شفتيه ونظر إلى فطين قائلاً.. ألّا تشعلها !
فأخرج قداحته القديمة وهمّ بإشعال السيجارة ، فأشار الطبيب بسبابته إشارة الرفض ثمّ قال القدّاحة الجديدة ، أشعلْها بالقدّاحة الجديدة .
تعجّب فطينُ مِن رغبة الطبيب لكنّه لمْ يعتنِ بالأمر، وعلى الفور نادى على ولده كي يحضرَ القدّاحة مِن الحجرة ، ولمّا أشعل له السيجارة خطفها قائلاً تلك عصاي أتوكأ عليها ..كما أعرف عصاكَ التي توكأتَ أنتَ عليها منذ يوم ونصف ؟ .
فتعجّبَ فطينُ مِن قوله ثمّ قال له ادخلْ في الموضوع على طول .
-قال مؤيد..لِمَ قتلت يهودىَّ الكيدون ؟
-ظنَّ فطينُ على الفور أنّ الدكتور مؤيد بلّغ عنه وأنّ الشرطة على الباب الآن رغم علمه المسبق بحالته فأجاب ..لا أدري عمّ تتكلم ..سكت هنيهة ..ثمّ قال ..حضرتك طبيب أم محقق؟
-فندق هيلتون طابا يا فطين.. وتابع كلامه على الفور ، أتذكر هذه القداحة ؟ وفتح الطبيب إيّاها دون أنْ يمهله الردّ وأخرجَ منها جهاز تنصّت ثمّ أخرجَ هاتفه الذكيَّ وأسمعه الحوار الذي دار بينه وبين ولده .
انفعل فطينُ وجرتْ الدماءُ في عروقه وعيناه ترمي بشرر كالقصر ، أقبل على الطبيب ورفعه مِن ياقة بذلته بكلتا يديه إلى أعلى وهمّّ بإلقائه مِن النافذة فقد أعماه الغضب عن فعل الحلم والروية والتدبير ، كما فعل ذلك من قبل عندما ذهب إلى الفندق لقتل اليهودِيّ إذْ جرفه سريان الدم في عروقه عن نفس الفعل أيضًا.
حاول الطبيب الخلاص من قبضة فطين ولكن محاولته فشلت بسبب قبضته الحديديّة ، تكلم ولا يكاد الكلام يخرج من سقف حلقه لأن قبضته بمنزلة حبل خنقه ، هنيهة واحدة وكادت تجحظ عيناه بينما فطين لا يكترث لحالته واستمر في إطلاق السب واللعنات .
سمع فهمان هدير صوت أبيه من الداخل فهرول مسرعًا ، فرأى المشهد على الفور، فذُعر وأمسك يد أبيه ليدفعها بعيدًا عن الطبيب بيد أنّ يد فهمان لمْ تحرك ساكنًا .
ولمّا صرخَ فهمان وصاح صياحًا شديدًا رماه فطين متبرّمًا لاعنًا ثمّ قال له..ياخائن يا ابن الكلب.
وسارع فهمانُ نحوه يفكُّ أزرار البذلة حتى يتنفس .
استنهضه فهمانُ وأجلسه على كرسي ، وناوله بعض الماء حتى إذا استراح قال لفطين متهدج الأنفاس..
يتبع .................يتبع

إبراهيم امين مؤمن
05-26-2020, 06:44 AM
استنهضه فهمانُ وأجلسه على كرسي ، وناوله بعض الماء حتى إذا استراح قال لفطين متهدج الأنفاس..
أنا ما جئت لأهدّدك أو أبتزّكَ ، وإنّما جئتُ لأعمل لك العمليّة ، وأعطيك أيضًا هويّةَ صاحب الرأس الجديد إن أردت ، وبذا تكون قد أمّنتَ نفسك وأمّنتَ مستقبل ولدك.
-وكيف أصدقك؟
-لو أردتُ ابتزازك لِمَا حضرتُ إلى بيتك ، ولو أردتُ الغدر بك لأوصلتُ هذا الحوار إلى الشرطة عن طريق طفل بوهبةِ زجاجة مياه ثُمّ فررتُ أنا .
فكّر فطينُ قليلاً ووجد كلام الطبيب كلِّه معقول ، بل هي عصا موسى التي ستنجّيه وولده مِن حبل المشنقة ، أو إرساله إلى إسرائيل ليضعوه في سجنٍ سرّيّ لايَمُوتُ فِيه وَلَا يَحْيَى..ثُمّ قال ..هات ما عندك أيّها الطبيب.
-قال سآخذ رأسك وأزرعك الرأس الذي لديّ و ..استوقفه فطينُ قائلاً..أنا لا أقبل أيّ رأس؟
ردّ الطبيبُ بتوسلٍ ..لا تقاطعني حالما انتهي .
صاحبُ الرأس رجل فلسطينيّ وطنيّ مِن شعر رأسه إلى أخمص قدميْه ، تهجّر مِن بلده ودخل هو وأمّه وأخوته إلى مصر عبر شمال شرق سيناء بموجب الاتفاقيّة الرباعيّة و ..صمتَ توجّعًا وأطرق رأسه إلى أسفل خجلاً .
طغى الفضول على نفس فطين فقذفه قائلاً ..أكملْ .
-لمْ يردّ عليه ..وعاد مِن جديد وحشُ الماضي الطاغي وفرض نفسه على مشاعره التي كان يداريها عبثًا خلف ابتسامة زائفة مع أنّ قلبه يتمزق إرَبًا.
ولقدْ تجسدتْ الآن الصورة أمام عينيْه اللتيْن بدأتا تزوغان وتغرورقان ، وأخذ جسده يرتعش مع الذكرى رعشة الصاعقة.
وتجسّدَ المشهدُ الأليم في مخيلته كأنّه حدثَ منذ لحظات .
في المشهد يظهر الفلسطينيِّ وهو يصارع سكرات الموت غمًا وحسرةً على ما يحيق بوطنه من ويلات ، كما يدعو على يعقوب إسحاق بأن يصيبه الله الشلل في جسده .ويتحسّرُ على عدم إدراكه للعمل مع الاتحاد .
وعلى جانب آخر من الصورة أمّه واقفةً ، يتزاحم إخوته التسعة حول ثديها الجاف .
نظرتْ الأمُّ إلى ابنها الهالك وإلى أولادها الصغار وقالتْ ..لا أدري يا أبنائي أحملُ مَنْ الآن ، أحملكم أمْ أحمل ولدي الهالك ؟
هذا الهالك الذي كان يحملنا ، الآن لا يجد مَنْ يحمله .
اِصبروا حتى ندخل مصر ونبحث عن جُحْرٍ يأوينا .
انسلبتْ مِن أبنائها واندفعتْ بكلِّ مشاعرها نحو ابنها واقتعدت الأرض ورفعتْ رأسه ووضعته في حجرها وصرختْ.
أقبلتُ عليها لمواساتها فنهرتني قائلةً ابتعدْ عنّي أيّها المصريّ المتوحش.
ونظرتْ إلىّ باحتقار وقالتْ ..أنت مصريّ ؟ إلى متى سنظلُّ قرابين لحكّامكم ، تملكون حريتكم بتعبيد الطريق المؤدّي لاسترقاننا ،إلى متى إلى متى ؟
قلتُ لها كذبًا..أنا فلسطينيّ أجاهد من أجل تحرير بلدي ، وأريد رأس ابنكِ لاتحاد المقاومة.
نظرت المرأة إلى صراخ أطفالها ، ثمّ نظرت إلى ابنها الهالك ، فحثت على رأسها التراب إشارة إلى أنها لطخت نفسها بالعار من أجل حماية صغارها من الموت جوعًا.
ثمّ نهضت واقفة بثبات وهي تمرر إصبع الإبهام على إصبعي السبابة والوسطى قائلة ..كم ؟
وزاد صراخ أطفالها فزاد صياحها وأخذت تردّد بجنون وبعينين زائغتين..كم ؟ كم؟.
فعرضت عليها مبلغًا كبيرًا ، فوافقت على الفور ثمّ انكبتْ على ابنها الهالك تحتضنه وتصرخ قائلة في جنة الله ياولدي ، سامحني يا ولدي، ثمّ انتصبتْ واقفة ورفعتْ يديها إلى السماء وقالت ..
ربّ إنّي أودعتُ ابني عندك ولا حيلة لي ولا سناً تقطع ، اللهمّ أرني في يعقوب إسحاق يومًا أسود كيوم عادٍ وثمود ، اللهمَّ إنّ رأس ابني وديعة عندك فحلْ بينها وبين جسد أيّ مجرم أو غادر ، اللهمّ إنّ ابني عاش بجسدٍ حميدًا مدافعًا عن وطنه فاجعلْه في جسدٍ بقلب حميدٍ خلوقٍ .
ولمّا طالتْ لحظات الصمت ووجد فطينُ رجفةَ الطبيب ودموعه التي انهمرتْ حتى سقطتْ قطراتها على فخذيه أشفق عليه وناداه وحاول أن يستحضرَه بينما الطبيب غائب في لوحة الماضي الأليمة.
فأقبل تلقاء وجهه وأمسك منكبيْه بكلتا يديه يستحثّه على الانتباه وطرْد ذاك الشيطان الذي جثم على مشاعره ، ثمّ هزَّه مناديًا..دكتور دكتور، فانتبه.
-قال فطينُ له ..أنا موافق بشرط أن تجبني عن سؤالٍ واحدٍ ولا تكذبني ، هل الفلسطيني وطنيّ مِن شعر رأسه إلى أخمص قدميْه كما قلتَ ؟
-أجابه..هو من الشهداء يا فطين .
وأسرّ مؤيد في نفسه قصة شرائه ، كما لم يبحْ له برغبته في ضمّه إلى اتحاد المقاومة.
-كمْ تريد ؟
-فقذفه سريعًا بسؤاله هذا ..لِمَ قتلتَ يهودىّ الفندق؟
-النفس بالنفس ، قتل عالمنا المصريّ ، وكان أملاً لخروج مصر من أزماتها السياسيّة والاقتصاديّة.
-سكت مؤيد هنيهة ثمّ قال عملية اغتيال العالم المصريِّ المشهور ..أتقصد تلك العمليّة التي تمّت في فندق هيلتون طابا ؟
-نعم.
-لمْ يعرفوا حتى الآن كيف دخل السمُّ إلى الحجرة رغم الحراسة المشدّدة عليه ، هذا العالم أعرفه كذلك ، إنّه كان بروفيسورًا في إحدى الجامعات الأمريكيّة ، أعرفه جيدًا جدًا ، إنّه عالم روبوتات رائع ليس له نظير غير واحد فقط ، يعمل في مصادم سيرن fcc-1 اسمه اسمه ..اسمه ميتشو كاجيتا وهو يابانيّ الجنسيّة.
وأخفى عن فطين أنّ بروفيسور بيتر كان معه في الفندق وقتها ، وأنّه انضمَّ لنفق الاتحاد وقتها.
ثُم سأله ..لكن كيف سيخرجكم من أزمتكم الاقتصاديّة ؟
-لو التفَّ حوله باقي العلماء والباحثين وأنشأوا مصنعًا روبوتيّاً لأمكنهم صنْعها بحيث تتمتع بقدرات خاصة مِن الممكن تصديرها لدول أوروبا وآسيا بأسعار خياليّة لأنّ الأمريكان والروس يتنازعان حول حكم العالم والسيطرة على القرارات السياسيّة والاقتصاديّة فيه.
-من أين عرفتَ كلَّ هذا ؟
-قرأتُ في جميع تخصصات الفيزياء لاحتياجي لها في عملي ..فأنا ساحر.
-ألعاب سحريّة ! كم أنت رائع يا حاج فطين .
-ولمّا تيقن الموساد مِن خبر ابتكاره لهذا الروبوت وإبائه العمل لدى الأمريكان صدر الأمر إلى قسم الكيدون بالتصفيّة الجسديّة فورًا بأيّ ثمن .
-اقتضبَ مؤيدُ الحديث وأداره حيث يريد وقال ..أريد المال الذي دفعناه فيه فقط ، أمّا جهدنا فسأترك لك تقديره حتى إن لمْ تدفعْ شيئًًا ، فأنا لست أقلَّ وطنيّة منك يا حاج فطين.لكنّنا سنأخذ رأسك فأنت لست بحاجة إليه.
-بلْ أنا في حاجة إليه ، أنا معجب به ، أحبُّ أنْ انظرَ إليه يوميّاً ، وقد يأتي يومٌ آتي إليك فيه لتركبه مِن جديد ..قل لي..
لِمَ إذن تساعد المجرمين ليهربوا مِن جرائمهم بعد أن تغير وجوههم؟
-هذا سرُّ يا فطين ، لكنّي أوؤكد لك أنّ المال الذي اتحصّل عليه لا يدخل جيبي ، أتبرعُ به للقضيّة الفلسطينيّة .
-ابتسم فطينُ ، وصدق حدسه في مؤيد ثُمّ سأله ..ألمْ تخشَ على مشفاك ؟
-أخشى طبعًا ..لكنّي حريص جدًا في حال مخالفة القانون ، والمجرم له طرق مختلفة للحصول على التصريح ..البلد فاسدة وكلُّ شيء يُشترى بالمال .
عامة ، رأسك غالٍ يا فطين ولا يقدر بثمن ، تنازلتُ عنه .
-متى نبدأ ؟
-خلال أسبوع ..المهم يكون معك المال .
-اتفقنا.
وبمجرد أن رحل مؤيد تذكّر فطين الاحتراق الذي نشب في الصورة ولم تحرق إلّا رأسه فاستبشر خيرًا .
رحل مؤيد ولقد ذكرته هذه الاتفاقيّة مع فطين بالحوار الذي دار بين قادة المقاومة منذ سنوات في نفق الوادي الجديد .
ذاك الحوار الذي انقسمَ فيه قادة المقاومة إلى أحزاب وكادوا يقتتلون حول فكرة استغلال جثامين شهدائهم في تدعيم المقاومة مِن عدمه ، إذ أنّ المقاومة في حاجة لشراء أسلحة وذخيرة للبقاء على قلب فلسطين بعدما قطع يعقوب إسحاق أنفاسه ، بمعنى أنْ يبيعوا أجسادهم أو استغلالها في زراعة الأعضاء مِن أجل الإبقاء على المقاومة وتدعيمها فضلاً عن إمداد أُسَرِهم فوق الأرض بالمال الذي يكفيهم مِن الحاجة بديلاً عن التشرّد.
وقدْ رجحتْ في النهاية كفّةُ الرأي القائل باستغلال جثامين شهدائهم للأسباب السالفة الذكر فضلاً عن الأسباب الأتية..
-الحصول على ملايين الدولارات من رؤساء مافيا المخدرات الذين رهن الاعتقال مقابل تغيير رؤوسهم برؤوس فلسطينية متوفاة .
-لديهم الطبيب الأول عالميًا في عمليات الزرع وهو بروفيسور بيتر الأمريكيّ ، فهو معجزة العصر في زرْع الأعضاء وخاصة الوجه.
-وجود مشفي الدكتور مؤيد أصيل مما يسهل عليهم تحقيق الهدف بسهولة.

الرءوس العربية كلُّها توائم
بعد ثلاثة أيام مِن اللقاء ...
آخر الليل..جاءتْ سيارة حمراء قاصدة منزل فطين ، فلمّا أتاه قالَ..له أنت فطين المصريّ ؟
أجاب..نعم.
فلمّا تأكّد السائق أنّه هو ، قال أنا رسول الطبيب بأمارة القدّاحة يدعوك أن تأتي معي .
نادى على فهمان أنْ يحضرَ عصاه والمال فلمْ يسمعه ، إذْ أنّه في بحثٍ متواصلٍ على الحاسوب يقرأ أحدث ما وصل إليه الطبُّ في زراعة الأعضاء ، وأمامه بعض كتب أبيه يبحث في محتوياتها عن عنوانات تتكلم عن زراعة الأعضاء.
فدخل عليه أبوه فوجده على حاله تلك ، فأخذ العصا والمال واستنبهه فانتتبه ثُمّ قالَ..يا ولدي..لقد أوتيتَ الرشد صبيًا ، فإنْ لمْ أعدْ فدبّر حالك بنفسك ، وفتح الحقيبة وأخذ منها ثمن عملية الزرع ثمّ أغلق الحقيبة وأعطاها ولده وقال .دبّر حالك بهذا المال .
حدّجه فهمان ثُمّ تمتم بحشرجة نتيجة خوفه متسائلاً ..إلى أين يا أبتِ ؟
-إلى حيث تعلم يا بني .
-ألَا تتمهل قليلاً حتى نتأكد من موت اليهوديّ.
-مات يا ولدي ..مات.
-اغرورقت عيناه وقال راجيًا..إنْ شاء الله ستعود بعد نجاح العمليّة ، ثمّ لثّم رأسه وهو يعلم أنّها آخر قبلة لهذا الرأس .
-لا تترك المنزل حتى أعود ، الشقة فيها كلّ ما يلزمك ، لا تترك المنزل فإنّي أخشى مِن استفزاز أهل الحيّ لك أثناء غيابي ، لا تفتح الباب لأحدٍ لا تعرفه ، فإن لمْ أعد فسيعلمك الطبيب مؤيد بفشل العمليّة ، عندها اخرجْ ومارس حياتك ، أكرر يا ولدي لا تخرج حتى أعود.
ثُمّ دلفَ بابَ المنزلِ وخرجَ مع السائق وهو يقول لولده سأعود ..انتظرني يا بني .
سعى خلفه فهمان كأنّما يريد استعادته وتحذيره ، ولكنّ أبوه قد استقلَّ السيّارة الحمراء ومضى .
فقال فهمان بصوت متهدج ..ستعود ، ستعود يا أبتِ.
كشْف حقيقة ما حدث في الفندق .......
*قد حاول فهمان أكثر مِن مرّة أنْ يقنعَ أبيه بجدوى الذهاب إلى الفندق والتأكد مِن موت الكيدونيّ مِن عدمه ولكنّه كان يأبى دائمًا ، واليوم عليه الذهاب إلى الفندق لعلّ الكيدوني لمْ يمتْ فينقذ أبيه مِن موتٍ محتمل .
فقد كان يسأل فهمانُ نفسه دائمًا ..هل بالفعل مات اليهوديّ أم لمْ يمت كما أظنّ ..؟
ترك فهمان المنزل خلف أبيه بساعة تقريبًا وأخذ بعض المال معه قاصدًا الفندق ليبحثَ عن الحقيقة .
فسعى خلفه فرد مخابراتي مِن اتحاد المقاومة ليحميه من أيّ سوء ، وقد أرسله مؤيد بسبب غياب أبيه .
*ظلّتْ السيّارةُ الحمراء التي يستقلّها فطينُ تسير على الطريق الرئيس حتى إذا قطعتْ عدة كيلو مترات كان هناك على جانب الطريق شاحنة في انتظارهما ، فُُتح بابها الخلفيّ وأنزَلَتْ درجًا فصعدته السيارة ثمّ رفُع الدرج وأُغلق باباها .
*استقلّ فهمان سيّارة فأسرع نحوه فرْد المقاومة ليمنعه ، إذْ ليس مسموحًا له بالخروج خارج منطقة الحيّ وللأسف السيّارة ولّت .
*تبعه فردُ المقاومةِ وبعد ساعة تقريبًا توجّه فهمان إلى موقف سيارات السفر إلى محافظة سيناء ومِن هنا بدأتْ مرحلة الخطورة .
*هاتفَ فردُ المقاومة رئيسه بشأنِ وجهة الفتى ، فردَّ عليه..أيّها الأبلة كيف استقلّ سيّارة وأنت تراقبه ، أين كنتَ أنت وقتها .. اقبضْ عليه وأعدْه إلى بيته ، ثُمّ قال له كأنّه لمْ يسمعْ ما قاله فرْد المقاومة ..معذرة أقلتَ أنّه توجّه إلى سيارات أجرة سيناء الوادي الجديد ؟
ردّ ..نعم.
فقال له بغضبٍ شديدٍ ، امنعْه الوصول إلى سيناء ولا تلتحمْ بأيّ إسرائيليِّ مهما كان الثمن ، ولوْ كان الثمن حياة الفتى .
ردَّ ..عُلم .
أغلق الرئيس الخطّ وتذكّر كلمة مؤيد له..حافظ على الفتى في غياب أبيه وبالأخص إذا أراد أن يسافر إلى فندق هيلتون طابا بسيناء.
*سارتْ الشاحنةُ نحو ساعتيْن وهي في حالة ترقّبٍ حذِرٍ ، ثُمّ فُتحَ البابُ الخلفيّ وأُنزلتْ نفسُ السيّارة ، السيّارةُ الحمراء يسوقها سائقٌ قريب الشبه بالسائق الأول ويرتدي ملابسه ، وكذلك جلس بجانبه رجلٌ قريب الشبه بفطين ويرتدي أيضاً ملابسه ، بينما السائق الأول وفطين الآن في الشاحنة ارتديا ملابس السابقيْن الذين نزلا مُنذ قليل .
مضتْ السيارة الحمراء نحو مكانٍ عامٍ مزدحم بالناس ، ثُمّ نزلا وترجّلا ترجْلَ فطين والسائق الأول ، نزلا على أحد المقاهي ولعبا الطاولة نحو ساعة ، ثُمّ استقلا السيّارة ومضوا إلى مكانٍ خالٍ تمامًا ليتبينا إنْ كانا مراقبيْن أمْ لا ؟
أمّا الشاحنة فقد استمرّتْ في السير نحو ساعتين ، وبعدها فُتح البابُ وأُنزلتْ سيارة بيضاء يستقلّها فطينُ والسائقُ .
مضتْ الشاحنةُ في طريقها المرسوم لها بعيدةً تمامًا عن مسار نفق اتحاد المقاومة ، وانعطفتْ سيّارة فطينُ متّجهة إلى مسارها المرسوم لها ، حيث نجد في هذا المسار سيارة أخرى تنتظرهما يستقلها اثنان لتذهب بهما إلى نفق الوادي الجديد مباشرة .
استقلّ الأربعة السيّارة ومضوا جميعًا .
*اِضطر فرد المقاومة إلي إيقاف سيارته بسبب نفاد طاقة البطارية أثناء متابعة سيارة فهمان لأكثر من ساعتين لحين إمداد ألواحها الشمسية بالطاقة التي تنتقل مباشرة إلى البطارية ، ثُمّ اتّجه مباشرة للمسار المؤدّي إلى سيناء ليلحقه.
راسل فرْد المقاومة قائده بشأن تأخره ، فقال له ..إنْ لمْ تدركه توجّه مباشرة إلى الفندق.وتابع كلامه ..رُدّه إلى الوادي الجديد باللين والحذر .
وكرّرَ ..عليك بردِّ الفتى في خفية ..ممنوع الالتحام تحت أيّ ظروف في الفندق حتى لو تعرّضَ الفتى لخطرٍ محدّقٍ ..
قال فرْد المقاومة سمعًا وطاعةً سيدي .
*عصب أحدهما عينيّ فطين بعصابةٍ محكمةٍ ، وظلّتْ السيارة تسير قرابة ثلاث ساعات تهبط وترتفع وتنعطفُ كثيرًا في الأيامن والأياسر .
وفجأة انعطفتْ تاركة ًالأسفلت بعدما أُبدِلت بعجلاتها الأربع ثلاثًا ..
واحدة أماميّة واثنين في الخلف ، تلك العجلات مصممة لتكون أشبه بشكل خفِّ الجمل ، وظلّتْ تسيرُ في رمال الصحراء ثُمّ هبطتْ في نفقٍ ولمْ تسرِ إلّا مئات الأمتار ثُمّ وقفتْ .
أنزَلوه ومضوا به معصوب العينين بماله وعصاه داخل مبنىً عسكري كبير تحت الأرض ، ثُمّ توقّفوا فجأة وطرقوا بابَ مؤيد فأدخلهم ثمّ نزعوا العصابة عنْ عينيه.
فرآه فطينُ واستبشرَ خيرًا .
قالَ له الطبيبُ مؤيد..أهلاً بك في معسكر اتحاد المقاومة الفلسطينيّة.
لا تؤاخذني يا صديقي على الطريقة التي أتيتك بها ، فالحرص ضروريّ جدًا ، إذْ أنّ كشْف نفق اتحاد المقاومة هنا كارثة الكوارث لأنّه مركز كلّ عمليات المقاومة.
ثُمّ أسهبَ مؤيد في حديثه حول عِلة هذه الإجراءات حيث قالَ ..تكتم إسرائيل عن الحادثة شئ مقلق ، وعلى الرغم أنّ لنا عيونًا مهرة إلا أنهم لم يستطيعوا معرفة شئ عن هذا الحادث ، وأغلب الظن أنهم يشكون أنك من قادة اتحاد المقاومة ، ولذلك آثروا أن يتركوك حتى يقتفوا أثرك فيكتشفون أحد الأنفاق العنكبوتية.
فلمّا حللت بأرض الوادي الجديد فرحوا ، واستمروا في اقتفاء أثرك كي يصلوا إلى نفقه ، هم يشكون منذ زمن أن الوادي الجديد به نفق من أنفاق الاتحاد ، زفر زفرة ثمّ قال ..فطين هو مجرد احتمال ، فمعذرةً أخي فطين ..باسم اتحاد المقاومة نعتذر لك.
نظرَ إليهم فطينُ جذلانَ ودعا لهم بالسداد والتوفيق.ثُمّ سألهم عن سبب وجود هذا النفق هنا .
أجابه مؤيد ..
إنّي أعرف أنّ الدّمَ العربيَّ يجري في عروقك ، يا ليت ولدك يكون مثلك ، المهم ..أنت تعلم أنّ عملية الاستيطان والتهجير تجري الآن على قدمٍ وساقٍ منذ تولّىَ يعقوبُ إسحاق رئاسة الوزراء وخاصة بعد أن كثّروا نسلهم لتهويد فلسطين .
ولقدْ شيدنا هذا النفق وجعلناه الرئيس لأسباب كثيرة منها ..توفر المياه بأرض الوادي ، وبُعده الشديد عن منطقة التوتر سيناء تلك التي تحت سيطرة أعين المخابرات والجيش الإسرائيليِّ ، سيناء التي تكتظُّ بحملات التفتيش الإسرائيليّة والمصريّة للبحث عن أنفاق المقاومة.
طأطأ فطينُ رأسه إعجابًا بهم .
-نظر إليه مؤيد وقال في لهفةٍِ وتوسّل..تعمل معنا ؟
-رسالتي هي تهيئة ولدي ليكون سلاحًا لبلده ، ولدي أمّة وحضارة وحده ، قل لي متى العملية ؟
-إنْ شئتَ كنتَ منّا ، وإن شئتَ عملنا لك العملية الجراحيّة ثمّ تركناك عزيزًا راشدًا .
-في المعسكر ! العمليّة في المعسكر!.
-ابتسمَ ابتسامةَ طويلة ، ثمّ قال نحن لدينا هنا أمهر الأطباء في العالم ، ولدينا مستشفى مجهزة بأفضل المعدات والتجهيزات الطبيّة.
-كيف توفّرون الطاقة لأجهزتكم ؟ يسأل فطين وهو يعلم عدة تقنيات لها.
-ننتج الكهرباءَ مِن الماء بعملية تسمى الكهرومائيّة.كذلك لدينا المولّدات الحراريّة وبطاريات نوويّة.
-مَنْ سيجري العمليّة ؟
-بروفيسور بيتر.
-دهشَ فطين وقال ..أهو بروفيسور بيتر الذي كان مع عالمنا ؟
-نعم ، هو .
-أعرفه جيدًا ، إنّه بروفيسور في الفيزياء الطبيّة وليس له نظير في العالم كلّه ، لذلك فإنّ ال سي آي أي لا زالت تبحث عنه بكلّ الوسائل .
-عاش مؤمنًا بالقضية الفلسطينيّة ولذلك فهو هنا ، سيعمل لك العملية ، والمال سنأخذه ، ورأسك إنْ كنتَ ستبخلُ علينا به فلن نأخذه .
-صمتَ طويلاً ثمّ أخذته رعدة البكاء وظلَّ يتهامس بصوت متحشرج حتى إذا هدّته الدموع هدًا سكت ، ثمّ قال له هي لكم ، رأسي ورءوس كلّ المصريّين تهون في سبيل تحرير فلسطين .
اليوم يسقط رأس فطين ليعلو رأس فلسطين .
أخذه الطبيبُ مؤيد ومضيا معًا إلى بروفيسور بيتر، وخلال ساعات ثلاث تمّ عمل الفحوصات والترتيبات اللازمة قبل إجراء العمليّة ، فتطابقتْ طبيعة العصبونيّات والدم والأوردة والشرايين.وتأكد بروفيسور بيتر تمامًا مِن قابلية التحام جسد فطين بالرأس الجديد .
فعلّق مؤيدُ قائلاً..أرأيتَ يا فطين أنّ الدمَ العربيَّ واحدٌ .طأطأ رأسه وقال نعم ، وأردفَ..هل مِن الممكن أنْ اتّصلَ بولدي؟
ردَّ عليه مؤيدُ ..مستحيل ، وقد أزلنا البطارية منه بمجرد دخولك النفق فقد يكون هاتفك مراقبًا ، لكنْ لتكنْ هادئ البال ففهمان تحت أعيننا حتى ترجع ..
*للأسف وصلتْ السيّارةُ إلى جنوب سيناء ولمْ يدركْه المراقبُ حيث رآه ينزلُ مِن السيارةِ دالفًا باب الفندق ..
فتابعه مِن خارجه ولمْ يلجْه ، فهو يعلم أنّ الفندق به عناصر مِن الموساد تعرفه جيدًا .
فقرّر أن ينتظر متخفّيًا حتى إذا ما خرج فهمان أخذه ومضى .
لحظات ودخل يهوديّ الموساد الذي قاتله فطين من قبل في صحبة روبوتيه.
نظرَ في القاعة وعاين الزبائن فلفتَ نظره ذاك الفتى الجالس بعيدًا ، فأخرج هاتفه المعجزة لعلّه يدون له هويته.
رآه فهمان بصحبة الروبوتين ، هذان الروبوتان ذكَرهما له أبوه عندما قصّ له الحادثة ، فانفرجتْ أساريره واستبشر خيرًا.
وأراد أنْ يتبيّن الأمر ويتأكد أنّه هو ، هو قتيل أبيه المزعوم ، فاقترب إلى صاحب البار وسأله عن هذا الرجل ، فنظر إليه باشمئزاز ولم يجبه ، فأخرج فهمان مِن جيبه مئتي دولار وأعطاها له وسأله مجددًا عن وقوع حادثة بين رجل عربي وهذا الرجل اليهوديّ .
حدج عامل البار في الدولارات فاستقلّها فزادها إلى خمسمئة ، نظر إلى اليهوديّ يرقبه وهو يأخذ الخمسمئة دولار ثمّ مدّ يده في جيب فهمان وأخذ كلّ ما فيه وأمسكَ بكلِّ المال وضربه في درج البار ، ثمّ بدأ يقصُّ عليه صِدقاً ما حدث حيث قال..
قَدِمَ علينا رجلٌ بعصا سحريّة ، رجلٌ مِن الطراز القديم جدًا ، مصريّ شجاعٌّ لا يشقّ له غبار ولا يهزمه أحد ، قاتل الروبوتين فهزمهما وأتلف الشرائحَ الإلكترونيّة والهاتف لهذا اليهوديّ السيد ، وضربه ضربات قاتلة ، وظنَّ الرجلُ أنّه مات بعد أنْ مثّل عليه دور الميت .. و .. مقاطعة ..
-قال له فهمان حسبك وكفى وتركه دالفًا باب الفندق للخروج .
وأخيرًا رمقه اليهوديّ وهو يحادث الفتى فدنا من صاحب البار.
حوار بين مؤيد وبيتر بشأن العمليّة :
دلفَ مؤيدٌ حجرة بيتر وكان بيتر حينها يكتب في ورقة أسماء طاقم أطباء العملية الجديدة .
-قال مؤيد ..بروفيسور بيتر ، فطين هذا قوىّ أمين ، محبٌّ للعروبة ، معتزٌّ بوطنيّته ، له دراية كبيرة بعلوم الفيزياء ، لديه كلُّ المقومات التي تؤهّله ليكون قائدًا فعّالاً في اتحاد المقاومة.
-إنْ كان كذلك فجنّده .
-قال متأوّهًا ..للأسف رفض .
-لم ؟
-يقول إنّ رسالته نحو بلده مصر والعروبة تكمنُ في تأهيل لولده ليكون عالمًا .
-قال مازحًا ..إذن اقتله ، يقولها وهو يقهقه.
-لمْ يبادله القهقة بسبب تغلب مشاعر الحسرة على كلِّ حواسه ..يقول عن ابنه بأنّ لديه عِلمًا إبداعيًا ليس نابعًا عن دراسة وإنّما عن مخزون إبداعيّ محضّ .
-فطينُ رجلٌ ذكيّ ويفكر بحنكة ، فعلاً مؤيد..إذا كان الربُّ وهبه ذلك فعليه أنْ يكرّسَ كلَّ حياته مِن أجله ومِن أجل مصر ومِن أجل فلسطين ومِن أجل البشرية جمعاء.
-هذا رأيك اذن ؟
-نعم ، هذا رأيي ولكنّ الإبداع يلزمه دراسة أيضًا ، ولذلك ستعترضه بعض العقبات ، سيحتاج إلى مالٍ كثيرٍ لينفق على تعليم ابنه.. صمت هنيهة ثمّ سأله ..ماذا يعمل هذا الرجل ؟
-ساحر ، سكت هنيهة ثمّ قال ..أبتِ هل من الممكن نفعل شيئًا لفطين لعلّه ينضمّ إلينا يومًا .
-نعم ، ممكن جدًا وخاصة أنّه ساحر ولاسيما لو كان ساحرًا متعلّمًا .
-إذن ، نهيّئه وابنه لنا .
-ماذا تقترح ؟
-غيّرْ الرأس كما اتفقنا ، أريده أن يكون مزدوج الخِلقة ، اجعله إنسانًا وروبوتًا معًا لينفع المقاومة.
-لا مانع لديّ ، فطبيعة عمله تناسب ما اقترحتَ به يا مؤيد ..سأفعل .سأضع في الرأس الجديد خليةًّ إلكترونيّةً تحتوي على مليارات العصبونيّات الصناعيّة فتزيده ذكاءً ، فضلاً عن قدرتها على نسْخ نشاط فيزيائيّ .
-لنعملَ على ذلك ، سأدخل معك غرفة العمليّّات وأكون لك معاونًا .
-أمرك يدعو للفضول ..لِمَ رغبتَ في العمل معي في هذه العمليّة بالأخصّ ؟ .
-لإنّ فطين هذا شيء عظيم ، كما أنّي أحببته جدّاً .
-لا مانع لديّ ، واعلمْ أنّ ما يحفّزني ويستنهض عزيمتي على تركيب هذه الخليّة أنّها ستجعله مِن الأثرياء بسبب قدرتها على نسْخ أعمال فيزيائيّة أثناء أداء أعماله السحريّة ، وسيحتاج إليها كثيرًا ، فبدونها لنْ يستطيعَ أنْ يتحصّل على المال اللازم لتعليم ولده .
-كيف ؟
-الدولةُ المصريّة لا تعتني بالعلماء ، والجامعات الأمريكيّة وكذا سائر جامعات العالم حجّمتْ كثيرًا مِن المنح والمساعدات لتدعيم الطلاب الدوليين ، ففطين سيحتاج إلى أموالٍ كثيرةٍ لينفق على ابنه.
-يفعل الله ما يشاء.
-خذ أسماء هذا الطاقم وأعدّه ، فخلال ساعة سنبدأ عملية الزرع .
بعد خمسة وأربعين دقيقة دخل مؤيد على بيتر ، أبلغه أنّه أعدَّ الطاقم وغرفة العمليات ، ومضوا جميعًا إليها .
*بعد أن خرجَ فهمان من الفندق وكان وقتها مؤيد يحادث بيتر قرّرَ الاتصال بأبيه لمنع عمل العمليّة .
سأل اليهوديّ صاحب البار عمّا سأله الفتى فأخبره فقط بأنّه يسأل عنه.
-فقال اليهوديّ وماذا قلتَ له ؟
-قلتُ أنّك صاحب الفندق ورجل شريف.
-جيد ..ثُمّ استطردَ ..هلْ شاهد شيئًا مِن عروض الفندق ؟ هل طلب شيئًا؟ هل جاء برفقة أحد ؟
-لا أظنّ ، لا ، لا أظنّ.
تركه اليهوديّ قاصدًا الخروج خلف الفتى .
بينما فهمان في طريقه للعبور خارج الفندق تبعه اليهوديّ والروبوتان ، يريد أنْ يعرفَ سبب مجيئه وسؤاله ، وفرْد المقاومة يراقبُ المشهد عن كثْبٍ ، يراقب متخفيًا.
استوقفه اليهوديّ على درج السلم أمام الباب الرئيس له ..فوقف ثُم قالَ..
-لِمَ تسأل عنّي أيّها الفتى العربيّ ؟
-توسّمتُ فيك الشرف والإجلال فأحببتُ أن أعرِفك.
-ردّ بغضبٍ ..قلتُ مَنْ أرسلك إليّ ، ماذا تريد منّي؟ ما شأنك بي ؟
-ردّ بخوفٍ..قلتُ توسمتُ فيك الشرف والإجلال فأحببتُ أنْ أعرفك.
اغتاظ اليهوديّ وقررَّ الإمساك به واصطحابه إلى مكانٍ خالٍ حتى يعرف حقيقة مجيئه للفندق والسبب وراء سؤاله.فأمسكه وجذبه مِن أجل ذلك.
فقاومه فهمانُ حتى لكمه اليهوديّ فطرحه أرضًا ، ثُمّ أشار إلى حتشبسوت بحمله .
تيقّنَ عندها فرْد اتحاد المقاومة أنّ الأمر خرج مِن يده برمته وخاصة بعد الأمر الذي صدر له بعدم الالتحام .
والمفاجأة أنْ فرْد اتحاد المقاومة يسدد الخنجر فلا يخطئ مطلقًا ، فقرّرَ إنقاذ فهمان ومخالفة أمر رئيسه.
ألقى فرْد المقاومة خِنجرًا مسمومًا فأصاب اليهوديّ في قدمه ، ثمّ ألقى خنجرًا آخر على حتشبسوت فأتلف شريحة الإدخال فتعطّلتْ ، ثمّ ألقى خنجرًا ثالثًا إلى الروبوت يهوذا فأصاب منه ما أصاب مِن حتشبسوت بالضبط .
أسرع نحو فهمان فاعترضه اليهوديّ وقاتله فجنّدله فرْدُ المقاومة وأسقطه أرضًا وأخذ فهمان واستقلا السيّارة وانطلقا بأقصى سرعة ..
بعد أنْ نجا فهمان مِن عمليّة قتْل محققٍ ناشدَ فرْد المقاومة الاتصال بأبيه ليخبره بأمرٍ خطيرٍ قبل أنْ يقوموا بعمليّة الزرع .
ردَّ فرْد المقاومة .لا أعلم عن أيّ شئ تتحدث .
سكت فهمان قليلاً وتبيّن له أنّ هذا الشخص يراقبه ليحميه فقط ولا يدري أيّ شيء عن عملية الزرع ، اتّصل بأبيه ولكن الهاتف مغلق ، وأخيرًا اضطرَّ أن يقصَّ لفرْد المقاومة كلَّ شئ حتى يتواصل مع مؤيد ليوقف العملية ..
وبمجرد أن سمع القصة قرّرَ مهاتفة رئيسه بنفق الوادي الجديد ليخبره بما سمعه.
رنَّ هاتف رئيسه ولكنّ الهاتف كان بعيدًا عنه فلم يسمعْه.
وقُطع الرأسُ...
العمليّة...
بعد التحاليل دخلَ غرفةَ العمليات وكان في انتظاره فريق متطور مِن الأطباء يقودهم بروفيسور بيتر.
جلسوا على طاولة العمليّات ثُمّ خدّروه مِن خلال جهاز التخدير الموجود أعلى الطاولة مباشرة والمتصل بأنابيب تسير فيها غازات التخدير والأكسجين مِن تمديدات مركزيّة في جدران المستشفى ، ثمّ ألصقوا على صدره ملصقات التخطيط الكهربائىِّ للقلب ، بالإضافة إلى أنابيب قياس الأكسجين في الدم والضغط .
وإلى سلك جهاز التخثير الكهربائيِ المتصل بساق فطين عن طريق لصاقة خاصة.
تمَّ تسليط الضوء الساطع على رأس فطين ، ثُمّ تقريب الميكروسكوب المجهريِّ المتطور الذي يبلغ قوّة تكبيره إلى أربعين ضعفًا .
وكذلك تمّ إحضار جهاز الليزر مع الميكروسكوب المجهريّ بالإضافة إلى خليةٍ عصبونيّةٍ إلكترونيّةٍ عبارة عن رقائقٍ متناهيةٍ في الصغر تحاكي تمامًا الخليّة الطبيعيّة للكائن الحيِّ .
وَجِيءَ بالهرم الزجاجيّ الموضوع به رأس فلسطينيّ الحدود ، الخلايا ميتة ولكنّها سليمة لم تتقطّعْ أو تتحطّم حيث أنّ الرأس كلّه تحت تأثير تقنية التبريد العميق .
بعد عملية التخدير قام طبيبٌ مختصٌ بوظائف الكبد بتنشيط الكبد بإعطاء الجسد حقنة تسمى بحقنة جنون الكبد ، ولقد سمّاها الأطباء كذلك بسبب انتفاضة الكبد وهيجانه كأنّه تحوّلَ إلى حارس يبذلُ كلَّ ما بوسعه للدفاع عنْ جسده قبل أنْ يهلك.
هو يسعى إلى المكان الذي حدث فيه الخلل ، والخلل هو قطْع الخلايا العصبيّة بعد قطْع الرأس ، فيثور ويهتاج وينتفض انتفاضة النفَس الأخير فيفرز أعلى نسبة هرمونات مِن شأنها أنّها تحول دون موت الخلايا العصبيّة.
ويظلُّ الكبد يرسل إشارات استغاثة تشبه إلى حدٍّ كبيرٍ سيارات الإسعاف التي تنقذ المرضى ، تلك الإشارات هي قيامه بإفرازات لا نهائية مِن هذه الهرمونات.
يقوم بيتر قبل قطْع الرأس أيضًا وبعد التخدير بتوصيل خلية عصبيّة اصطناعيّة عبارة عن رقاقة الكترونيّة نانويّة بالخلايا العصبيّة لفطين والتي تعمل نائبة عنها إذا ما ماتتْ خلاياه الطبيعيّة وتوقفتْ عن العمل تمامًا ، كذلك في حالة دخولها السبات العضويّ .
كلُّ ما يريده الطبيب كسْب وقتٍ كافٍ حتى يتثنّى له وصْل الخلايا والنخاع والأوعية الدمويّة بتقنية جهاز الليزر حال قطْع الرأس.
*مضى رئيسُ فرْد المقاومة المكلّف بحراسة فهمان إلى هاتفه بعد تركه نحو ساعة مضت ، فتحه فسمع مِن شأن فطين ما سمع فألقى الهاتف على الفور وتوجّه مسرعًا إلى حجرة العمليات ليمنع العملية حيث أنّ مقره قريب مِن مشفى النفق .
وقُطع الرأس بعد توصيل الخلايا العصبيّة الاصطناعيّة مباشرة بينما رئيس فرد المقاومة على باب حجرة العمليّات يأمل أن يدرك مؤيد ليخبره بمنع عمل العملية.
لكن للأسف جاءه الخبر بأنّ الرأس قُطع منذ لحظات.فأسِفَ لذلك.
عمليّات الوصل..
وقام بيتر بربط الأوعية الدمويّة والخلايا العصبيّة بالليزرعن طريق تكبيرها بالمجهر، وذلك لمشاهدة العصبونات المراد ربطها ووصْل الشرايين والأوردة ببعضها ودمْج أطراف الحبل الشوكيّ معًا عن طريق الليزر فائق القصر.
ثمّ أحضر رأس الجثة المحفوظ بتقنية التبريد العميق والتي خلاياه دخلت في حالة سبات عميق مِن المستحيل إيقاظها إلّا بوصْله بخلايا حيّة ، حرّك الطاولة بطريقة مناسبة وقرّب الرأس إلى الجسد الجديد وسلّط نبضات الليزر فائقة القصر ، سرعة النبضة فيمتو ثانية وبين كلّ نبضة وأخرى 10-12 ثانية يتمُّ تسليطها على مناطق الربط .
وعلى طول مدة العمليّة كان جهاز التخدير هو البطل الثاني حيث أنّه ساعد فطين على التنفّسِ حال قطْع الرأس ، فأبقى على القلب حيّاً حيث كانتْ عمليات التنفّس تخرج مِن المجرى المؤدِّي إلى الأنف والفمِّ الهالكين عن طريق شهيق وزفير .
ومِن خلال جهاز التخدير كان طبيب التخدير يراقب باستمرار المؤشرات الحيويّة مثل سرعة النبض والضغط الدمويّ وأوكسجين الدمّ ومعدّل التنفّس وتخطيط القلب وكلُّ هذا تمَّ على أحسن حال.
كما أنّ جهاز التخثير الكهربائيّ قام بوظيفته على أحسن وجه حيث قام بوقف نزْف الدّم بالأوعية الدمويّة من شرايين وأوردة.
وأثناء العمليّة وبعدها قام جهازُ مصّ المفرزات سحْب الدمِّ والسوائل المتجمعة في جرح العمليّة وتجميعها في زجاجات صُنعتْ خصيصًا لذلك ، ثمّ تُرمى بعد ذلك لأنّها غدت مِن النفايات الطبيّة.
ولمْ تستغرق العملية أكثر مِن ثمان ساعات في حين أنها كانت في العقد الماضي تستغرق ستة عشر ساعة .
وكان مِن أحد عوامل النجاح الأساسيّة هي دقّة الضرْبة الليزريّة التي أتقنها بيتر ببراعة.
تمَّ حمْل رأس فطين ووضعه في الهرم الزجاجيِّ وتمَّ حِفظها بتقنية التبريد العميق.
والرأس الجديد فيها خليّة عصبيّة اصطناعيّة قدْ تكون سبب بقائه على قيد الحياة.
وفي الخارج ، نجد رئيس فرد المقاومة منتظرًا حالما ينتهي بيتر مِن العمليّة ، بعد ثمان ساعات تقريبًا خرجَ بيتر بمصاحبة مؤيد فناداه فالتفت إليّه ..فأخبره بأمر يهوديّ الفندق وبكلِّ ما حدث في الفندق بالضبط .
فتأوّه مؤيد ودعا لفطين قائلاً ..الله يلطف بك يا فطين .
ثمّ نظر إلى رئيس فرد المقاومة وقال له تكتّمِ الأمر تمامًا ولا تُحدّثْ نفسك به.
تركه وهاتف فرْد المقاومة ليخبره بنجاح العمليّة ، فأعلمَ فهمانَ فسقط مغشيّا عليه .
وأمّا فطين فقد سبَحتْ روحه في عالمٍ آخر أثناء مدة العمليّة ، فقد سافر إلى المستقبل أكثر مِن ثلاثة عشر عامًا .وجد فطينُ ولده في هذا المستقبل وقد ترك عالمه إلى عالمٍ آخر مِن خلال عبور سمّ كسمّ الخياط ، وقد رآه من بُعد الأموات في هذا العالم الآخر طريحَ طاولة من نار موضوعة على أرض ناريّة وحوله مخلوقات غريبة تبدو عليهم علامات التقوى والورع ، فخشِيَ أن يحترقَ فنادى عليه ليحذره ويدعوه لترك الطاولة والهروب بعيدًا عنهم ، بعدها ببضع سنوات أخر وجدهم يلفونه بلفافة مِن نورٍ لمْ يرَ مثلها قطٌّ لأنّها تنبثق من بُعدٍ مختلفٍ عن بُعد ولده وبُعده ، وقالوا له عندما يأذن الله سنخرجك.
عاد فهمان بصحبة فرد المقاومة إلى المنزل منذ ساعتين تقريبًا وفرْد المقاومة أقام معه في المنزل لحين عودة أبيه.
أفاق فطينُ مِن العمليّة فوجد مؤيد بجانبه ، نادى على بروفيسور بيتر يخبره ...
-حمدًا لله على السلامة يا بطل ..قال به بيتر.
-الله يسلمك يا دكتور ..قال به فطين .
-العمليّة نجحتْ بامتياز ، وأنتَ الآن أقوى مِن ذي قبْل بكثيرٍ ، أنت رجلٌ خارقٌ الآن يا فطين ..قال به بيتر.
-حقّاً يا دكتور ، أمْ أنّها رسالة التطمين المعتادة التي يقولها الأطباء لمرضاهم ..قال به فطين .
-بروفيسور بيتر رجلٌ أمريكيٌ لا يفهم ما تقول يا فطين ، الأمريكان لهم تقاليد غيرنا ، همْ يقولون الحقيقة ولا يعرفون المجاملات.قال به مؤيد.
طلب بيتر من مؤيد إحضار مِرآة ، نصبها بيتر تلقاء وجه فطين ثمّ قال له انظرْ ..تفحّصْ ..هل ترى شيئًا ..
تفحّص فطين شكله فلمْ يجدْ إلّا خيطًا رفيعًا يكاد لا يُرى إلّا بالمجهر ،، فحمد الله.
ثُمّ قال بيتر..أحمد الربَّ وأحمد أيضًا مؤيدًا فقدْ بذل جُهدًا كبيرًا معي لكي تنجح العمليّة .
نظرَ فطينُ إلى مؤيد وتذكّرَ يوم أنْ كاد يقتله في منزله بالوادي الجديد فنهض مِن رُقاده كي يقبّل يديه بيد أنّ مؤيدًا دفعه للخلف وقال له يا مجنون أنت ممنوع عن الحركة تمامًا ، ستظلُّ هنا قُرابة شهر وبعدها تستطيع أنْ تذهبَ إلى بيتك .
مضى الشهر وأتمَّ الله شفائه وأخذته سيارة المقاومة إلى منزله بالوادي الجديد.وقد تكتّموا جميعًا أمر يهودِيّ الفندق.


يتبع ..

إبراهيم امين مؤمن
06-05-2020, 12:48 AM
وقد تكتّموا جميعًا أمر يهودِيّ الفندق.

الجزء الخامس
سُلطان المرآة يخور أمام سلطان القلب ..
تأقلمُ فطين وفهمان على الوضع الجديد ....
عاد فطين إلى المنزل واحتضنَ ابنه ، ولقد أضمرَ فهمان في نفسه غربة ووحشة شديدتين تجاه هذا الوجه الجديد ، وتصنّع مبادلته نفس حرارة الشوق والحرمان الذي طال نحو شهر كاملٍ .
مرّتْ أيامٌ مُنذْ وصوله ، وما زالت الهموم تسيطر على قسمات وجهه الجديد ، يحاول جاهدًا أنْ ينسى وجهه الأصليّ فما استطاع .
أمّا فهمان فكان يتمزّق إربًَا مِن الداخل ، فهو بين بين ، يحاول جاهدًا أن يتأقلمَ مع وجه أبيه الجديد فما يستطيع ، وعليه أيضًا أن يمارسَ مع أبيه دور الطبيبِ النفسانيِّ الذي يجب عليه أنْ يبثَّ فيه عوامل الألفة والأُنْسة.
وفوق كلِّ هذا يحمل ثقلاً كالجبل ، فهو يودُّ مصارحة أبيه بشأن يهوديّ الفندق ، وهو متأكد أنّ الخبر سيمثل كارثة بالنسبة له ، إذْ أنّ مصارحته بالحقيقة الآن لن تزيدَه إلّا ألمًا ، فما أشدّ أنْ يشعرَ المرءُ بأنّ السهمَ ارتدَّ في نحرِه وقدْ ظنَّ أنّه أصاب عدوه.
لذلك آثر التأجيل ليتحيّن اللحظة المناسبة.
تصدّى بقوّة لهذه المسائل وحاول جاهدًا الوقوف بصبر وحكمة حتى لا يفشل .
قال له..
-أبتِ إنّ القلب هو ماهيّة الإنسان ، هو كيانه ، شخصيته ، إرادته .
أبتِ إنه الملك ، إنه يصدر أوامره على هيئة إشارات لخلايا العقل العصبيّة بأداء وظائف الجسد .
-بني ..تقصد أنّ القلب الملك ، والعقل نائب له .
-نعم أبتِ ، وتستطيع أن تستبدل نائبك متى شئت .
أبتِ ..إنّ العقل صورة والقلب جوهر ، ألَا تدري أنّ الله نسب إلى القلب الفهم والإدراك ، ألَا تدري أنّ الله لا ينظر في صورة الإنسان إلّا قلبه.
-بني ..كيف ؟
-أبتِ ..إنّه محل الثواب والعقاب ، محل ..الحبّ -الكره -الحساب -العقاب -الخير -الشرّ .
-فطين يعلم كلّ ما يقوله ابنه ولكنّه آثر أن يسمعه منه ، فأحسّه بقلبه وأحسّ بكؤوس تُصبّ في قلبه من أنهار الجنة ، وأراد أن يشرب منه المزيد.
-وماذا أيضًا يا بني ؟ سأله وهو ولع بكلامه كالعطشان يريد ماءً .
-أبتِ ..أتظنّ أنّ العقل هو وحده من يملك خلايا عصبيّة ؟ لا لا ..فالقلب تمّ تشريحه وتبيّن أنّ له خلايا عصبيّة أيضًا و ذاكره ، والمعجزة أبت ِ أنّ .. أنّ ..
-قل يا ولدي ما المعجزة تلك ؟
-أنّ العقل لا يتصرف بصورة مستقلة ، لابدّ أن ينتظر الأمر من القلب ، وسيظلّ ينتظر وينتظر حتى يأتيه الأمر من القلب.
أبتِ ..حفظك الله من كلّ سوء ..اُنظرْ إلى هذه العبارة التي قالها أساتذة الفيزياء الطبيّة والجراحون ..
إنّ النشاط الكهربائيّ في القلب أكثر مِن المخ ، وفي الواقع المجال الكهربائي للقلب يزيد ستين مرّة عن المجال الكهربائيّ للدماغ والمجال المعناطيسيّ له أكبر من المجال الغناطيسي للدماغ بـخمسة آلاف مرة .
-حدّق فيه أبوه بقوة وإعجاب ، فسياقة العبارة بهذه الطريقة تنمّ عن طبيب متخصص أو دكتور فيزياء.ثمّ قال له ..نحن نولد بكلّ أعضائنا يا بني لا نولد بالقلب وحده .
-أبتِ ..أسأل الله أن يتمّ نعمته عليك ..إنّ القلب هو أول عضو يتكون في رَحِم أمهاتنا .
وانتظر فهمان أبيه هنيهة فلم يتكلم فآثر أن يزيده ..فقال..
القلب هو قلبك لمْ يتغيرْ لكنّ العقل ليس عقلك بل عقل الرأس الجديد ، لكنّه لا يتصرف بصورة مستقلة حتى تأتيه إشارات قلبك .
فاسترحْ أبتِ وعِشْ حياتك بصورة طبيعيّة وتأكد أنّ مشاعرك لنْ تختلفَ تجاه مَن حولك ..الدليل ها أنا ..هل اختلفتْ مشاعركَ تجاهي ؟ ..أنا فهمان أبتِ ..أم أنّي لست أنا ؟
أُعجب فطين بكلامه ، هو يدرك جيدًا براعة ابنه في علوم الطبيعة والكيمياء والرياضيات ، أمّا أنّه يكون بهذه البراعة في علوم الطبِّ والنفس فهذا جديد عليه.
لأوّل مرّة يبتسم مِن قلبه ، ابتسامة انبثقتْ مِن معين عقل ابنه العبقريّ.
هذا العقل الذي أفرزَ فِكرًا مثّل له جيشًا مِن بيادق دفاعيّة ضد فيروسات الأحزان والغربة.
احتضنه بحرارة وقد اغرورقتْ عيناه فرحًا وإعجابًا ، ثمّ ابتعد قليلاً لينظر في عينيه ويتمتع بنور العلم الذي ينبثق من خلالهما .
قعد وأقعد ولده ثمّ سأله مستفهمًا..
يتبع

إبراهيم امين مؤمن
06-09-2020, 10:23 PM
قعد وأقعد ولده ثمّ سأله مستفهمًا..
قلْ لي يا بُني ..أثناء العمليّة وجدتك تجتاز بُعدًا ولجت فيه ..وقصّ له كلّ ما رآه أثناء ما كان مخدّرًا في العمليّة..
دهش فهمان لِما قال أبوه ثمّ أجابه بقوله..أنت تخشى من فشل العملية ليس من أجل حرصك على الحياة وإنما حرصك على عدم تركي وحيدًا ، ولذلك فعقلك الباطن تحدث إليّ من بُعده الذي سكن فيه أثناء العملية .
وعقلك الباطن يحدثك بأني سأهلك دونك.
صمت فطين قليلاً ، وذهب إلى شأن آخر ، حيث تدبّر في أمرِ أهل الحيِّ ، كيف سيواجههم بوجهه هذا ، قطعًا سيبلّغ أحدهم عنه ، ثمّ قال لفهمان ..
للأسف يا ولدي أبوك لمْ يحسن التدبير .
فردَّ فهمان ..لِم يا أبتِ هل ..
قاطعه قائلاً ..لقد نسيت أمر الحيِّ ، فتجهزْ للرحيل ، فأنا لنْ أخرجَ مِن بيتي أبدًا ، اذهبْ غدًا وابحثْ عن مسكنٍ جديد .
صمتَ فهمان تجاه أمر أبيه إذْ أنّه لا خطورة عليه مِن أهل الحيِّ لأنّ اليهوديَّ لمْ يمتْ ، فأرجأ مصارحته إلى حين .
ثمّ قال لأبيه ..حاضر أبتِ ، سأبحث .

وانجلى الغمام ..للأسف السهم لمْ يصبْ إلّا راميه....
مرّتْ عدة أيام فقط وتأقلم تمامًا القلب مع الرأس الجديد ، كما أنّ مرارة الحزن والغربة مضيا إلى زوال .
وخلال هذه الأثناء كان يتابعه الطبيب مؤيد بصورة دائمة ليبلغه تعليمات بروفيسور بيتر .
ولمْ يكفّ مؤيد خلال هذه الفترة عن دعوة فطين كي ينضمّ إلى اتحاد المقاومة ، بيد أنّ فطينَ دائمًا يرفضُ ويقولُ له رسالتي نحو ولدي أجلَّ وأسمى ، فولدي أمّة وحده وحضارة لو فُعّلتْ لكان حُجّة على أهل الأرض جميعًا.
وكلُّما يرفض فطين يزداد مؤيد حسرة على هذه الإمكانيّات والوطنيّة التي لم تنصهرْ في بوتقة كفاح اتحاد المقاومة.
والآن ، قد حانت لحظة المصارحة ، كلّم مؤيد فهمان عبر الهاتف وأمره أن يخبر أبيه بالحقيقة.
دلف فهمان حجرة أبيه فوجده شارد الذهن فاستبهه قائلاً ..أبتِ أبتِ
فردَّ..نعم يا ولدي ، عرفتُ بأمر شفائِك الكامل وأريد أنْ أبوحَ لك بسرٍّ ، قال..قلْ يا فهمان..
يهودي الفندق لمْ يمتْ ..
اضطرب قلبه وزاغت عيناه بمجرد سماع الخبر ثمّ قال له ماذا ؟ ماذا قلت يا بني؟
-قلت اليهوديّ لمْ يمتْ.
-سأله متفجّعًا ..كيف عرفت؟
-ذهبتُ إلى هناك ورأيت اليهوديّ..وقصَّ له كلَّ ما حدث بالضبط .
-تأوّه فطينُ وتحسّر على خوْض المخاطر وبيع منزل زوجته ، والأوْجع تحسره لضياع دم العالم هدر، ثمّ سأله..لِم َقلت ذلك يا بني الآن ولمْ تقلْه قبل ذلك؟
-ما كنت أودُّ أنْ أؤلمك مرتيْن ، فكفى آلامك التي طالتك بسببي ، ولقد قلته الآن بعد أن تمّ أمر شفائك فتهون الحسرة التي قد تفتك بك ، ولكي تتصرّف بحريّة تامة لتيقنك عندئذٍ ألّا يلاحقك أحد .
-قال وفؤاده انصدع من الحسرة ..كمْ أنت حكيم يا فهمان ، كمْ أنت عليمٌ يا ولدي.
اختلى فطين بنفسه ليفكر في شأن مستقبل فهمان العلميّ .
أمعن النظرَ فيما كان يفكر فيه من قبل ، وزادتْ عزيمته نحوه بعد موقف ابنه الأخير .
وهو تسفيره إلى أمريكا لتعلم العلم السليم وتفعيله على أرض الواقع ، وظلّتْ الآمال العِراض تستفزّه وتحرّكه ، بينما فراق ابنه وخوفه عليه يكبحان جماحه ويثبّطانه.
لمْ يفكرْ مطلقًا في المنح الدراسيّة لإنّ المحسن سيد لمن أحسن إليه ، فكيف يطلب من أمريكا تسعفه وهو سيصارعها من خلال ولده ، فأبتْ نفسه العزيزة فعل ذلك ورفع رأسه لأعلى الشرق من حيث تشرق الشمس ، بينما نظر إلى مغربها وأشار إليها بأنّ تأتي بركبها هنا ..هنا في مصر وتستقرّ ثمّ قال ..ويا ليتها لو كانت أرض الوادي الجديد .
ثم تابع حديث النفس فقال عازمًا ..
لابدَّ مِن توفير كآفّة النفقات لإرساله إلى إحدى جامعات أمريكا أو سويسرا فالعلم لديهم كالماء والهواء ، بينما لدى مصر والبلاد العربية كالقمامة ، وحتى مَنْ فلحَ مِن أبناء جلدتنا إمّا ارتموا بعد ذلك في أحضان أمريكا فعاشوا أثرياء ، وإمّا أرادوا أحضان أوطانهم وثراه فتعرضوا للتصفيّة مِن قِبل الكيدون الإسرائيليِّ .
فهل يا تُرى أين موقع ابني إذا تعلّم وفقِه ..في بلده يدخلها آمنًا ويحمل في كيانه نجاة هذه الأمّة أمْ يؤثر السلامة ويرتمي في أحضان أمريكا ؟
أغامر بِه ؟ لا أغامر ..أأقدّمُ رأس ابني تحت سيوف الموساد أمْ أقدّمه فداءً لوطني ..مصر .
لعلّ مصر يأتيها مَنْ يصلّح مِن حالها ويأخذ ابني وغيره مِن مئات النوابغ المصريّة لبناء حضارتنا على بُسطٍ من العلم .
بنفسي ومالي أجاهد حتى تتعلم يا فهمان .

إبراهيم امين مؤمن
06-11-2020, 05:57 AM
بنفسي ومالي أجاهد حتى تتعلم يا فهمان .
إذا أردتُ أنْ تُخرس ألسنة الغوغاء فأحسنْ إليهم...
غمْزُ أهل الحيّ وقرار عمل سيرك شوارع....
والمدهش أنّ فهمان كان يفكرُ فيما يفكر فيه أبوه ، لكنّه كان يطرده حتى لا تفتك به مشاعرُه فتدفعه إلى مصارحته ، كان يقول لنفسه كفى ما حدث لأبي مِن جراء حادثة الفندق المستلب ، لا أودُّ مضاعفة غربته بحرمانه منّي على إثر سفري للخارج ، وقلتُ في نفسي لعلّ سفري يوقظ بداخله الغربة الأولى التي اندملتْ جراحها ونامتْ ولا أودُّ إيقاظها.
فأضمر الأبُّ لحين تأتي اللحظة المناسبة ، وأضمر الإبن حتى لا يتسبّب في غربة جديدة لأبيه .
وظلّا على ذلك عدة أشهر ، فهمان دائب الجلوس أمام الحاسوب وقراءة الكتب الإلكترونيّة ولا يهتم كثيرًا بدراسة الكتب المدرسيّة ، فكلُّ اهتماماته منصبّة على دراسة الطبيعة مثل..تجارب مصادم الهادرونات المستقبلي fcc-1 بسيرن ، نظريّة آينشتاين ، النظريّة الكموميّة ، نظريّة الأوتار الفائقة.
بينما فطين يفكّر في عمل يدرُّ ربْحًا وفيرًا إذْ أنّ عمله المعتاد في أيّ سيرك لن يكفي نفقة سفره إلى أمريكا.
يرمقه أبوه ويتأسف على هذه العبقرية المكبلة بقيود الفقر ، ثمّ يخرج متوجعًا متحسرًا ألا يجد ما ينفقه عليه .
ووصل الحال به إلى حدٍّ أن صارعته الكوابيس والأشباح في نومه .
وتتوالى الأيام على هذه الحالة حتى أتى الله بأمره إذ..
خرج فهمان يومًا إلى محل البقالة الذي أمام العمارة ليحضر بعض طلبات المنزل مِن زجاجات مياه جوفيّة وخبز مكيّس وبعض القوت ، وكان المحل متموضع في السوق الرئيس للحيِّ ، وبجانب المحل مقهىً كبير أحد محتوياته شاشة تيلفزيونيّة ضخمة ، وقف فهمان قليلاً عندها فسمع أهل الحيّ يلعنون أمريكا وخاصة أصحاب اللحى منهم ، فقد كانوا يلعنون قائلين ألَا لعنة الله على الظالمين ، ربنا يخسف بهم الأرض هؤلاء الكفرة الملاعين .
سمعهم فهمان ولم يلقِ لهم بالاً ، إذ أنّه يعلم أنّ العبوديّة لن تقدّم ولن تؤخّر شيئًا إلّا إذا صاحبها العلم ، ونظر إلى الشاشة فوجد الإعلاميّ يتكلم عن بركان عظيم من المحتمل أن ينفجر في ولاية كاليفورنيا خلال بضعة أشهر ، وسمع جملة هامة جدًا تقول..
إنّ هيئة المساحة الجيولوجيّة ووكالة ناسا الفضائيّة يتعاونان معًا مِن أجل وضع خطة للسيطرة على البركان أو التقليل مِن مخاطره ، وقالوا في هذا الشأن أنّهم دفعوا بمواسير ضخمة ذات أقطار كبيرة في باطن الأرض وخارجها لضخِّ المياه إلى قلب البركان للسيطرة عليه وتقليل درجة حرارته حال انفجاره .
سمع فهمان ذلك ووقع في روعه أنّ المواسيرَ لن تفعل شيئًا مع بركان كهذا ، همس لنفسه بأنّ هناك طرقًا أخرى مِن الممكن تجربتها غير طريقة المواسير .
وفطين جالس في بلكونة الشقة تضربه الهموم والحسرات من ناحية ، ومن ناحية أخرى تستفزّه قوّته بأن يتوكأ على أوتادها لفعل شئ لهذا المسكين .
ثُمّ انتقلَ الإعلاميّ بعد ذلك إلى خبرٍ آخر، حيث عرض صورًا لمجموعة قليلة مِن الروبوتات وبعض التقنيين الفنيين من الأجناس المختلفة وهُم على سطح القمر للتنقيب عن هيليوم -3 واستخلاصه وحمله إلى الأرض .
وفي انتظار انتقال المزيد والمزيد مِن هذه الروبوتات حالما ينتهي خبراء هذه الدول ومهندسوها مِن وضْع المصفوفات الشمسيّة النانويّة على جانبي المصعد الفضائيّ .
سمع هذه الأخبار بروفيسور في العلوم السياسيّة وكان منزويًا في المقهى فتوجّس شرّاً وقال ..يبدو أنّ العالم سيفنى بهيليوم-3 عنصر الاندماج النووي لصنع القنابل الهيدروجينيّة ، يبدو أنّنا على أعتاب عراك الفناء بين أوروبا وآسيا .
انتبه أهل الحيِّ لفهمان الواقف منذ لحظات ، وكان فهمان يغمغمُ مِن لغط وكالة ناسا ، كما أخذه الإعجاب مِن جانبٍ آخر بنجاح العالم في صنع هذه المصاعد الفضائيّة.
يتبع

إبراهيم امين مؤمن
06-15-2020, 02:42 AM
كما أخذه الإعجاب مِن جانبٍ آخر بنجاح العالم في صنع هذه المصاعد الفضائيّة.
اِنتبهوا إليّه وكعادة بني البشر يحبّون استفزاز الضعفاءِ والهروبِ مِن سطوة الأقوياء بالالتفاف حول الأخيرة خنوعًا ، ونعتهم بكلِّ أخلاقٍ حميدة .
تركوا الأخبار وأخذوا يتغامزونه ويلمزونه كعادتهم مُذْ عاد أبيه بالوجه الجديد ، وفهمان يتجاوز مضايقتهم ولا يردُّ عليهم مع أنّ كلماتهم كالخناجر التي تدمي قلبه ، كما أنّه لمْ يصرحْ لأبيه قول أهل الحيّ حتى لا يضجر .
يقذفون أبيه بعشرات التهم وكان أبرزهم القتْل والنصْب ، وتنوعتْ أساليب همزهم ولمزهم ما بين متأففٍ ومتشدّقٍ ، وما بين متطهّر يمسح ثيابه كلما مرَّ فهمان بجانبه ، وما بين مستهزئ ضاحك وسط قهقات بلغت الآفاق ، وفطين ما زال في البلكونة يفكّر مغتمًا في مستقبل ولده ، ليس من أجله فحسب ولكن من أجل مصر التي تقبع فى ظلمات الفقر والجهل .
وأصحاب اللحى جالسون وحدهم في المقهى وكانوا يلعنون أبيه فيما بينهم لتغييره خلْق الله بعد أن زرع الوجه الجديد ويصفونه بالكفر والخروج عن ملّة الإسلام .
*تلمّس فطين وجهه ثمّ قال..كلّ شئ يهون من أجلك يا أمّ ..يا مصر .
همّ فهمان بمغادرة المكان مستاءً ..فاعترضه بلطجيٌّ واستوقفه واندفعَ تلقاء وجهه ، بينما فهمان يتراجع للخلف ، وقال له أحد أصحاب اللحى لابدَّ مِن القصاص ، مَنْ قتلَ يُقتل أو الفدية بالمال ، ثمّ أسرع إلى فهمان ووقف خلف ظهره وبرك بروك البعير أو كذوات الأربع ، فاصطدمتْ مؤخرته بظهر الحيوان البشريِّ فتشقلب ، فضحك الناس وقالوا المثل القديم ..لا يقع إلّا الشاطر..
شاهد فطينُ المشهد ، فأخذ عصاه وانطلقَ يعدو بأقصى سرعة متوجّهًا إلى الحدث ، أرسلتْ الخليتان العصبيتان الطبيعيّة والصناعيّة معًا إشارة غضب ، وكان الغضب هنا مستمد مِن معينيْن ممّا كان له الأثر الشديد في مضاعفة غضبه وقوّته.
أخذ بيد ابنه فأقامه ، ثُم حصدَ القوم كلّهم وتبيّن سبيلهم وأوغل في نواياهم .
وبروفيسور السياسة حدجهما بإدراك ثمّ قال ..
ها هو الأسد المستنفَر، فلمّا نظر إلى رأسه وعصاه التي يحملها قال ..ها هما العلم والقوة لا غالب لهما ، ولقد شاهد اللاسة والجلباب فقال ..وها هي الأصالة تحيا من جديد لتُعلن عن نفسها أنّها الأقوى.
وقف فطين أمامهم وقد وقفوا أمامه بجهلهم صفًا ، وقفَ وعيناه تدقُّ شررًا ، ملامح وجهه توحّشتْ ، العصا تحولتْ إلى أنياب وكلاليب ، عيناه غدتْ محرك أو مغناطيس فقدْ حدّ بصره إلى ثلاثة مِن أهل الحيّ كان بأيدي كلٍّ منهما عصا وركّز عليها دون أن يدري مكامن قوّته فوقعتْ جميعها على الأرض ، وظنَّ فطين أنّهم ارتبكوا وانتابهم الذعر والخوف إلى درجة الاستسلام .
ارتعدتْ أوصال البلطجيّ والدابة البشريّة الأخرى معًا فلاذا بالفرار ..
نظرَ فطينُ إلى القوم كلهم قائلاً..إلى متى نظلُّ نلهو ونلعب ، إلى متى نتعارك ونتخاصم ، عدونا مِن خلفنا صعد الفضاء بمصاعد فضائيّة ونحن نبتغي في الدهاليز والأنفاق ، نلوي شفاهنا ونتشدّق بألسنتنا لنبثَّ سموم الأفكار الدينيّة في نفوس الشعب المسكين ، ويستعفي بعضنا على بعض في حالات أخرى .
اِسمعوا ..لابدَّ أن نكون إخوة ..وإن عدتم إلى ذلك فأقسم بربّي لأعبطنّكم بهذه العصا ..
نظرّ بعضهم إلى بعضٍ وتساجلوا متلاومين ، يرجع بعضهم إلى بعضٍ القول ، فانفضَّ مَنْ انفضَّ وظلَّ الباقون صامتين بين مؤنّبٍ لنفسه ومؤنّبٍ لغيره .
تمحّصَ وجوههم ثُمّ قال لهم ..أنتم أهلي وجيراني ..
اِسمعوا ..سأقيم لكم سِركًا هنا في الشارع أمتّعكمْ وأعلّمكمْ العلمَ عبر ألعاب سحريّة لمْ تروا مثلها قطّ .
سمع القومُ كلامه ونسوا الحدث برمته وانشغلوا تمامًا بخبر فطين وخبر السيرك وأخذوا يتهامسون فيما بينهم ، وقال بعضهم لبعضٍ لعله يخرجنا مِن همومنا وأوجاعنا ..
أسرعوا إليّه كالمهاجمين ، فرفع عصاه تأهبًّا للدفاع ، لكنّهم أشاروا إليّه براية السلام والإجلال والخنوع .
رفعوه فوق أكتافهم ونسبوا إليّه الشرف والأمانة ، وهذا شأن الرعاع يحبّون القويَّ ولاسيما لو كان كريمًا ويبغضون الضعيف ولو كان منصفًا .



يتبع ..

إبراهيم امين مؤمن
06-20-2020, 05:51 AM
ولو كان منصفًا .

السيرك .....
في صباح اليوم التالي بدأ أهل الحيّ في نصْب السيرك في شارع على حارة فارغة متفرعة من الشارع الرئيس ، بينما ذهب فطين إلى محلات تُباع فيها الأدوات السحريّة ليشتري منها ما يلزمه .
والغريب أنّه ذهب إلى بعض المختبرات العلميّة وقابل بعض بروفيسورات الفيزياء هناك وكلّمهم في بعض التجارب.
واللافت للنظر أنّ فطينُ ليس كأيّ ساحر، فإنّه عليم بكثيرٍ مِن التجارب الفيزيائيّة ، فكمْ تدارسها مع زوجته خبيرة الفيزياء النظريّة .
لمْ ينسَ ولمْ يفارق خاطره أنّ إقامة هذا السيرك مِن أجل فهمان ، مِن أجل تعليمه بالخارج ، ذاك الحلم الذي يراوده في صحوه ونهاره ، وكلّما أنجز مهمة وتقدّم خطوة نحو إقامة السيرك كلّما شعر أنّ ابنه على أعتاب الجامعات الأمريكيّة .
وفي طريقه للعوده انتابته نوبة ضحك عندما أمسك بالزئبق ، فقد ذكّره بروبوت حتشبسوت التي ألصقتْ نفسها بسقف ردهة الفندق ظنًا منها أنّ الزئبق قدْ تحوّل إلى ثعابين..وظلَّ يقهقه أكثر ويقول أول مرّة أرى تكنولوجيا مسخرة .
قفلَ راجعًا وهو على مشارف الحيّ ، ومِن بعيد وجد أضواءً تخترق أشعة الشمس قبل الغروب بنصف ساعة ، إنّها أضواء السيرك المنصوب .
وكان فهمان آنذاك واقفًا في بلكونة الشقة يترقب عودة أبيه ، فلمّا أقبل من بعيد زاد الضوء لغياب الشمس وضربَ وجه فهمان فأورق واخضرّ .
وضع أهل الحيّ عشرات الكراسي للمشاهدين وفي الأمام طاولة له ..فنادى فيهم أنّ العرض سيبدأ مساءً ، وأنّ قيمة تذكرة الدخول ب.. لجلج .. تلعثم ..خرس لسانه ..إذ دارت عيناه على الجالسين ، فشاهد آباءً أتوا بأولادهم وثيابهم ممزقة ، وشفاههم مشققة ، وبعضهم لا يرتدون أحذية ، ورائحة عرقهم لا تُطاق ، ثمّ ولّى وجهه عنهم ونظر إلى ابنه الواقف على يمينه يفكّر بشأن تكاليف تعليمه إلى الخارج .
شعر فهمان بأنّ أبيه كان يودّ الإقدام على عمل سئ لكن اعترضه ضميره فقاومه ، فتبادلا النظرات ، وكانت نظرة فهمان إلى أبيه تنمّ عن الرضا عنه بسبب ضميره اليقظ الذي قهر حبّ النفس نحو الأبناء ، كما أنّها كانت محفزة له للثبات في وجه هذه المطامع .
فتمالك فطين نفسه ووطأ ألمه بأقدامه الثابتة ثمّ قال ضميره المندفع بنظرة ابنه الواعظة..قيمة التذكرة رمزيّة تناسب أفقر أهل الحيِّ .
وفي مساء اليوم التالي ذهب إلى السيرك ومعه حقيبته ، حقيبة ساحر بكلِّ مستلزماتها ، أقدم على الحشد واخترق الطريق المتوسط بينهما ، بينما هم يقتعدون الأرض على جانبيه.
وما إنْ وصل إلى الطاولة ألقى الحقيبة عليها وأوقف فهمان بجانبه وسلّمَ على المشاهدين وألقى كلمته قبل العرض قائلاً ..
يا بني وطني...
ما أقدمه لكم ليست ألعابًا سحريّة تعتمد على الخرافات والجهل وإنّما على العلم ، كما أنّ عزيمتي على النجاح سحر وحده لأنّها تفعل المعجزات .
أعلمُ أنّ الفقر قدْ طال كلُّ مدن مصر وقراها ، وأنّ الهمّ غدا سمة العصر، وأنّ الماء تنتظرونه يوم تمطر السحاب غيثًا أو تجود الأرض ببئر .
فأردتُ أنْ أرفعَ عنكم هموم نفوس مكدودة تساعدكم على الجلد والصبر أمام نوائب الدهر وغدره .
وفي آخر كلِّ عرْضٍ يتقدّمُ إليّ مَنْ لمْ يجدْ قوته من صناديق القمامة فأعطيه ممّا أفاض الله به علىّ .
فصفقوا تصفيقًا حارّاً وخاصة الذين لم يجدوا غداءهم الساعة ، استوقف الجميع قائلاً لنبدأ العمل الآن .
قال اليوم أريكم ما كان يرونه أجدادكم وآباؤكم عبر العروض الأجنبيّة المتلفزة ، فإنّي أعلم أنّ بيوتكم خالية من التلفاز منذ زمن بعيد ، فبدأ في خطف الأنفاس وعيونهم .
يتبع

إبراهيم امين مؤمن
06-26-2020, 01:37 AM
في خطف الأنفاس وعيونهم .
ناوله فهمان ملعقة منثنية ولكنّها تبدو للمشاهد غير ذلك عند رؤيتها بصورة رأسيّة ، ولذلك أقامها رأسيّا ثمّ نظر إليها بتركيز منقطع النظير، ثُمّ حركها للأمام والخلف بسرعة شديدة لا تستطيع رصدها أيّ عين بسبب الاهتزاز الشديد ، بل إنّ الحركات الاهتزازيّة تظهر أمام الجمهور على أنّ الملعقة تنثني ، ثمّ أوقف فطين اهتزازته بعرض الملعقة أفقياً فظهرتْ الملعقة لدى الرائين منثنيّة مع أنّها في الأساس غير ذلك .
صفقَ المشاهدون تصفيقًا حادّاً ، بينما أحد الجالسين مِن أصحاب الفكر النيّر اشمئزَّ مِن فعْل فطين وتركَ المكان وهو يقذف الجميع بالسبّ واللعنات على جهلهم .
انتهى العرضُ بعد تقديم عروض أخرى تعتمد على تموضع الأشياء .
مضى فطينُ وولده إلى المنزل بعدما حصل على مال يفوق حاجة قوت يومهما بنذرٍ قليلٍ ، وفهمان نافرٌ متقززٌ مِن فعل أبيه ، فهو يعلم بالضبط أنّ الملعقة لمْ تنثنِي ، وأنّها بدتْ للعين منثنية بسبب تغيّر موضعها ، كما يعلم بالضبط الإشارات الكهربيّة والكهرطيسيّة التي أرسلها المخُّ للعين .
ولكنه آثر الصمت واعتبر ما أخذه أبوه نظير جهد قدراته الحركيّة والأطلسيّة على تحريك الأشياء وتموضعها .
يطوّرُ فطين ألعابه يومًا بعد يومٍ والناس في تزايد مستمر والإيراد يزيد بنذرٍ قليل ٍ، وحان الآن منتصف شهر ديسمبر، بركان كاليفورنيا .

الجزء السادس
بُرعم حضارة ينمو في رحِمِ الغرب...
اسم العملية..فتى البركان الملثم ..
استيقظ جاك على صوت صراخ منبعث مِن القناة الإخباريّة ، ليست أذنيه التي تفاعلت مع الصراخ وإنّما ضميره ، فصوت الصارخ المستغيث يسمعه ذو الضمير الحيِّ كجاك ، بينما لا يسمع ذو الضمير الميت ألفَ صارخ مستغيث ، لا بأذنيه ولا بضميره .
هبَّ مفزوعًا ، فرأى أبراجًا تتهاوى في مشهد رهيب ، فتذكّر ضرْب البرجيْن الآثم الذي مضى عليه نحو قرن .
حدّقَ بصره بحدّة وما يحدُّق إلّا في وجه الفناء ، فرأى دموعًا كالأنهار ، ودماءً تحترق ، وعظامًا تذوب في بحور من الحِمم البركانيّة الطاغية.
وأصغى السمْع وما يسمع إلّا الحسيس وأزيز الطائرات التي تُحلّق فوق سماء الحدث ، وصراخًا وفرارًا ورعبًا وهلعًا .
ولمْ تمرّ إلّا دقائق معدودة وشاهد أهوال القيامة تتجسد أمامه على شاشة التلفاز ، فكان سقوط البرجيْن سنة 2001 رحمة بالنسبة لهذا الوحش الأشبه بباطن ثقب أسود .
ناطحات السحاب تتهاوى متهدمة وبعضها خُسفت ، والبركان يباغت الناس في منازلهم فيحترقون ويصبحون بخارًا يتطاير في الهواء .
الناس تجري فرارًا إمّا من الخسف أو الحرق ، والسيّارات يتخذونها مهربًا مِن البركان الغاضب .
البركانُ أكل السيارات ، وتجشأ بطعام القطارات ، وتكرّع بدماء الضحايا ، يُميت بلا رحمة فقد هرب منه قطارًا امتلأ عن آخره بالشباب والأطفال والعجائز والرجال فأدركه وضربه من جانبه ثمّ ابتلعه.
ولم يرحم حتى المغيثين ، فقد انفجر في طائرة إغاثة فأحرقها .
امتزجتْ أصوات صراخ البرئ والمجرم ، والظالم والمظلوم ، والكاره والمحبّ ، والسجين والسجّان ، حتى الرضيع يصرخ جوعًا يريد أن يلقم ثدي أمّه لكنّه اللحظة لم يدرِ أنّه لقمة البركان .
ومواسير ناسا ذات القطر الواسع تحاول أن تغيث ، فتدفع بمائها بكلّ ما أُوتيتْ مِن قوّة غير أنّ البركان بغتها فأرداها صريعة وابتلعَ ماءها ، ورئيس ناسا يشاهد مواسيره المحترقة فيدعو الربّ بالخلاص .
وأبواق الحكومة الفيدراليّة تناشد المواطنين بترْك المنطقة الثائرة وترْك كلّ ما خلفهم ، ولقدْ قال قائلٌ منهم..اتركْ فقد يكون بينك وبين الموت ثانية واحدة فاظفرْ بها واستفدْ وانج بنفسك .
والصلوات تُتلى في الكنائس فِراراً إلى الغيّاث الأكبر ..ربّهم .
وما أدهش العالم أكثر أنّ أقوى بركان كان بركان بيركلي القريب مِن الجامعة ، ظلّ يجري مقتحمًا ما فوق الأرض وما تحتها متّجهًا نحوها ، والطلبة تُنذر بمغادرة المكان ، بينما رئيس جامعة بيركلي ظل واقفًا ولم يتحرك وقال ..نهلك معًا أو نبقى معًا .
فلمّا وصل البركان برد وتجمّد كأنّه سجد وخشع ، وعلى الرغم أنّه لم يرحم الرضيع لكنّه هذه اللحظة خشع وانهار ولم يقوَ على النهوض .
ولقد حار العلماءُ في شأن هذا البركان الذي توقّف ، علماء الجيولوجيا وناسا يؤكّدون أنّه كان ولابدَّ أن يواصل زحفه ويحرق الجامعة ، لكن القساوسة أكّدوا أنّها معجزة ربانيّة تؤكد دفاع الربِّ عن هذه الجامعة لموْلِد رجلٍ سيكون السبب في نشر الفضيلة وحماية هذا العالم مِن الفناء ، وقد صدقوا فعلاً "كما سيتبين مِن أمر جاك وفهمان".
العالم كلُّه يتابع المشهد ، دول الغرب ترسل سراياها للمساعدة والتدعيم ، حكّام العرب يبكون ويتباكون على أمريكا والشعب الأمريكيِّ ويعلنون الولاء والتضحية بالنفس مِن أجلهما ، والشعب الفلسطينيّ مثْلج الصدْر يحمد الله ويُعلن الشماتة ويردّد أقوال بعض آيات القراءن الكريم التي تتكلّم عن الانتقام مثل..إنّ الله عزيز ذو انتقام -إنّ ربك لبالمرصاد-ولا تحسبنّ الله غافلاً عمّا يعمل الظالمون إنّما يؤخّرهم ليومٍ تشخص فيه الأبصار..صدق الله العظيم.
بينما بعض المساجد ترفعُ أكفَّ الضراعة مبتهلين لاعنين الأمريكان وداعين بالتدبّر في آيات الله الكونيّة .
وفي مشهد آخر وعلى بُعد عشرات الكيلو مترات مِن منزله رأى جاك كاميرا تسلّطُ الضوءَ على طفل وطفلة لمْ يتجاوزا الست سنوات .
الطفل سمين ذو وجه ممتلئ وهيئة حسنة بينما الطفلة هزيلة وملابسها مهترئة ونحيفة شاحبة اللون .
بدأ الإعلاميّ يتكلم عن هذا المشهد ليبيّنه ويشرح ملابساته إلى المشاهدين ودور الحكومة الفيدراليّة وفريق الإغاثة في إنقاذهما ..بدأ يصف المشهد وملابساته.. وقدْ قال مُستهلّاً وجاك يسمع بانتباه وترقّْب ..



يتبع

إبراهيم امين مؤمن
07-02-2020, 11:31 PM
وقدْ قال مُستهلّاً وجاك يسمع بانتباه وترقّْب ..
هذان الطفلان فلسطينيّان ، اتّصلَ والدُ الطفلة مستغيثًا لإنقاذ ابنه وابنته مِن الجحيم ، بينما لمْ تصلْنا إشارة حتى الآن بتوجّه فريق الإغاثة لإنقاذهما .
لقد انشقّتْ الأرض عن يمين وشمال الطفليْن وتركتهما محصوريْن بين جداريْن مِن ألسنة لهب الحمم البركانيّة العالية..
نارٌ تتأجّج أمامهما وخلفهما بينما هما يصرخان واقفين على الأرض المحصورة بين طوديّ الحمم الملتهبة .
الأرضٍ قريبةٍ في شكلها مِن شكل المثلث متساوي الساقين المرسوم على الأرض ، ويبدو مِن خلال المعاينة ومراعاة الأبعاد أنّ المثلث ضلعه يتراوح ما بين 15-17 من الأمتار بينما قاعدته أكبر فطولها ما بين 25-27 متر .
فلمّا سمع جاكُ هذه الأبعاد كوّرَ كفىّ يديْه بحيث أصبح ظهريْهما للسماء ، ثُمّ أمالهما خفْضًا ورفْعًا وهذه إشارة لإمساك دراكسيون دراجه بخاريّة ، وقدْ كان يقصد ذلك بالفعل .
*ومن حجرة مبيت عالم الفيزياء الفذّ ميتشو كاجيتا بمصادم ffc-1 الكائن في سيرن بسويسرا نجد كاجيتا يشاهد البركان ويرقص ، وكلّما زاد البركان توحّشًا زاد رقصًا وفرحًا، ولقد كان يتراقص قائلا..هيّا أيها البركان الرحيم خلّصنا من هذه الزبالة البشريّة .
والرماد البركانيّ والحِمم في ازدياد ، وأخيرًا جاءتْ إشارة أنّ منطقة الطفلين خطرة ولا يملكون التحليق فوقها الآن وليس لديهم أدوات لمدِّ جسر لإنقاذهما.
لكنّهم سيحاولون إرسال الدعم في وقت قريب ، فكلّ طائرات الإغاثة منشغلة بإنقاذ عشرات الآلاف مِن الضحايا .
انتفض جاك ثمّ قفز على دراجته البخارية وأنزل اللثام على وجهه وانطلق بها مخترقًا باب منزله فطار في الهواء ، وظلَّ منطلقًا بأقصى سرعة متجاوزًا الزحام بالتحكم في حركتها بطريقة أسطورية .
وبمجرد خروجه جاءتْ إشارتيْن أحدهما تقول أنّ الأبَّ الفلسطينىَّ صاحب الرسالة قد شاهد ولده منذ لحظات وأنّ المحصور في البركان ليس ابنه .
والإشارة الثانية من يهوديّ يقول عن هذا الذي مع الفلسطينيّة ابنه ، واستطرد..إن لمْ تنقذْه الحكومة فسوف يحمّلهم مسؤليّة موته .
*وسمع يعقوب إسحاق مقولة المواطن الإسرائيليّ عبر التلفاز فارتعد وانتفض ، ثمّ هاتف بيد مرتعشة الرئيسَ الأمريكيّ على الفور وقال..إن مات طفلنا فسوف أمحوك من الوجود .
ثمّ تلتها إشارة ثالثة بعد قليل أنّ فريق البحث متّجه لإنقاذ الطفل والطفلة لخمود الرماد البركانيِّ والحِمم حولهما بصورة تُمكّن طائرة الإنقاذ التحليق فوقهما لانتشالهما .
ويبدو مِن الإشارة الثالثة أنّهم استطاعوا أنْ يوفّروا طائرة استغاثة بالفعل .
انطلق جاك متّجهًا إلى مكان الطفليْن ، فلمّا دنا مِن المكان أدّى صلاته ودعا الربَّ بالنجاة والتوفيق ثُمّ دعا لأمريكا بالخلاص .
وانطلق بأقصى سرعة ، ولحسن الحظ أنّ الجدارَ المنفصل الواقف عليه الطفلان منخفضٌ عن الأرض .
فطارتْ الدراجةُ مرتفعة في الهواء لمسافة ما بين 15-17 مترًا وظلَّتْ في الهواء متجاوزة ألسنة الحِمم التي كادتْ تحرقه ، وبالفعل فقد قذف البركانُ جمرةً صغيرة التصقتْ بأسفل بنطلونه .
ثمّ بدأتْ الدراجة في الهبوط متّجهة إلى قاعدة المثلث الكبرى .
كانت الدراجة مسرعةً ، وأيّ فرملة مفاجأة سوف تقلبه هو والدراجة في الجحيم ـ ففرمل على مراحل ، المرحلة الأولى خفيفة وكذلك الثانية والثالثة والمرحلة الأخيرة كانت على بعد أربعة أمتار مِن حآفّةِ قاعدة المثلث قبل أنْ يفعلَها ، ثُمّ أسند بقدمه على الأرض وآمال الدراجة قليلاً فمالتْ وسارتْ تجاه أحد ضلعيِّ المثلث .
وظلّت الدراجة تدور حول نفسها عدة مرات حتّى استقرتْ .
جاك يعلم أنّ الدرّاجة لن تسطيعَ العودة مطلقًا لأنّها في مهبط ، وبالطبع فلن تصعدَ الدرّاجة ضد الجاذبيّة ، وحتى لو كان هذا جائزًا فالمسافة قليلة لكي يطير بها مجددًا .
فماذا يخبئُ جاك لنا ؟
*ومن المدهش ..كان يشاهد مشهدَ دراجة الملثّم بطلُ العالم في سباق الدرجات فقال دهشًا.. أنا ما أستطيع فعلها .
*وشعوب العالم يشاهدون حدث الملثّم عبر التلفاز، ولقد شاهدوا قفزته فخطفت أنفاسهم حتى أنّها صرفت أبصارهم عن موت آلاف الضحايا التي تسقط كلّ ساعة.
اشرأبتْ أعناقهم نحو التلفاز واستطلعتْ عيونهم نحوه محدّقين قائلين..لقد ألقى الفارس الملثّمِ هذا بنفسه في التهلكة رغم شجاعته ومهارته وشهامته .
*ومن الوادي الجديد نجد فهمان يشاهد هذا الرجل الملثّم وهو يلقي بنفسه لإنقاذ الطفلين غير مكترثٍ لحياته ، فتمنّى فهمان أن يكون مثله في التضحية والشجاعة.
يتبع

إبراهيم امين مؤمن
07-10-2020, 06:22 AM
فتمنّى فهمان أن يكون مثله في التضحية والشجاعة.
*ومن داخل مبنى وكالة ناسا يشاهد رئيسها هذا الفتى الملثّم ويخاطب نفسه قائلاً ..أيّها الملثّم أنت تصلح أن تكون رائد فضاء من الطراز الأول ، ثمّ تحركت شفتاه همسًا مستفهمًا..مَن أنت أيّها الفارس الملثّم ! كم أرجو رؤيتك .
أيقنوا جميعًا بأنّه سوف يموت ..لكن ماذا يخبّئ لنا جاك ؟ هل هذه العبقريّة وهذا الضمير الملائكيِّ ساذجٌ لهذه الدرجة أن يلقي بنفسه في الجحيم!.
والحقيقة أنّ جاك ألقى بنفسه وهو بالفعل لم يحسب خطوات العودة ، نظر إلى الطفلين وسألهما غيظًا وحنقًا عن سبب سيرهما بدون مصاحبة والديهما ، ثمّ أطرق متسائلاً..وماذا كان سيفعل الوَالِدَانِ في هذا المأزق .
فنظرت الطفلة إلى بنطلونه الذي بدأ يحترق ، فقد بدأت الجمرة تتحوّل أسفل البنطلون نارًا فقالت له الطفلة عمو ..أنتَ تحترق .
ثمّ نظر الطفل اليهوديّ إليه أيضًا قائلاً ..سيدي أنتَ تحترق .
فضرب جاك بنطلونه بيده غير ناظرٍ إليه وما آلت إليه ضربته وإنّما حدّق في الطفلين وكرّر نفس السؤال للمرة الثانية .
فأجابتْ الطفلةُ..إنّنا كنّا مجموعة مِن الأطفال عربًا وعجمًا ، فأقبلَ عليّ هذا الولد وقال لي إنّي يهوديّ وأريد المال الذي معك والفستان الذي ترتدينه ، فلمّا قال ذلك رمقه بعض الأطفالُ العرب وقالوا له وهم يتغامزونه وأياديهم مبسوطة نحو جيبه ..لا يصحّ هذا يا سيدي الطفل .
أمّا بقيتهم فتداولوا فيما بينهم ثمّ رحلوا جميعًا ، وانتهز فرصة رحيلهم فضربني ولا زال يضربني حتى اِنشقتْ الأرض .
وأجهشت الطفلةُ بالبكاء حتى ارتعد جسدها لمّا قالتْ ..انشقتْ الأرض لأنّه ظلمني ، ثمّ تمالكتْ نفسها ومسحت دموعها وتثبّتتْ ثمّ قالتْ..وهكذا سيدي الشجاع تنشقُّ الأرض عندما تُسلب من أصحابها .
فردّ عليها الطفلُ ..نعم سيدي هي على حقٍ في قولها "تنشقُّ الأرض عندما تُسلب من أصحابها."نعم سيدي ..انشقتْ الأرض لأنّ فلسطين اغتصبوا أرضنا ".
فلمْ يعبأ جاك بعراك الطفلين وإنّما أخذ يفكّر كيف ينجي هذين الطفلين من الموت ، أيستسلم ! جاك الذي لمْ يفشلْ قطٌ يموت الآن .. مستحيل .
*وعبْرَ الشاشات نجد الناس يتملّكهم الحزن الشديد على الملثّم قائلين .. خسارة أن يفقد هذا العالم رجل مثل هذا الفارس ، وتأهّبوا للصلاة عليه بعد أن تأكله النيران .
استجمعَ جاكُ فِكره وغيّب مشهد الفزع الذي ينتابه مِن شكل الطفلين ، ثمّ جثا على ركبتيه صامتًا حتى ظنَّ الناس أنّه يصلّي صلاة الوداع .
قام بثقة وفعل الآتي ...
تجهيز المغلف أو النايلون ..
بعد لحظات مِن الصمت والتدبّر حاول فيها أنْ يبثَّ في نفسه الثقة والثبات ، نظرَ إلى الدراجة نظرة خاطفة ، ثمّ أقبل عليها وفتح حقيبة كبيرة كانت خلف المقعد الذي يجلس عليه واستخرجَ كيس النايلون الذي فيها ، إنّه كيسٌ رقيقٌ خفيفٌ لا ينفذ منه الهواء مطلقًا ولا يحترق إلّا تحت درجة انصهار عالية ومطلىٌّ في فوهته بمادة لا تحترق ، كان يحتفظ به في دراجته للقيام ببعض المناورات الطائرة .
والفوّهة عبارة عن طوق مِن الحديد ذات قطر صغير 90 سم ومطليّة بمادة ضد الحرائق ، وتذكّر عندما اشتراه أنّ البائع قال له هذه المادة ضدّ الحريق ولمْ يفكر وقتها في السبب لكنّه علمه الآن ، يبدو أنّ هذا البالون كان يستخدم كمنطاد في نقل راكبين أو ثلاث فقط لصغر حجمه .
*رآه فهمان وقد كان جالسًا ، وعلى الرغم من ألمه وتفجّعه على الناس الذين يحترقون إلى أنّه لم ينسَ العلم كأبيه..فحدّق في الفتى الملثّم قائلاً..أرجو أن تفعلها أيّها الملثّم ..أرجو أن تفعلها ، وانتبه لما معك ، فمعك الموقد والغاز والهواء .
تجهيز الموقد...


يتبع ..

إبراهيم امين مؤمن
07-14-2020, 04:38 AM
تجهيز الموقد...
تفاءلَ بذلك واستبشرَ وارتسمتْ على وجهه علامات الطمأنينة.
بعد ذلك..أخرج مِن الحقيبة علبَ كانز فارغة ، علب كان يخزنها بعد ارتشافها ليبيعها لأحد الباعة من أجل أن يستعين بها على قضاء بعض حوائج المعاش .
ولحسن حظه أنّها كانتْ كثيرة ، استخرجها وألقاها أرضًا ثمّ ثقبها كلّها من أعلى ثمّ قال لا بأس بها فإنّها تفي بالغرض .
*لقد تعجّب الناس عبر الشاشات من فعله فقالوا..لقد أصابته لوثة الجنون ، رحمك الربّ يا رجل ، لكن رئيس ناسا يتابعه وفهمَ ما ينوي الفتى فعله ، واللافت أنّ فهمان سبقه في ذاك الفهم .
قال ..أرجو أن تنجح في صنع سفينتك الفضائيّة أيّها الملثّم .
وقد صدرتْ أوامر إلى طائرة فريق إنقاذ بالذهاب إلى مكان الحادث لإنزال أريكة بحبال تحتوي على أبازيم رابطة لتحمل الطفلين إلى الطائرة .
استخرجَ جاك مِن أسطوانة الدراجة الغازية الغاز الذي تعمل به بعد أن ثقبها ثمّ أفرغها كلّها في علب الكانز عن طريق أنبوبة .
بعد ذلك قام بسداد علب الكانز كلِّها بسدادة محكمة ، ثمّ ربطها كلّها معًا بإحكام في أربع مجموعات ثُمّ ربط المجموعات في قاعدة خشبيّة كانت ملقاة على أرض البركان .
*وفهمان يحدّق في الشاشة مائلاًَ مقوس ظهره ويقول .. هيا.. اِفعلها ..اِفعلها أيّها الملثّم البطل .
*ومن تل أبيب كان يعقوب إسحاق يشاهد المشهد من أوله ، ولقد أدرك أخيرًا ما ينوي فعله ذاك الملثّم .
نفْخ الهواء البارد داخل البالون..
وبعد أنْ انتهى لمْ يجد عناءً مطلقًا في المرحلة التالية ، كان عليه الآن أن يحضر مضخّة الهواء اللاسلكيّة ببطاريّة 12 فولت ، كان يضخُّ بها الهواء لإطاريّ دراجته .
طرح البالون وأمرَ الطفلين بإمساكه جيدًا كي لا يطير فامتثلا ، ثمّ ربطه جيدًا في صخرة كبيرة كانتْ على سطح الجدار المعزول حتى لا يطير، كما ربط َالطرف الآخر كذلك .
قام بضخّ الهواء البارد داخل البالون حتّى امتلأ ، ثمّ قام بسدّه حتى لا يتسرب الهواء البارد .
تسخين الهواء ...
أحضر مجموعات الكانز الأربعة وقام بنزع سداداتها واحدة تلو الأخرى وبسرعة ، وكلّما نزع واحدةً منهنّ أشعلَ النّار فيها فكانتْ تشتعل كموقد البوتاجاز ، فاطمأنّ أنّها تعمل بامتياز .
أشعلَ النارَ بوساطة أحد الأعواد الخشبيّة التي كانت ملقاة على الأرض مِن خلال أحد ألسنة اللهب المتأججة ، ولقد لحظ تسرّب بعض الهواء مِن البالون ، فأعاد ضخَّ الهواء مِن جديد حتى امتلأ ، نادى على الطفلين وأعدّ حبلاً متينًا كان يستخدمه في تسلْق الأشياء المرتفعة ، أحضره مِن الحقيبة أيضًا ..ربطَ نفسه في جهة وربط الطفلين في الجهة الأخرى من البالون حتى يتّزن ، لكن الطفلان أثقل قليلاً فاضطر لحمل حجر في يده وزنه 11 كيلو جرام .
في الإطار الحديديّ الدائريّ المثبّت في أول البالون القريب مِن أرض الجدار مدَّ يده إلى الداخل وأمالها افقياً ، ثمّ ربطَ المجموعات الأربع فيه .
*قال فهمان..ها قد فعلها .ها قد فعلها .
*ورئيس ناسا يقول ..لقد صنع مركبة فضائيّة ، فأرجو أن ينجح في صناعة كوابحها .
*وصلتْ الطائرة ، وأرسل قائدها تقريرًا إلى مبنى الطائرات أنّه لن يستطيعَ التحليق عِن قرْبٍ بعد أن ارتفعتْ ألسنة اللهبِ منذ قليل ، وتبعًا فإنّ الدرج لن يبلغ الطفلين ، وجاءت الإشارة بعدم المغامرة والانتظار لعلّ البركان يهدأ .
لكنّ المبنى أرسل إشارة بعدها أنَّ رجلَ الدراجة الملثّم قد صنع مِنطادًا طائرًا فجاءه الردّ بأن ينتظر ويراقب .
-بدأ الهواء البارد يسخن تدريجيّاً بفعل مواقد الكانز ، ثُمّ بدأ البالون يرتفع محلقًا عاليًا ، وبعدما اطمانَّ جاك أنّ المنطاد ارتفع عن ألسنة اللهب ولا خطورة منه بدأ يوجّه البالون حتى ساقته الرياح للحركة الأفقيّة فتغيّر مِن الوضعيّة الرأسيّة إلى الوضعيّة الأفقيّة .
مدَّ يدُه وقام بنزْع مجموعةً من المجموعات الأربع ، فبدأ المنطادُ يهبط مائلاً .
*أرسلت إشارة إلى مركز المراقبة بأنّ الرجل الملثم نجح في صنع المنطاد وأنّه الآن طائر في الهواء ، فجاءه الردّ بأن يتابع البالون لينتشله من الهواء لأنّه غير مجهز للهبوط .
*والمشاهدون يتابعون مِن خلال شاشات التلفاز كلَّ ما يحدث ، وكلّهم في ذهولٍ وترقّبٍ ، يأملون أن ينجح الملثم في عملية الهبوط .
*ورئيس ناسا يعلن في قرارة نفسه عن مولد رائد فضاء أسطوريّ .
*ويعقوب إسحاق حمد الله على نجاة الطفل وأطلق أخيرًا أنفاسه التي كانت محبوسة .
-ولمّا غادر المكان أفقياً أيضًا نزعَ المجموعة الثانية فخفَّ اللهب كثيرًا ممّا تسبّبَ في هبوط البالون تدريجيّاً لكنّه ما زال يحلّق فنزع الثالثة ثُمّ الرابعة فاصطدموا جميعًا بالأرض ممّا أصابا الطفليْن ببعض الكسور والخدوش ...
انشقّتْ الأرضُ المثلثيّة بعدها مباشرة وابتلعتْ الأرضُ الدراجةَ .
نظر خلفه ليجد دراجته التي يعشقها تنفجر، حمد الربَّ على نجاة الطفليْن ، ثُمّ ترك المشهد كلّه عازمًا على الرجوع إلى منزله .
بدأ البركان يهدأ بعدما أفرغتْ الأرض غيظها وغضبها ، والحِمم الباردة تغطي مساحات شاسعة على أرض كاليفورنيا وخاصة المنطقة المحيطة بجامعة بيركلي .
ورغم موت آلاف الضحايا في البركان الغاضب إلاََ أنَّ مشهد جاك ارتكزَّ في عقول وقلوب العالم كلِّه وخاصة الأمريكيين .
وظلّتْ وسائل الإعلام تقصُّ وتروي وتستفيض في وصف فتى البركان الملثّم ، وخاصة أنّ االطفلين أحدهما جنسيّة يهوديّة والأخر فلسطينيّة .
وظلتْ على مدار أيّام وشهور يعرضون صورة الدراجة وهي تطير ، وصورة الملثّم وهو طائر في الهواء ببالون صنعه ببراعة شديدة ، وصورة الدراجة وهي تتهاوى في البركان ، وأشاروا إلى وجهه مليارات المرات متسائلين ..تُرى مَن هذا الرجل الملثّم ؟
ولقد أسموه عبر كلِّ وسائلِ الإعلام العربيّة والعالميّة باسم فتى البركان الملثّم ، لأغلب الظنِّ أنّه كان فتى .
ولقد شاهد جاك تعليقات وسائل الإعلام على صنعه فلم يكترثْ لهم .
الجزء السابع
يتبع

إبراهيم امين مؤمن
07-21-2020, 03:39 AM
اغرسْ في أرضك بذورًا تصلح لها..
سبعة أشهر مضتْ على زلزال كاليفورنيا...
اجتاز فهمان الثانويّة العامة ولمْ يكنْ بين العشر الأوائل على مستوى الجمهوريّة ، مع أنّ أبيه كان يعتقد أنّه سوف يكون أولهم .
اِغتمَّ فطينُ وسأل ابنه عن هذه العبقريّة المفرطة التي لمْ تُفعّل في الدراسة .
أجابه فهمان قائلا ً..أبتِ أنّا منشغل دائمًا بالبحثِ والتقصّي في العلوم التي أعشقها مثل الفيزياء ، وقد قرأت أكثر من مئة رسالة دكتوراة ووعيتها جميعًا .
ولذلك انشغلتُ كثيرًا عن باقي المواد وأهملتها سهْوًا فقللتْ مِن المجموع الكلّي .
اقتنع فطين بكلامه وذهل من كم رسائل الدكتوراة التي قرأها ووعيها جيدًا .
قال فطين لولده ..وماذا بعد ؟ أىّ كليّة تحبّ ؟
-ردَّ بحزم ..كليّة العلوم .
-أتكتب أوّل رغبة علوم القاهرة؟
-تلعّثمَ ولمْ يقوَ على الكلام فصمتَ ، ثمّ أطرق في أسىً بالغٍ ليداري ما به ؟
-ما لك لا تنطق ؟ اِرفع رأسك وتبسم ..أريد لكَ العلوم في جامعة ..سكت هنيهة ..في جامعة بيركلي بكاليفورنيا ..فما رأيك؟
انفجرتْ عينا فهمان مِن البكاء فرحًا ووجلاً ، واحتضنَ أبيه وقبّل يديه .
-بعد ذلك سأله أبوه..أتعلم كمْ النفقة ؟
-كثيرًا يا أبتِ كثيرًا ، لكنّني لمْ أعلمها بالضبط ، لأنّي كنت أطرد الفكرة بمجرد أن تخطر ببالي .
-اِعلمْ وأخبرني ، كذلك أخبرني بترتيبات اللحاق ببيركلي..الشروط والنفقات والإقامة ..الخ.
-سمعاً وطاعةً يا أبتِ .
جلس فهمان أمام الحاسوب ليبحث عن شروط القبول والنفقات و..الخ .
فلمّا قرأها تفجّع قائلاً .. كارثة . نفقات الالتحاق باهظة جدًا .
انصدعَ قلبُه وامتقعَ وجهُه بعدما أيقن انّه لا سبيل للسفر إلّا بالمنحة الدراسيّة ، وهو يعلم أنّ أبيه لن يوافق ، فهو يرى أنّ المنحة شحاذة ، وممّن ؟ من عدونا .
تصفّح أكثر فوجد أنّ المنح الدراسيّة لا توهب إلّا في حدود ضيقة جدًا.
حان وقتُ المساءِ وأتى فطين مِن الخارج ثم أخذه وخرجا قاصدين السيرك ، وسأله في الطريق قائلاً هل أنجزتْ المهمة ؟
فردّ عليه : لا أريد السفر يا أبتِ ، النفقة كثيرة وفوق طاقتك بكثير .
سمعها فطين وسأله عن حجم المصروفات فلمّا أجابه ذُهل فطين وانتكس .
ومِن الغمِّ الذي سيطر على أوصالهما قرّر فطينُ إلغاء عرض الليلة ، وقفلا راجعيْن إلى المنزل .
ظلّا صامتيْن ساعات ، الحزن قد ألجم اللسانين فخرسا ، لكن فطين القويّ ما وقف في حياته عاجزًا أبدًا ، فبدّل كثافة الصمت القاتل بقوله ..ستسافر يا ولدي مهما كان الثمن ، أعدك بذلك ، ستسافر وربّي .
ثُمّ باغتته نغمة هاتفه ، إنّه الطبيب مؤيد .
-مرحبًا صديقي الطبيب .
-كيف حالك يا فطين ؟
-الحمد لله .
-مبارك لولدك .
-الله يبارك فيك .
-كيف حال سركك ؟ سمعت أنّك تكسب كثيرًا ..
-الحمد لله .
-نريد منك خدمة .
-اتفضل .
-لنْ ينفعَ الهاتف ، أنا أمام المبنى ..انزلْ وقابلني .
نظر إلى ابنه وطمأنّه مرّة أخرى حيث قال ..لا تستهن بأبيك فأنا ما أعجزني شئ من قبل حتى أعجزُ الآن عن تحقيق حلم هو حلمي قبل أن يكون حلمك .
نزل فطينُ لمقابلة مؤيد وقابله على مدخل المبنى المشرف على أعمال السيرك يستحثّه على الإسراع حيث أنّه تأخّر عن موعده أكثر مِن ساعة ، ورغم ذلك فالناس لمْ تغادرْ المكان وتترقّب عودته بلهفة .
فقال فطين له اعتذرْ لهم عن تقديم عرض الليلة لأنّي مريض ، فلمّا مضى خطوات للأمام رجعها مرّة أخرى ثمّ أخرج من جيبه خمسين دولار وقال له أعطها لمن لم يجد في صنايق القمامة طعامهم اليوم ، ثمّ استقلّ سيارة مؤيد ومضى .

الجزء الثامن
إذا أردتَ أنْ يصدّقَ الناس أكذوبتك فصدّقها أنت أولاً .
حقول القوى..درع الإله..
وفي مكانٍ خالٍ وقفت السيارة وكان في انتظارهما بروفيسور في تكنولوجيا الفلك والفضاء وهو منهم ، نزلا وقابلاه ثمّ ارتجلَ ثلاثتهم .
-قال فطين لمؤيد ..أأمرني صديقي ..قلتَ تريد خدمة ..
-قال مؤيد موجّهًا كلامه لفطين ..المقاومة داخل فلسطين وخارجها معرضة للخطر ..قالها بوجه ممتقع .
-ردّ فطين متفجعًا..يا خبر أسود ، كيف ؟
-أخبره مؤيد ..تكنولوجيا الأقمار الصناعيّة لعنة الله عليها ، جاءنا مِن أحد عيوننا وهو منّدس بينهم أنّ هناك أنباءً بامتلاك إسرائيل لقمرٍ صناعيّ تصميم أمريكيّ باستطاعته رؤية ما تحت القشرة الأرضيّة .
-فطينُ ..كيف ذاك ؟
كلُّ ما أعلمه أنّ عمليات الرصد والبحث ما هي إلّا مجموعة مِن أجهزة استشعار ومجموعة من أجهزة الزلازل وأدوات تنصّت كالميكروفون وأشياء من هذا القبيل .. الخ .
كما أنّ الأقمار مِن خلال أجهزة الاستشعار الراديويّة تستطيع أن ترصد وسط الضباب ، أمّا أنّها تخترق القشرة الأرضيّة فهذا مستحيل .
-نظر البروفيسور إلى فطين دهشًا ومُعجبًا معًا ولكنّه لم ينبسْ له بكلمة .
-قال مؤيد ٌ..كلُّ أساليب رصدهم تحاشيناها في أنفاقنا الرئيسة التي تعتمد عليها المقاومة بشكل رئيس لأنّها أنفاق محصنة ، أمّا الغير محصنة فسقط بعضها وهي أنفاق مهملة لأنّها مجرد مخازن نلقي فيها بعض متاعنا .
-قال فطين..إذاً جهّزوا باقي الأنفاق بالتكنولوجيا الحديثة وتنتهي المشكلة.
-مؤيد ..ليست المشكلة في الأنفاق الغير مجهّزة ، إنّما المشكلة أنّ الأنفاق كلّها بلا استثناء قد تُدمّر ..للأسف يا فطين حتى الأنفاق خارج فلسطين معرّضة للتدمّير الكامل أيضًا .
-فطين .. كيف ؟ الأنفاق داخل فلسطين كلام معقول وإن كنتُ أأمل ألا يحدث ذلك ، أمّا خارج فلسطين فكيف ؟ كيف؟.
-مؤيد لفطين ..معظمها في شمال شرق سيناء وجنوبها ، ويعقوب إسحاق لا يألوا جهدًا لتدميرنا ، وأنتَ تعلم أنّه استطاع أن يُمضي الاتفاقيّة الرباعيّة الآثمة فتعرّضتْ أنفاقنا للخطر في شمال شرق سيناء.كما استطاع أن يأخذَ فندق هيلتون طابا فتعرضنا للخطر أيضًا في جنوبها ، والآن يريد أن يعرّي كلّ الأنفاق بالقمر الصناعيّ الجديد ، فيباد اتّحاد المقاومة عن آخره.
-قال فطين..لعلها حرب إعلاميّة يا دكتور .
-نظر البروفيسور إلى فطين وأعجب بكلامه ، طأطأ رأسه على كلمتة الأخيرة وظلّ صامتًا أيضًا ..

إبراهيم امين مؤمن
07-29-2020, 03:47 AM
طأطأ رأسه على كلمتة الأخيرة وظلّ صامتًا أيضًا ..
-قال مؤيد ..لا لا ، لو أعلنوه لقلتُ أنّها حربٌ نفسيّة ، لكنهم يخفونه فيما بينهم حتى ينقضّوا علينا به .
-قال فطين..وهل تعلم كيف تخترقُ هذه الأقمار اللعينة ؟
-أدار مؤيد كفَّ يده مشيرًا إلى البروفيسور قائلاً يجبْك عن هذا برفيسورنا الفضائيّ .
-قال البروفيسور..رغم الرسالة التي وصلتنا فنحن كخبراء في تكنولوجيا الفضاء لم نستطعْ أن نصلَ إلى طريقة ما ولو نظريّة تمكّنهم من معرفة مكان نفق واحد تحت الأرض بوساطة قمرهم الصناعيّ الذي أخبرنا به أحد رجالنا .
-فطين للبرفيسور ..لعلَّ أجسامنا التي تصدر الأشعة تحت الحمراء أو عمليتي الزفير والشهيق في جهازنا التنفسيّ تتسرب فوقنا مباشرة فترصدها مجسات قمرهم هذا .
-دهش البروفيسور مرّة أخرى من علم فطين بفيزياء الفضاء ثمّ قال له ..هذا مستبعدٌ يا معلم فطين لعدم تمكّن هذه المجسات من رصْد الأشعّة .
-فطين للبروفيسور ضاحكًا ..إذن ، ممكن لو لديهم كِلابًا مدرّبة تكتشفُ أماكن الألغام أو البارود ..أقصد كلاب جان تستطيع أن تشمَّ على بعد عدة أمتار تحت الأرض .
ممكن . ممكن..ثمّ تابع كلامه مقهقهًا..ممكن لو علقنا الكلب فوق القمر الصناعيّ وألبسناه بذلة فضائيّة ليعمل كمجس أو تلسكوب فيدور مع القمر ويمسح المناطق المحتمل وجود أنفاق فيها ، عندئذ ٍ..عندئذٍ وعلت ضحكاته هنا..يكون كلب من كلاب الجان .
ثمّ سكت وقال بحزمٍ ..بروفيسور ..أظنّها حرب إعلامية ، فهم يريدون أن يرعبونا بطريق غير مباشر .
-البروفيسور يوجه كلامه لفطين ..هي كذلك ، ومؤيد يراها غير ذلك ، وإنّي مختلف معه ، ولكن عندما يتعلق الأمر بكيان دولة علينا أن نضع كلَّ الاحتمالات في الحسبان .
-فطين للبروفيسور :ما الحل؟
-الروس.. قال البروفيسور .
-الرصاص.. قال مؤيد .
-الروس؟ الرصاص ؟..قالهما فطين دهشًا مستفهمًا .
-قال البروفيسور..للأسف لدينا خياران .الأول الأخذ برأي الروس وشِراء جهازهم الذي لديهم لتجنّب الخطر، والثاني إحاطة الأنفاق بطبقات مضاعفة من الرصاص .
-قال فطين ..وماذا قرّرتم ؟
-قال البروفيسور..إحاطة الأنفاق بطبقات سميكة مِن الرصاص لن يفي بالغرض حال الهجوم ، وليس لدينا إلّا اللجوء إلى الروس فيما أشاروا إلينا به ، لكنّه خيار مكلّف جدًا جدًا .
-قال فطين ..وهل يعرف الروس طبيعة هذا القمر ليبعونكم هذا الخيار المكلّف ؟..
-ردّ البروفيسور..لا ، لكنّهم يقولون كلّ شئ جائز ، و يقولون مهما كان مِن أمره فإنّ جهازهم قادر على خلْق ستارة ثلاثية قادرة على إذابة كل ما يرتطم بها ، وزادوا . العيب الوحيد في الستارة أنّها لا تقوم بعمل تشويش ضد أيّ أجهزة كشف .
-ردَّ فطين..آه ، يقصدون عند كشْفهم وضرْبهم بأيّ سلاح لا يفلحون ، لعلّ الروس اخترعوا حقل القوى المتَكَلم عنه في روايات الخيال العلميّ .
-تعجّبَ البروفيسورُ ونظرَ إلى مؤيد ..فقد دهش مِن عبقريّةِ فطين مرة ثالثة ثم قال له ..هو كذلك بالفعل ، يقولون إنّ جهازهم قادر على إذابة الصواريخ وحزم الليزر.
-ردَّ فطين ، وضّح كلامك استاذنا الكبير ، أنت تقصد الجهاز الذي يصنع حقل القوى .
-نظر البروفيسورُ في الأرض خجلاً لعدم دقة كلامه ثمّ قال ..أنا كنت ضمن المبعوثين إليهم من قبل اتحاد المقاومة لسماع فكرتهم ومدى جدواها والمطلوب في سعره ، وآراها لا بأس بها .
-قال فطينُ وهو ينظر إلى مؤيد ..وما دوري أنا ، إبداء رأى أمْ م م..؟
-قال مؤيد..لقد قرّرَ الاتحاد الاستعانة بالجهاز لصنْع حقل القوة ونحتاج إلى المال وأنت مِن أحد الذين قصدناهم .
-فطين لمؤيد ..أنا ، من أين آتي المال ؟ ثمّ نظر إلى البروفيسور وقال ..ألَا تستطيعون صُنْع هذا الجهاز ؟
-قال البروفيسور ..حاولنا فلمْ نستطعْ ، أحضرنا كلَّ خامات حقل القوّة ومزجناهم معًا أكثر مِن مئة مرّة ثمّ ضربناها بطلقة رصاص فاخترقتها ، واضح يا فطين أنّ الجهاز يعمل على مزجهم بطريقة وبنسب معينة حتى يعمل حقل القوّة على أكمل وجه .
-قال فطين ..إذن لا مفرَّ ، تريدون المال للشراء ، ثمّ وجّه كلامه إلى مؤيد مباشرة ..أنا ليس لديّ مال .إن أردتم أخذ الشقة التي تأويني وولدي فلا مانع لديّ .
-ردَّ مؤيد بجموح وهو يحدّق بعينيه في وجه فطين ..السحر ..السحر ..ألعابك السحريّة ، أخبرتْنا عيوننا أنَّ العدد يتزايد بصورة مخيفة ، وأنّ الحيَّ والأحياء المجاورة مفتونون بك ، ولو طلبتَ أيَّ سعْر للتذكرة فمنَ الممكن على مدار شهر تحصل على المال الكثير ..
-قال فطين ..مستحيل .. هم حُفاة عُراة يسكنون جحور النمل ..مستحيل ، صمت يأسًا وتدبّر الأمر بعمق ثمّ قال ..
لو افترضتُ أنّى فعلتُ ما قلتَ فماذا ، فماذا ينفع الحجر الواحد إذا أردنا أن نبني به برجًا كبيرًا .
-قال مؤيد..عندما يحمل كلٌ منا حجر نستطيع أنْ نبنيه يا فطين .
-صمت فطين هنيهة ، وتذكّر وعده لابنه المسكين بشأن سفره ، ثمّ همس في نفسه ..والآن العروبة تناديني ، فأيّهما أولى ..؟

*وقت أن همس فطين هذه الكلمة كان فهمان نائمًا ، فوقع عليه من سقف الحجرة حبال ثلاث كان يستخدمهم أبوه في بعض أعماله ، وقع على عنقه الأول والثانى على يديه والثالث على قدميه ، ثمّ أزاحتهم عواصف شديدة اندفعت آتية من شرفة الحجرة فالتفّتْ لتوثقه ولكنّها لم تنل منه .
*ثمّ وجّه كلامه إلى مؤيد بعدما استوقفه وهو سائر وأمسك بمنكبيْه ..وأنا قررّتُ أنْ أحملَ ألف ألف حجْر إليكم .
-فأمسكَ مؤيد منكبيّ فطين قائلاً ..مصر فيها رجال ..طول عمرها فيها رجّالة.
-نظر فطين إلى البروفيسور وقال أخبرني ما طلبات الروس ليبعونا جهاز حقل القوة هذا ؟ .
-قال البروفيسور..يجب عليك معرفة ماهيته أولاً قبل سعره يا حاج فطين .
-فطين للبروفيسور ..حقل القوّة حاجز نحيف غير مرئي لا يخترق ، يحرف أشعة الليزر ويذيب الصواريخ ، وأيضًا ..يصدَّ الأعاصير والعواصف ويجرف الطوفان .
-حملق البروفيسور في فطين وتعجب أكثر من شأنه ثمّ قال..إنّ الروس يسمونه "الدرع الإله"و .. مقاطعة ...
-فطينُ بحدّة مشوبة بالامتعاض ..استغفر الله استغفر الله ليس كمثله شئ .
-بروفيسور متابعًا كلامه ..درع الإله ما هو إلّا ثلاث طبقات..الأولى نافذة بلازما مسخنة إلى درجة حرارة عالية جدًا تصهر المعادن ، والطبقة الثانية ستارة من أشعة ليزريّة ذات طاقة ضخمة تسخّن أيّ شئ يمرُّ من خلالها وتبخّره سواء كانت صواريخ أو مدافع ، والطبقة الثالثة عبارة عن شاشة مصنوعة من أنابيب كربونيّة نانونيّة أقوى مِن الفولاذ بعدّة مرات ، وبهذه الطبقات الثلاث استطاع الروس صنْع "الدرع الإله الذي لا يخترق".
-قال فطين سوف يصلكم المال ، ووجّه كلامه إلى مؤيد .. كلُّ يومٍ.. مُرْ علىّ ..خذ ما اتحصّلُ عليه مِن مال .
-فطين أنت معك جهاز لمْ نخبرك به ..قال به مؤيد .
-ليس معي شئ..قال به فطين .
- مؤيد لفطين ..ألمْ تشعر مطلقًا أنّ عقلك تطوّر في الإدراك والفهم والذاكرة و ..الخ
-ردّ فطين ..أشعر طبعًا وقلت في نفسي أنّ الفلسطينيّ كان عبقريّة مِن عبقريات الزمن .
-ردّ مؤيد..لا لا ..معك خليّة إلكترونيّة قام بروفيسور بيتر بتركيبها في رأسك لتعمل بجانب الخلية الطبيعيّة لانّنا كنّا نودُّ الوقوف بجانبك لتستطيع الإنفاق على ولدك ، وأنا كنتُ اتعشّم يومًا أن تنضمَّ إلينا فتكون عندئذٍ فرْد مقاومة خارق .
المهم ..جاء دورها الآن..ركّزْ تركيزًا شديدًا سوف تُفعّل مباشرة . ركّزْ على ألعابك السحريّة وسوف تأتي بالخوارق بالفعل .. ارفعْ التذكرة وقمْ بعمل الدعاية سوف تحصد مالاً كثيرًا ، استغلها وسوف يأتونك أصحاب الملايين .
تذكّرْ عندها فطين يوم أنّ تعرّضَ أهل الحيِّ لولده ، فقد نظر إلى عصيّهم فتساقطتْ .
ثمّ عاجله مؤيد بكلمة يمتصُّ بها وقْْع المفاجأه عليه ويستحثّ وطنيته ونبله "فطين..رُضّع فلسطين ونسائها وشيوخها يلوذون بك .. فغثهم".
وبالفعل رغم دهشة فطين إلَا أنّه بدأ بكلمة ..روحي فداء لهم ..ثمّ تابع كلامه بحدة وسرعة كالقذائف ..لكنّكم لمْ تشاوروني في أمر الخليّة ، كما أنّكم أضمرْتم الأمر ولمْ تصارحوني بِه وهذا أغضبني .
نظر إليه البروفيسور ليهدّئ من روْعِه وقال له .. لِمَ الغضب ؟ الخليّة ليس لها أيّ تأثيرات سلبيّة على عقلك ، بل العكس هي تزيدك ذكاءً وفكرًا..
وعندما شعر مؤيد برضا فطين نظر إليه مبتسمًا ..لنرحل إذن .

إبراهيم امين مؤمن
08-05-2020, 11:29 AM
وعندما شعر مؤيد برضا فطين نظر إليه مبتسمًا ..لنرحل إذن .

الجزء التاسع
العلم مع ضمير حيّ معيار حضارة عريقة..
الحركة بتأثير الدماغ ..
عاد فطين إلى البيت مثقلاً بالأعباء والهموم ، لا يدري كيف يواجه ولده بمسألة تأخير سفره إلى أجلٍ غير مسمى .
دخل حجرته فوجد الحبال الثلاث فأزاحهم ثمّ قطّعهم وقال ..لا انهزام ، لا انكسار، لا قضبان .. ثمّ أقبل على ابنه وفرد جسده ليتحرّر .
جلس بجانبه وما زال فهمان يغطّ في النوم ، ثمّ تذكّر كلمات مؤيد الأخيرة ..
"ركّزْ تركيزًا شديدًا سوف تُفعّل مباشرة ، ركّزْ على ألعابك السحريّة وسوف تأتي بالخوارق بالفعل ..ارفعْ التذكرة وقمْ بعمل الدعاية سوف تحصد مالاً كثيرًا "ظل يحادث نفسه حتى رنّ الهاتف فانتبه.
إنّه مؤيد .
حذّره عبْر الهاتف قائلاً .البروفيسور يسلّمُ عليك ويقولُ لك..
ركّزْ وتخيّلْ أنك تنقل الأشياء وهي سوف تنتقل مباشرة ، وما دام التركيز مستمر ستظلُّ في حراك متواصل ، وعند زوال التركيز يزول تأثير الحركة فيها ، وإيّاك أن ترهقها فالبروفيسور قال لو أكثرتَ مِن التركيز فستتلف عقلك وستتلف أيضًا الخليّة .
ردّ عليه فطين بأنّ الفكرة قد أدركها تمامًا .
أنهى الطبيب مؤيد مكالمته..
ظلَّ فطين يفكر في الأمر كثيرًا واهتدى لفكرة مبتكرة تعتمد على الحاسوب العصبوني برأسه ، وغدًا يعدُّ لها العدة .
نزل بعض المحلات التي تبيع الأدوات السحريّة واشترى مستلزمات اللعبة السحريّة الجديدة ، وعزم على عمل ألعاب تتحرك بفعل خليته الصناعيّة ، وهمس لنفسه بها وسمّاها "الحركة المعلقة ".
دخل حجرته وأغلق الباب حتى لا يشاهده فهمان ، أعدّ ترتيبات التجربة وفي كلِّ مرّة تفشل ، شغّلَ الكمبيوتر وفتح بعض الكتب حتى يستطيع أن يؤدّي التجربة بنجاح ، وبعد بحثٍ مضنٍ وعمْل التجربة مرات عديدة نجحتْ بامتياز .انتفضَّ مِن مكانه فرِحًا مُهللاً .
اليوم التالي أرسل منسقو ألعابه إلى أهل الحيَّ وأخبروهم باللعبة الجديدة ، ونادوا في الأحياء المجاورة بأنّ الساحر فطين سوف يعلّق الأشياء ويجعلها تثبتُ ضد الجاذبية الأرضيّة .
وأنّ سعر التذكرة ستتضاعف في هذه التجربة إلى مئة ضعْف .
سمع فهمان الأخبار فصُعق وشعر بالذنب ولكنّه آثر الصمت حتى حين .
والملاحظ أنّ هذه الزيادة دفعت الناسَ إلى الفضول ممّا زاد عددهم وتتابعوا حتى افترشوا الشوارع ، انفضَّ عنه كلّ الفقراء وخاصة آكلوا صناديق القمامة ، لكنّها أرسلت الفضول إلى الفئات الأخرى .
فتتابع كلّ الناس غير الفقراء لمشاهدة العرض ، وممن حضروا ..الأغنياء ، وتيارات إسلاميّة متطرفة ، وأعضاء في حركة مذهب التنوير، وشخصيات سياسية ، وأفراد من الأمن القومي المصريّ ، وبعض وسائل الإعلام .
وقربت ساعة الصفر فانطلقَ فطين مِن منزله يصاحبه ولده حاملاً حقيبة العمل .
وصلَ إلى السيرك وهاله المشهد ، تفحّصَ المشاهدين وأيقن أن الجُحر الذي يعيش فيه هو وابنه سوف يكون أمام مرمى سمْع وبصر البلد كلّها وقد ارتاع لهذا كثيرًا وانقبض قلبه .
ناوله فهمان بعض أدوات التجربة فأمسكها وطرحها على الطاولة مستاءً وقال له ..انتظر يا ولدي ، ثمّ نادى على أحد المنسّقين له قائلاً ..
أين أهل الحيّ ؟ أين أصحاب جحور النمل ؟ سمعها فهمان فانفرجت أساريره وزفر زفرة طويلة كأنّ ثقلاً رُفع من على قلبه الآن .
فأجاب المنسق ..يفترشون الشوارع المجاورة ويلتحفون بنجوم السماء .
ترك فطين موقعه غير مكترث للحاضرين وذهب إليهم ، فسمع قولاً لأحد الأطفال لأبيه..أبي "هو عمو فطين طردنا ؟ "
فهرع إليه وأبصره فوقف الطفل وتبعه أبوه وقوفًا ، ركّز فطين على الطفل فوجد دموعه على خدّه ، تنزل على شفتيه المشققتين ، نظر إلى ثيابه فوجده مرقّعًا .
نادى عليهم جميعًا قائلاً ..إخوتي وأبنائي لن يرقد فطين مرقده اليوم حتى تروا جميعًا عرض الليلة ، والتذكرة سنضاعفها مرّة واحدة ، فهلّلوا جميعًا .
قفل راجعًا ، وقف أمام الطاولة وبجانبه ابنه وقال .. نبدأ باسم الله ..وتوكلتُ على الله..
ألقى على الطاولة بعضًا مِن قطع المعادن ذات حجم كفِّ اليدِّ (مغانط ) ثمّ ألقى على بُعد 60 سم تقريبًا سائلاً متجمّداً "زئبق متجمد بالهيليوم".
قام بالتركيز على السائل ، حرّك يده اليمنى جهته كأنّما يستنهضه ، بدأ وجهه يرتعشُ بشدة ، حتى جلد وجهه يرتعش خفضًا ورفعًا وما زكى الرعشةَ إلّا قوّة التركيز الخارق .
بدأ السائل المتجمد يتحرك كأنّما يدفعه تيارُ هواء شديد جدًا ، وكلُّ المشاهدين ينظرون في حالة ترقّب فاغري الأفواه ، ترقْب يكاد تنخلع له القلوب .
ثمّ بدأ السائل التحرُك حتى اعتلى المعدنَ بالقفز ، وهكذا غدا السائل معلقًا في الهواء دون تدخل أيّ قوّة خارجيّة .
بلغت الدهشة منهم مبلغًا عظيمًا ، فصمتوا هنيهة ثمّ هبّوا بأهازيج كادتْ تخلع جدران المكان .
أسكتهم فطين ليكمل تجاربه ..
ناوله فهمان سوائل متجمدة أخرى على أشكال مختلفة ، منها سائل شُكّل على هيئة رجل عربيّ يمتطي فرسًا ويحمل سيفًا فقال فطين..هذه ملحمة الناصر صلاح الدين ، وعربيّ آخر يحمل جناحي صقر جريح ويمتطي حصانًا أعرجًا فقال فطين..وهذه سمفونيّة.. سوف تنهض يا وطنى .
وانقبضت أسارير فهمان من جديد عندما حلّل التجربة بداخله فوجد فيها تدليسًا وغشّاَ ً.
انتهى العرضُ والناس في حالة تصفيق حادٍّ وأهازيج كالرعد .
بعدها توافد على المكان المنتظرون في الشوارع المجاورة ، دفعوا التذكرة وأخذ كلّ واحد منهم مكانه ، وفعل فطين نفس التجارب هي هي .
بعد ذلك مضيا إلى البيت وفطين يقول لابنه ..سأضع هذه الحقيبة في المصرف ، يقصد مال التجارب .
قال فهمان بصوت حزين ..أبتِ لا أريد السفر ، أنا أحبُّ بلدي يكفيني بلدي.
ردَّ عليه فطين بأنّه متعب وأنّه سوف يكلّمه في هذا الشأن غدًا ، ثمّ مضى مسرعًا إلى الخارج بلهفةٍ ، وبمجرد أن اختلى بمكان هاتفَ مؤيدًا ليدعوه لأخذ المال ، فأتاه وأخذه .
عاد فطين إلى البيت فوجد ابنه يبكي بحدّة ، فسأله دهشًا ..ما بكَ يا ولدي ؟ أدموع الفرح هي ؟
-لا أريد السفركما قلتُ لك .
-لم يا ولدي؟ ما الذي غيرك ؟
-أنت .
-أنا ؟ ألمْ ننه مسألة سفرك ؟
-بمال حلال ، بمال حلال يا أبتِ .
-ومَنْ قال لك يا ولدي أنّي ساسفّرك بمال حرام !
-المال الذي يأتي بالكذب على الناس واستلاب أموالهم وهم في حاجة إليّه مال حرام ، لمّا فطين المصريّ مَثل الشرف والوطنيّة الآن كاذبٌ وغاشٌ يكون المال حرام .
-لطمه لطمة شديدة سقط على إثرها على الأرض قائلاً..اسكتْ اسكتْ ، أنت غبي لا تعلم شيئًا ، ثمّ نهره بصوتٍ جهوريّ حاد وهو غاضب..
لمّا الناس تدفع ضرائب لأجل المحافظة على هويّتهم وأعراضهم يكون هذا عارًا!
لما دولة عربيّة تدفع لأخرى مِن أجل دفع ضرر المعتدي عليها يكون هذا عارًا!
ثمّ خفّض مِن حِدّة صوته وقد كان واقفًا فقعد ثمّ قال متأوّها ..ربيتك على الأمانة والشرف والآن تقول أنّي كاذب وغاش ؟ كيف؟ كيف يا ولدي كيف؟
-هبَّ فهمان واقفًا ودموعه قد خالطها الدم المنهمر من وجهه قائلاً بثقة ويقين ..
ضاعفت تذكرتهم ، وكذبت عليهم ..سكت هنيهة ثمّ فصّل ..
ضاعفتْ تذكرتهم وهم لا يجدون قوت يومهم ، وكذبتَ عليهم أيضًا ..قلتَ لهم أنّك حرّكتَ الأشياءَ وعلقتها في الهواء ، في حين أنّكَ استخدمتَ الخواص الفيزيائيّة للأشياء لحملها ولكن لا ، لا ..لا أدري كيف قرّبتَ السائل المجمّد ، أنت تضلل الناس يا أبتِ .
-ردَّ فطين دهشًا..اشرحْ لي يا ولدي استنتاجك ، اشرحْ ..يكلمه فطين وهو يمسح دموعه ودماءه من على وجهه ، ثمّ أخذ بيده وأقعده تلقاء وجهه وما زال يسكّته ويمسح وجهه وقال بيّن لي ، بيّن لي ، اشرحْ ..
-بدأ فهمان يشرح لأبيه استنتاجه متهدّج الصوت مهزوم النفس متحسّر القلب..

إبراهيم امين مؤمن
08-14-2020, 02:44 AM
متحسّر القلب..
السائل المتجمد زئبق في غاز الهيليوم ، الزئبق مادة فائقة الموصليّة لا يعمل عند درجة حرارة الغرفة لذلك أحطته بغاز الهيليوم البارد جدًا لتنهار مقاومته تمامًا .
-ارتعشت يدا فطين فقد ظنّ أن ابنه تجسس عليه بالأمس أثناء عمل التجربة لذلك سأله ..كيف عرفتَ أنّ هذا زئبق وهذا هيليوم !
-من نتائج اللعبة ، فالمعدن يا أبتِ لم يكنْ معدنًا عاديًا بل مغناطيسًا كهربائيّاً .
الحقل المغناطيسيُّ المتولّد مِن المغناطيس حرّض التيارات الكهربائيّة على سطح الزئبق ممّا نتج عنه حقول مغناطيسيّة معاكسة تنتج من التيارات المحرّضة.
تلك الحقول الجديدة فيه تسبّبتْ في تحريكه ليصبح معلقًا في الهواء .والحقول المغناطيسيّة غير مرئيّة .
أمّا تقريب الزئبق حتى يعتلي فلا أجد لها تفسيرًا ، كيف قرّبته لتحدث عملية الرفع ، لا يمكن فِعل هذا إلّا مِن خلال خليّة عصبيّة مرتبطة بالدماغ وأنت لا تمتلك هذه يا أبتِ ، مَن حرّكه ليعتلي يا أبتِ ؟ مَن حرّكه ؟ أتخاوي الجِنّ يا أبتِ ؟
-بمجرد انتهاء كلامه اِحتضنه أبوه بقوّة وحرارة والدموع تنهمر من عينيه ، ثمّ ربت على ظهره حامدًا شاكرًا الله على عطائه المتمثل في ابنٍ جمع بين العلم والضمير الحيِّ .
ثمّ أبعده مِن حضنه ليرى وجهه ويمسح دمعه وهو ما زال ينتفض من البكاء وقال ..ستصبح يا ولدي حجّة على أهل العلم جميعًا ، قمْ يا ولدي اغسلْ وجهك وثقْ في أبيك ، واعلم أنّي أخذت مالاً لأُحيى أمّة ، أحيي العروبة .
-فهمني .
-الأمر ليس بيدي ولا أملك قرار البوح بهذا السرِّ العظيم ، لكنْ قرَّ عينًا يا ولدي وثقْ في أبيك ، ولا تنسَ أنّي قلتُ للناس أنّي اعتمد على خواص المواد لتقديم هذه الألعاب ، أي أنّي لم أغش يا بني .
-اقتنعَ فهمان بكلام أبيه ولكنّه ما زال متعبًا لأنه لم يبح له بسرّه .
-ابتسم فطين ، ثمّ خلع لاسته ووضعها على رأس ابنه ثمّ قال ..هذا تاج ملك الدنيا ، فضحكا معًا .
وكلُّ عدّة أيامٍ تأتي سيّارةُ الطبيبِ مؤيد تأخذُ ملايين الأموال ، ثُمّ تنصرفُ .
وتتابعتْ الايامُ وتنوّعتْ ألعاب فطينِ السحريّةِ ، وبدأ الناسُ يأتون مِن المحافظات ، فقام المنسّقون بتهيئة الشارع الرئيس لعروضه ، وذاع صيتُه حتى وصل إلى أمنِ الدولةِ المصريّةِ وسوف يترتبُ على ذلك كارثة ستحلّ به قريبّا !
بعد قرابةِ شهرٍ......
موسكو...
وفْدٌ سرِّي مِن اتحاد المقاومة سافر إلى موسكو بعد إعداد مال الصفقة ، حضرَ ليعاين حقول القوّة ويبرمُ الاتفاق .
وزارةُ الدفاعِ الروسيِّ أتوا بالخلطة ثمّ وضعوها في جهازهم فاستخرجت حقل القوة المكوّن من النوافذ البلازميّة والستائر الليزريّة والشاشات النانونيّة ثمّ نصبوه .
ومن مركزِ إطلاقِ الصواريخِ أطلقوا صاروخًا عليه فاصطدم بالحقل وأحدث رجّة عنيفة جدًا أشبه بالزلزال ثُمّ وقع منصهرًا .
ثمّ أطلقوا صاروخين معًا فاصطدما به ووقعتا منصهرة على الأرض .
ثمّ التجأوا هذه المرة لتسليط حزمَ الليزرِ عليه فلمْ تُحدث فيه أىّ ثقب ، كما لمْ تُسبّبْ له أيّ انصهار ، وقد كان أمر حزم الليزر خدعة لم ينتبه إليها الاتحاد .
انطلقوا جميعًا إلى المختبر لإتمام الصفقة .
أخذ الروسُ المالَ وأعطوهم الجهاز .
تمَّ شحنَ الجهاز إلى مصرِ مِن ضمن أجهزة استيراد مِن الخارج ولمْ يعلم الجمرك بالطبع ما بها .
اتّصلَ فطينُ كعادته بعد أوّل كلِّ عرض ليبلّغَ مؤيّدًا بتوريد حقيبة جديدة مِن المال فأجابه أنَّ اتحاد المقاومة أنجزَ المهمةَ وجارٍ العمل لتصفّحِ الأنفاقِِ الرئيسةِ بحقولِ القوى .
حمدَ اللهَ بعدما اطمانَّ عليهم ، ثمّ شردَ كثيرًا وقرّرَ أنْ يُسفّرَ ولدَه فهمانَ بهذه الحقيبة ، ويخفّضُ التذكرةَ مِن جديدٍ إلى عهدها الأوّلِ.وبالفعل..تمَّ الشروعُ في التنفيذ وإعداد أوراقِ سفر فهمان .
وفي داخل الاتحاد ..وُضِعَ الجهازُ أمام مجموعة مِن بروفيسوراتهم ، قاموا بفحصه وتحليله بطريقتِهم ، وبعد مرورِ ستّةِ أشْهرٍ مِن الفحص والتحليل استطاعوا أنْ يصلوا لسرّ صنعِه بعدها مباشرة ، صنعوه عمليًا بنجاح منقطع النظير .
ملحوظة ..وكان فهمان في نهاية هذه الفترة في بيركلي.. فيما بعد.. فيما بعد .

الجزء العاشر
السفرُ وإجرءاته ...
اتّجه فطينُ إلى أحد المصارف ووضع حقيبة آخر عرض باسم فهمان فطين المصريّ ، تلك الحقيبة التي أبى اتحاد المقاومة تسلمها بعد أن استطاعوا توفيرَ مالِ الجهازِ بأيدي المخلصين مِن أبناء فلسطين والعروبة وبعض الشخصيّات الأجنبيّة التي تحبُّ العدلَ والسلام .
عاد فطينُ مِن المصرف إلى المنزل مباشرة فوجد فهمان مغتبطًا ..
فسأله عن مصدر سعادته..
فقال له ..بسبب خفْض تذكرة الدخول .
ردّ فطينُ بعد أنْ زفرَ زفّرةً طويلةً كأنّما جبل كان جاثمًا على صدره قائلاً ..شدة وزالتْ يا ولدي .ثُمّ تابع كلامه..لقدْ وضعتَ لكَ مالاً وفيرًا في المصرف باسمك لتسهيل إجراءات سفرك والتحاقك بالجامعة التي ستختارها ، سكت هنيهة ثمّ تابع كلامه..
ماذا اخترتَ؟

يتبع

إبراهيم امين مؤمن
08-21-2020, 04:50 PM
ماذا اخترتَ؟
ردَّ فهمانُ بثقة..أريد الحصول على بكاليوريوس في العلوم الفيزيائيّة ، ثُمّ أردفَ ..وقدْ حددتُ لك المطلوب مِن الإجراءات كي التحقَ بالجامعة هناك .
-أيّ جامعة اخترت؟
-جامعة بيركلي بكاليفورنيا.
-ألم تكن هذه الجامعة التي حفظها الله من البركان بمعجزة ؟
-هي يا أبتِ حفظك الله ورعاكَ .
-صمت فطين متأملًا في ابنه وتفرّس شيئًا قاله في نفسه ..لعلّ الله حفظها من أجلك يا ولدي ، ثمّ سأله ..متى تنوي السفر ؟
-بمجرد الانتهاء من الأوراق اللازمة سأسافر فورًا ، خلال ستة أشهر على الأكثر أكون في بيركلي .
-تمام ..أعدّ أوراق سفرك وتوكّلْ على الله .
-أعددتها أبتِ..وبمجرد الموافقة على ابتعاثي وحصولي على خطابِ قبول جامعة كاليفورنيا وحصولي على نموذج i-20 المسمى بشهادة التأهيل الصادر منها عبر البريد السريع سأحصلُ على تأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة مباشرة f-1 مِن القنصليّة الأمريكيّة بالقاهرة ، وبعدها أعدُّ حقائبَ السفر مودِعًا إيّاك يا أبتِ.
-وما المسار بالضبط حال نزولك أرض الأمريكان ؟
-ساتصل بالملحقيّة المصريّة بواشنطن ، وبعدها اتّجه مباشرة إلى كاليفورنيا جامعة بيركلي ، وهناك سيأخذوني إلى حجرتي بالسكن الجامعيّ الخاص بها.
-كيف ؟ ألَا تحتاج إلى إبرام عقد خاص بالسكن الجامعيّ ؟ أمْ ستنزل في غرفة إيجار خاصة أولاً ؟
-أنا أحجز مِن مصر أبتِ ، وعندما أذهب إلى هناك أكون على علم بمنزلي الجامعيِّ لديهم .
-الحمد لله ..يطيبُ المنزل إن شاء الله.
فراق ووصايا في جذر الرجال
الفراق..
أعدَّ فهمان أوراق سفره استعدادًا للرحيل في الصباح ، والآن الليل هو محطة انتظار لحين فلْق الحبّة .
هاتف فطينُ الطبيبَ مؤيدًا ليأتيه على وجه السرعة ، فلمّا أتاه أخبره أنّ فهمان سيسافر في الفجر متّجهًا إلى أمريكا مِن أجل استكمال دراسته .
-بالتوفيق إن شاء الله ..
-بوجّهٍ كالحٍ قال ..صديقي الحميم لمْ يكن لفهمان أحدٌ غيرالله وسواي ، ولو حدث لي شيئًا فسيضيع ، ولن يستطيع استكمال دراسته بالخارج .
-ردَّ مؤيد مطمئنًا ..فطين الإشارة خضراء على الدوام مِن اتحاد المقاومة للسير إليك والوقوف بجانبك وتلبية كلَّ رغباتك مهما كان الثمن .
صمت فطين لحظات وفجأة أجهش بالبكاء وظلَّ يبكي حتى وصل إلى حدِّ الخنين ، وبدأ صوت خنينه يرتفع مع رعدة تصيب الجسد ، وفهمان يسمع صوت نحيب أبيه من داخل غرفته فيبكي ويزداد بكاءً ببكاء أبيه ، خرج فهمانُ مسرعًا من غرفته واقتحم مجلسهما ، ثمّ قذف حضنه في حضن أبيه ، وقال بصوت متهدّج من البكاء ..لن أسافر، لن أسافر أبتِ ، لن أتركك.
أبعده فطين عن حضنه قليلاً ثمّ مسح دموع عينيه بيده اليمنى ، وربت بعدها على شعره وقال ..لابدَّ أن تسافر بني ، مصر في حاجة إليكَ ، لابدَّ أن نضحّي مِن أجل تراب بلدنا ،سافرْ.. سافرْ ..وإن أردتَ أن تخفّفَ عنّي ما أجده فكنْ عند حسن ظنّي بك ، وأرني وهذا العالم من هو فهمان فطين المصريّ .
بكى مؤيد لهذا المشهد الساخن المفعم بالحرارة ، أشدّ ما تأثّر به مؤيد هو كلمة فطين لولده "لابدّ أن نضحّى من أجل تراب بلدنا ".
نظرَ مؤيد إلى فطين وقال له متأثرًا..اطمئنْ تمامًا ولا تخشَ فنحن أيضًا أهله ، ألم ترَ رأسك ؟ ألم تدرِِ أنَّ الدّم المصريّّ والفلسطينيّ دمٌّ واحدٌ ! توكّلْ على الله وسفّر ابنك واعلمْ أنّي أتكلم ب ..اقتربَ إلى أذنه وهمسَ قائلاً ..بلسان اتحاد المقاومة .
ثُمّ استاذن ورحل مؤيد .
-نظر فهمان لأبيه وقال..لِم لا تسافر معي؟
-أسافر! ومَنْ ينفق عليك؟
سافرْ أنت مع السلامة ، وتعلّمْ واخدمْ وطنك ..سيأتي يومٌ ياولدي وستحتاج مصر إليك ، هذا اليوم ستجد فيه من يحمل هذه البلد ويقيم دعائم العدل فيها ويستعين بك وبالعلماء للعودة مجددًا إلى القمّة التي فقدناها منذ قرون .
سنتقلّد القممَ يومًا ، ونطفو مِن لُجج الأنهار طفْو النجاة لا طفو الغرقى كما هو الحال اليوم ، فطفو الغرقى خاص بالمنافقين يا ولدي .
اذهبْ ..اذهبْ ونِمْ الآن حتى تستطيع أن تسافر.
مرّت الساعات حتى أذّن الفجر الآذان الأخير الذي فيه يفترق الحِبّان .
لمْ يناما ، كانت ساعات الانتظار تحرقُ الأكباد قبل القلوب ، حتى جاءتْ لحظة الخلاص ، رغم أنها الضربة القاضيّة إلَا أنّها سوف تريح القلوب والأكباد من جلدات الانتظار .
أذّن الفجر مُرسلاً بين ثناياه رُسلَ الرحيل ، وتنفّسَ الصبّح لهيبًا في قلبيهما ، وأرسل سطوعه أضواءً تضئ لفهمان دروب الرحيل .

على أبواب المطار...
حمل فطين حقائب ابنه وأستقلّا سيارة قاصدين المطار .
وهناك ولّى عهد الكلام باللسان ، تكلّمتْ العيون فقط ، ترسل كلماتها دموعًا ساخنة ، وانكتمتْ الأنفاس في فضاء الرحيل .
على أبواب المطار سقطتْ لاسته فشعر أنّ رأسه قُطعتْ مرّة أخرى ، وفقدَ عصاه التي يتوكأُ عليها فشعر عندها وما كذبه قلبه قبل ذلك بأنّه الوداع الأخير .
على أبواب المطار تستعد الطائرة لتقلع به وبالركاب متّجهة إلى بيركلي التي حفظها الله من البركان .
قال فهمان بعينيه ..سأفتقدك يا أبتِ ..
ردّ فطين بعينيه..وأنا كذلك يا ولدي يحفظك الله من كلِّ شياطين الأنس والجنّ .
وحلقت الطائرة في الجوّ وفطين يرمقها بعينين زائغتين ، بينما يده اليمنى ما زال يحركها مودعًا إياه .
ولجَ فطين الحيّ فقابله أحد الأهالي وسأله عن لاسته المزركشة ، تحسّس فطين رأسه فوجده حاسرة ، ثمّ عاود وسأله عن عصاه فنظر في كلتا يديه وتذكّر أنّه فقدها في المطار ، تركه فطين ولم يجبْه بشيء ، ولجَ حجرة ولده يرفلُ في ثيابه فأمسكها مسمارٌ في الباب فمزّقها .
تسارعتْ دقّات قلبه حتى أغلقتْ أنفاسه كأنّه في حشرجة النزع الأخير من الموت ، ركض ساعات فتململَ كالمريض .
تحامل على نفسه وقام ليطفئ نار الفراق بصبّ الماء على أعضاء جسده ، فتوضأ وصلّى ودعا الله أن يثبّته على هذا الأمر الذي لا طاقة له به.
ثمّ رقد في مصلّاه وظلّ نائماً أكثر من اثني عشر ساعة .

الجزء الحادي عشر
غرفة ببيركلي تتوّج جبين الجامعة شرفًا وعزّة إلى الأبد ..
طارتْ طائرة الرحيل إلى أمريكا ، وبمجرد هبوطها توجّه فهمان إلى إدارة الهجرة والجوازات بالمطار بأوراق الالتحاق وتأشيرة الدخول إلى مسئول الجمارك وحمايّة الحدود ليختم له تاريخ الدخول إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة .
اتصل فهمان بالملحقيّة الثقافيّة المصريّة في واشنطن لتسوية الشئون الماليّة الخاصة بدراسته ومعرفة كلِّ الأمور المتعلقة بوحدات الدراسة ، وكذلك لمعرفة الأمور الخاصة بالمدينة السكنيّة التي سيقيم بها .
بعدها ركب إحدى السيّارات الهجينة إلى كاليفورنيا قاصدًا جامعة بيركلي ، وبمجرد نزوله أرض الجامعة اصطحبه أحدُ إدارىّ الجامعة إلى سكنه بالمدينة الجامعيّة الخاصة بها .
كانت المدن الجامعيّة في أمريكا مخفّضة نسبيًا في العقود السالفة ، ومع توافد الكثير مِن الطلبة إلى جامعات أمريكا وتزاحُم ولاياتها إلى حدٍّ أصبح مِن غير المعقول قبول أجناس عربيّة أو أسيويّة ، بدا هذا الدعم النسبيِّ يقلُ تدريجيًا حتى انعدم تقريبًا ، حتى أنّنا لا نكاد نرى فرْقًا كبيرًا بين تكاليف منزل في فندق كبير وغرفة في المدينة الجامعيّة .
وكانت حجرة فهمان التي اتّفقَ عليها مُسبقًا مِن مصر فسيحة نسبيًا ، تحتوي على سريرين ، ونظرًا للتكاليف السكنيّة الباهظة آنذاك فقد آثر أن تكون مشتركة لرفع نصف التكاليف عن أبيه .
وقد سبقه إليها جاك ، فقد اختارها مِن قبْله .
أقدم عليه فهمان ، وما إن نظرَ إليه حتى شعر بشيء يربطه به ، شيء يصله به أشبه بحبل المشيمة السري ، فصافحه مغتبطًا .
*وفى اللحظة التي صافح فيها فهمانُ جاكَ كان أبوه ما زال نائمًا في مصلّاه لم يستيقظ بعد ، انفرجت أساريره وتبسّم بسمة وهو نائم .
صافحه وتعمّد فهمان عندها ارتطام يده بيده بقوّة أثناء المصافحة ، اكتنفه الذهول فقد شعر ببرد يده في قلبه.
شعر بقوة قبضة يده وهكذا كان أبوه ، لمْ يلحظ أيّ اهتزازٍ في جسده فهو ثابت كالمسمار وهكذا كان أبوه .
ابتسامته عريضة صادقة وهكذا كان أبوه ، فتمنّى عندئذ أن يكون هذا الفتى كلّ أهله بعد أبيه .
لمْ يتركْ فهمان هذا الشعور الرائع يمرُّ عليه مرَّ الكرام ، حدّقه ، تفحّصه بنظرة عميقة ، وأوغل في نفسه يريد أن يتفحّص أعماقه وهو ما زال يصافحه لم يتركْ يده بعد .
قسمات وجهه تأخذ مِن كلِّ ملامح أهل الأرض ، لمْ يكن أحمر ولا أصفر، كما لم يكن أبيض ولا أسود فقد اجتمع في لون بشرته خليط مِن كلِّ هذه الألوان ، وإن كان يغلب عليه اللون الاصفر، وكأنّ ملامحه تشير أنّ كلَّ ألوان أجناس البشر هي كلُّها كلُّها أوطانه ، وصدقت فراسة فهمان فهي بالفعل نظرة جاك للعالم .
عيناه حادتا البصر كالصقر ، واسعتان ، عريض المنكبين ، مفتول العضلات ، ممتلئ الصدر إلى حدٍّ ما ، غزير الشعر في اليدين ممّا ينمُّ أنّه غزير كذلك في الصدر .
لا بالطويل ولا بالقصير وإن كان للطول أقرب .
هدوؤه وابتسامته الخفيفة تدلّ عن شاب يتسم بالمودة والعطاء .
أكثر مِن دقيقة وهو ما زال ممسكًا بيده فلم يسحبها ولم ينبسْ بكلمة ، ولقد توغّل أيضًا جاك في أعماق فهمان فوجد فيه النبوغ والتضحية والعطاء .
فلمّا طال بهما الأمر سحب كلٌّ يده .
وعزما على التعارف وبدأ فهمان بالكلام..
-أنا فهمان فطين المصريّ ، أودّ دراسة العلوم الفيزيائيّة .
-وأنا جاك ، سكت هنيهة ثمّ أعاد وزاد ..جاك الولايات المتحدة الأمريكيّة .
-أيّ مواد دراسيّة سوف تسجّلها .
-علوم فيزيائيّة .
-جيد جدًا .
-بالطبع كما وصفت ..وأرجو أن نتعاون معًا ما دامت ميولنا واحدة .
-وأنا كذلك ، أنا سعيد بزملاتك جاك ، ثمّ تمتمَ على استحياء..ماذا تعني جاك الولايات المتحدة الأمريكيّة ؟
-ألم يكن فهمان المصريّ هو ابن الفراعنة؟.
تثاءب جاك رغبة منه في إنهاء هذا الحديث ، وكان هناك سريران فخيّره قائلاً..أىّ السريريْن تحبُّ ؟
ركضا..بيد أنّ عينا فهمان لم تناما ..يفكّر في أبيه ماذا يفعل بعده ، كما يفكّر في هذا المهيب الذي يرقد على السرير الآخر.
سأله فهمان مجددًا..هل يسكن أبوك هنا في كاليفورنيا؟
-مات.
-رحمه الله ..وأمُّك ؟
-ماتت.
-رحمها الله.
-هل لك أقارب؟
-أمريكا ..
-وهل ال.....
لم يكملْ السؤال حيث سمع له صوت الغطيط ، فنظر فوجده يغطُّ في نومٍ عميق.
كابوس فهمان ..
رقدا ، ولم تجمع الحجرة جسديهما فحسب ، بل جمعت روحيهما من خلال كابوسين ظهر في ملامحهما تكليفًا برسالتين .
ورقدا أول نومة ، ورأيا عُجاباً .
أمّا فهمان فقد كان كابوسه مخيفًا .
رأى روحه بعد ثلاثة عشر عامًا من مستقبله تعبر سمًا كسمّ الخياط ، ثمّ طُرحت على طاولة ناريّة فخشي أن تحترق ، فضج صارخًا يستغيث ، فجاءته مخلوقات تبدو عليها علامات التقوى فأمنته وأسكنته ، بعدها ببضع سنوات ألقوا عليه نورًا لم يره من قبل فنهض وقام من مرضه ، ثمّ رأى آلهة كاذبة تستعبد البشر فتمنى عندها الموت فصرخ وخرّ ساجدًا .
كابوس جاك ...
وفي نفس التوقيت يحلم جاك بكابوسٍ هو الآخر .

إبراهيم امين مؤمن
08-30-2020, 10:07 PM
وفي نفس التوقيت يحلم جاك بكابوسٍ هو الآخر .
يري وحشًا بحجم الشمس ، ثمّ أخذ ينكمش على نفسه حتى أصبح مثل مدينة صغيرة ، ثمّ فتح منتصفه كأنّه فمه ، ثمّ سعى خلفه ليأكله ويأكل مَن حوله ، لكنه قرّر أن يباغته ليمزّقه مِن الداخل ، فجذبه فدخل بين فراغات أمعائه ومزّقها ، ولكن للأسف فقد كان يمزقه هو الآخر ، صرخ وما زال يصرخ حتى استيقظ صارخًا .
نظر تلقاء فهمان فوجده مستيقظاً لكنه كالمجنون ، يصيح أغيثوني أغيثوني .
اندفع إليه جاك فاعتراه فزع آخر غير فزعه ، انطلق يُهدّئ من روع فهمان ويهزّه من منكبيْه كأنّما يوقظه حتى يصمت .
فقال له فهمان معذرة أخي لعلّ صوتي أيقظك فزعًا .
ردَّ جاك .. أهو كابوس ؟
ردّ ..نعم.
فتعجّب جاك مِن تزامن كابوسيْن في أول لقاء يجمعه مع هذا العربيّ الخلوق ، وعندها علم جاك أنَّ هناك آصرة قويّة تجمع بينه وبين هذا الفتى .
في صباح اليوم التالي ذهبا معًا إلى المرشد الأكاديمي ، استفسرا عن نظام الدراسة فيها سواء الخاصة بالمواد الدراسية وسنة التخصص وعدد ساعات اليوم الدراسي الواحد و .. الخ .
فأجاب بالتفصيل ، وظل يتكلم ، ومن ضمن ما قال ..
العالم في حاجة إلى روّاد فضاء للبحث عن كوكبٍ يدعم الحياة ، فموارد الأرض على وشك الفناء خلال المئة سنة القادمة .
واستهلاك العالم لهذه الموارد فاق الحدّ ، كما أنّ الجنّ غدا يشاركنا طعامنا أكثر من ذي قبل .و ..
لم يسمع ولم يرَ جاكُ في المرشدَ الجامعيّ إلّا حركة شفتيه التي ما زالت تتحرك ، وكذلك فهمان ، فقالا في نفسيهما..يبدو أنّ هذا الرجل كان قسّاًَ .
مساء اليوم التالي ...
بعد لقائهما بالمرشد الاكاديميّ لم يضيّعا وقتهما ، حيث ذهب فهمان لشراء بعض الكتب في مجال الفيزياء الذريّة وأحدث المختبرات الحديثة مثل مصادم الهادرونات المستقبلي fcc-1 ووضعها على الأرض ، ثمّ نظر في الجدران فتفاجأ بوجود أرفف عليها ، لحظات وولج جاك الباب واعتلى سُلّمًا ليضع كُتبًا عليها ثمّ نزلَ وقالَ ..هذه كتب طائرةٌ فيها ما يحمينا مِن الفناء .
قرأتُ عنواناتها ، كلّها كتب تتكلم عن فيزياء الفلك والعلوم الفضائيّة .

في صباح اليوم التالي..
اجتمعَ رئيسُ الجامعة بالدوليين المتميزين فقط وكان منهم فهمان بالطبع وعرض عليهم قروضًا حسنة مقدمة مِن الحكومة الفيدراليّة على أن تسدّد أثناء عملهم في أمريكا ، وإذا اِرتأت أمريكا الاستغناء عن الطالب بعد تخرجه تنازلتْ عن الدين .

وتمرُّ الأيّام وألِفَ جاك فهمان وأحبّه .
وذات يوم ..فتح جاك الحاسوب الكبير في الحجرة المشتركة ، كتب في محرك البحث ..."رحلات الفضاء القمريّة"
شاهد فيها مجموعة من الروبوتات وهي تحمل أطنان مِن تربة القمر لاستخلاص هيليوم -3 في الأماكن المظللة منه ، شاهد كثيرًا مِن الروبوتات تتسلّق المصاعد الفضائيّة تندفع بشعاع من الليزر مِن الأرض ثمّ بعد ذلك تسير متّجهة إلى القمر مدفوعة من خلال الخلايا الشمسيّة النانويّة التي انتهى منها خبراء العالم منذ عدّة أيّام .
فضلاً عن تعبيد منطقة كبيرة عند خط الإستواء تمهيدًا لبناء محطة كبيرة من الألواح الشمسيّة النانويّة على أرضيّة القمر .
وذكرتْ وكالة ناسا أنّها لا تودّ عمْل محطة شمسيّة مداريّة فحسب بل تريد تثبيتها على أرض القمر .
وذكروا تقنية لنقل الطاقة الكهربائيّة مِن القمر إلى الأرض باستخدام المرايا .
رنَّ جرسُ هاتف فهمان ، نظر.. إنّه أبوه يطمئنُّ علي حاله .
خرج مِن الحجرة إلى الردهة العامة ، طمئنّ أبيه بالهمس ، ثمّ سأله عن حاله أيضًا فأجابه بأنّ كلّ شئ على ما يرام ، وأمره بأن يعتني بنفسه وأغلق الخطّ على الفور .
همس فهمان في نفسه قائلاً ..أعرف أنّك ما استطعتَ أن تسيطر على مشاعرك ، فلمّا كاد الدمع ينحدر مِن مقلتيْك دعوتَ لي وأغلقتَ الخطّ كي لا أسمعك .
ولقد صدق حدس فهمان فبمجرد أن أغلق الخطَّ لم يتمالك أبوه نفسه وأخذ يجهش بالبكاء وقال وهو يمسح الدمع من خديّه..كلّ شئ يهون في سبيلك يا مصر .
غاب ساعة يهيم على وجهه حزنًا على مشاعر أبيه التي احترقتْ وتضعضتْ مِن لهيب الغربة .
دلف فهمان باب الحجرة ودخل ، وبمجرد دخوله وجد جاك يتمتم بكلمات عن رحلة إلى أحد النجوم قائلاً ..هذه المحطة الشمسيّة من الممكن استغلال طاقتها في إطلاق شعاع ليزر من محطة ليزر تُبنى بجانبها .
والشعاع يدفع شراعًا شمسيًا بمسافات لا بأس بها ، لكن المشكلة أنّ الدفع سيكون في نهار القمر فقط حيث تتغذى الخلايا الشمسيّة على الشمس .
و ...
واستمر يحدّث نفسه وفهمان يسمعه ويحدّق في وجهه ، فلعب به الفضول وأعاد تشغيل الفيلم مِن جديد بعد أن استأذنه ، فدار بخلده بعد مشاهدته ما دار بخلد جاك أيضًا .
نظر إليه جاك وهو يفعل ذلك ، وبمجرد أن انتهى فهمان قال ..سوف تحتاج رحلتك هذه إلى جهاز شامل يدعم الحياة ، فحملق فيه جاك وحدّجه بقوة إعجابًا وحبّاً .
كلّ يوم يمرّ تزداد الآصرة بين جاك وفهمان حتى تخطتْ كلّ حواجز اختلاف الجنسيّة والديانة ، وما كان هذا التخطّي إلّا لصفاء قلبيْهما وعظمة بذلهما للغير فضلاً عن عبقريّتهما العلميّة.

إبراهيم امين مؤمن
09-06-2020, 03:10 PM
عبقريّتهما العلميّة..
الجزء الثاني عشر
حروب ضارية على موائد صناديق القمامة...
لم تمضِ بعد سوى بضعة أشهرٍعلى سفر فهمان ، وفطين في همٍّ متواصل ليل نهار، فالحرمان يهزّه ويفكك أوصاله على الدوام ، ويشعل قلبه حرقةً واشتياقًا .
حتى أنّ عيناه ذبلتْ ، وبدأ يفقد بعض قواه المعهودة .
وكثيرًا ما كان يجرفه الشوق إلى ولده فيتخذ قرارًا بالسفر إليه ، بيد أنَّ أعباء مصاريفه كانت بمنزلة قيدٍ يمنعه ويغلّ قدميه .
ولمْ يكن الحرمان هو الضارب على نفسه فقط ، بل الفاقة والذلة التي أحاطت بالعرب ، والخنوع الكاسح من الأنظمة العربيّة لنظيرتها الغربيّة مما يهدر كرامتهم وكرامة شعوبهم ، فضلاً عن الكارثة الكبرى وهي تسهيل الدعم اللوجستيّ والنفسيّ لانخراط المنظمة الصهيونيّة لتنخر في جسد دولة فلسطين .
وهنا ، هنا في الوادي الجديد تتجسّد كلّ مظاهر الفاقة والذلة أمام عينيه .
كثُرتْ صناديقُ القمامة وأصبحتْ تنتشر في جميع أنحاء الوادي الجديد لأنّها غدتْ الطعام الرئيس للغالبية العظمى من أهلها .
والصناديق رغم كثرتها فإنها لا تكفي حاجة أهلها من الغذاء فتسبّب ذلك في نشوب معارك فيما بينهم .
فاضطر النظام الحاكم وضْْع عساكر عليها حفاظًا على الأمن القوميّ من جهة ، ومن جهة أخرى كي لا يعتاد الشعبَ على البذخ والإسراف .
وللأسف جرت فيها الرشوة أيضًا فتحصّل من غذائها من لا يستحق وحُرم منها من يستحق .
ومن المضحكات المبكيات أنّ القطط والكلاب المحلّية أصابها الهزال من الجوع فقتل بعضهم بعضًا أثناء تسللهم خلسة من أجل الحصول على طعام هذه الصناديق .
ومن بعيد نشاهد كلبًا ثمينًا وقطة ثمينة أُستوردا من أمريكا وسويسرا ينظران إلى صناديق القمامة ، وبينما هم على ذلك إذ ألقى مالكهما قطعًا من اللحم البقريّ الطازج لهما .
فجرى إليها أحد أطفال الفقراء ليحوزها ، فرآه مالك الكلب والقطة فأقبل عليه غاضبًا وكاد يقتله لاتهامه بسرقة أموال الناس لولا أن أسرع أبوه وانتشله من أنيابه وفرّ به .
تناول الكلب الأجنبيّ قطع اللحم وأسرع بها إلى والد الطفل وألقاها بين يديه ، نظر إليه كلبٌ محليّ فحقد على الطفل فأراد أن يتسلّل خلسة ويأخذها منه.
وهذه الصناديق تمتلئ دومًا ببقايا طعام الأغنياء التي أخذت تتضخّم ثرواتهم بطريقة مذهلة ، وتمتلئ أيضًا من وحدات الكتائب العسكريّة المصريّة ، بينما نجد صورة مشرقة تطلّ من بعيد ، إنهم أعضاء المجلس العسكريّ الذين يعملون في الخفاء .
كانوا يعطون بعض الجنود طعامًا طازجًا ويقولون لهم ..اِذهبوا إلى صناديق القمامة بهذا الطعام واَعطوه لمن تجدونه هناك من أفراد الشعب .
وكان منهم وزير الدفاع واسمه مهديّ ، سمع الخبر ذات يوم فنام ليلته بلا عشاء لأنّه أرسله إليهم ، نام بلا عشاء لا من قلة القوت ولكن حزنًا وغمًا .
لم تكن كلّ هذه الصور القاتمة لتمرّ على فطين دون أن ينفعل معها ويتفاعل ويؤدّي دوره فيها كرجل وطنيّ من أبناء هذا الشعب .
لم يستطع فطين أن يفعل شيئًا تجاه ما يرى ، كلّ ما استطاع أن يفعله هو الذهاب إلى الصناديق بالمال الذي يتحصّل عليه ليلقيه فوق رءوسهم .
ولقد تحصّل على مالٍ كثير بعد أن رفْع سعر التذكرة التي يشتريها الأغنياء بطريقة مبالغة جدًا ، ومع هذا لم يُحجموا عن الإتيان إلى السيرك ومشاهدة العرض .
وفي هذه المحطة الهامة ألا وهي توزيع ماله على الفقراء وقعت الواقعة التي ليس لها من دون الله كاشفة إذْ....
تسرّب خبر فطين إلى نظام الدولة بأنّه يساعد الفقراء فوضعوه تحت المجهرحتى لا يمثل خطرًا على النظام ، فمن المعروف أنّ الخوف قد سيطر على الشعب فشلّ أركانه ، وفطين قد يشجعهم يومًا من أجل المطالبة بحقوقهم المهضومة .
وأمن الدولة ترى أن فطين توافرت فيه كل سُبل القيادة .

الجزء الثالث عشر
الدببة الروسيّة تقهقعُ على مفاتيح أبواب فلسطين..
مكتب رئيس الوزراء الإسرائيليّ إسحاق يعقوب..
هاتف يعقوبُ وزير دفاعه فحضر فورًا .
فأمره بالجلوس بعد أداء التحيّة العسكريّة فأبى أن يجلس .
-كلّمه يعقوب ..لِمَ لا تجلس ؟
-الوزير..ليس لدينا وقت للجلوس سيادة الرئيس .
-يعقوب ..استرحْ لتسمعْ .
-الوزير ..أنا لا أريد أن أتشبّه بالعرب سيادة الرئيس ، فهم دائمو الجلوس والكلام وأنا أريد الحركة والعمل .
-يعقوب ..صدقت وربّي يا وزير دفاعنا .
المهم ..هل أرسل وزير العلوم والتكنولوجيا الأجهزة الجديدة .
-الوزير ..منذ دقائق فقط .
-وهل انتهوا خبراء هيئة الصناعات العسكريّة من تجهيز الصواريخ ؟
-انتهوا منذ ساعات .
-هل جرّبتموها ؟
-جرّبناها ، تخترق القشرة الأرضيّة لأعماق ستدهشُ العالم .
-ممتاز ..وخبراء الجيولوجيا جاهزون ؟
-جاهزون .
-وخبراء هيئة الصناعات العسكريّة .
-جاهزون .
-وأفراد العمليّة ..جاهزون ، يتحرّقون شوقًا لأخذ ثأر إخوانهم الذين اُستشهدوا من قبل .
-والروبوتات ؟
-تستطيع أن تعمل بمفردها دون توجيه لأنّ عليها برنامج الاقتحام .
-اتصلْ بطيايري القوات الجويّة وابدأ التنفيذ فورًا..أنا منتظركم هناك .
-قال الوزير دهشًا ..معذرة سيادة الرئيس ..أين تودّ الذهاب ؟
-إلى المعسكر لشرْح عملية اقتحام النفق المراد اقتحامه بالصور ، بعدها مباشرة نذهب كلنا لمسرح العمليّة سيادة الوزير .
-أنت! أنتَ ! كيف ؟
-ألم تقلْ منذ دقائق أنّك لا تحبّ الجلوس ولا الكلام ؟ ألَا تحبّ لي ما تحبّ لنفسك ؟ هيّا فأنا لا أريد الكلام أيضًا..جهّزْ فريق الاقتحام والطيارين واسبقوني عند مركز العمليّات الحربيّة ، ثمّ نتّجه مباشرة إلى النفق لاقتحامه.
حضر الجمْع كلّهمُ وأُنيرتْ شاشة كبيرة ، وقف أمامها يعقوب إسحاق وأجلسهم أمامه ليبيّن شكل النفق المراد اقتحامه .
إنّها مجموعة صور استطاعوا الحصول عليها عن طريق أحد عيونهم .
بدأ يعقوبُ عرض الصور ، وكانت أول صورة ..
أمسك يعقوب عصا وأشار إلى الصورة قائلاً ..
هذا النفق يطلق عليه المغتصبون النفقَ العقرب ، أولئك الذين يسمّون أنفسهم اتحاد المقاومة الفلسطينيّة .
ولقد وصموه بذلك إشارة أنّ مَن يودّ مسّه بسوء لابدّ أن يُلدغ فيموت .
وهو أحد الأنفاق الرئيسة الهامة للمغتصبين ، وأشار إلي الجدران والأسقف قائلاً ..وكما ترون هذه الجدران والأسقف طبقات خرسانيّة مدعّمة بطبقات من الرصاص السميك .
ولكن لونها غريب وكأنّها مطليّة بمادة ما ..ولقد حاول رجالُنا معرفة سبب تغيّر لون جدرانها وأسقفها فلم يهتدوا لإجابة .
وعرضَ صورة أخرى ، أشار بعصاه عليها وقال ..هؤلاء قنّاصة على مداخل النفق ، تلك القنّاصة التي تستطيع أن تسقط عصفور من على شجرة على بعد نصف كيلومتر واحد .
وصورة مستقلة يظهر فيها شكل الكمائن والفخاخ فضلاً عن عشرات الألغام الأرضيّة .
ثمّ عرضَ صورة أخرى تبيّن شكله من الداخل ، وأشار عليها جميعًا بعصاه قائلاً ...
كما ترون أنّ طرقها معبّدة بصورة أشبه بشكل خيوط العنكبوت ، ولذلك فهي أنفاق عنكبوتيّة تؤديّ إلى متاهات ومهالك.
فهم عندما يأتونه لابدّ أن يكون معهم خريطة تبيّن لهم المكان المراد الوصول إليه أو المكوث فيه.
فيها أسلحة وذخائر، وجاسوسنا لم يستطعْ تحديد مكانها ، لكنّه قال لنا أنّه يرى عربات محملة بالأسلحة والذخائر تخرج منها ولا تعود ..وطبعًا يا سادة هذا معناه أنّ النفق فيه مصنع أسلحة .
وأنزل العصا وقال ..
ومثل هذه الأنفاق تُمثل حضارة كبيرة ، فهي مجهّزة بكلّ سُبل دعم الحياة من غذاء واتصالات وصناعة ، يا سادة ..المغتصبون يستطيعون أن يحيوا عشرات السنين في هذا النفق دون الاتصال بالخارج .
ومصدر خطورة هذا النفق وأمثاله أنّه يمثل مسرح العمليات الحربيّة ووضْع الخطط لباقي أفراد المقاومة كما يسمّون أنفسهم .
وفيه يتمّ تدريب الكوادر القتاليّة وتصديرها إلى باقي الأنفاق وخاصة ترحيل المدربين إلى سيناء .
كما أنّهم يطلقون صواريخهم منها مستهدفين مدننا التي يقطنها المدنيّون والعسكريّون على حدٍّ سواء.
إنّها يا سادة المجد الرئيس للإرهابيين ، ومصدر رعب لنا طوال قرنٍ كامل أو يزيد .
أقفلَ الشاشة ثمّ قال ساعة الصفر بعد لحظات ..علينا بالتحرك الآن ..توكلنا على الله ..وألقى العصا وتلثّم تأهّبًا لخوض الاقتحام .
الاقتحام ..

سيرين
09-06-2020, 07:25 PM
الرواية دلالاتها حداثية وتوظيف آلية الحوار بالجزء 13 أتى برؤية أدبية وتقنية عسكرية
من حزم وسرعة في إلقاء التعليمات والحركه
بوصلة الرواية تشير الى واقع معاش اجتهد كاتبنا في تجسيده ولمس سياسته فأحسها القاريء
حين اختار اسماء الاشخاص المرتبطة بالاسماء الحقيقية ولو بالقليل من التشابه
رواية دسمة تستدعي الكثير والكثير الى الذاكرة ممتعة حد إسقاطنا في سراديبها
لنواصل احداثها الرائعة والى اي شيء ستكون نهايتها
لا اخفيك كاتبنا المبدع من بدئها واطلاعي علي اجزاء منها واتساءل
ياترى الى اي نهاية ستنتهي لارتباطها بالواقع الذي مازال مفتوحا ام ستترك ايضا النهاية مفتوحة
تعرية الممارسات السياسية وارتباطها بالكثير من القضايا الدولية والعلمية أمر شائك
ليس بالامر االسهل إلا لقلم ارتقى بالابداع فكرا وجمالا متفردا بعيدا عن التقليدية في الطرح والتناول
امنياتي لحضرتك بالمزيد من التألق والفوز بالمسابقة لانها رواية تستحق فعلا
تحية وتقدير

\..:34:

إبراهيم امين مؤمن
09-07-2020, 02:01 PM
الرواية دلالاتها حداثية وتوظيف آلية الحوار بالجزء 13 أتى برؤية أدبية وتقنية عسكرية
من حزم وسرعة في إلقاء التعليمات والحركه
بوصلة الرواية تشير الى واقع معاش اجتهد كاتبنا في تجسيده ولمس سياسته فأحسها القاريء
حين اختار اسماء الاشخاص المرتبطة بالاسماء الحقيقية ولو بالقليل من التشابه
رواية دسمة تستدعي الكثير والكثير الى الذاكرة ممتعة حد إسقاطنا في سراديبها
لنواصل احداثها الرائعة والى اي شيء ستكون نهايتها
لا اخفيك كاتبنا المبدع من بدئها واطلاعي علي اجزاء منها واتساءل
ياترى الى اي نهاية ستنتهي لارتباطها بالواقع الذي مازال مفتوحا ام ستترك ايضا النهاية مفتوحة
تعرية الممارسات السياسية وارتباطها بالكثير من القضايا الدولية والعلمية أمر شائك
ليس بالامر االسهل إلا لقلم ارتقى بالابداع فكرا وجمالا متفردا بعيدا عن التقليدية في الطرح والتناول
امنياتي لحضرتك بالمزيد من التألق والفوز بالمسابقة لانها رواية تستحق فعلا
تحية وتقدير

\..:34:
===============
شكرا استاذة على حضورك ... كان غرضي من طلبي هو استخراج جمل مبتذلة مثلا او اعطاء نصيحة واهم من ذلك كله الاسلوب .. الاسلوب ... من وجهة نظري انا واعوذ بالله من كلمة انا ان الاسلوب ينقسم الى أربعة اقسام
اولهما الركيك : ومن يتبع هذا الاسلوب لا يصلح روائيا. وما زال لديه الكثير والكثير لكي يكتب جملة جيدة.
ثانيهما : المختلط بين الجيد والركيك : وهذا من الممكن ان يسرد رواية، ومع مزيد من الجهد قد يتحسن اسلوبه ( وانا اصنف نفسي من هذا النوع).
ثالثهما: الجيد : ومن وجهة نظري أن أكثر من 95% من الروائيين الذين لهم اصدارات في السوق يتمتعون بالسرد الجيد.
رابعهما : البليغ : وهذا هو مبتغاي انا شخصيا، ولا مجال للكتابة لدي الا بذلك ، وان عجزت أن اصل الى هذا الاسلوب فلن اكتب لسبب بسيط جدا ان الادب لا يأكل عيش الا في حالة التفرد في الاسلوب.
===============
محاولة عملية للوصول الى( رابعهما)..
في الرواية الجديدة (طواغيت كوكب الكيميرا) حاولت أن ارتقي باالاسلوب بقدر المستطاع حتى انى راجعت الرواية لغويا فقط اكثر من اربع مرات (قرابة شهرين متواصلين) وانا متاكد ان الاسلوب في حالة تقدم ويبقى السؤال الصعب : هل ارتقى الاسلوب من ثانيهما الى رابعهما ؟ الاجابة : لا اظن الا اذا استعنت باهل الخبرة مع المزيد من الجهد ( 8 ساعات يوميا على مدار شهرين اخريين).
استاذة سيرين : الرواية الجديدة ممنوع نشرها او نشر مقاطع منها لاني قد ارسلها في إحدى المسابقات تحت بند الروايات غير المنشورة. وعلى ذلك فارجو مساعدتك.

وجه المساعدة : ارجو ان ارسل لك مقطعا او مقطعين من الرواية الجديدة وان تدققي في الاسلوب ، اسلوب السرد فقط وان تردى علىّ حتى لو بعد حين ..
لا ينفع المنتدى الا في الرسائل فقط ، ولو الرسائل ظهرت فلا يصلح ايضا ..
والسلام مني ومن الله اليك وباقي اهلك اجمعين

إبراهيم امين مؤمن
09-12-2020, 07:22 AM
الاقتحام ..
تقدّم يعقوبُ ومعه فريق الاقتحام السالف الذكر ، تصحبه مجموعة من الكلاب المدرّبة وقنّاصين ومقاتلين تدرّبوا خِصيصًا للضرب تحت الأرض ، بالإضافة إلى خبراء كشْف الألغام وربوتات ، كلُّ هؤلاء سيكونون على تواصلٍ مستمر بمجموعة من الطيارين الذين يحلّقون بالقرب منهم .
الطائرات تحمل الصواريخ المجهّزة خصيصًا لاختراق القشرة الأرضيّة وهدْم الطبقات الخرسانيّة والرصاص الذي يغطي أسطح وجدران الأنفاق العسكريّة.
حتى إذا رصد فريق الاقتحام النفق الهدف الذي بيّنه يعقوب في الصور قاموا بتحديد الإحداثيات وأرسلوها إلى هذه الطائرات ، عندئذٍ يقذفونه بصواريخهم .
تقدّم فريقُ البحث أولاً ويشمل الجيولوجيون والمهندسون لتحديد موقع النفق ، فتحديد الموقع ليس بالأمر الهين رغم أنّ أحد جواسيسهم ولجه من قبل ، كما أنّ هناك مداخل ومخارج وهميّة تؤدي إلى متاهات أو ألغام .
وبعد بحثٍ مضنٍ استطاعتْ أجهزة الاستشعار أن ترسل بيانات منها ، وبتحليلها تبيّن وجود إرهابيين فيها .
وبتسليط أجهزة الزلازل الدقيقة تمّ رصْد بعض الاهتزازات مما يدلّ على وجود حركة .
وهنا جاء دور الروبوتات المصممة للكشف عن الخطوط والمنحنيات عن بُعد ، وهذه مدونة على شريحة الروبوت ، فإذا رصدها ترسل هذه الروبوتات إشارة لها صوتًا خاصًا ، يعبر هذا الصوت عن وجود بشر .
وبالفعل أرسلت الروبوتات إشارتها التي تثبت وجودهم في هذه المنطقة .
جاء الآن دور الكلاب ..تسير الروبوتات إلى الأمام تتبعها الكلاب ، الروبوتات تسير في اتجاه الخطوط والمنحنيات التي تدلل على وجود بشر ومن خلفها الكلاب البوليسيّة .
ظلّت الروبوتات تسير وخلفها الكلاب ويعقوب إسحاق الملثّم وباقي الفريق لمسافة بلغتْ أكثر من عشرة كيلومتر، وقد واجه الفريق عدة ألغام ومتفجرات في طريقهم خلال هذه المسافة بيد أنّ الكلاب البوليسيّة كانت تشير إلى أماكن وجودها فيتحاشوها ويمضون بعيدًا عنها .
والتواصل مستمر من الجوّ ، فالطائرات تتواصل مع فريق الاقتحام .
بدأتْ تظهر أمام يعقوب بعض أبواب الأنفاق ، يحرسها قنّاصون مهرة ، يتوارون خلف جدران سميكة من الرصاص منتصبة أمام الأبواب .
فأمر فريق الاقتحام بتعين إحداثيات الموقع وإرسالها إلى الطائرات حتى يؤدّون دورهم ، أرسلت الروبوتات الإحداثيات إليها ، ثمّ أمر يعقوب إسحاق الفريقَ كلّه بالتراجع بعدها مباشرة بمسافة تسمح لهم بمعاودة المكان فضلاً عن بُعدها عن قناصة العدو وصواريخهم .
لم يشعر للأسف مَن في النفق بحركة يعقوب إسحاق ورجاله.
صُوبت الصواريخُ إلى موضع الإحداثيات ثمّ أطلقها الطيارون على الفور ، فاخترقتْ قشرة النفق الأرضيّة والتي تبلغ سمكها نحو عشرة أمتار ، ثمّ اصطدمت بأسقف وجدران النفق ..وهنا المفاجأة ..
أحدثتْ هزّات عنيفة هرع على إثرها مَن بالداخل ، وأُطلقت سفارات الإنذار، وتأهّبتْ القنّاصة وباقي رجال النفق للقتال ، أُنيرت الكواشف الخارجيّة وتمّ رصْد فريق الاقتحام من بعيد ، بعيد جدًا ، تمّ الرصد من خلال ثقوب موجودة في النفق .
أطلق رجالُ المقاومة بعض العبوّات الناسفة والرصاص والمدافع نحو فريق الاقتحام ، بيد أنّ كلّ هذا لم يصل بسبب البُعد الشديد من الثقوب .
أمر قائد النفق أفراد الاتحاد بألّا يخروجوا لعمل هجوم مضاد ، وقال لهم اُمكثوا جميعًا في أماكنكم .
وكلّ هذا وما زالتْ الروبوتات ترسل إشارتها بقذْف المزيد من الصواريخ ، إذ أنّ النفق لم يتهدّمْ منه شيئًا .
تعجّبَ يعقوبُ إسحاق جدًا ، فاقترب نحوه وحده غير مبالٍ بالخطر الذي قد يدركه ويصحبه فقط أحد الكلاب ، وقام بتصوير الصواريخ الساقطة على جدران النفق فوجد عجبًا ..
وجدها تصطدم بالأسقف ثمّ تسقط ذائبة على الأرض على هيئة شُهب من النار ثمّ تتطاير دُخانًا كثيفًا ، فقال صارخًا يا أولاد الكلب والزواني ، ثمّ تقهقر للوراء وأمر الطيارين بالتوقف عن الإطلاق وانسحاب كلّ الفريق من الموقع ، وذاك لأنّ الخطة مبنية على هدْم النفق ثمّ الهجوم وتصفية أفراده وأخْذ الأسلحة التي بداخله وتحميلها على العربات المدرّعة التي معهم .
بعدها أرسلتْ إشارة مشيفرة من قائد النفق إلى باقي الأنفاق مفادها أنّ النفق تمّ ضرْبه بأكثر من عشرين صاروخًا بوساطة الطائرات فأحدثت بعض التصدّعات فيه نتيجة الهزّات الشديدة ، تصدّعات من الداخل فقط ، وعلّل ذلك بأنّ الجدران والأسقف الخارجيّة محاطة بدرع الإله وهي حقول القوى الروسيّة ، بينما من الداخل فهي ذات ترسانة خرسانيّة رصاصيّة فقط .
وصل الخبر بالطبع إلى مؤيد وكان جالسًا مع بروفيسور بيتر حينها ، فضحكا معًا ، ثمّ قال البروفيسور الذي لم يكفّ عن الضحك ..والله إنّ تقهقع الدبِّ الروسيّ أسكتَ نهيق الحمار الأمريكيّ .
بينما كان يجلس عبد الشهيد قائد النفق صامتًا ، حتى إذا كفّوا عن الضحك والكلام قال ..
علام تضحك يا أبتِ ؟ ..موجهًا كلامه لمؤيد ..ثمّ نظر إلى بيتر وقال له ..وأنتَ كذلك يا جدي .
ألَا تعلمان أنّ وصولهم للنفق كارثة وإن قُتلناهم جميعًا..معنى ذلك أنّ معهم أجهزة متقدمة ستمكّنهم من رصْد الأنفاق ومحاصرتها سنوات فلا يخرج أحد من النفق ولا يدخل إليه فيهلك كلَّ مَن فيها ..وأنتم تعلمون أنّ كثيرًا من الأنفاق الرئيسة غير داعمة للحياة على المدى البعيد ، فسكت الجميع ، مضى بيتر إلى فراشه حزينًا ، بينما مؤيد فبمجرد سماعه لكلمة عبد الشهيد لم يستطع القيام ، تقلّب مزاجه وذهبت الدماء من وجهه ، ارتطمت أسنانه نتيجة الرعشة التي ألمت بكلّ أوصاله

إبراهيم امين مؤمن
09-19-2020, 05:22 AM
ألمت بكلّ أوصاله
وظلّ مؤيد مذ هذه اللحظة مثقل بالخوف والهموم .
الجزء الرابع عشر
النظر الأمنيّ في حالتي فهمان وجاك..
اشتدّتْ العلاقة بين فهماك وجاك أكثر وأكثر مِن طول الأُنسة ، فضلاً عن توازي خُلقيهما وعبقريتيهما المنقطعتي النظير ، هذا التوازي كان أكبر عامل محفز لتغلغل كلّ منهما في الآخر .
أمّا داخل المحاضرات فكان شأنهما عجبًا ، كانا كثيرًا ما يتناقشان مع مدرسي المادة الفيزيائيّة بخصوص نظرياتها الشائكة ويطرحان حلولاً جديدة ، كلّ هذا على الرغم أنّهما ما زالا في الفرقة الأولى ممّا ينمّ عن وجود مخزون إبداعي داخلي لكلّ منهما ليس له علاقة بالتحصيل والمعرفة .
وفي شأن الأبحاث ، فكانا يقدمان أبحاثهما إلى أستاذ الفيزياء ، وعندما يطّلع عليها يجد عجبًا ..بحثين عبارة عن رسالتي ماجستير تستحقان منح صاحبيها درجة امتياز.
استنادًا إلى ذلك فقد ذاع صيتهما في الجامعة كلّها ، وعلى ذلك تمّ عمل تقرير عنهما ورفعه مباشرة إلى رئيس الجامعة والذي بدوره رفعه إلى وحدة السي آي أي دون أن يقرأها ، كل هذا من أجل الحفاظ على الأمن القومي الأمريكيّ .
اهتمتْ السي آي أي بالأمر ووضعتْ الطالبين تحت المجهر ، وكان لابدّ مِن ذلك حيث أنّهم ما زالوا يتحسّرون على بيتر الذي أخذه عالم الفندق المصريّ وسافر به إلى مصر ومن ثَمّ اختفى ولمْ يظهر له أيّ أثر .
مرت أيام ، بعدها دخل علي رئيس الجامعة بروفيسور فيزياء أمريكيّ ، وكان وطنيّاً حتى النخاع وصديقًا لبرفيسور بيتر ، قال له أخشى أن يسافر جاك إلى مصر كما سافر بيتر ، فأثار ذلك حفيظة رئيس الجامعة ، فأرسل لإحضار نسخة من التقرير ليقرأه .
فلمّا أتاه فتحه وظلّت عيناه تقتحمان الكلمات ، سمفونية عُزفت من رحم الابتكار وليست من نتاج التحصيل والمعرفة .
وانتقل إلى جانب آخر، وهو العلاقة الحميمة بينهما ، وحال قراءته لهذه العلاقة تذكّر بالفعل العلاقة التي جمعتْ بين عالم الروبوتات المصريّ وبروفيسور بيتر والتي مِن نتاجها نزل الأخير مصرَ ثمّ اختفى .
وظلّ يقرأ ويقرأ حتى رنّ جرس هاتفه ، إنّه رئيس مخابرات السي آي أي ، أخبره في المهاتفة أنْ يستميل الفتى المصريّ نحوه ويتقرّب إليه ويعرض عليه قرضًا حسنًا لنفقات تعليمه مرورًا مِن الآن وحتى تحضير الدكتوراة ، وأغلق الهاتف على الفور .
ثمّ همسَ لنفسه ..يبدو أنّ العالم مقبل على مرحلة جديدة يكون فيها هذان الفتيان محورا ارتكاز لموازين القوى العالميّة .
ثمّ حمدَ الربَّ أنّ جاك أحد الطالبين .
وأمسك بالتقرير مرّة أخرى .

إبراهيم امين مؤمن
09-19-2020, 05:23 AM
حريق جامعة بيركلي..
خرج جاك للتنزه في حديقة الجامعة .
بينما ما زال رئيس الجامعة بمكتبه يقرأ التقرير ويتدبّر فيه .
أمّا فهمان ففي المسكن يبتكر خلية صماميّة .
جلس جاك ينظر إلى الحديقة ليتمتع بمنظرها الخلّاب ، ويصغى بأذنيه ليسمع صوت العنادل ، فقال همسًا..يا ليت قُبح أهل الدنيا ينقلب جمالاً مثل جمال هذه العنادل ، ويا ليت عواء البشر وفحيحها يتحولان إلى طرب جميل مثل صوتها.
رفع بصره إلى السماء فوجدها ملآنة بالغمام وقتئذ ٍفقال كلمة واحدة "الحياة " إلا أنّه شعر بانقباض في قلبه لم يدرِ سببًا له .
وبينما هو يتحسّر على حال العالم رآه أحد زملائه فناداه مِن داخل سيارته ، وأشار بيده ليأتيه من أجل القيام برحلة طائرة بها .
يحبُّ رؤية جاك وهو يقودها لأنّه يقوم بعمل حركات بهلوانيّة رهيبة أشبه بالمعجزات .
فإنّه يقود السيارة بأقصى سرعة ، وعلى الرغم أنّ المسار الجويّ مزدحم دائمًا إلا أنّه كان يجتازه دون أي اصطدام يُذكر .
ركبها وحلّق بها مرتفعًا إلى علوٍّ لم يبلغه أحد قبله ، فأصبح يحلق بين الطيور ، فالتقط أحدها وقبّله ثمّ طيّره مرّة أخرى ، وبذا فقد نال الطيرُ شرف تقبيله .
واستمرَّ في التحليق مرتفعًا حتى ظنّ المشاهدون أنّه كاد يلامس السحاب ، وذهب عن الوعيّ فجأة فقضى لحظات حالمًا ، حيث لاحَ له ولأوّل مرّة جنود مِن الصفيح ألسنتها وسائر أعضائها منه أيضًا .
كانوا مدججي السلاح ، مستنّفرين ، مُردفين ، قاصدين استعمار الأرض أو كأنّهم ، تحاول أن تخترق البُعد الذي يوصّلهم إلى الأرض وكانوا يشيرون إليه ليكون دليلهم فأبى ، واخترقهم هو ، قاتلتهم ولكنّهم رموه عن قوسٍ واحدة..ربّاه ، أين أنا ؟.
هكذا رأى المشهد بين النائم واليقظان ولم ينتبه مِن غفوته إلّا بعد أن وجد نفسه على الأرض والنّاس يفرّون مذعورين من أمام السيّارة .
خرجَ جاك مِن السيّارة مرتعدًا لما رآه ، فكّر فلمْ يستطع تفسير الحدث ، ولكنّه على كلّ الأحوال كان حدثًا مؤلمًا .
وبعد الانتهاء مِن عرضه المثير عاد قافلاً إلى منتزهِهِ مرّة أخرى لكنّ جسده يرتجف .
وما زال رئيس الجامعة في مكتبه يتدبّر في أمره وكذا أمر نديمه فهمان ، ويُحدّث نفسه بشأنيهما ، وتدور بخلده بعض الأفكار مثل محاولة استمالة الطالب فهمان إليه .
أمّا فهمان الآن ففي حجرته يكمل صنْع الخلية الصماميّة ، فكان يطرح أكياسًا مغلقة بداخلها معدن قلوي على طاولة الحجرة ، وكذلك طرح بعض الأدوات التي يحاول منها صُنع خليّة الصمام ، بدأ في هذا الابتكار منذ أيّام والآن يحاول إنهاءه.
وهكذا فإنّا نرى توافقًا زمنيًا بين أفعال الثلاثة ألا وهما جاك وفهمان ورئيس الجامعة .
لمح جاكُ عن بُعد البستانيّ يسقي أحد الأشجار، ما لفت نظره أنّها تطلُّ على إحدى شرفات مختبرات الجامعة .
أسرع إليّه جاك وقال له بغضبٍ وصوتٍ عال ..اجتثْ هذه الشجرة يا رجل .
فتعجّب البستانيُّ مِن شأن الفتى قائلاً..ما لك أنت والشجرة أيّها الفتى الأرعن ؟.
فقال جاك ..يا رجل وجود شجرة تطلُّ على مختبر علميّ أمر خطير ، فقد تُحدِث كارثة !.

إبراهيم امين مؤمن
10-04-2020, 12:52 AM
ثمّ سأل نفسه كيف لمْ أرها إلّا اليوم !جاك لابدَّ أن تنتبه أكثر مِن ذلك .
وكان البستانيَّ أيضًا يحدّث نفسه ويقول إنَّ هذا الفتى جاهل وسئ الخلق .
وعلى الفور قال له.. أأنت أعلم من الجامعة كلّها يا أحمق ؟ اذهبْ عليك اللعنة .
لم يتمالك جاك نفسه وهمّ بضربه ولكن سرعان ما تذكّر أنّه وجّه نصيحته إلى الوجهة الخطأ ، فكظم قبضة يده وأرخاها تحت غيم الكظيم .
وقرّر أن يكلّم رئيس الجامعة بشأن الشجرة غدًا ، ثمّ اتّجه قافلاً إلى المسكن .
دخل جاك على فهمان الذي أنهى اختراعه منذ لحظات فقط .
استلقى جاك على سريره وتوجّه بنظره تلقاء فهمان يتأمّل في قسمات وجهه الأليفة ، كما يتأمل في الأكياس التي على الطاولة .
والعجيب أنّ فهمان نفسه لم يشعر بلحظة دخول جاك أصلاً ، فهو لم يدرك إلّا ما كتّل له كلّ محسوساته وهو صنْع خليّة صمام تلك التي أنهاها منذ لحظات وهمَّ بها ليجربّها .
فجأة وقع أحدُ الأكياس المغلقة على الأرض وتمزّق وخرج ما فيه من محتوى وتدحرج متواريًا تحت السرير .
أحسَّ جاك بالاختناق فهبّ منتفضًا على الرغم أنّ أبواب وشرفات الحجرة مغلقة تمامًا ، أي لم يأتها أىّ دخان خانق من خارجها ، فصرخ في فهمان وقال له ألم تجد المحتوى بعد ؟
ثمّ جرى إلى باب الحجرة ونافذتها ففتحهما ، فقلّ الاختناق ولكنّه ما زال مستمرًا .
ثمّ أعاد القول مرّة أخرى..أوجده وأغلقه .
فلمّا أمسكه فهمان ووضعه في كيس آخر تجدّد الهواء كما كان مرّة أخرى ، ثمّ قام جاك وأغلق الباب والنافذة .
تعجّب فهمان وكان في قمّة الدهشة لِما وصل إليه جاك مِن ردّ فعله ، ثمّ سأله ما الذي أعلمك أن سبب الاختناق هو المحتوى الذي كان بداخل الكيس .
ردّ جاك..لم يحدث الاختناق إلّا بعد أن وقع الكيس وتمزّق ، هذا الكيس يا صديقي به معدن يمتصُّ الأكسجين من الجوّ ، فلمّا ثُقب أدّى المعدن عمله على أكمل وجه.
فقال فهمان ..أتعرف ما في هذا الكيس؟
رد ّ..مِن أين أتيت بهذا المعدن يا صديقي ؟ إنّه نادر جدًا.
تعجب فهمان من قوله "إنّه نادر جداً " ثمّ سأله أتعرفه ، مَن أعلمك بحيازتي له ؟
ردّ جاك ..سرعة الاختناق تدلّ على أنّه معدن الكوبالت مضافًا إليه بعض المركبات ، إنّها بللورات ملحيّة مازة قادرة على تفريغ أكسجين الحجرة في ثوانٍ معدودة ، إنّه ثقب أسود للأكسجين فقط .
*وأثناء الحوار ازداد الجوّ سوءًا بالخارج ، فقد ظهرتْ سحب كثيفة جدًا في السماء تُنذر الأرض بقصف رعدٍ وحشيّ .
قال فهمان ..هل ترى هذه الخليّة الصماميّة التي بيدي ؟
ردّ ..ما عملها ؟
قال ..الخليّة الصماميّة عبارة عن قناة تحتوي على مركب يقوم بسحب مركب الأكسدة الأوّل المتراكم على البللورات ثمّ يتطاير في الهواء .
قال جاك ..كمْ معك مِن هذه الأكياس الآن ؟
ردّ .. مئة وسبعة عشر كيس وها هي صماماتهم سوف أركبها .
قال جاك ..مبارك لك صديقي..اختراعك سوف يوفّر بعض حاجة روّاد الفضاء من الأكسجين ، حيث من الممكن تركب على البذلة الفضائيّة لتمتص الأكسجين إلى داخلها .
ورعدتْ السماء بشدّة وتزايد رعدها وتوالى القصْفُ واحدًا تلو الآخر ، وغدت الرياح تقتلع بعض الأشجار ذات الجذور الصغيرة .
سمع جاك رعد السماء فتذكّر الشجرة ، فقطع حديثه مع فهمان وعزم على الذهاب إليها وقطْعها على الفور .
وتبادر إلى سمعه ومخيّلته حفيفها الشديد فتفجّع أكثر وأكثر، ثمّ قال إنّها الآن شجرة شيطانيّة .
ووقعتْ الواقعة ، فقبل خروجه سمع أبواق إنذارات الحريق تُطلَق في كلِّ مكان من الجامعة .
خرج جاك وفهمان على الفور إلى الردهة المؤديّة لكلّ حجرات المسكن ، وكان فيها لوحة تحكّم أنظمة الاحتراق والمتصلة بطريقة مباشرة مع باقي لوحات التحكم الموجودة في الجامعة كلّها ، إنّها مِن النوع المعنون ، وفيها وجد رقم لوحة تحكّم ، هذه اللوحة الأخرى تعطي أجهزة استشعارتها إنذارت الحريق ومدوّن عليها إسم المكان ومحتوياته ..قرأها جاك وعلم مكان الاحتراق ، وقد صدق ظنه فقد نشب الحريق في المختبر الذي تطلّ عليه الشجرة ، فعلم أنَّ المحذور قد وقع ، وأنَّ العاصفة الرعديّة قد اخترقت الشجرة فشبَّ فيها الاحتراق نتيجة الأكسدة ، وأحرقتْ معها المختبر وسرتْ النار تعدو في المبنى كلِّه .
على الفور طلب من فهمان إحضار الأكياس وخلايا الصمامات التي صنعها ، أسرع فهمان داخل الحجرة وأخرج البللورات الملحيّة المازة من الأكياس ووضعها على الفور في خلايا الصمامات ثمّ وضعهم جميعًا في شوال وحملها ، فلمّا خرج من الحجرة متّجهًا إلى الباب الرئيس وجد جاك منتظره في سيارة يلوّح بيده ليستحثّه على الإسراع ، تلك السيارة اقتحمها منذ دقائق معدودة ، ونتيجة ذلك أعطت أجهزة استشعاراتها إنذرات صاخبة ، وتمّ نقل الفعل على هاتف صاحبها وبيته .
ركبَ فهمان السيّارة مع جاك وما زالتْ تزأر ، طار بها جاك متّجهًا إلى مكان الحريق .
وفي طريقهما شاهدا الطلبة والأساتذة يهرعون مبتعدين عن مصدر الحريق ، يصرخون متفجعين ، بينما ألسنة اللهب ترسل دخانها إلى أسفل السحاب .
ومن داخل مكتب رئيس الجامعة نجده سمع السرايين التي أُرسلت مِن لوحة تحكّم مكتبه ، فألقى الملف من يده وخرج هلعًا لينظر الحدث ، فشاهد ألسنة النيران ترتفع وتكاد تلتهم الجامعة ، وسمع سرايين سيارات الإطفاء التي تسد الآذان .
*على الفور تحركتْ طائرة الإطفاء الأمريكيّة العملاقة متجهة إلى المختبر المراد ، بينما بدأت سيارات الإطفاء تدخل بيركلي من الباب الرئيس مطلقة أبواق إنذاراتها.
*وجاك وفهمان على بعد مئات الأمتار مِن مكان الاحتراق ، النار التهمتْ المختبر فانفجّر وامتدتْ ألسنته إلى المختبرات المجاورة ، وبدأت النيران ترتفع عاليًا فحالات الأكسدة في أشدّها .
ارتفع جاك بالسيّارة إلى أعلى وأحاط بالمكان إحاطة السوار بالمعصم ، وظلَّ يدورحولها بأسرع مِن دوران الصقر ، و يُحصي نيرانها كأنّه يحبسها خلف جدران عازلة ، وفهمان يرمي بالخلايا الصماميّة على مواضع الأكسدة ، يدور جاك بسرعة البرق ويرمي فهمان بحكمة وحنكة منقطعة النظير .
يلقي تلك الخلايا الصماميّة التي تأكل الأكسجين من الجوِّ بوساطة البللورات المازة ، تسحب الأكسجين ولا تشبع أبدًا ، ولا تسمح الصمامات بخروجها .

إبراهيم امين مؤمن
07-17-2021, 04:45 AM
وحضرتْ طائرة الإطفاء الأمريكيّة، وشاهدت -وسط سحب كثيفة وتملأ السماء- سيارة جاك فلم تكترث لها، امتدت ببصرها إلى الأسفل فشاهدت عجز سيارات الإطفاء عن احتواء الموقف. وبدأت الاستعداد لإطفائها؛ أثناء هذه اللحظة بدأت النيران تخف شيئًا فشيئًا -وذاك لأن الخلايا الصمامية قد استمكنت من وقف عمليات الأكسدة- فانشغلت الطائرة بسيارة جاك؛ فقد أهملت عملها بعد أن سحر جاك قائد الطائرة بمعجزته الخالدة.
فلمّا همّت بإلقاء مواد إطفائها وجدت النار قد انطفأت ولم يبق منها إلّا الرماد والدخان الذي ما زال يتحرك في الهواء. خطفَ أحدُ سائقي سيارات الإطفاء الهاتفَ مِن أحد الصحفيين الذين صوروا الحادثة بفضولٍ جامحٍ ونظر في المشهد، فتسمر مكانه بعد أن شاهد تلك المعجزة.

قال جاك لفهمان وهو يدور حول مواضع الأكسدة التي هدأت: «نكتفي بهذا القدر يا صديقي.»
وهبط جاك بالسيارة التي لم تكف بعد عن إطلاق أبواب إنذاراتها.
أما رئيس الجامعة، فقد شدته من بين كل هذه الأحداث براعة السيارة الطائرة وقدرتها الخارقة على إطفاء حريق عجزت عن إطفائها عشرات سيارات الإطفاء. سعى إلى السيارة مسرعًا، وحال وصوله إليها كان جاك يفتح بابها فالتقوا ثلاثتهم. نظر فيهما، فتأكد له أنهما الطالبين الذين كان يقرأ ملفهما منذ قليل، فقال لهما: «أنتما! تعالا معي.» وفي طريقهم إلى المكتب سألهما: «من أنتما! أقصد ممن أنتما!أقصد هل أنتما مثلنا بشر؟!»
ردَّ فهمان: «أنا فهمان وهذا أخي وصديقي جاك.»
وفور وصولهما أعادا عليهما السؤال السابق لدهشته: «مَن أنتما ! أقصد ممن أنتما ! أقصد هل أنتما مثلنا بشر!»
أعطى فهمان كارتًا مدوّن فيه هاتفه الشخصيِّ وقال له: «يا فتى، كُن على اتصال بي في أىّ وقتٍ تريد، يا فتى، اعتبرني أهلك.» وحدّث نفسه قائلاً خسارة: «كنت أودُّ أن تكون أمريكيًا.»
قال جاك: «هل لنا أن ننصرف يا بروفيسور.»
- «تنصرفا قبل الترحيب!» ثم سارع نحو فهمان مرة أخرى وقال: «يا فتى، لقد قررتْ الجامعة منذ عدّة ساعات أن تتكفّلَ بنفقات دراستك بقرضٍ حسن، فما رأيك؟»
نظر فهمان إلى جاك ولمْ ينبس بكلمةٍ، بينما سرح جاك بخياله -وهو السياسيُّ المحنّك- إذ يعلم أنّ عرضًا كهذا غرضه ضمان ولاء فهمان لأمريكا بعد التخرج والعمل على أرضها. وفي تلك اللحظة طرق حارس الأمن الباب، وأخبر رئيس الجامعة بأن بالشرطة بالخارج.
قال الشرطي: «معنا بلاغ مِن أحد طلاب الجامعة ضدّ المدعو فهمان فطين المصريّ بالتعدّي عليه، وسرقة سيارته بالإكراه، وإحداث أضرار بالغة فيها.»
دهش جاك وقطّب غاضبًا وقال: «دعوه ولا يمسّه أحدٌ بسوء، وأنا سوف آتي به إلى القسم.»
ردّ الضابط: «ابتعدْ أنت أيّها الفتى، لا شأن لك بالأمر.»
اربدّ وجه جاك مِن الغضب، ثمّ أخذ يهدر كهدير الرعد، وكوّر قبضته، ووثب على الضابط فلكزه في صدره لكزه طرحته أرضًا وهو يصرخ: «لا يملك أحد في الكون كلّه القول لجاك الولايات المتحدة الأمريكيّة ابتعدْ، لا شأن لك بالأمر، بل الشأن كلّه لي.»
أحاط به أفراد الشرطة وأمسكوه مِن ذراعيّه. فانتفض رئيس الجامعة قائلا: «اتركوه.» ثم أخذ جاك من بين أيديهم وقال: «هدئ من روعك يا جاك يا ولدي، لن أترك صديقك فهو ولدي أيضًا.»
ردّ جاك: «لمّا يتعرّض أحد للظلم فلجاك الشأن كلّ الشأن، ومَن! صديقي! لا أملك من الدنيا سواه.»
وسحبت الشرطة فهمان بينما فهمان ينظر إلى صديقه مسرورًا لقوله السابق.

إبراهيم امين مؤمن
07-21-2021, 10:31 AM
حكمة: الثعلب يترصّد أمام الحظيرة
دخل فهمان على وكيل النيابة، أبلغه الوكيل أنّه متهم بالتعدّي على المدعو إسرائيل، وإتلاف سيّارته الطائرة بعد سرقتها بالإكراه.
فصمت فهمان ولم ينبس بكلمة. وكان صمته عبارة عن خوف ممزوج بالدهشة مما ألجم لسانه فلمْ يجد ما يقوله.
وكان إسرائيل صاحب البلاغ جالسًا واضعًا أحد قدميّه على الأخرى أمام وكيل النيابة، ويلوك في فمه شيئًا، ويرتدي نظّارة -هي إحدى نظارات جوجل التي تنقل الواقع الافتراضي- وعلى الطرف الآخر نجد الذعر يملأ قلب فهمان، ووكيل النيابة يتأهب لفتح التحقيق.
لحظات وقدِمَ جاك ودخل المكتب وقال: «أنا الذي أخذت سيارة هذا الرجل وكلّ الجامعة تشهد بذلك.»
فردّ (أو ردت كتعبير رمزي) إسرائيل: «أنا صاحب السيارة وهذا المصريّ هو الذي سرقها منّي.»
قالت الوكيل لليهوديِّ بسخريّة: «هناك شهود يا معالي الرئيس فما قولك؟»
قال إسرائيل له: «أنا صاحب السيارة، وأنا أتهم ذاك الفهمان.»
ردتْ الوكيل ساخرًا: «يا سيادة الرئيس،عنده شهود ولن أستطيع أن أحتجزه، إن أردت اتهام الطالب جاك فلا مانع لدي لفتح التحقيق.»
لحظات أُخر وجاء رئيس الجامعة ودخل على النيابة وقال أنا شاهد على الواقعة، وقص عليه كل ما شاهده.
نظر الوكيل إلى اليهوديّ إسرائيل: «ماذا ستفعل الآن؟»
خلع اليهوديّ نظارة الواقع الافتراضي وطرحها أرضًا وسبَّ فيهم جميعًا: «أتدافعون عن المصريين المغتصبين؟!»
ثم تركهم غاضبًا.
أقبل الوكيل على فهمان وقال: «لله درك يا فتى، لقد أنقذت أمريكا من ضر محقق.»

مضى فهمان وهو غاضب من سلوك إسرائيل؛ سلوك مستفز صارخ، وشعر بعدم الأمان في هذه البلد. ولقد شعر جاك بوجيعته فقال له: «لعلك غاضب من ثقة الطالب إسرائيل المفرطة، حنانيك يا صديقي، إنّ الرئيس الحالي لأمريكا يحاول بقدر الإمكان التضييق عليهم بعد أن توغّلوا كثيرًا في عهد الرئيس السابق، ولولا يعقوب إسحاق وحسن تدبيره وسعة حكمته لضاعتْ إسرائيل في عهد رئيسنا الحالي، ألَا يكفيك أنّي أحبك كثيرًا حتى أنّك أعزّ علىّ مِن أيّ أمريكيّ، صدقني لو كان لدىّ أخٌ لاستأثرتك عليّه، أنت يميني في العلم والخلق، لا أستطيع الاستغناء عنك.»
سكت هنيهة ثمّ قال: «فهمان هذا رجلٌ حقود عليكَ لأنّك تميزت عليه في كل شيء، ومثله مثل أيّ يهوديّ لا يحبّ أيّ ازدهار حضاريّ لأيّ دولة عربيّة ولاسيما لو كانت في محيط المساحة المعروفة من النيل إلى الفرات.»
وزفرَ زفرة طويلة ولم ينبس بكلمة بعدها.
طأطأ فهمان رأسه وقال: «لذلك ضربتَ الضابط وقلت له: «لمّا يتعرض أحد للظلم فلجاك الشأن كلّ الشأن.».»
قال جاك: «فهمان، هذا الطالب أعرفه جيدًا، إنّه يهودي متطرف، ولو أحببتَ أن أركلَ مؤخّرته وأحطّم نظارته وأكسّر قدمه لفعلت، ولا أخاف منه ولا مَن وراءه، فهمان، كلّ ما أريده أن تبتسمَ وتفهم وترضى.»
احتضنه فهمان وشعر أنّ جاك حضارة وأمّة أخلاق في شخص إنسان، شعر أن الألفة التي وجدها في قلبه غلبتْ غربته نحو العالم الأجنبي كلّه.
وهكذا، فقد قوّت تلك العاصفة -التي كادت أن تعصف بفهمان- العلاقة بينه وبين جاك، فاجتمعا معًا، وتآلفا معًا، وتآخيا معًا، تحت قبّة هي أجلّ القباب، أغلى القباب، أثمن القباب، إنّها الإنسانيّة.

***
لقد وضعتْ المخابرات الأمريكيّة ملف جاك وفهمان على رأس الملفات الحساسة بعد حادثة حريق الجامعة مباشرة ولاسيما بعد موقف جاك الذي اتّخذه عندما ضرب ضابط الشرطة في مكتب رئيس الجامعة من أجل صديقه.
فهم لا يريدون أن تتكرّر كارثة بروفسيور بيتر مرّة أخرى. وقد سلكتْ أمريكا حربًا ضروسًا تجمع بين الترغيب مِن جهة، والترهيب الحذر المشوب بالضبابيّة مِن جهة أخرى لجذب العلماء العرب على وجه الخصوص، وذاك لأنّ السيطرة على منطقة الشرق الأوسط مِن أولويات أصحاب القرار الأمريكيّ -وسبب هذه الأولوية أنّها معبر للدول الأسيويّة مِن خلال المضايق والقنوات والممرّات الحيويّة- ومِن التدابير التي قامتْ بها الإدارة الأمريكيّة تجاه ملف فهمان وجاك أن قرّر السي آي أي عمل تقرير كامل عن الفتى وعن حالته العلميّة والاجتماعيّة، ومِن أجل ذلك، تمَّ تكليف أحد أفراد جهازهم أن يتحرّى عن فهمان في بلده.
وبعد يومٍ واحد فقط كان التقرير أمام أحد مدراء الجهاز، مدوّن فيه باختصار الكلام المعنىْْ به مِن قِبلهم. ومفاده الآتي:
«فهمان فطين المصريّ هو شاب مصريّ الجنسيّة أبًا وأمًا، أمّه متوفيّة، كانتْ خبيرة في فيزياء الجسيمات، وكانتْ تساعد زوجها في عمله، ولم تعمل في أيّ جهة حكوميّة بعد زواجها. أما أبوه فقد باع منزله في منطقة جنوب سيناء، وسافر إلى الوادي الجديد، ويقطن هناك منذ عامين تقريبًا. فور نزوله أرض الوادي الجديد قام بعمليّة زرع رأس جديد، ولم يعرف أحد سبب انتقاله مِن أرض سيناء إلى الوادي الجديد لأنّ انتقاله كان مفاجئًا، كما لم يُعرف سبب قيامه بعمليّة الزرع. يعمل ساحرًا، ماهر جدًا في أداء عمله، ولقد شاهد عروضه السحريّة أحدُ رجالنا الذي كان له باع طويل جدًا في هذا المجال، وقال إنّ هذا الرجل يملك قوّة خارقة تمكنه من أداء ألعابه السحريّة ببراعة لم يصل إليها أمهر السحرة حتى اليوم. ذو ذكاء وهيبة، يخشونه كلَّ الناس. مشهور بين أهل منطقته بالوطنيّة والكرم، وطنيّ حتى النخاع، ذاع صيته حتى وصل إلى أمن الدولة المصريّة. الأمن المصريّ وضعه تحت المجهر بسبب التفاف الكثير مِن الناس حوله.»
وقام جهاز المخابرات بتحليل هذه المعلومات، ومما توصلوا إليه أن فهمان سيكون عالم فيزياء نظرية بالوراثة قبل أن يكتسبها من البيئة التي تُوفر له. أما بالنسبة لترْك الأب لجنوب سيناء فجأة ورحيله إلى الوادي الجديد مع عملية تغيير رأس ينم عن وجود سرّ خطير، وبالقطع هو هارب مِن شيء ما. وبالنسبة لخوارقه في أعماله السحريّة فأرجعتْ الإدارة ذلك إلى قوّته في علم الفيزياء، ولكن عندما تمَّ عرض تلك الأعمال على أمهر السحرة وعالم الفيزياء والذي أخبر من قبل رئيس الجامعة بشأن جاك وفهمان قالا كلمة سواء: «إنّ هذا الرجل يمتلك قوة داخليّة ليست روحيّة تمتْ إضافتها في مخّه، في الغالب تحتوي خلاياه الدماغيّة على رقاقة إلكترونيّة إضافيّة تجعله يتحكم في حركة الأشياء في اتّجاه وعكس الجاذبيّة الأرضيّة، ولا أحد يستطيع القيام بهذه العمليّة إلّا بروفيسور بيتر فقط على مستوى العالم كلّه.»

فتأكّد للمخابرات أنَّ هناك خيطًا يربط بين فطين وبروفيسور بيتر ولاسيما أنّ عملية تغيير الوجه تمتْ بعد اختفاء بيتر بفترة ليست كبيرة. أمّا الأمن المصريّ فهو يخشى مِن قيام ثورة على النظام يكون هذا الرجل مُحرّكها.
وبناء على ذلك قرّر جهاز المخابرات بتأليب الحكومة المصريّة على هذا الرجل عن طريق لجنة حقوق الإنسان، وسردتْ عدة أمور تخصُّ منطقة الشرق الأوسط منها تجاوزات الأنظمة في السجون، وتغييب الوعي المدرك ودروشته ووضعه في بؤرة الجهل والتخلف عن طريق الدجل والشعوذة.
كما حثّت الحكومات العربيّة والمصريّة على وجه الخصوص معاقبة هؤلاء الدجّالين، وأيّ دولة ستقصّر في هذا ستتعرّض للمساءلة والعقوبات.
وبدءوا بتنفيذ القرارات، فاتصل جهاز ال سي آي أي بالرئيس المصريّ يعلمه أن يقبض على المدعو فطين المصريّ لضلوعه في قتْل أو اختطاف البروفيسور بيتر المختفي منذ فترة دون أن يلحقوا به أي ضرر.
صدر على الفور قرار رئاسيّ باعتقال المدعو فطين المصريّ بتهمتي الدجل وإثارة الشعب ضد النظام الحاكم، ففطين مصدر تهديد لهم مِن الأساس، وعلى ذلك فهم يراقبونه منذ فترة خشية تأليب الشعب على الحكومة من خلال الثورة.
كما قرّروا القيام بعمليّة مسح شامل في جميع المحافظات وخاصة القاهرة للقبض على كلّ القائمين بعمل الدجل والسحر.

المخلصون يشعرون بقدوم الزلازل
منذ فترة وفطين يشعر بقدوم كارثة ستسحقه، لذلك اتصلّ بالطبيب مؤيد وأخبره بما يشعر.
ردَّ الطبيبُ عليّه أن يستعين بالله على قضاء حوائجه، وكان اللقاء بينهما عابرًا إلى أقصى درجة حيث اكتفى فطين بإبلاغه أنَّ هناك خطرًا يحدّق به، وأنّ ابنه فهمان في الخارج سيتحطّم مِن بعده، فدعى له مؤيد وطمأنه بأن اتحاد المقاومة لن يتركه أبدًا، وسيظل يسانده حتى يصل الى مبتغاة.
قال فطين بدموع حارة: «مؤيد، وصيّتك ولدي مِن بعدي.» ثُمّ ناوله عنوان ابنه.
رحل مؤيد وترك فطين حائرًا لا يدري ماذا يفعل، أصابه الإبلاس والتيه، وأخيرًا قرّر إرسال خطاب إلى ابنه كتب فيه:

«بسم الله الرحمن الرحيم
ولدي الغالي، السلام عليكم، أرجو أنْ تكون بصحة جيدة، لقدْ سعدتُ كثيرًا باختراعك الأوّل، الخليّة الصماميّة، وفي انتظار المزيد والمزيد مِن ابتكاراتك، وأنا متأكد أنّكَ سوف تنجز الكثير منها. وكلُّ ما أرجوه أن تبتكر لنا ما يُخرج مصر من دهاليز القيعان المعتمة ويحلّق بها إلى قمم الشموس المضيئة؛ كلّ ما أرجوه أن تبتكر لنا ما يُطفئ النار التي شبّتْ في عروبتنا، وتمزّق أشرعة الأهواء التي مزّقت أشرعة سفينتنا، يجب أن ينتهي رماد الاحتراق المنبعث من ..
أهوائنا .
أحقادنا .
نزاعاتنا .
أطماعنا .
ولدي، إنّى أشمُّ رائحة غدر اليهود وأنا أكتب كلامي هذا، وأنّ مخططهم لحرْق العالم تطرق أُذنيّ الآن. إنّ العالم مقبل على حرب عالميّة ثالثة لا محالة، وستكون كلمة الفصل فيها للعلم والتكنولوجي.
العالم سيحترق، فاجعل علمك يطفئ ناره ولا يشعلها؛ اجعله سلاحًا في يدك اثقبْ به طبول الحرب، وسُدّ أبواقها، وصُمّ به آذان الشياطين، وهذّبْ به النفوس الآثمة، وأشهرْه عاليًًا، ستجد حمائم السلام يتخذونه متكأ.
ولدي، أريدك أن تكون ردءاً لمِصر مِن هذه الصراعات، تعَلّمْ وعلِّمْ وحاول أن تصلّ بقلبك إلى رئيس بلدك فتعينه ويعينك على الخلاص مِن أضراس الحرب النوويّة القادمة، لا تعملْ لدى أحد، اِعملْ في بلدك، كُنْ نابغة عصرك؛ تجدُ رئيس بلدك مِن أمامكَ وخلفكَ وعن يمينكَ وعن شمالكَ، لا تعملْ خارج مصر، لا تعملْ لدى أحد.
ولدي، تثبت ولا تهن، ولا تترك مكانك، فإنّي راحل عاجلاً أم آجلاً، فاتخذ مؤيدًا أبيك؛ فهو رجل ليس له نظير.
ولدي، لا أحبّ أن أرى دموعك إلّا عند الفرح، فلا تحزن، فكلنا راحلون؛ كلنا راحلون.
ولدي، لقد آثرت أن أكتب لا أن أتكلم حتى تظلّ كلماتي منتصبة على سمعكَ وبصركَ وفؤادكَ فتتلوها وتذكرها ولا تنساها أبدًا، فاحتفظْ بخطابي هذا ما دمتَ حيّاً. ليكن خطابي وحيك ودربك ونجاتك.
ولدي، لا تعملْ لدى أحد غير بلدك مصر، أكرر كُن بين أبناء وطنك
أبوك:فطين المصريّ.»
وبدأ يغلّف كلماته بيدين مرتعشتيْن وعينيْن دامعتيْن ويضعها في الخطاب،كما نوى إرساله أيضًا إلى مؤيد.
شعر فطينُ بأنّ القلم قد انكسر، وأنّ اللسان قد خرُس، وأنّ الروح قد نُزعتْ، وأنّ المسافة بينه وبين ابنه قد بعُدتْ وغدتْ في اللانهاية بعد هذا الخطاب.
وصل الخطاب بالبريد السريع وقرأه فهمان؛ فشعرَّ بأنّ أباه نعى نفسه فانصدع قلبُه، وحاول طرْد هذا الإحساس مِن قلبه تفاؤلاً.
***
أنهى فطينُ عمله اليوم بعد أداء عرْض مميز قدمه مجانًا لأوّل مرّة. وكان مِن بين المشاهدين فرقة من أمن الدولة، ونظرًا لأنّ المطلوب عدم إثارة بلبلة أثناء القبض عليه لحبِّ الناس له تقُرّر القبض عليه في الخفاء.
عاد إلى منزله. فتح بابه وأضاء الأنوار وأسند عصاه على الحائط، فلمّا نظرَ أمامه وجد فرقة أشبه بفرقة المارينز الأمريكيّة التي تؤدّي المهمات الصعبة، فتوجّس شرًا وأمسك بعصاه مرّة أخرى، ثُمّ نظرَ إليهم بغضبٍ وازدراء وقال: «مَن أنتم؟»
قال أحدهم بصلف وحزم: «أمن الدولة، معنا أمر بالقبض عليك.»
- «لن أخرجَ معكم حتى أعرف تهمتي بالضبط.»
رد الضابط بحزمٍ: «ستعرف هناك.» ثم مضى للأمام وهو يقول للفرقة:«اسحبوه.»
ردّ غاضبًا بعد أن صرخ في الممسكين به ودفعهم بقوة: «أريد أن أعرف الآن.»
تعصّب الضابطُ عليه قائلاً: «نحن لا نلعب.» ثم صرخ مجددًا في الفرقة قائلاً: «هيا يا بهائم اسحبوه.» ودلف الباب وهو يتكلم.
فأقبلوا عليه ليكبّلوه، فلمّا دنوْا منه تضاعفتْ قوّة فطين وعزيمته، وتضخمتْ عضلاته، ونخرَ أنفه وزأر كالأسد، واستُنفرتْ الخليّة الإلكترونية وغدت في مرحلة تأهّب قصوى لدفع ضرر المعتدي.
ضربهم بعصاه بقوّة وثباتٍ فخرّ بعضهم على الأرض، وبعضهم أمسكه من ياقة جلبابه فنطحه فشقّ رأسه، تكاثروا عليه من جديد بعد أن نهضوا من الأرض فأمسك أحدهم ورماه عليهم فخرّوا جميعًا على الأرض. وقعتْ لاسته على الأرض فانتبه لذلك وتوجس شرًا. أخرج الضابط مسدسه من مغمده وشهره في وجهه وقال مهددًا: «سرْ أمامي وإلّا قتلتك.»
وكذلك أخرج رجاله مسدساتهم مِن أغمادها، ركّز فطين على الأسلحة تركيزًا شديدًا فخرّت واقعة مِن أيديهم تحت تأثير الخليّة، وخطف مسدس الضابط بسرعة خاطفة ثمّ لكمه في وجهه فأدماه. تناولوا المسدسات من الأرض مجددًا، وأشهروه في وجهه، لكنّ الضابط وجد الدماء تنزف منه كالأنهار فضربه قصاصًا بطلقتين في قدميه فخرّ فطين ينزف، تحامل فطينُ ونهض يتوكأ على الجدار عندما دنوا منه ليجرّوه؛ فضربهم جميعًا فطرحوا أرضًا من جديد، وللأسف نزْف الدم أسقطه هو أيضًا، فسقط مغشيّاً عليه. حملوه وأوضعوه في سيّارة الشرطة، ثمّ ألقوه في زنزانة انفراديّة وأرسلوا له طبيبًا ليخرج الرصاصتين. وعلى الفور تمَّ إبلاغ السي آي أي بإنجاز المهمة.
آفاق فطين مِن غيبوبته فور إلقائه في الزنزانة مباشرة، وفور أن تحرك سُمع صوت الأصفاد المرعب التي تغل يديه وعنقه وقدميه.
بعد قليل دخل عليه جنديان أخذاه واصطحباه إلى مكتب أحد رموز النظام، بعدها أجلسه أحد كبار رجال أمن الدولة وبدأ التحقيق معه
نظر إليه المحقق قائلاً: «لماذا قتلتَ يا فطين؟»
ردَّ دهشًا: «قتلتُ مَن؟»
قال غاضبًا: «لا تتصنّع الجهلَ يا ابن الكلب، بيروفيسور بيتر؟»
قال بهدوء: «أتعرف يا هذا لو تركوني عليك لنفخت فيك فتبخرت في الهواء، لا أعلم شيئًا عمّا تقول.»
- «لا، أنت لست قاتلاً فقط، بل قليل الحياء والأدب أيضًا، فطين كُن متعاون معنا حتى نستطيع أن نساعدك، ألم تقتل بروفيسور بيتر بعد أن زرع لك رأسًا؟ تعاون معنا نتعاون معك.»
ضحك فطين وتعالت ضحكاته الساخرة، ثُمّ تثاءب فجأة ووضع يده على فيه كأنّما يريد النوم ثُمّ قال: «أتعاون معكم لأجل أنْ تتعاونوا معي!لا جرم، عالم فندق طابا كان بودِّه أن يتعاون معكم فهل تعاونتم معه أم.» قاطعه المحقق قائلاً: «لِمَ تخرج بنا عن موضوعنا الرئيس! قتل بروفيسور بيتر لا يهمنا في شيء، هذا شأنهم وسوف يقتصّون منك بطريقتهم، لكنْ من قتل ضابط الأمن أثناء قيامه بتطهير الخلية الإرهابية في منطقة إمبابة؟ والرائد الشهيد كذلك أثناء وجوده في اقتحام ال ..؟»
وأخذ يعدّدُ له رجال النظام الذين قُتلوا على مدار سنة ونصف مضتْ. وقد نسب له إدارة خلية إرهابية
- «مَن هؤلاء الذين سيقتصّون منّي بطريقتهم، فئران أم أبراص؟ وأيّ خلية تقصد؟ خلية نحل مثلاً، تسألنّي عن رجالكم! أيّ رجال؟ أنا أعلم رجالاً بمعنى الكلمة أنت لا تعلمهم؛ ألم يكن عالم الفندق مِن رجالكم؟! ألم يكن العلماء المغتالون في القرن السادس والسابع والثامن والتاسع والعشرين والواحد والعشرين من رجالكم؟! ألم يكن فهمان ولدي الذي سوف يتشرّد مِن بعدي مِن رجالكم؟! ما زالتْ أياديكم إلى الآن تسيل منها دماءُهم.»
قال منتفضًا: «هل أنت مجنون!هؤلاء رجال تخلّوا عن مصريتهم وعروبتهم فتركناهم، ولمّا تابوا وأرادوا العمل في بلادهم بعد أنِ استيقظتْ ضمائرهم لَمْ يخبرونا؛ فكانتْ مصائرهم الاغتيال بيد إسرائيل. هل تظنّ أنّنا نقتل أبناءنا، ثُمّ أنّهم لم يطلبوا الحماية منّا كي نحميهم، ولكن كانتْ كلُّ قراراتهم منفردة دون تنسيق معنا، فمثلاً عالم فندق طابا كان تحت حراستنا وقد فعل رجالنا ما كان يتوجّب عليهم فعله ولكن للأسف طالته يد الغدر. مصر ملآنة بالصراعات الداخليّة، ونحن نعمل ليل نهار لعدم إحداث فوضى قد تؤدّي إلى ثورة على نظام الحكم فتحدث انقسامات بين الشعب تؤول في النهاية إلى حرب أهليّة.» صمت هنيهة يستبقي نفسه ثم استأنف وهو يشيح بيده يمينًا ويسارًا: «انظرْ إلى العالم وتلك الحروب الأهليّة التي تحدث بين الشمال والجنوب والشيعة والسنة و ...إلخ. ثمّ تأتيني وتكلّمني عن رجال ونساءٍ لمْ يخبرونا بوجهتهم ولا بطلب من أجل حمايتهم.»
كان فطين ساند خدّه إلى كف يده اليمنى وأنزل جفني عينيه أثناء كلام الضابط، فلمّا سكت عن الكلام رفع جفنيه متثائبًا ووضع باطن يده على فمه ثمّ قال: «كلام جيد، لننهي كلامنا، أنا وابني نلوذا بِكم فهل ستتركونا؟»
سكت هنيهة ثمّ تابع كلامه بحسرة: «كم زوّرتم التاريخ على مدى عقود طويلة، وسوف يأتي رجل منها يحملوه رجال منها أيضًا فيأخذون بيدها.»
- «يأتى مَن؟ ومَن المسكينة؟»
- «ألا تعرف الأمّ، هي المسكينة، غُلّت بأياديكم، مصر يا أيّها السجّان.»
- «مصر.» ارتعش المحقق وانتفض ثمّ استأنف: «أنت ممن تريد النيل بمصر أيّها المزوّر القاتل.» ثمّ نادى على الحرّاس أن يرجعوه إلى زنزانته.

وقد علم فطين مِن أحد المسئولين الصادقين الذين يخافون على هذه البلد ولا يرضون الدنيّة في أوطانهم أنّ غدًا سوف تقلّه طائرة إلى أمريكا مقبوضًا عليه مِن قِبل رجال المخابرات الأمريكيّة للتحقيق معه.
ومنذ أن علم ثارت ثورته وهاج اهتياج الثور، وبدا له أنّ أشرّ ما يقع به وبابنه أن يكون مجرمًا في بلد يكون ابنه فيها عالمًا.
فأطفأ أجيج الثورة ببرد الصلاة، وظلَّ طوال الليل يدعو ربه ألّا يجمع بينه وبين ابنه في أمريكا. في الصباح نزل الوفد المخباراتي مِن المطار متّجهًا إلى فطين؛ وعندما وصلوا إلى محبسه وجدوه قد فارق الحياة.
ومات المواطن فطين المصريُّ، وودّع الحياة بعد أن رسم للعروبة دروب نجاتِها، وضرب لهم أروع الأمثلة في الشجاعة والفِداء والتضحية.
مات المواطن فطين المصريُّ بعد أن أعدّ مِن صُلبه فتىً سوف يكون له شأن في إصلاح هذا العالم الفاسد (كما ستبين أحداث الرواية).
الآن الجسد الطاهر مسجّى بعد أن رسم البسمة على شفاه عشرات الألوف مِن أهل قريته ووادعهم وآلفهم وصاحبهم.
مات فطين المصريُ، فهل سيواري الثرى جسده الطاهر أم تحمله الرياح إلى النجوم؟ وكيف سيُدوّن شخص فطين المصريّ في التاريخ؟ سيدوّن في مزابله أم في نفحاته؟
رماد معطّر يزين سماءَ مصر
ظلَّ مؤيد منذ القبض على فطين متوترًا، لا يكاد يتمالك نفسه نتيجة الحزن عليه، حتى إن لسانه يتلعثم أثناء الكلام بسبب الحزن المشوب بالخوف الساري في كل أوصاله.
لم يخف عن مؤيد فزّاعة أمن الدولة المصريّة التي تُصيب ولا تُخطئ من أجل الحصول على الاعترافات؛ تلك الفزّاعةُ التي اِنهار تحت وطأتها رجال أقوياء، كما يعرف أيضًا قوّة ورباطة جأش فطين ومدى إخلاصه ووفائه له وللمقاومة. وظلّتْ هاتان المعرفتان تختلجان في صدره فتحدث له الريبة والاضطراب؛ مصارعة عنيفة بين أمل يكتنفه يأس، وعزيمة يكتنفها وهن. ولقد نصحه قادة الاتحاد بالاختباء خشيّة أن يرشد فطين عليه تحت وطأة أساليب أمن الدولة؛ لكنّه رفض لثقته الشديدة في إخلاص فطين ومدى صلابته التي لا توهن.
ظلَّ مؤيد يكدّس كلَّ قواه الحيّة في رصد كلِّ ما يتعلق باعتقال فطين، ويحوم حول الأسباب التي بسببها تمَّ اعتقاله، واتحاد المقاومة لهم عملاء في كلِّ مكان داخل مصر وخارجها، بلْ لهم أنصار داخل الأنظمة نفسها يفدونهم بأعمارهم إذا لزم الأمر.
وكان التقرير يأتيه أوّلاً بأوّل عن ملابسات اعتقاله وحالته، بل أدقّ الأسرار وصلتْ إليهم وهو وصول الوفد الأمريكيّ ليأخذ فطين.
وفي الليلة المشئومة وصل التقرير إلى مؤيد أصيل يقول عبارة واحدة: «اُستشهد فطينُ.»
سمعها مؤيد، فاختلجتْ عيناه وزاغ بصره، واسودَّ وجهه وخرس لسانه إذ التصق في سقف حلقه، وانتفضَ جسده وسرتْ فيه حرارة الصيف الحادِّ حتى ألجمه العرق إلجامًا، جلس وشرب شربة ماء ليجري في سقف حلقه الجاف، وأدار التكييف حتى يذهب عرقه، وأغمض عينيه حتى لا تخطف من أثر الحزن.
بعد عدة ساعات مِن وصول التقرير الأول وصل تقريرًا آخر يقول بأنّ فطين لم يُدفنْ؛ بل أُحرقتْ جثته وذرّتها الرياح؛ فسقط مغشيّاً على الفور.
مرَّ يومان ومؤيد ما زال معتكفًا في بيته، يفكّر كيف يواجه ابن فطين بخبر اعتقاله ثمّ موته حرقًا.
ومن بيركلي اتصلَ فهمان أكثر مِن مرّة بأبيه، بيد أنّ الهاتفَ مغلقٌ دائمًا، فهو أو أبوه قلّما يمرَّ يومٌ إلّا تبادلا الحديث عبر البريد أو صفحات التواصل الاجتماعيّ، لكنّ هذه المرّة كلّ شيء مغلق.
وتمرّ الأيّام، وظلَّ فهمان مشتت الخاطر لا يذهب إلى الجامعة، وعندما تذكر خطاب أبيه توجس شرًا؛ فقرّر النزول إلى مصر.
وجاك مشفق عليه بسبب حالته العصيبة، وليس في إمكانه فعْل شيء تجاهه إلّا بكلمة اطمئنان تُهدّأ مِن ثورة الخوف والوجل اللذين يعتريانه.
وفور رفعه الحقائب جاءه خطاب مِن مجهول، فتحه، قرأ: «بعد السلام، أنا صديق أبيك، ومعي نسخة من الخطاب الذي أرسله لك والدك منذ أيام، أكيد تذكُرني، الأمن المصريّ اعتقلَ أباك بتهمة الدجل والشعوذة؛ فمات في محبسه، وقد قاموا بالواجب ووارو سوءته. ابقَ في مكانك وتذكّر وصايا أبيك لك، ابقَ في مكانك ولا تتركه، وقدْ حوّلت لك مالاً وفيرًا يكفيك حتى الإنفاق على دراساتك.
افتح خطاب أبيك واقرأه، وتذكر قوله: «تثبت ولا تهن ولا تترك مكانك، فإنّي راحل عاجلاً أم آجلاً، فاتخذ مؤيدًا أبيك فهو رجل ليس له نظير.»، واعلمْ أنّك موضوع تحت ميكرسكوب السي آي أي بعد حادثة حريق الجامعة. ابقَ في مكانك وسيطرْ على مشاعرك، وكنْ رجلاً مثل أبيك يا ابن فطين المصريّ.»
بالطبع لمْ يقلْ الطبيب له الحقيقة لأنها قد تصيبه بانهيار عصبيٍّ وتؤثر على مستقبله العلمِيّ وإنّما قال له ما يبقيه ثابتًا ويفي بالغرض.
تناول فهمان الخطاب، انهار بمجرد قراءته، أحسَّ بنار الفراق الأبديِّ يحرق قلبه إلى الأبد، وأنّ التشرّد سبيله، وأنّ حواسه ما عادت تصلح للعمل.
رمقه جاك؛ فجلس بجانبه، وتناول الخطاب، وقرأه، ثمّ تركه ونظرَ إلى فهمان ذي الجسد المرتعد والدموع الساخنة والأنف الأخنّ، قال له: «إنّ المصيبة وإن عظُمتْ؛ فليس لها أن تُعجزك وتُفتت عضديك، و كلّ مصيبةٍ وإن جلت وعظُمت فلابدَّ يومًا ما تهون. أنت رجلٌ تحمل رسالة للناس جميعًا، ولقد كان نبيّكم محمدٌ صلدًا رغم وفاة زوجته وعمّه في عامٍ واحد. فهمان، سيطرْ على مشاعرك ولا تجعلها تأخذ بناصية عزيمتك ووفائك للعلم؛ فتضيع وتضيّع عَالمًا في أمسِّ الحاجة إليك غدًا. صديقي نحن نحمل رسالة كبيرة، ويتوجب علينا أن نتماسك عند الكارثة وألا نتباهى عند النجاح حتى نستطيع أن نؤدي رسالتنا العلمية على أكمل وجه.»
ثمّ توجّه إليّه ونصب وجهُهُ في وجهِهِ وطلب منه أن ينظرَ إليّه، بيد أنّ فهمان ما يستطيع أن يرفع هاتيْن العينيْن البائستيْن في وجه أحد أيًا ما كان هذا الكائن، ولذلك قضى يومه مغمضًا كالأعمى.
ووضع يديه على منكبيّ فهمان ثمّ قال له: «فهمان، تماسك، المفروض أنّك عالم فيزياء لا تهزّك أبداً نائبة الدهر، كما يجب ألّا تهزّك متقلبات الطبيعة، لابدَّ أن تتغلب على كلِّ شيء وتنسى كلَّ ما يعوق مسيرتك. فهمان تماسك، أمامك الدنيا كلّها ذلولة ارتعْ فيها كيفما تشاء وأرِ هذا العالم كمْ سيصبح علمك ترياقًا في وجه الموت عندما يتحدّى َالإنسانُ الطبيعةَ الغضوبة. وإن كانتْ مصر فقدتْ رجلاً مثل أبيك فعلمك المنتظر يستطيع أن يُحيي ألف فطين إذا نُشر به السلام.»
يكلّمه جاك لكنّ فهمان لمْ يكن حاضرًا مطلقًا، لا عقل ولا قلب ولا رؤية، كلّ ما يسيطر على كيانه هو حزن الفقد وانتظار الضياع.

إبراهيم امين مؤمن
07-29-2021, 08:41 AM
محبرة دماء مِن صفحات التوراة
لقد دعا يعقوب إسحاق وزاراته وأصحاب القرار مِن دولة إسرائيل والمخلصين لها لعقد اجتماع سريِّ سمّاه اجتماع «ردُّ الكرامة لسبعة آلاف سنة مضت» أبلغهم بنفسه واستنفرهم عليه، قائلاً العبارة التي لا تفارق لسانه: «اجتماع ردّ الكرامة لسبعة آلاف سنة مضتْ»
وكانت هذه الدعوة إثر فشل اقتحام أحد الأنفاق الرئيسة لاتحاد المقاومة. قبل أن يبدأ الاجتماع استحثَّ وزيرُ العلوم والتكنولوجيا أعضاء الاجتماع كلّهم بترك هواتفهم الجوّالة خارج الكابينت، ثمّ قام بنفسه بفحص أقلام الوزراء وأجسادهم بوساطة جهاز كشْف ذبذبات متطور للتأكد مِن خلوِها مِن أيّ أجهزة تنصّت خشية أن تكون وُضِعت فيها على غفلة منهم، وقام كذلك بفحص المكان؛ فلمْ يبدِ الجهاز أيّ ذبذبات تُذكر، عندئذٍ نظرَ إلى يعقوب بثقة قائلاً: «الكابينت آمن يا سيادة الرئيس.»
فأشار يعقوب إلى الجمع بالجلوس لبدْء الاجتماع.
بدأ يعقوبُ بافتتاحية المجلس قائلاً: «أنا يعقوب إسحاق -خادم إسرائيل- أحبُّ إسرائيل وأحبُّ القصاص، واعتزُّ بديني وشعبي، ولا يوجد على وجه الأرض كلّها منذ بدْء الخليقة جنس أطهر مِن جنسنا -فهم أبناء الله وأحباؤه، هم السادة ولا أحد غيرهم، هم شعب الله المختار، نحن؛ نحن الملوك والأسياد- ومع ذلك فنحن الشعب الذي تعرض للاستئصال على مرّ تاريخنا كلّه. لمْ ترحمنا أوروبا لأنهم يعتقدون أننا نحارب ديانتهم؛ فاضطهدونا وشرّدونا، ولكن ما زال ولا يزال الإسلام هو عقبتنا الرئيسة.» صمت لحظات تأوه فيها ثم استأنف: «لقد أذلونا في عصر محمّدِهم، وهم يريدون استرجاع أمجاد أجدادهم. يا سادة، نحن شعب التيه المضطهد على مر العصور، لن يجفَّ دمعي، وتنام عيني، ويهدأ لظى فراشي وتنطلق أنفاسي إلّا بعد القصاص مِن هذا العالم ثمّ حكمه؛ وكلّكم يعلم ماذا فعلتُ لدولة اسرائيل كي تسود، فقد نجحتُ في مطاردة الفلسطينيين هنا وفي مصر، وأنا ما دعوتكم إلا للضرورة القصوى.»
سأله وزير العلوم والتكنولوجيا عن أسباب الاجتماع مباشرة، فرمقه وزير الدفاع رمق استنكار، لم يكترث يعقوب لفعل الوزيرين ثم أمضى كلامه قائلا: «فشْلنا في اقتحام الأنفاق الرئيسة للمقاومة كارثة بكلّ المقاييس.» وأشار إلى وزير التكنولوجيا مستأنفًا كلامه: «ولقد أخبرتُ وزير التكنولوجيا بالأمر، فقال لي إنّ الأنفاق محصّنة بحقول قوى، ثمّ شرح لي تركيبها وطريقة عملها، وأكّد لي أنّه سوف يخترع صاروخًا قادرًا على اختراق تلك الحقول وتدمير كلّ الأنفاق، ثمّ تأتي الخطوات التالية كما سيتبيّن من الاجتماع.»
سكت هنيهة ثم أشار إلى الجمع قائلاً: «كما إني أجد في هشاشة الأنظمة العربيّة مأربي، فالرؤوس قد أينعتْ وحان قطافها، فالشعوب العربيّة على وشك الانفجار مِن أنظمتها الحاكمة بسبب الظلم والفقر وقلة الماء، وهي أنظمة تكره بعضها، وهذه النقطة بالأخص بمنزلة قنبلة موقوتة لا تحتاج أكثر مِن إشعال فتيلها فتنفجر فيهم جميعًا.ولا تنسوا يا سادة قوة إسرائيل اليوم، فلدينا الآن رجال مخلصون هم أفضل مَن أنجبتْ إسرائيل أيضًا على مرِّ تاريخها، وهم على أتمِّ الاستعداد للتضحيّة بالنفس والمال من أجل؛ مِن أجل «ردّ الكرامة لسبعة آلاف سنة مضتْ» -متمثلة في حاخامات المعابد، واللوبي الصهيوني، وكبار البارونات- وقد بلغ الاقتصاد اليهوديّ مبلغًا عظيمًا في عقدنا هذا. كلُّ هذه الظروف ألقتْ بظلالها في كافّة أرجاء دولة إسرائيل بكل قطاعاتها ومؤسساتها لعقد اجتماعنا هذا «اجتماع ردّ الكرامة لسبعة آلاف سنة مضت »، والآن، أودُّ منكم وضْع مقترحات لإقامة دولة إسرائيل الكبرى، أودُّ وضْع خطة للسيطرة على العالم؛ سيطرة على:المسلمين، والمسيحيين، والبوذيين، والنازيين، حتى الملحدين، السيطرة على العالم .أودُّ القصاص؛ أودُّ القصاص؛ وأسألُ اللهَ أن يجعلني وإيّاكم مِن المتقين.» وبعد أن أنهى كلامه قام ولثّم رأس الحاخام الأكبر وحثه على التكرم بإبداء رأيه.
وقبل أن يستهل كلامه قدم بعض الطقوس التعبدية التي تنم على الخشوع والتألم لما آلت له دولة إسرائيل -والحاخام ذو لحية كثيفة وشارب غزير ونظارة وقبعة سوداوين- بدأ بقوله: «بعد مراجعة التوراة والتلمود، وإمعان النظر فيما يدور مِن أحداث عالميّة؛ تبيّن لي على الحقيقة التي لا لبس فيها أنّ هرمجدون على الأبواب؛ لكنّها تحتاج إلى جهدٍ مضنٍ منكم كي تُؤجج وتستعر. واعلموا أن الشعب الأمريكيّ المسيحيّ الصهيونيّ سوف يساعدكم على تنفيذ مخططكم؛ لأنّ هناك نصًا صريحًا يحفّزهم على إشعال الحرب العالميّة الثالثة. هذا النص ورد في موضع واحد من الإنجيل في سفر الرؤيا: «ثم سكب الملاك السادس جامه على النهر الكبير، الفرات، فنشف ماؤه لكي يُعدَّ طريق الملوك الذين من مشرق الشمس، ورأيت من فم التنين ومن فم الوحش ومن فم النبي الكذاب ثلاثة أرواح نجسة شبه ضفادع فإنهم أرواح شياطين صانعة آيات تخرج على ملوك العالم وكل المسكونة لتجمعهم لقتال ذلك اليوم العظيم يوم الله القادر على كل شيء، ها أنا آت كلص، طوبى لمن يسهر ويحفظ ثيابه لئلا يمشي عريانًا، فجمعهم إلى الموضع الذي يدعى بالعبرانية هرمجدون.» والتلمود يأمركم بالعمل على إقامة الحرب النوويّة بين أقطاب العالم، ثم تلا بخشوع: «وقبل أن يحكم اليهود نهائيًا–أي قبل أن يحكموا العالم- يجب أن تقوم الحرب على قدم وساق، ويهلك ثلثا العالم ليأتي المسيح الحقيقي ويحقق النصر القريب.» واعلموا أنّ أرض المعركة هنا في هرمجدون. فاعملوا على تهويد فلسطين كي تمثل لنا أرض فلسطين مركزًا لإدارة العمليات. وعندما تسود دولة اليهود فعليكم ببناء الهيكل على أنقاض الأقصى لاستقباله (يقصد استقبال المسيا الملك). ما ورد في بروتوكلات حكمائكم أنّ المسيا الملك كامنًا في الهيكل. وبعد أن تقوم دولة إسرائيل عليكم بالزحف مع المسيا الملك إلى الشام لخوض الملحمة الكبرى والنهائية، ثمّ تلا بخشوع: «مُدُنُ عَرُوعِيرَ مَتْرُوكَةٌ. تَكُونُ لِلْقُطْعَانِ، فَتَرْبِضُ وَلَيْسَ مَنْ يُخِيفُ.» ثمّ أردف النص بنصٍ آخر: «وَيَزُولُ الْحِصْنُ مِنْ أَفْرَايِمَ وَالْمُلْكُ مِنْ دِمَشْقَ وَبَقِيَّةِ أَرَامَ. فَتَصِيرُ كَمَجْدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ.» واعلموا أنّ الظفر حليفه وحليفكم كما هو مذكور في التلمود على قول التوراة: «سيأتي المسيح الحقيقي ويحصل النصر المنتظر، ويقبل المسيح وقتئذ هدايا الشعب ويرفض هدايا المسيحيين، وتكون الأمة اليهودية إذ ذاك في غاية الثروة لأنها تكون قد حصلت على جميع أموال العالم.» كما جاء أيضاً: «حيث يأتي المسيح تطرح الأرض فطيرًا وملابس من الصوف وقمحًا حبة بقدر كلاوي الثيران البريّة، وفي ذلك الزمن ترجع السلطة إلى اليهود، وجميع الأمم تخدم ذلك المسيح، وسوف يملك كل يهوديِّ ألفين وثلاثمائة عبدًا لخدمته، ولن يأتي إلا بعد اندثار حكم الشعوب الخارجة عن دين بني إسرائيل.» واستأنف تراتيله بقوله: «فيستأصل جميع الأديان، ما عدا الدين اليهودي، ويحل كل الحكومات، ما عدا مملكة يهوذا، وعندها يَستريح ربُّ الأرباب، رب إسرائيل بين خصومه، ويعمُّ العالم سلام، كما يقول التلمود، فيَنتهي بذلك بكاء رب الجنود وندمه وأنينه، لتفريطه في حق شعبه المختار، فتُمطِر السماء فطيرًا وملابس صوفية مخيطة.» ثم سكت هنيهات. فعلم يعقوب أنه انتهى من تراتيله، حينئذ نظر إليه وإلى رئيس الكنيست بعينين حالمتين، كما ملأته نصوص التوراة بهجة وسرورًا، فلمعتْ عيناه وانبسطت أساريره، واستنشقَ استنشاقًا طويلاً مغمضا بعينين حالمتين ليستحضر أمامه عرْش إسرائيل في مخيّلته.

أشار يعقوب إلى وزير العلوم والتكنولوجيا ليتكلّم فقال الوزير: «لقدْ كانت تقارير وزارتنا على مرِّ التاريخ المرجع الأول ونقطة الانطلاق لأيّ خطة عمل تقوم بها دولة إسرائيل بكلّ وزارتها وهيئاتها؛ خطة عمل لتطوير الأسلحة، خطة عمل لتطوير المختبرات، خطة عمل لاعتلاء الكفاءات نحو الأماكن التي يستحقونها، خطة عمل للنهوض بالاقتصاد الإسرائيلي.»
سكت هنيهة، ثم ما لبث أن أشار إلى رئيس جهاز المخابرات قائلاً: «أمددناكم بمئات التقارير العلميّة عن حركة التقدم العلميّ والتكنولوجيّ العالميّ عبر التاريخ وخاصة الأربع سنوات الفائتة، ولقد كانت هيئتنا لها اليد الطولى وكلمة الفصل في تحديد موازين القوى وكشْف النقاب عن الأخطار والكمائن التي قد تلحق بإسرائيل، ولقد قمنا بتدريب كلِّ أجهزة المخابرات لتذليل مهامهم المنوطة بهم.» قطع وصلة كلامه ليبدأ بوصلة جديدة متوجهة إلى وزير الطاقة فواصل قائلاً: «ملف المياه والنفط؛ النفط يفقد مخزونه يومًا بعد يوم، والمياه في منطقة الشرق الأوسط ضعيفة جدًا، ودول الخليج ستعيش الفترة المقبلة بلا شك على استثمار أموالهم في الخارج بعد نقص النفط الحاد على أراضيهم. وما يدعو إلى التفاؤل والتمكين أنّنا نعيش على عدة أنهر ما زالت وزارتي الدفاع والخارجية يسيطران عليها منذ حرب 1967، وهي مصدر فخر لإسرائيل (يقصد أنهار منابع نهر الأردن واليرموك، وبانياس، مياه الضفة الغربية، ومياه سوريا ولبنان ومصر عن طريق المشاريع المبرمة مع أثيوبيا ودول حوض النيل). ودولة إسرائيل في هذه الأرض (يقصد فلسطين) تضمنت مخططات لكيفية الحصول على المزيد من المياه (يقصد ضمّ جنوب لبنان وجبل الشيخ ومنابع نهر الأردن والليطاني وثلوج جبل الشيخ واليرموك). وبفضل تكنولوجياتنا المتطورة استطعنا أن نسقي الأرض والفمَّ بأعظم ميكنة زراعية.
استطعنا بوساطة أقمارنا الصناعيّة أن نستكشف مناطق المياه الجوفيّة ورسم خرائط لها باستخدام النمذجة الهيدرولوجية، ولا توجد دولة في العالم لديها مخزون مياه إسرائيل الكبرى.» وبدأ بوصلة جديدة موجهًا كلامه إلى وزير الدفاع: «والآن سعينا سعيًا حثيثًا على القيام بأمرين لاستقبال حرب هرمجدون: أولهم، القيام بتخزين أكبر قدر مِن الأسلحة النوويّة في مكان نقوم فيه بعمل تشويش على أكبر أجهزة تفتيش نوويّ في العالم.» رفع يده بدوسيه أوراق إلى أعلى وقال: «معي ملف يشرح كيفية التعمية على سلاحنا ورؤوسنا النوويّة في الأنفاق، وفيه تجد ما لم يصل إليه العالم حتى الآن من وسائل التعمية على الهدف المخزن. والآخر، في حالة الحرب، سيطلب منّا حلفاؤنا النوويّ الذي لدينا، عندئذٍ علينا بالمراوغة والهروب والادّعاء بعدم ملكيتنا لأي سلاح نوويّ بعد الذي أعطيناهم، ولن نعطيهم إلّا النذر القليل.»
نظر إليه وزير الدفاع بعد قوله الأخير، ثمّ اتّجه تلقاء وجهه وانحنى له بعد رفع قبعته قائلاً: «أحييك سيدي على إخلاصك لدولة إسرائيل.»
ثمُّ تطرق وزير التكنولوجيا إلى ملف الأنفاق فقال: «أمّا الأنفاق الفلسطينيّة؛ فقد قدّم رجالنا في السنوات الفائتة إلى هيئة الصناعات والأمنيّة العسكريّة منظومة أجهزة كشف فتّاكة؛ تشمل المنظومة الجديدة أجهزة لرصد الأنفاق. كما قدمنا أجهزة قياس زلازل دقيقة جدًا قادرة على رصد أيّ اهتزاز أرضي، فلو قام أحد الفلسطينيين بالحفر رصدتْه تلك الأجهزة. وميكروفونات صغيرة تكشف أصوات الحفريّات والحفّارين، حتى إنّها تسمعنا صوت قرْع وخفْق نعالهم، بالإضافة إلى رادارات وأجهزة استشعار أخرى. كشفتْ هذه التقنيات عن معظم الأنفاق داخل فلسطين فيما عدا الانفاق الرئيسة؛ فقد أخبرتنا وزارة الدفاع أنّ الصواريخ التي تخترق القشرة الأرضيّة وطبقات الرصاص لم تتمكن من هدمها، وأوضحت لسيادة الرئيس ولوزير الدفاع أنّها محصّنة بحقول قوى ولن يفيد ضربها.
فأشرتُ عليه بحصارها والكشف عن المزيد من نوعية هذه الأنفاق حتّى إذا انتهيتُ من صنْع الصاروخ القادر على اقتحامها قمنا مباشرة بتدميرها والاستحواذ على ما بها من أسلحة وأموال.»
قاطعه وزير الدفاع قائلاً: «ولقد قررنا ذلك بالفعل.»
ثمّ نظر مجددًا إلى رئيس الاستخبارات قائلاً: «كما أنّ التقارير التي تُرفع إلينا بشأن ما وصل إليه التكنولوجيّون مِن غيرنا مِن علم ومدى أهميته وتأثيره على مخططنا العالميّ فإنّنا نردُّ عليهم مِن واقع علمنا، وتكنولوجياتنا، ومدى إبطال هذه العلوم إذا ما نافستنا.
ولقد رُفع إلينا ملف العالم المصريّ الأخير، وأوضحنا في التقرير أنّ اختراعه سيجعل مصر من أغنى دول العالم مما سوف يتسبب تبعًا لعرقلة مسيرة مخططنا، واستنادًا إلى تقريرنا صدر الأمر مِن سيادتكم إلى الموساد باغتياله. ولقد أرسلنا إليكم عدة طرق علميّة لاغتياله.» سكت ثم تابع كلامه مجددًا وهو يشير إلى رئيس المخابرات: «ولذلك تفضّلتم سيادتكم وقتلتموه بطريقة تستحقّون عليها الثناء على قدرتكم المذهلة في الوصول إلى الهدف. ولقد رفعتم لنا تقريرًا منذ أيّام بشأن الفتى المصريّ فهمان طالب بيركلي، وأوضحنا لكم في التقرير أنّه ما زال بُرعما صغيرًا وقزمًا كبيرًا ولا يستحق جهدنا وعناءنا؛ فمازال في المهد لم يصلب عوده بعد، وقلنا لكم ضعوه تحت المراقبة؛ فقد يكون رجلنا مستقبلاً، أمّا بشأن الخلية الصماميّة؛ فهذا الاختراع رغم أهميته إلَا أنّ فكرته بسيطة.»
نظر رئيس الموساد إليّه ممتعضًا وقال: «لعلّ القزم الآن يتعملق غدًا، والغزال يتذئّب.»
رمقه وزير التكنولوجيا باستياء ولم ينبس بكلمة.

إبراهيم امين مؤمن
08-29-2021, 09:33 AM
واستهل رئيس جهاز مخابرات الموساد وأمان والشاباك كلمته بالشكر إلى وزير العلوم والتكنولوجيا على كلّ الردود والتقارير التي ترد إليه بشأن تفاعلهم الجيد مع حركة التقدم التكنولوجي العالمي. بعد ذلك دخل في الموضوع الذي يخص هيئات مخابراته الثلاثة حيث قال: «أيّها السادة، أريد أن أنوّه بعقيدة أعتنقُها كما يعتنقُها الحاخام الأكبر وكذا كلُّ الحاخامات وكلُّ مَن في هذا المجلس وكلُّ مسئول عن دولة إسرائيل؛ بل وكلُّ فرد مِن الشعب اليهوديّ، إنّنا ندافع عن أنفسنا، نحن لا نهاجِم، لا نظلِم، لا نتسلّط، نحن ندافع عن أنفسنا قبل أن يقضوا علينا فتزول دولتنا. أيها السادة، أنا أدافع عن رضائعنا، عن نسائنا، عن شيوخنا، عن ديننا. كلّ أجهزتنا الثلاثة الآن ستعمل في السرّ والعلن مِن أجل تصفيّة قدرات الجوييم العسكرية والاقتصاديّة والتكنولوجيّة، وليس بخافٍ على أحد ما صنعه جهاز المخابرات الإسرائيلي من أجل دولة إسرائيل مِن عمليات قنْص واغتيال لرموز المقاومة الفلسطينية الآثمة. كما لا يخفى أيضًا عمليات الاغتيال الواسعة للرموز العلميّة العربيّة التي كانت وما زالتْ تمثل بحقٍّ مصدر رعب وإزعاج لدولة إسرائيل. وخير دليل العمليات الأخيرة التي نفّذناها بكلّ دقة؛ وخاصة تلك العملية التي قمنا بتنفيذها في فندق سونستا طابا. مهامنا حساسة جدًا في الفترة المقبلة، فهي تختلف عن الماضي قلبًَا وقالبًا، وترجع حساسيتها وخطورتها لظهور كلِّ العلامات التي تؤكد أنَّ هرمجدون على الأبواب، كما تفضّل أخي ورئيسي يعقوب، وكذلك حاخامنا المعظم. وتزداد الحساسية في المرحلة التي تلي نزول المسيا الملك، إذْ إنَّ على إسرائيل التخلّص مِن كلّ حلفائها. وعند نجاحنا تبدأ الحرب النوويّة العالميّة ثمّ نزول المسيا الملك لخوض الملحمة الكبرى.
وعند قيامها لابدَّ أن تكون إسرائيل هناك، أتعلمون أين؟ تحت الأنفاق، وفي الجحور رغم قيامها على أرضنا الأولى فلسطين. وأكيد تعرفون عملية العقرب الطائر التي نفذناها بكل دقة.
أيها السادة، أفضّل أن أريكم مشهد الاغتيال الذي عجز فيه المحققون عن كشف هوية قاتليه إلا بروفيسور بيتر الذي اكتشف على الفور أداة الجريمة -لأنّه تخصص فيزياء طبية- حيث إنه علم من ملامح المقتول وكلامه أنّه مسموم بمادة البوتولينوم.
انتظروني.»
مدّ يده وأخرج فيلمًا حجمه كحبة الأرز، ثمّ أشار قائلاً: «هذا فيلم الاغتيال، سترون الآن مِن خلال هذا الفيلم كيف نجح رجالنا في القضاء عليه.» ووضعه على الفور في الحاسوب.
كلُّ أبصار الجالسين الآن تحدّق في الحاسوب انتظارًا لبدء العرض، بينما أمسك رئيس المخابرات عصا للإشارة، وبدأ البيان، أشار إلى موضع تنفيذ العمليّة قائلا: «هذا يا سادة مكان العمليّة، كما ترون عبارة عن حجرتين واسعتين تتوسطهما ردهة أثاثها عبارة عن مائدة طعام ثابتة وصالون فخم و....الخ. بداية، علمتْ مخابراتنا بوجهتيهما -وهو هذا الفندق- فشغلنا كلَّ حجرات الفندق بأفرادٍ منّا حتى لا يأتي نزلاء فيشغلون الشقة الهدف. وصلا الفندق وبصحبتهم فريق متطور من المخابرات المصريّة لحراسة بروفيسور بيتر، ثمّ اتجهوا إلي الاستقبال، عندئذٍ أسرعنا بترْك الشقة الهدف. العملية عبارة عن دسّ السمّ في الطعام عن طريق الروبوت الحامل له، وكان التحدّي الأكبر فيها هو قيامنا بتسميم المصريّ فقط؛ فقد علمنا من خلال مراقبتنا لهما أنّهما يأكلان معًا ويرقدان في مواعيد محددة بالدقيقة تقريبًا، فقد كانا منظمين إلى أبعد الحدود. وجهاز الأمن المصاحب لهما لا يسمح بدخول أيّ شيء إليهما مهما كان، لا طعامًا ولا شرابًا ولا أيّ أغراض إلّا بعد الكشف عنه، وطبعًا لو وضعنا السمّ سيكتشفونه قطعًا. وسيذلل هذه التحديات عقربنا الطائر. انظروا، ها هو طعام الأرز يتمّ فحصه من قِبل أحد الحرس المكلفين بحراسته، العالمان للأسف الشديد يأكلان في طبق واحد لأنّهما حميمان لدرجة كبيرة ، أُدخل ووضع علي المائدة، بعد دقيقتين بالضبط من دخوله خرجا من حجرتيهما لتناوله. والآن، جاء دور العقرب الطائر -إنه بحجم حبة الأرز بالضبط، ولونه لونها- يتمّ دفعه من خلال بطارية نانويّة، وكان التحكم في حركته والتواصل معه من خلال رائد فضائنا -الذي أرسلناه على متن المركبة الفضائية الدولية من خلال القمر الصناعي الإسرائيلي الذي كان يقوم بدور الوسيط- طبعًا يا أخوة، الروبوت يحتوي على هوائيات صغيرة للتواصل مع رائد فضائنا، فضلاً عن كاميرا نانوية صغيرة. ها هو يتسلّل بحنكة شديدة، يتسلّل، لا تخافوا، لن يصطدم بشيء لأنّه مزوّد ببرنامج مطور عبارة عن مجس استشعار سواقة له للسير في المكان المؤدي إلى المائدة. دخل المبنى، دخل، يتحرك للأمام -شكله كالذبابة بحجم حبة الأرز حتى لا ينكشف، ومع ذلك فقد كان يتوارى بين جدران الفندق متّخذًا طريقه نحو الهدف- ها هو يسير في الاتجاه الذي ترسمه له الشريحة بالضبط، يطير أحيانًا ويمشي أحيانًا وقد يقفز أيضًا (وأشار بعصا إلى أحد رجال المخابرات المصريّة، فقد كان سيره عكس اتجاه العقرب وفي نفس مساره) هنا قرأ العقرب المشهد واختبأ خلف جدار حتى مرّ، بعدها واصل سيره. استمرّ في طريقه حتى وصل إلى الباب، بحث عن ثقبٍ فيه ثمّ ولجه وألقى بنفسه في الطعام، وهنا كادت أن تحدث كارثة!»
شهق الجميع مع علمهم المسبق بنجاح العملية.

إبراهيم امين مؤمن
09-01-2021, 06:03 AM
وفور أن أنهى كلامه، بدأ يعقوب بإنهاء الكابينت من خلال عدة قرارات كتبها: «ممّا سبق أستطيع أن أقسّم الفترة القادمة إلى مرحلتين: مرحلة الاستعداد لهرمجدون، والأخرى الملحمة الكبرى. نحن نضع هاتيْن المرحلتيْن لنا أن أدركنا أحدهما أو كلاهما وكذلك للأنظمة التي ستلينا فيما بعد. ولعلّ متطلبات المرحلتين تجتمعان في بعض الحالات وتفترقان في حالات أخرى، لكنّ المؤكد أنّهما يتّحدان للوصول إلى الغاية المنشودة. سنضع الآن بروتوكولات مجلس الكابينت، الآن، على أساس أنّ مرحلة التنفيذ ستبدأ مِن الآن، الآن، نعمل اليوم وغدًا حتى الرمق الأخير مِن أنفاسنا ونسلّم الراية لمن بعدنا.
المرحلة الأولى:
- العمل على تعميق استدانة الدول أكثر وأكثر حتى تستطيع آل روتشيلد التحكم في هذه الدول وتحديد مصائرها.
- حان الآن لترك المواقف الناعمة، عليكم الآن بتنفيذ عمليات الاغتيال والتصفيّة لكلِّ مَن يعارض المخطط اليهوديّ، بلا رحمة.
- العمل على تخزين أكبر حجم مِن الأسلحة النوويّة في أنفاق تحت الأرض حتى لا يصل إليها أحد ولو إبليس.
- العمل على تعميق دور المنظمة الماسونيّة أكثر وأكثر ثمّ دسّها بين الشعوب العربيّة بعد أن تتزىّ بالسمت السنّي أو الشيعي، وذاك مِن أجل تعميق الخلافات بينهم حتى يقتتلوا، وكذلك من أجل طمس وتشويه أديانهم وثقافاتهم.
- عليكم بإعداد رجلنا جورج رامسفيلد لاعتلاء الرئاسة الأمريكيّة خلفًا للرئيس الحالي.
- أريد فضْح الأنظمة العربيّة الحاكمة وإعلان حالة الديمقراطيّة التي يعيشها الغرب، أريد انفجار الشعوب ضد الظلم، أريد خروجهم في مسيرات بالشوارع واعتصامات في الميادين، أريد حروبًا أهليّة، أريد انقسامات في الجيوش العربيّة، لا تدعوا الأنظمة العربيّة الحاكمة تسيطر على شعوبها بالديكتاتوريّة، حاربوا الحكم الملكيّ عندهم.
- إثارة النزعات المذهبيّة والعرقيّة والدينيّة بين العرب، أريد حربًا شعواء بين السنة والشيعة، أريد أن نجدّد حروب الخليج مرّة أخرى، لتكن الحرب الخليجية الأولى والثانية والثالثة والرابعة ..والعاشرة، ونعمل على دفع الحركات الانفصاليّة بين الشمال والجنوب في كلّ الدول العربيّة.
- العمل على توفير أسباب الصراعات العربيّة والعالميّة وتزكيتها لتتأجج أكثر وأكثر، حوّلوا التنافس الخشن لدول المياه بداية من منابعها ثمّ تغذيتها لهذه الدول حتى نهايتها وهي المصبات، لابدّ أن تتقاتل منطقة الشرق الأوسط على شربة الماء، فعليكم في هذا المضمار بمصر وتركيا والعراق وسوريا ولبنان والخليج والأردن، أريد أن يشربوا دماءهم بديلاً عن مياههم.
- أريد التشكيك في الحدود المرسومة بين الدول العربية، أريد عند هذه الحدود تسيل دماؤهم على ثراها.
- علينا بانتشار أسلحة الدمار الشامل بين الدول؛ حتى إذا قامت الحرب أنهكوا وأفنوا بعضهم بعضًا، علينا بتصفية لجنة التفتيش للطاقة الذريّة والتشكيك في أمانتها، والتوقف عن الهجمات الإلكترونيّة التي كنّا نخرّب بها البرامج النوويّة. عليكم بانتشار السلاح، رجحوا كفّة أمريكا أولاً ثمّ اقتلوها بعد ذلك.
- تهويد فلسطين، لا أريد ولو طفل رضيع مِن الفلسطينيين، وذاك من أجل السيطرة على الموقف وبناء الهيكل أثناء أو بعد هرمجدون ..وتُسأل في ذلك الهيئات والحركات المسئولة عن ذلك.
المرحلة الثانية...
- العمل على احتلال سوريا بأيّ ثمن؛ لأنّها أرض الملحمة الكبرى، والعمل على الخلاص مِن كلِّ خصوم أمريكا فيها، فهي الجسر أو المعبر إلى ضرْب روسيا ثُم الصين.
- العمل على تمكين المسيحيّة الصهيونيّة أن تخترق دوائر صنْع القرار في أمريكا، بل وتسيطر عليها وتتحكم في كثيرٍ مِن مقاعد مجلس الشيوخ والنواب وحكّام الولايات وموظفي المخابرات فيما يطلق عليه(المحافظون الجدد) أو الذين ولدوا مِن جديد بالمسيح والإنجيل.
- بعد الانتهاء مِن هرمجدون وفوز الولايات المتحدة الأمريكيّة في الحرب النوويّة بمعاونتنا، علينا بالسعي إلى قيام حرب أهليّة في أمريكا بإثارة العمال على الرأسماليين والبروتستانت على الكاثوليك والزنوج على البيض، كما يجب أن نسعى إلى تأجيج نزاعات بين أصحاب مذهب العصمة ومذهب النشوء والارتقاء، فلابدَّ من بلشفة القضايا كلّها. كذلك لابدَّ مِن توريطها خارجيًا في مجموعة حروب متتالية في أنحاء العالم، في الوطن العربي، في آسيا، في كلِّ العالم حتى تضعف فيسهل علينا الانقضاض عليهم وإزالتهم.
- العمل على نقض معاهدة المياه المبرمة بين أمريكا وكندا حول إدارة المياه الحدوديّة التي تضمّ البحيرات العظمى ونهر سانت لورانس، كذلك العمل على إثارة الفتنة بين الهند وباكستان حتى يتم نقْض اتفاقية أندوس للمياه التي كانت مبرمة في عام 1960 بوساطة البنك الدوليّ.
- بعد التمكين إن شاء الله، العمل في السرّ والعلن على طمْس الأديان كلّها بما فيهم المسيحيّة ومحوها مِن الوجود ولا حكم في العالم إلّا للتوراة.لا حكم إلّا لإسرائيل، لا أسياد إلّا إسرائيل.» أنهى قراراته ثم صمت هنيهات ليأخذ نفسًا عميقًا ثم قال: «وبذا انتهتْ قرارات الكابينت وعلى اجتماع بودابست أن يعمل على تفعيلها أيضاً، موافقون؟»
قال الجميع موافقون.
وضعوا أيديهم فوق بعض حتى وضع رئيس الوزراء يده تلتها مباشرة يد الحاخام وأقسموا باسم الربِّ ليضحّون بالغالي والنفيس في سبيل تحقيق مجد إسرائيل.
***
أدّى يعقوب طقوس صلاته كما هو متعود، لكنّها هذه المرّة أداها صلاة شكر، وانزوى في المعبد ليشكر الله على نجاع اجتماع الكابينت. ولمّا همّ بترْك المعبد؛ ناداه حبره الذي يلقنه الصلاة منذ أربعين عامًا ولم ينقطع عن تلقينه مطلقًا.
قال غاضبًا: «يعقوب يا ولد، تعال.»
فاندهش يعقوب لتذمّره وغضبه، استدار ملبيًا: «لبيك وسعديك أبتِ.»
ثمّ هرول إليه وانكب على يده وقبلها.
سحب يده تقززًا ثم قال: «ما هذا الذي سمعته بشأن اجتماعك السبت الفائت؟ أذئبٌ أنت؟!»
رد مندهشًا: «لم أكن ذئبًا، بل خادم دولة إسرائيل.»
قال بصوت عالٍ وهو يزمجر: «بالدم! بالحرب! بالثأر والانتقام! أمْ بغدر دولة تساعدنا كأمريكا؟!»
- «ليست هناك وسيلة أخرى غير ذلك.»
قال بصوتٍ هادئ: «يعقوب، أنا لا أخالفك أنّنا أبناء الله وأحبائه وأسياد العالم، لكنّ الربّ يحبّ السلام، ويحبّه أيضًا من أحبائه.»
- «سيدي، وهل العالم سيقتنع أنّنا أسيادهم وهم عبيد؟»
- «يقتنع أو لا يقتنع فهذا شأنهم.»
- «معذرة سيدي، التاريخ أثبت العكس سيدي، حاولوا أكثر مِن مّرة استئصال الجنس اليهوديِّ كلّه مِن على الأرض بسبب عدم قناعتهم بهذا المعتقد حاخامنا المعظم.»
- «ما حاولوا ذلك إلّا لأنّنا ضللنا، يفكرون بطريقتك الآن، كنّا دائمًا نحاول أن نأخذ حقنا بالثأر ولذلك قتلنا، علينا باستخدام التسامح الذي أنادي به دائمًا.»
- «معذرة سيدي، التسامح لا يصلح مع اللئام؛ مما سوف يتسبب في هزيمتنا.»
- «يعقوب، بل الثأر والحرب هما اللذان سيمحواننا مِن على الأرض.»
- «معذرة سيدي، أنا مقتنع بما أفعل.»
صرخ غاضبًا: «يعقوب، يعقوب، احذرْ، ارجعْ، أبذر الرحمة والحبَّ والتسامح، يعقوب، إسرائيل في عنقك لا تضيعها.»
- «معذرة سيدي، الجنس غير اليهوديِّ متمرد ومتكبّر ومصّاص للدماء، كلهم لئام، فإن فعلت بحسب طريقتك سيركبونا كالبغال.»
قال ولا يزال يصرخ مع ظهور الغيظ على ملامح وجهه: «طول ما أنا حي لا تدخل هذا المعبد، اخرجْ مطرودًا كإبليس؛ عليكَ اللعنة.»
خرج يعقوب من المعبد عازمًا على ألَا يعود حتى يحقق هدفه ويثبت صحة رأيه.

***



حكمة: صريف أقلام التوراة تُدمي قلْب العروبة...
جلس فهمان وجاك لتناول العشاء وهما يشاهدان التلفاز، قال فهمان لجاك: «أتمنى بناء مصادم جديد غير هذا الذي في سيرن fcc-1 -هو مصادم متوقع انشائه خلفاً لمصادم hlc-»
فقال جاك: «وأنا أريد أن ابتكر مركبة تستطيع السفر إلى النجوم.»
وتبادلا النكات واللطائف حول حياة الصبا والشباب؛ وبالأخصّ عاميّ الجامعة التي مرّتْ، ورغم الذكرى الأليمة التي حدثت لفهمان إثر بلاغ اليهوديّ فيه إلَا أنّ جاك ذكرها وحولها إلى نكتة، حيث ذكر جاك نظارة جوجل للواقع الافتراضيّ ومنظر اليهوديّ وهو يسحب البلاغ.
ولا يزال فهمان يقهقه على شكل اليهوديّ أمام وكيل النيابة، وما زال يستخفّه السرور المرتسم في لمعان عينيْه وابتسامة شفتيْه، حتى وقع نظره على قناة تتكلّم عن الشأن العربي والمصريّ خاصة. فألقى بسمعه وبصره لسماع الأخبار. ولقد ساقته هذه الأخبار إلى تذكر اجتماع الكابينت الذي عقد منذ سنة تقريبًا. فأراد أن يعبّر فهمانُ لجاك عن قلقه إزاء هذا الاجتماع رغبة في كشف النقاب عنه.
قال جاك: «اعتقد يا فهمان أنّ لهذا الاجتماع أهمّية خاصة بسبب حضور الحاخام الأكبر.أظن أن العالم يطرق أبواب حرب نووية.»
وبينما يشاهد فهمان الأخبار وجاك لا يزال يتكلم عن أضرار اجتماع الكابينت؛ فإذا به يجد ظنون جاك تحوّلتْ إلى حقيقة، حيث تعلن القناة الإخباريّة ما توقعه الساسة منذ عام عن الشأن العربيّ، حيث توقّعوا انفجار المنطقة العربيّة بالثورات إثر الاجتماع السالف الذكر.
يقول الإعلامي على لسان بعض الساسة: «إنّ انفجار المنطقة مقترن بتثبيت أقدام الإسرائيليين على أرض فلسطين، فإذا سيطروا على كافة الأمور عليها كانتْ نذير فوضى في المنطقة العربية بأسرها.»
فهاله ذلك، وقدْ ذهبتْ البسمة التي كانتْ تسكن شفتيْه واحتلها الحزن، وقد ارتسم على ملامح وجهه العبس. فحزن جاك لحزن صاحبه، فدفعه لمتابعة الأخبار.
أضاف الإعلامي: «وقد أكدوا أيضًا أنّ اجتماع الكابينت ما هو إلّا مخطط محكم لقيام حرب نوويّة، وها هي توقعات الساسة تصبح حقائق تلقي بظلالها على أرض العروبة. ثورات عربيّة في كلِّ مكان، يظهر هذا جليّاً مِن خلال مشاهد مأساويّة تخطها شعوبهم بثورات عارمة تجتاح الشوارع والميادين. شعارات ثوريّة طوباويّة طموحة، إصرار وعزيمة على تغيير الأنظمة ومحاسبة المسئولين عن الفساد الذي استشرى في كلِّ بلد منها. الشعب يريد إسقاط النظام، يسقط يسقط حكم العسكر، ديمقراطيّة، حريّة، عدل ، مساواة ، فضلاً عن العبارات الشعبيّة السجعيّة والقصائد كذلك. يسيرون في الشوارع والميادين حاملين بين أيديهم جالونات ماء فارغة إشارة إلى العطش الذي عمّ معظم البلاد العربية.»
عاين فهمان هذه المشاهد عبر التلفاز، ثُمّ تذكر صفحة سوداء من تاريخ الأمّة العربية وبالتحديد ثورات الربيع العربي ، تلك الثورات التي أفقرتْ المنطقة وأرجعتهم لعشرات السنين إلى الوراء. ومِن هول ما وجد في هذه الصفحات السوداء مِن التاريخ خشي على مصر، فارتعد، ومن فوره همس متوجعًا: «مصر، مصر.»
وبيد مرتعشة أمسك روبوت التلفاز، وركّز على القنوات المصريّة ليعاين سير الأحداث؛ فلم يجد إلّا مباريات كرة قدم وأفلام ومسرحيات وأغاني وطنيّة وأفلام تسجيليّة عن حرب أكتوبر 1973. تركَ قنوات النظام وذهبَ إلى قنوات المعارضة والقنوات الأجنبيّة فوجد المشهد على حقيقته، ثورات عارمة في كلّ الشوارع والميادين والتحامات دمويّة بين النظام والشعب. ورصاص مطاط وقنابل مسيلة للدموع واختراقات الأجهزة الأمنيّة ومهاجمة السجون وتحرير محبوسيها و .. الخ .»
فقطّب غاضبًا وقال متمتمًا: «لو لم يحتوِ الجيش الأمر فستنهار البلد.»
فقال جاك مطأطأ الرأس: «صدقت، صدقت يا فهمان.»

إبراهيم امين مؤمن
09-14-2021, 03:11 AM
وظلا يتابعان أحداث المظاهرات على القنوات الأجنبيّة وبعض القنوات العربيّة.
قالت القناة: «وفي الشأن المصريّ، خرجتْ جموع الشعب المصريّ من مختلف المحافظات حاملين جالونات مياه فارغة، أما القاهرة فقد تمركزوا في الميادين الرئيسة وخاصة ميداني التحرير ورابعة؛ فضلاً عن وقفات احتجاجية أمام الوزارات ولاسيما وزارة الدفاع.»
أخبار هذه المظاهرات تأتي أولاً بأول إلى وزير الدفاع -مهديّ- والمجلس العسكريّ. ومهدي لا يؤمن بهذه الثورات، وظل في حالة غليان محدثًا نفسه: «لن أهدأ حتى تنتهي هذه الثورات بأمان.» بينما المجلس العسكري كثيرًا ما يخاطب بعضهم بعضا قائلين عبارة: «ها قد فعلناها، لقد نجحنا.»
بدأ الإعلام المصريّ يهتزُّ ويتذبذبُ في مناصرته للنظام بسبب تلك الجموع الغفيرة التي قد تتسبّب في عزْل الرئيس الحالي والمجيء برئيس يعمل على محاسبتهم، فآثروا الصمت.
أمّا يعقوب إسحاق فيتابع المشهد من خلال التواصل مع أعضاء الموساد من قلب المظاهرات قبل أن تُبث إخباريًا.
أدار فهمان إلى قناة أخرى تُبثّ من دولٍ تعارض النظام.
قال الإعلاميّون منها: «خرج المتظاهرون بعد نفاد الماء كلية من الدولة فضلاً عن قلة الزاد، يعلنون بسلمية تامة رغبتهم في تغيير النظام الفاسد، فواجههم النظام بالأسلحة الجرثومية والكيميائية حفاظًا على مؤسسات الدولة من الانهيار.»
علقّ جاك على الأحداث بأنّ رؤوس الحركات الثوريّة هذه من أعضاء الموساد الإسرائيلي. ومما قال أيضًا: «إنَّ أعضاء الموساد ظهروا بلحىً طويلة ونظموا أنفسهم فاندسّوا بين المتظاهرين لتشعل الموقف؛ فكانوا أعلامًا ورايات سارت خلفهما جموع الشعب المصريّ.»
وما زال الإعلاميّون يتكلمون، والبثّ مستمر لا ينقطع أبدًا.
حوّل فهمان القناة بيد مرتعشة فسمع لإعلاميّ إحدى القنوات التي تمالئ النظام الحاكم في مصر: «ولقد كان المتظاهرون يحملون جوالين تمتلئ بذخائر حية، وقد كان بعضهم يحمل أسلحة محرّمة دوليًا تمّ تهريبها عبر أنفاق سيناء، وقد قام الإرهابيون بحرق عربات الأمن، ولقد فشلوا في نسف مؤسسات الحكومة بالقنابل الذرية.»
ولقد كان مؤيد يتابع الأخبار من نفق الوادي الجديد فسمع هذا الكلام فانفجر ضاحكًا، حتى أنهكت قهقهاتُه أحباله الصوتية فسعل سعلات أدمعت عينيه، بينما عبد الشهيد قال هازئًا: «أحمد الله، أنّا بريء.»
ومن تل أبيب، نجد إسحاق يعقوب قد تملكته هيستريا من الضحك المتواصل.
قلّب فهمان القنوات بجنون بحثّاً عن خبر عن المجلس العسكريّ فسمع لجماعة من أفراد الشعب تقول: «كنّا نرابط من بعيد بجانب صناديق القمامة الفارغة انتظارًا للطعام الذي يأتينا من داخل الوحدات والكتائب في الجيش، وأحيانًا كانت تصلنا رسائل من الذين يأتوننا بالطعام، يقولون فيها بأن مهديّ يسلم علينا ويدعوننا بالتحلي بالصبر حتى تخرج مصر من أزمتها.»
سمعها فهمان فشعر بوجود أمل، وسمعها مهديّ فأجهش بالبكاء.
قال جاك معلقًا: «وهذه هي الحقيقة يا فهمان، لقد تراءى للغالبية مِن أعضاء المجلس العسكريّ الخروج على هذا الحاكم الدمية الخائن، وأنّ هذا في مصلحة البلد، بينما الموساد ينظر إلى الثورة المصريّة مِن زاوية أخرى، فزاويته هي رؤية الثورة بأنها فوضى ستؤدّيّ إلى حروب داخليّة وانقسامات داخل الجيش.» سكت هنيهة وأخذ نفسًا عميقًا ثم قال بفطنة: «وهكذا اتفق الاثنان على حتمية الثورة، لأن فيها إصلاحًا لكليهما.»
ومن داخل مبنى المجلس العسكري نظر مهدي إليهم بحنق وقال: «أنا أعلم جيدًا أنّكم تخططون للخروج عليه منذ عامين ولقد نهيتكم.»
قال أحدهم: «نعلم يا مهديّ أنّك تعرف، ولذلك اخترناك من بيننا لتأخذ بيد مصر وتخلصها مِن ذلك الخائن الغادر، ونجلّكَ ونقدّركَ بسبب زهدك في الحكم، وحبك وخوفك على مصر.»
ردّ مهديّ بصوت فيه حيرة: «وماذا علىّ أن أفعلَ الآن؟»
ثمّ قال بصوت مرتفع فيه سخرية: «أضربُ في الشعب بالسلاح النوويّ أمْ أجعله يعرّي الجيش ويطأ بأقدامه الزيَّ العسكري فيدنّس شرفنا؟»
فقالوا له قول الواثق المدرك: «اعقلَها يا سيادة الوزير، اعقلها يا مهديّ. أقولًُ لك ماذا يجب علينا فعله، نعزل الرئيس ونحاكمه ونعينك رئيسًا للجمهوريّة في انتخابات لاحقة.»
فردّ زاهدًا: «ومَن قال إنّي أريد رئاسة الجمهوريّة؟ أعلم أنّ كل الجيش يحبني، ومع ذلك لا أريد أن أنقلب على الرئيس، كما أني لا أحبّ الثورات. وأرى حتمية مجابهة الثورة بالحلم والرويّة.»
بينما هم على هذا المراء والجدال نظروا إلى شاشة التلفاز التي تبثُّ المظاهرات، فشاهدوا المتظاهرين ينادون بعزل الرئيس ومحاكمة رؤوس النظام الفاسد، كما نادى بعضهم بتبني مبدأ الاشتراكية وتفشيه فيما بينهم حتى تقلل من الفجوات الطبقية بين شرائح المجتمع المختلفة.»
نظر إليهم ولوّح بيده وقال لهم: «هذه الشعارات من تخطيط المنظمة الماسونيّة، ها هي تفعل الأفاعيل بنا، شيوعيّة واشتراكيّة وديمقراطيّة وما خفي كان أعظم.» ثمّ رفع سبابته قبالة وجوههم معاتبًا: «أنتم الذين أعطيتموهم الفرصة للتوغل والاندساس في صفوف المتظاهرين ليطالبوا بهذه المذاهب المدمّرة للمجتمعات العربية.»
ومن تل أبيب، قال كذلك يعقوب إسحاق كلمته تعليقًا على المشهد بتزامن غير مقصود مع كلمة مهديّ لأنّ هذا لا يرى ذاك والعكس: «ها قد نجحنا. » ورفع يديه إلى أعلى وأخذ يكرّر: «حققنا هدفًا في مرماهم، دخّلنا هدف.» ثمّ هاتف رئيس مخابراته قائلاً له: «أرسل المزيد من أفراد المنظمة.»
نظر مهديّ وكلمهم مستطردًا: «للأسف لم تتيحوا لي حلاً آخر، لابدّ من إنهاء الأزمة التي رسمتم ملامحها أيّها الأغبياء، فهذه المطالب الغريبة وهذه الدماء الفائرة ليس لها علاج إلّا عزله.»
قالوا بصوت واحد: «توكّلْ على الله.»
لوى مهديّ عنقه وكرّر كلمتهم بميوعة، فغرضه الاستهزاء بفعلهم: «توكّل على الله، توكّل على الله، إذن استعدوا لانقلاب قد يذهب بدماء آلاف الأبرياء إن لمْ ينجح، واعلموا لو دخلت القوات الأمريكيّة البلد فكلنا سنذهب وراء الشمس.»
نظر بعضهم إلى بعضٍ مبتسمي الثغور، ثمّ هبّوا بكلمة واحدة تنمُّ على توحيد القلوب والصفوف: «توكّل على الله.»
لم يهنأ فهمان بعيش مطلقًا بعد هذا الذي يحدث في مصر، فراشه لظىً، ونهاره كبد. يرى جاك حالته تلك ولم يألو جهدًا في مواساته، فكثيرًا ما يقول له بأنّ المجلس العسكريّ سيحتوي الموقف.» لكن حاله لم يتغير فقد سطت الكارثة على مداركه فشلت كلّ شيء فيه.
ولأول مرة يفتقده جاك، افتقده كثيرًا حتى اعترته العصبية في صحوه ونهاره لدرجة الجنون.
حتى إنه ذات يوم خرج وحده إلى الجامعة بعد أن فشل في إقناع فهمان بحضور هذه المحاضرة الهامة، فلمّا وصل جلس في مقعده، ونظر إلى مقعد فهمان الفارغ فاغتمّ وبكى، فجأة، جاء أحد الطلّاب وجلس في هذا المقعد، فنظر إليه جاك وقال له: «قمْ من هنا أيها الفتى المتسلّط.» فردّ عليه: «أنا لم أكن ساطٍ أيها الفتى المتعرّب.»
فقام جاك ورفعه بيدٍ واحدة وألقاه من نافذة القاعة، ثمّ ترك المكان يضرب بكلتا يديه وقدميه كلّ ما في طريقه.

إبراهيم امين مؤمن
09-22-2021, 01:09 AM
بطل استثنائي
تناول بيتر صحيفة علمية حديثة الإصدار تتكلم عن مصادم fcc-1 بسيرن ليتابع أخبار ابن فطين. وأثناء تناوله لمعطيّات الأخبار قام بعمليات بحث بسيطة على الحاسوب ليعلم حجم الإنجازات العلميّة التي وصل إليها الفتى، فوجد -الانجازات- قد بلغتْ عنان السماء، وهي الآن على أبوابها تريد أن تطرق وتخترق كلّ الحُجب والأستار. فأعجب بذلك كثيرًا، ودفعه ذلك الإعجاب إلى مهاتفة مؤيد: «اذهبْ إليه يا ولدي كما قلت لك سابقًا.»
- «هذا ما نويت عليه بالفعل.»
- «رحم الله فطين، قد كان على حق، وهذا يؤكد أنه ذو فراسة منقطعة النظير.»
وفور أن أنهى مكالمته أرسل إلى عبد الشهيد -إنّه حافّ الشارب كثيف اللحية يلبس جِلبابًا قصيرًا يتعدّى ركبتيه أو كاد، وسروالاً يبلغ نصف ساقيه، يعتمُّ بعمامة بيضاء- ليصطحبه إلى مكان كان كثيرًا ما يجلس فيه وحده، وقال له: «يا عبد الشهيد، اِدفنّي هنا.»
- «أطال الله عمرك يا جدّي.»
ثمّ توكأ عليه قاصدًا حجرته ثمّ قال له: «يا عبد الشهيد، دعني اختلي بربّي ساعة أؤدّي فيها صلاتي، ولا تدع أحدًا يدخل عليّ.»
وفي خلوته قرر أن يترك لهذا العالم رسالة عامة؛ تحمل في مضامينها دعوة إلى السلام منوهًا إلى بشاعة الاحتلال الإسرائيلي واضطلاعه الصارخ في تأجيج الصراعات العالمية لاحقًا، فضلاً عن دور الدين في تأسيس هذا الصراع.
ومن أجل ذلك، رجع بذاكرته إلى الماضي، وبالتحديد لحظة هروبه مِن فندق هيلتون طابا حتى اللحظة الراهن -لحظة الموت- فأمسك بورقة وقلم ليضع رسالته - رسالة قصة أعظم خبير فيزياء طبية عرفه التاريخ-: «خرجتُ مِن الفندق خائفًا حزينًا، فقد هالني منظر صديق عمري وهو يموت تحت تأثير السمّ -وأعلمُ أنّ فرصة نجاته مستحيلة؛ لسمية البوتولينوم الشديدة - وخشيت أن يتبعني القتلة، فركبتُ سيارتي أعدو بها إلى حيث لا أدري، المهم أن أضمن ألّا يقتفي أثري أحد، فوصلت إلى إحدى الصحاري الفسيحة، عندئذ، اقتعدتُ الأرض، وتناولتُ حفنة مِن ثرى مصر وشممتها؛ فانتفض جسدي وارتعش، واغرورقتْ عيناي بالدموع على صديق عمري الذي اُغتيل بسبب هذا التراب الذي بيدي. ثمّ تأملته قائلاً: «التراب هذا في كلّ بلد، لكنه تراب من انتمى إليه، والشرفاء ينتمون إلى الأوطان الطيبة، وأنا أعشق تراب فلسطين. أعشق تراب فلسطين التي وما زالتْ بين أنياب منظمة صهيونيّة عالميّة. علىّ أن أصل إلى التراب الذي أحبّه، التحفه غطاءً وافترشه مرقدًا، وأناصره نصرًا مؤزرًا.
فوثبتني عزيمتي؛ فانتصبت قائمًا وعلى الفور هاتفتُ مؤيدًا الذي أعرف حبه لفلسطين جيدًا، ولا يجهل حبي لها -فلسطين- كذلك.
طلبتُ منه أن يأتيني. فآتاني مِن الوادي الجديد، واصطحبني مباشرة إلى منزله الكائن فيه. كلّمته على كلِّ ما يجيش بصدري وأخبرته بحادثة الفندق، وما كنت أنتوي فعله منذ أن جئتُ مع العالم المصريّ -ألا وهو مناصرة القضية الفلسطينيّة- وبالفعل قادني إلى هنا -نفق اتحاد المقاومة بالوادي الجديد- وكانت مهمتي القيام بعمليات زرع الوجوه لأفراد اتحاد المقاومة ليستطيعوا التخفّي والاندساس بين أفراد المخابرات الإسرائيليّة، وأقوم كذلك بإجراء عمليات لغير أفراد اتحاد المقاومة ليدفعوا لنا ما نستعين به على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. ولقد قمتُ بالعديد من العمليات وأفدتُ المقاومة بمليارات مِن الدولارات. وإنّى أعلم أنّ السي آي أي والموساد يجدّون في البحث عنّي، وسيعرفون لاحقًا أنّ بيتر لم يكن ناكرًا لمعروف بلده، بل أراد أن يسدي لها معروفًا بمناصرة القضية الفلسطينية بعد أن ارتكبت بلده -أمريكا- كبائر الذنوب بخذلانها.
ودومًا أسأل نفسي: «طول عمرك يا بيتر وأنت تبحث عن كينونة الإله ولم تهتدِ لشيء، طول عمرك تبحث عن الدين الذي تودّ اعتناقه ولم تهتدِ لشيء، الشيء الوحيد الذي اهتديت إليه أن تكون إنسانًا موحدًا يا بيتر، وأن تناصر الإنسان، ولكن أين التوحيد؟ في القرآن، أم الإنجيل، أم التوراة. أين المفرّ .. المفرّ .»
وألقيتُ الورقة والقلمَ، وحملت القرآن والإنجيل بقوة، وقلتُ الآن أبحث عن الإله فيهما، وقرأتهما، فوجدتُ الإله في كليهما، وحرتُ ولم أستطع الاختيار، فكتبت ورقة ووضعتها بين الكتابين المقدسين حتى يقرأها مؤيد ويرسلها إلى كل أديان الأرض، ثمّ ألقيتهما جانبًا وألصقت جبهتي بالأرض لأطلق آخر أنفاسي في هذه الحياة. والآن، تهدأ العيون وتنام يا بيتر، ويطيب المنزل إن شاء الله، اليوم ألقى ربّي بوضع خدي على ثرى وطأته أقدام رجال اتحاد المقاومة الفلسطينية ولي الشرف . إمضاء بيتر، رسولٌ للسلام.»
وأطلق أنفاسه الأخيرة وهو يعطر أنفه بثرى النفق. افتقده عبد الشهيد فهرول إلى خلوته فوجده قد مات، فانهمر دمع عينيه ثم ما لبث أن هاتف مؤيدًا ليخبره أنّ بيروفيسور بيتر انتقل إلى رحمة الله تعالى وقد أدّى صلواته قبل أن يموت.
وفور وصول مؤيد لتوديع الجثمان -قبل وضعه في غرفة التبريد العميق كما هو معتاد لمُتوفي أفراد الاتحاد- سأل عبد الشهيد: «أيّ صلاة أدّاها؟»
فأجاب: «لا أدري، كلّ ما قال لي: «يا عبد الشهيد دعني اختلي بربي ساعة أؤدّي فيها صلاتي ولا يدخل علىّ أحد.»، فسألته: كم ركعة ستصلي؟» وطأطأ رأسه وهو يلوح بيده اليمنى وقال: «سألته يا دكتور لأعرف أيصلي صلاتنا أم صلاة النصارى؟
فقال لي: «ألم يكن ربّ القرءان هو ربّ الإنجيل هو ربّ التوراة يا عبد الشهيد؟».»
- «وأين هو؟»
- «في الداخل.»
دلف مؤيد الباب ودخل، فوجد على صدره كتابيْن أحدهما داخل حافظة قاتمة والآخر عارٍ، أزاحهما ثمّ احتضنه وصرخ باكيًا بصوت متهدج متململ يصاحبه خنين: «والله لرائحتك وأنت ميتًا أزكى عندما كنتَ حيًا! ولم لا وقد عشتَ للحقّ،ِ ومتّ على الحقّ، وكنت مثالاً للعالِم الذي وظف علمه لمناصرة الحق، مناصرة الإنسانية التي تتبلور في أوج صورها عند مناصرة القضية الفلسطينية.»
وظلّ بجانبه فترة يمعن النظر في ملامحه الملائكية التي ودّعتْ الحياة، ثمّ رفع الكتاب العاري فوجده الإنجيل، وتلاه رفع الكتابِ الثاني وفتح السوستة القاتمة ليراه، توسّع بؤبؤا عينيْه وانكفأ بنصف جسده إلى الأمام وحدّق فيه، ثمّ فتحه؛ فوجده هو هو ما كان على حاشية الكتاب "القرءان الكريم" وكان هناك خيط رقيق في أوّل سورة المائدة. فوقع في نفسه أنّه كان يبحث عن الحقيقة.
فهمس له قائلاً: «أعتقد أنك وجدت الحقيقة، ولم لا وقد وجدتها من قبل في شأننا (يقصد مناصرة دولة فلسطين)، ولم ألحظك طول فترة بقائك لدينا أنّك صليت، لا صلاة المسلمين ولا صلاة النصارى، ولكني متأكد أن أمسكت رأس الحقيقة، ولقد استعصى علينا معرفة ذلك عنك لأنها -الحقيقة- كانت بداخلك لم تجهر بها.»
انتهى من حديثه له، ثم جلس بجانبه ساعات ليمتع أنفه برائحته، وتلذ عينيه بالنظر إله. ثم أخذ يتدبر في شأن الدينين، ومؤيد لا يؤمن إلّا بالإسلام كما قال ربنا "إنّ الدين عند الله الإسلام " لذلك تمنّى أن يكون بيتر تُوفي عليه.
ظلّ مؤيد على هذه الحالة، والحارس بالخارج يتعجّب من طول مكوث مؤيد حتى إنّه ذهب إلى عبد الشهيد يخبره بالأمر.
فقال له عبد الشهيد: «دعه، لعلّ الاستئناس بالأموات خير مِن الاستئناس بالأحياء في هذا الزمان ولاسيما عندما يكون المتوفي مثل بروفيسور بيتر.» وصمت متدبرًا وعيناه تذرف الدمع الحار عليه ثم دعا له: «الله يرحمك يا بيتر ويدخلك فسيح جنّاته.»
ولمّا همّ بالخروج لحظ الخطاب الذي سرد فيه بيتر كلماته فقرأه، وفور أن انتهى قال: «هذه رسالتك المقدسة إلى هذا العالم يا أبتِ؟ أتظن أن حسنات مناصرتك لنا ستغفر سيئات دولتك؟ أبتِ، إن الله لا يصلح عمل المفسدين، فهل تستطيع أن تصلحه أنت، هيهات، هيهات.»
دخل عبد الشهيد فوجده مؤيدًا يتحسر ويبكي فقال: «كفى يا أبتِ، كفى، لكفى وهيا نواري سوءته (يقصد تحنيطه).»
ردّ مؤيد متحسرًا: «لن نحنط بعد اليوم، فأنت تعلم أننا نحنط لأن بيتر الوحيد الذي كان يستطيع أن يزرع الأعضاء.»
قال عبد الشهيد: «أظنك تستطيع أن تعطينا كما كان يعطينا، و...»
قاطعه: «كان بارعًا ولا نظير له، ولا يمكن لأحد أن يعطي عطاء بيتر، لقد كان بطلاً استثنائيًا، يا عبد الشهيد، أؤمر قومك أن يصلوا عليه صلاة المسلمين قبل دفنه.»



المستحيل
بعد عدة أيّام من وفاة بيتر استقلَّ الطبيبُ مؤيد الطائرةَ المتوجّهة إلى جنيف لمقابلة ابن فطين، ومقابلته قد تكون فيها خطورة عليه، وذاك لأنّ فطينَ قد جاءه وفْد مخابراتي من السي آي أي ليحقق معه في شأن بروفيسور بيتر، وبالتالي فهم يرصدون الوجوه الغريبة التي تقابل ابنه لعلّه يمثل خيطًا لهم ليصلوا إلى بيتر رغم مرور أكثر من أربع سنوات على وفاته.
ومن المعلوم بالضرورة أنّ فهمان نفسه مراقب، من الموساد والسي آي أي معًا. ظل مراقبًا مدخل منزله ترقبًا لعودته، وفور أن رآه فهمان انطلق إليه مهرولاً ملقيًا بنفسه في أحضان مؤيد. فهو من رائحة أبيه، فضلا عن أن أباه أوصاه به، ولم ينس فهمان أنّه مَن أرسل له المال ليستكمل دراسته الجامعيّة والعليا، لم ينس كذلك الخطاب الذي أخبره فيه بوفاة والده، ولاسيما عبارة التوصية التي وصاه بها أبوه من جعل مؤيد سندًا له.
وأخذ يبكي بحرقة على كتف مؤيد وهو يقول بصوت متهدّج: «لِم لَمْ تراسلني طول كلّ هذه المدة؟»
فأجابه: «لدواعٍ أمنية يا ولدي.»
أدخله فهمان، ولقد لاحظ بأن أحد يرقبه، ولكنه لم يكترث هذه الساعة.
قال مؤيد: «بصراحة يا ولدي أنا جئتك في مهمة رسميّة.»
- «وأنا رهن إشارتك أبتِ.»
- «هل من أحد يقيم هنا غيرك؟»
- «لا.»
أخرج مؤيدٌ جهاز كشف التنصّت، وعندما اطمئن من عدم وجود شيء
تمتم بصوت منخفض: «أنا من أفراد المقاومة الفلسطينيّة.»
هبّ دهشًا كأنّه كان نائمًا، وسقط أبوه في روعه ومدى علاقته بالقضية الفلسطينيّة، ولذلك زايلته الدهشةُ ودنت منه الفرحة وقال: «إنّه خبر سعيد، أرجو أن يكون أبي منهم أيضًا.»
قال مطأطأ رأسه: «أبوك كان منّا يا ولدي، فقد ساعدنا كثيرًا.»
- «الحمد لله.» وشرع يدندن بالحمد والتهليل مترحمًا على أبيه.
أمعن النظر إلى فهمان وذكره: «أتذكر يوم أن رفع تذكرة الدخول في سيركه؟»
سرح كثيرًا وتذكّر يوم ضرَبه والده بشأن تجربة الحركة بتأثير الدماغ واتهامه لأبيه بالنصب والكذب، ووجد الإجابة على سؤال مؤيد عندما تذكّر قول أبيه: «لمّا الناس تدفع ضرائب لأجل المحافظة على هويّتهم وأعراضهم يكون هذا عارًا؟ لما دولة عربيّة تدفع لأخرى مِن أجل دفع ضرر المعتدي عليها يكون هذا عارًا؟»
ثم أجاب على نفسه بعد هذه التذكِرة: «لا لا يا أبتِ.»
قال مؤيد: «رفْْْع التذكَرةِ كان من أجلنا، من أجل أن يرسل لنا مالاً نتحصّن به، ولولا أبوك لهلكنا تحت الأرض.»
عندها سمع من مؤيد ما تخيّله منذ هنيهة فتأثّر بشدّة، اغرورقتْ عيناه ثمّ قال بصوت متهدج: «يا حبيبي يا أبي، لقد كدت أظلمك وأنت بريء، كان يجب عليك أن تخبرني حتى لا أسيء الظنّ بك.»
- «رحمه الله، كان أعظم الرجال.» ساد الصمت لحظات، ثم قذفه مؤيد قائلا: «فهمان يا ولدي، الأنفاق محاصرة بأدق الوسائل التكنولوجيّة، نريد وصول الإمدادات من الخارج لأفراد اتحاد المقاومة، نحن نتهاوى يومًا بعد يوم.»
ردّ بصوتٍ متهدّج وهو يكفكفُ دموعه: «الله ينجيهم، وما بوسعي أن أفعله؟ اؤمرني، رقبتي فداكم.»
- «نريد إيجاد وسيلة للدخول إلى الأنفاق والخروج منها دون أن يرانا أحد.»
- «مستحيل، العلم لم يصل بعد لهذه التكنولوجيا، العلم لا يزال عاجزًا عن إيجاد تفسير لبعض الظواهر الفيزيائية، والتخفي من ضمن هذه الظواهر.»
قال مؤيد متوجعاً: «لا يوجد حل إذن.»
- «يا أبتِ، إنّ عليكم من البداية أن تتنفقوا أنفاقًا بها مياه جوفيّة غزيرة، وأن يكون معكم خبراء في الطبِّ والزراعة وصناعة الأسلحة و... إلخ» وظل فهمان يتكلم ولم يبلغ كلام فهمان مسمع مؤيد؛ فقد لطمته الكارثة.
لقد لحظ فهمان توهان مؤيد، فأراد أن يغير مجرى حديث لا فائدة منه رغم الألم الساري به، ولذلك سأله: «أكيد أنتم مَن زرعتم له الرأس؟»
- «الله يرحمه، بروفيسور بيتر هو من فعل ذلك.»
دهش فهمان، ومن فوره اعتدل متسائلا بجموح: «تقصد بروفيسور بيتر العالم المختفي، أكفأ عالم فيزياء طبيّة عرفه التاريخ.»
ترحّم على بيتر بصوتٍ غير مسموع ثمّ جهر بقوله: «لا أمل إذن، يأتي الله بالحلّ مِن عنده إن شاء.»
ترك مؤيدٌ فهمانَ ومضى مكسور الخاطر قاصدًا العودة إلى مصر.

إبراهيم امين مؤمن
09-28-2021, 09:33 AM
صبيحة يوم مناقشة رسالة الماجستير لحظ فهمان -وهو في الشارع- وجود كثرة من رجال غرباء يتبعونه، فخشي أن يمنعونه من حضور رسالته بيد أنه تساءل من جديد: «لو أن هؤلاء يريدون أذيتي لآذوني منذ زمن، إني أظنهم من الموساد.»
ارتدّ خائفا قاصدا العودة إلى منزله -وهو منزل خاص به من منازل المصادم- وعندما دخل كان مصباحا حجرة نومه وردهة الشقة مضاءين، فلمّا أغلق الباب انطفأ مصباح حجرة النوم على الفور، فتأكد فهمان أنّهم يرقبونه من خارج المنزل وداخله أيضًا. فولى هاربًا متوجهًا إلى قاعة كلية العلوم.

رسالة ماجستير
اسم الطالب: «فهمان فطين المصريّ»
تخصص الرسالة: «الفيزياء النظريّة»
الموضوع: «إمكانيّة بناء مصادم fcc-2 لاكتمال النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات»
المشرف على الرسالة: «ثلاثة من أساتذة جامعة جنيف»
لجنة المناقشة: «لفيف من أساتذة كليّة العلوم بجنيف»
ومن الضروري معرفته أن اللجنة أجلت موعد المناقشة أكثر مِن مرّة بسبب الدور الخطير الذي قد تلعبه رسالته في الحرب المحتملة القادمة.
القاعة: «كليّة العلوم بجنيف»
تاريخ الجلسة: «في المستقبل»
تملأ الرهبةُ أعضاءَ فريق المناقشة بسبب خطورة ما قرؤوه في الرسالة، حيث وضع تصورًا لمصادم أسماه مصادم fcc-2، وإنه لتصور خطير؛ ويزيد من خطورته احتمالية حدوث حربًا نوويّة ولاسيما بعد نجاح الرئيس الأمريكي رامسفيلد -العميل الصهيوني- في الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
أما الحاضرون، فقد كانوا شخصيات بارزة في العلوم الفيزيائية، ولم يكن ذلك فحسب؛ بل حضر أعلام ورموز سياسية لها ثقل رهيب في دولهم.
وكان من بين هذه الشخصيات العلية بروفيسور من الموساد، ولقد حضر خصيصًا ليحدّد مدى أهمية الرسالة المطروحة وخطورتها على الأمن الإسرائيليّ. ولقد حضر أيضًا رئيس جامعة بيركلي، ذاك الرئيس الذي كان يترقب هذا اللقاء على أحرّ من الجمر ليأخذ فهمان -إذا حصل على الماجستير - إلى أمريكا للوفاء بعهده الذي وعده إياه قبل الرحيل من كاليفورنيا (وعده فهمان مسبقًا ببناء المصادم على الأراضي الأمريكية).
أمّا مهديّ وميتشو كاجيتا فيتابعان اللقاء من خلال البثّ الهوائيّ للرسالة.
ولقد تحفز الناس أيما تحفز لحضور المناقشة لعلمهم السالف بمشاركته الفتى الأمريكي -جاك- في إطفاء حريق الجامعة.
ولكن هناك من حضر وتخفى تحت الأستار وهما فريقان: الأول الكيدون الإسرائيليّ، أما الآخر فهو الحرس الجمهوريّ المصريّ.
ولم يفت جاك أن يقف بجانب صديقه الأوحد في مثل هذه الظروف الحالكة، فجاك يتوجس شرًا من اللقاء لعلمه بخطورة محتوى الرسالة.

العرض التقديمي
جلس فهمان على طاولته وبجانبه حاسوب ذو شاشة عملاقة، يحتوي الحاسوب على صور للعديد من مكونات المصادم الهادروني المستقبلي fcc-1 الكائن الآن هنا في سيرن.
أخذ فهمان يشير بعصا في يده على تراكيب المصادم الحالي، ثمّ يوضّح طرق تطوير مكوناته ليصبح fcc-2.
وعندما قال: «هذا المصادم طاقته 400-500 تيرا إلكترون فولت.» صاح الحاضرون؛ فأوجس في نفسه خيفة؛ فتوقف عن الكلام. والصياح معزو في الأساس إلى حجم الطاقة الرهيبة التي قد تتسبب في فناء كوكب الأرض إذا ما ولدت ثقوبًا سوداء تشبع جوعها بالتهام ما حولها؛ مما يترتب عليه تضخمها. وبالتالي فلن تشبع حتى تلتهم كوكب الأرض كله، ثم تمتد بعد ذلك لتلتهم المجموعة الشمسية، ثم تظل على هذا المنوال حتى تلتهم الكون كله.
هذا التصور معروف لدى الفيزيائيين؛ بل لدى الطلبة المتخصصين في دراسة هذا المجال.
نادى جاك على فهمان وحفزه على التماسك كي يستطيع طرح وجهة نظره بثقة واقتدار.
فأكمل فهمان: «ليناك 4 الموجود حاليًا في fcc-1 -الذي يعتبر الحلقة الأولى في السلسلة التي تقوم بإرسال الجزيئات إلى داخل مُصادم الهادرونات الكبير وتسريعها من خلال ثلاث حلقات بداخله- لعب صبيان؛ لأنه سيعجز عن تسريع دفقات البروتونات الجديدة والتي تقدر ب 1000مليار بروتون، وأنّنا في حاجة لتطويره وخاصة الحلقات المتتالية الثلاث المسئولة عن زيادة سرعة الحزم تدريجيًا وضخّها داخل المصادم. لابدّ من تطويرها ليتناسب و fcc-2، لابد أن يطور ليصبح ليناك 64. ومغانط fcc-1 لم تكن أحس حالًا أيضًا، لأن ملاحتها سوف تعجز على توجيه الحزم وتسريعها داخل المصادم fcc-2 بسبب كثرة البروتونات الموجهة للارتطام، ولابد من تطويرها وزيادتها إلى 60000مغناطيس أفقيًا ورأسيًا، والعمل على زيادة درجة برودتها أكثر.»
وظل يتكلم على ما يربو عن خمس دقائق عن مكونات المصادم القديم وكيفية تطوره ليناسب الطاقة الجديدة.
وعندما قال: «لابدّ من بنائه لينقذ البشريّة من المستقبل القاتم، لابدّ من بنائه في.» تلعثم ثمّ صمْت يأسًا وهدته الحيرة والخوف فخرّ على كرسيّه مهدودًا.
تعجب أهل التخصص والساسة من قوله: «لابدّ من بنائه لينقذ البشريّة من المستقبل القاتم.»، وتساءلوا فيما بينهم عن مراد الفتى، كما أن تلعثمه يدل على أنه يضمر أمرًا فيه خطر على العالم على حساب دولته -يقصدون أمريكا- وطرحوا سؤالا هاما وهو: «هل يريد الفتى نصرة الجنس العربي على الأجنبي ببناء ذاك المصادم على أرض مصر.»
قام فهمان ليخرج نفسه من المأزق الذي وضع نفسه فيه قائلاً: «عامة فى صفحة 196-199 من الرسالة ستجدون كلَّ ما شرحته من تطوير للمصادم في جدول موازنات. هذا الجدول يبين إمكانيّة تطور fcc-1 إلى fcc-2 كما كان من قبل طُورlhc إلى fcc-1.»
ثمّ ألقى العصا وهو يقول: «بهذا المصادم الجديد المقترح في الرسالة سوف نكتشف غوامض الكون بسبب الأصدقاء الجُدد من الجسيمات التي من المتوقع تولّدها بفعل الطاقة الجديدة، مثل اكتمال النموذج القياسي، وخلْق ثقوب سوداء مجهريّة، والتي تمثل بوابات بُعديّة لأكوان أخرى.»
وفور ذكره ذلك هب الحاضرون وصاحوا به متهمين إياه بالخبل والجنون. عندها توجس مهدي شرًا فحفزه ذلك على مهاتفة الحرس قائلا: «استعدوا يا شباب، فيبدو أن الفتى لن يخرج من هذه المناقشة سليمًا.»
تسارعتْ كاميرات الصحفيين لتصوير المشهد الرهيب، أما الحاضرون والمشاهدون فرددوا قائلين: «لن تفتح لنا بوابة يا أبله، بل ستفتح لنا أفواه ثقوب سوداء.»
أمّا بروفيسور الموساد ففتح جواله وهاتف الكيدون بالخارج قائلاً: «تأهّبوا يا أبطال.»
وجاك يلملم كمي قميصه ويرفعهما إلى أعلى استعدادًا منه لخوض معركة حتى لا يذهب ضحيتها صديق عمره.
ورئيس لجنة المناقشة يدعو الحاضرين بالتزام الصمت حتى يؤدوا عملهم. ثمّ نظر إلى فهمان بتهكّم قائلاً: «أكملْ يا إسرافيل (يقصد فناء الكون من خلال الثقوب السوداء المتولدة من المصادم الذي ينوي بناءه).»
استطرد فهمان: «قد تكون الثقوب السوداء المتولّدة نتيجة استخدام هذه الطاقة من عمليات الارتطام حبلاً متينًا لربط الأبعاد المختلفة من خلال أنبوب الزمكان المشوّه.» صمت هنيهة ثم استأنف: «الأبعاد معكوفة ومطويّة ومختفيّة في قلب الثقوب.»

أغلق بروفيسور الكيدون هاتفه وهو يقول همسًا: «هل جُننت يا أحمق، تريد أن تأتينا بجنود من العالم الآخر لينضموا إلى العبيد من عالمنا هذا فيبطلوا مخططنا نحو قيام إسرائيل الكبرى؟ نحن ما زلنا نغرق في دمائنا من قسوة هذا العالم علينا.»
وظلّ فهمان يتكلم عن عشرات المعضلات الفيزيائية ويضع حلولاً لها من خلال مصادمه fcc-2، وختم حديثه بقوله: «وأريد أن أنوّه إلى...»
قاطعه رئيس اللجنة بسؤاله: «أين تودّ بناءه؟»
هب مهدي واقفًا، فقد أصابه الذعر من السؤال وعلق غيابيًا: «تبًا لك، ما شأنك أنتَ ببنائه يا أحمق؟ أم أنك مسلط من هؤلاء (يقصد إسرائيل بالعموم).»
أما بروفيسور الموساد فقد ظل مترقبا؛ تدور عينيه في رأسه يخشى أن يسقط صريعا لو ظهر انتماء الفتى لبلده وقرر بنائه فيه.
بينما بدأتْ الخواطر والذكريات تعصف بقلب فهمان، واسترجع كلامه في الماضي ومما تذكر قول أبيه له: «لا تعمل لديهم يا ولدي.» ثم تذكر وعده لرئيس ناسا ببنائه في أمريكا، فتصارعتا الرغبتان بداخله. وظل أمر أبيه يطرق أذنيه حتى تألم أيما ألم، بينما عيناه تكادان تكفا على إثر مناشدة رئيس الجامعة له من خلال إيماءاته ببنائه في أمريكا كما وعده.
فاستغاث فهمان من الرمضاء بنار الجحيم محاولا الإفلات من الإجابة عن السؤال؛ فأثار قضية هي أم كل الأخطار فقال: «لا تعنينا الأبعاد المتولدة من الثقوب السوداء وإنما تعنينا قنبلة الثقب الأسود.» لم يعبأ رئيس اللجنة بهذا القول وإنما أصر على سماع الإجابة على سؤاله قائلا: «قلت لك أين تودّ بنائه؟ لن تنال درجة الماجستير حتى تُعلم اللجنة أين تودّ بنائه حِفاظًا على الأمن العالميّ.»
في هذه اللحظات العصيبة ساد الصمت الرهيب الذي ملأ أركان القاعة





وما حواها، ولكن تبادل النظرات بين البعض منهم وتركيز نظر بعض آخر على وجوه بعينها كانت السمة البارزة التي اعترت الجميع.
لكن معظمهم يركز بصره على فهمان انتظارًا لما سوف يجيب به على رئيس اللجنة.
فجاك ينظر إلى صديقه بإشفاق شديد، وبروفيسور الموساد يتوعد في روعه فهمان بالويل إذا كانت رغبته بناءه في مصر، والرئيس مهدي يراسل حرسه مجددًا استعدادًا لخوض ملحمة قتالية صعبة؛ إذ إنه يتفرس في فهمان الخير كما يتفرس أيضًا تعرض الفتى لشر يحيق به من بعض الموجودين بالقاعة. أما ميتشو كاجيتا فكل ما يرجوه أن يُبنى ذاك المصادم على أرض يستطيع الخروج والدخول إليها للشروع في تنفيذ مخططه القذر (وهو محو أمريكا كما ستبين الأحداث اللاحقة) عن طريق بعض التجارب التي يتوقع منها صنع قنبلة الثقب الأسود التي جهر بها فهمان دون وعيٍ منه.
وهنا بدأ الصراع الداخليّ يعاوده مرّة أخرى وبقوّة جامحة، وشرع يفكر في أمريكا وجاك وما فعله رئيس الجامعة له من تزكية مكنته من تسطير رسالته الآن، ولقد لمح في عينيه التأنيب والتوجع عن فعله، بينما على الجانب الآخر نجد أبيه مطلٌ من بين السحاب بفمه العطر يقول: «لا، لا تعمل لديهم.»
حاول فهمان أن يستنهض عزيمته علها تساعده على تحريك لسانه الملتصق بسقف حلقه، ازدرد ريقه ثمّ تابع التمتمة حتى بلغتْ حدّ الهذيان، وفجأة أحسّ بألم مفاجئ في الظهر، وتنميل في أطراف الجسد، كما أمسك بطنه متألمًا، وضاق تنفّسه وتعرّق عرَقًا شديدًا. ولم يشعر بما يدور حوله.
وتأكد بروفيسور الموساد أن فهمان يدين بالولاء للعرب بصفة عامة وبلده مصر بصفة خاصة من طول فترة صمته، حينها راسل فرقة الكيدون يأمرهم بقتل الفتى على الفور.
ومن نظرات بروفيسور الموساد على الشاشة التي تفرسها مهدي، ومن خلال حركة شفتيه -فهو يعرف اللغة العبرية- تأكد أن الخطر يحدق بفهمان فأمر هو الآخر بالالتفاف حول الفتى وعمل درع بشري حوله كي لا يصيبه أي أذى.
وبالفعل تمّ الاقتحام وبدأ الرصاص الحيّ ينطلق من مسدسات فريق الموساد، وبدأ فهمان يترنح في شلله إثر المعركة النفسيّة الرهيبة التي دارتْ بداخله وهو استحالة تحقق أمرين متضادين -الأول رغبة أبيه، والآخر رغبة رئيس جامعة بيركلي- تلك المعركة التي فُُرضتْ عليه وكانت بمنزلة مسرحيّة دراميّة فتكتْ بقلبه. وكلّ مَن في القاعة ولوْا هاربين مذعورين بمجرد إطلاق النار، والعالم كلّه أمام التلفاز في ذهول من الأحداث.
جرى أحد أفراد الأمن المصريِّ المدرّع بقميص رصاص نحوه ليجنّبه وصول الذخيرة إليه، لكن الرصاص قد فجّر رأسه وخرّ ميتاً.
أسرع كيدوني بسلاحه إلى حيث يرقد فهمان الطريح أرضًا، فقد نهض مِن بين صفي الدرج وكان جاك جالسًا في الصف الثاني على حافة الدرج فجنّدله فوقع على بطنه ثمّ قفز جاك عليه منقضّاً وأخذ المسدس منه وأطلق عليه رصاصة في قدمه، بينا الحرس الجمهوري المصري يردف بعضهم بعضا متسورين حول فهمان لإنشاء درع غير قابل للاختراق.
تبادل أفراد الكيدون والحرس الجمهوري إطلاق النيران فسقط على إثره معظم أفراد الحرس الجمهوري، عندها تأكد جاك من أنهم لن يتركوا فهمان حيا، فأزمع على تصفية أفراد الكيدون، فأطلق عليهم وابلا من الرصاص الحي وهو يتحرك منخفضًا بسرعة رهيبة حتى أسقطهم جميعًا غارقين في دماء أقدامهم.
ثم انطلق بسرعة الفهد، وأمسك فهمان بأنياب اللبؤة الحنون محاولة الهروب به خارج القاعة محل الخطر، وعندما همّ بالخروج به وجد بعض أعضاء الحرس الجمهوري متجهين نحو الباب فعلم أنهم يريدون أخذ فهمان، فلما وصلا معًا تراءى لجاك أن أفضل مكان آمن له أن يعود إلى بلده، فأعطاهم إياه كنوع من حمل الأمانة وإيصاله لصاحبه وعيناه تفيض من الدمع حزنا أن يفارق صديق عمره إلى الأبد.
نظر كبير فرقة الكيدون نظرة ثاقبة إلى زملائه المطروحين أرضًا والدماء تنزف مِن أقدامهم -وكان يحمل مسدسًا وهو من أبرع القتاليين على مستوى العالم- ثم نظر إلى تسليم فهمان على باب القاعة ولم يعبأ بهروبه أيضًا، كل ما عناه أن لا ينهزم من أحد،
فألقى مسدسه وأشار بسبابته إلى جاك أن هلمّ إلىّ -إشارة منه إلى قدرته الخارقة على هزيمته، وقد أخطأ، أخطأ كلُّ مَن لا يعرف جاك سواءٌ في قدرته البدنيّة أو العلميّة أو حتى الخلقيّة - فانقضّ جاك عليه ولكمه ثمّ حمله فوق كتفه وأداره بحيث أصبح رأسه في الأسفل وقدماه في الأعلى ثمّ أسقطه ليرتطم رأسه بالأرض، حاول الكيدوني النهوض فما استطاع.
توجّه بروفيسور الموساد سريعًا خلف جاك ومعه عصا غليظة وهمّ ليضربه في رأسه ولكنّ أحد أفراد حرس مهديّ قد لكمه فأسقطه أرضًا.

إبراهيم امين مؤمن
10-18-2021, 06:28 AM
«الغائث والمستغيث»
عاد جاك إلى واشنطن بعد حادثة جنيف مباشرة، وحاول الاتّصال بصديقه ولكن دون جدوى؛ فالهاتف مغلق على الدوام، حينئذ قرّر النزول إلى مصر
وحدّث نفسه قائلاً: «غدًا أسافر.»
اتّجه إلى ناسا وبالتحديد أحد المراصد الأرضيّة الخاصة بها ليمارس بحوثه ورسالته حول النجوم والثقوب والسوداء.
وأثناء ما كان يقوم بمعاينة منطقة فضائيّة حول حافة المجموعة الشمسيّة الخارجيّة -وبالتحديد منطقة سحابة أورط- من خلال أحد التلسكوبات الأرضيّة شاهد نجمًا يمرّ بها وهو يقذف مقذوفات أمعائه بطريقة هائلة.
امتقع وجهه وتفكّكت أوصاله -لأنه يعلم أن مثل هذا القذف يعني موت النجم- وتساءل مندهشًا وهو يرتجف، ولسانه لا يكاد يتحرك: «يموت هنا؟!» ثم ما لبث أن خرّ على الكرسي حيث ما عادت تستطيع قدماه تحملاه، ثم تماسك مجددًا فوثب واقفًا ليعاين من جديد، فلم يجد شيئًا مختلفًا. أسرع إلى رئيس ناسا على الفور وحدثه بمعاينته. فانزعج لانزعاج جاك، وبالفعل قال له مدير ناسا بصوت
متحشرج: «أفزعتني، أتقصد أنّ النجم سيموت وبعدها يتحول إلى ثقب أسود؟»
- «نعم.»
- «مستحيل.» همس لحظة ثمّ قال مستبينًا بعد أن أطرق رأسه: «علينا بإعادة المعاينة يا جاك، سلّطْ على النجم التلسكوبات الفضائيّة الخاصة بنا، وكذلك المحمولة على متن الأقمار الصناعيّة، ومسبارات الفضاء العميق لتعطينا تحليلاً دقيقًا عنه مثل: كتلته -المسافة بيننا وبينه - مقدار مقذوفاته إشعاعاته. حتى نعرف ما سيؤول إليه النجم بعد موته.»
على الفور اتّصل رئيس ناسا بالمسئولين عن التلسكوبات بوكالته ليقوم جاك بتنفيذ أمر رئيس ناسا.
وتمت المعاينة والرصد بالفعل ثمّ أُرسلت الصور إلى ناسا. بعد عدة ساعات فقط اجتمع خبراء ناسا لتحليل الصور وإحصاء النتائج.
نظر بكْ إلى صور عدسات الجاذبية -التي ترصد مسارات الضوء المنبعث من النجوم وانحناء الضوء المار بها بسبب جاذبيتها فقال: «إنّ النجم على وشك تفريغ كل وقوده النوويّ.»
كما أمسك جاك بصورة التحليل الطيفي التي رصدتها التلسكوبات الفضائية فقال على الفور: «النجم يحتضر بالفعل.»
وبعبقرية جاك أمعنّ في صورة النجم وعلّم بالقلم على بعض النقاط في الصورة ثمّ أعطى بيانات حالته الاجتماعية والسياسية حيث قال: «إنّه من النجوم السريعة، يبدو أنه انفلت من تجمعه النجميّ وتخلص من جاذبيتهم بسبب سرعته الرهيبة حتى وصل إلى مقدمة السحابة، والآن هو على بُعد سنة ضوئية واحدة من الأرض، وحجمه مساوٍ تقريبًا لحجم الشمس .»
قال رئيس ناسا وهو يناول جاك صورة: «انظر جاك لهذه الصورة.»
حدّق جاك فيها ثمّ ناولها إلى بكْ فقالا في نفس واحد: «إنّها بصمة أبخرة مائية.»
واستطرد بك: «بناء على هذه البيانات التي أتتنا فإنّه لو انفجر فسيتحوّل إلى قزمٍ أبيض.»
علق جاك: «بل إلى ثقب أسود.»
فرمقه كلّ مَن في الاجتماع رمقة استهانة واستخفاف -لأن النجوم الصغيرة لا تتحول مطلقًا إلى ثقب أسود.»
أمّا مدير ناسا فقد ظلّ حائرًا بين رأي الخبراء ورأي جاك فصمت ولم يعلق للحظات لأنه يعلم عبقرية جاك جيدًا، ثم قال يائسًا لعدم تأكده من أحد الظنين: «علينا باستمرار تسليط التلسكوبات الفضائيّة التابعة لها لرصد صرخاته المحتملة قبل موته كمحاولة أخيرة ونهائيّة لتقييم ما سيؤول إليه ذاك النجم المارق.»
فقالوا له: «الأمر منتهي سيادة الرئيس، هذا نجم لو مات فلن يتحوّل إلى ثقب أسود لصغر حجمه.»
نظر جاك نظرة استعبار ثم همس في نفسه: «يبدو أن الأرض ما عادت تطيق تحمل أقدام هذا العالم المارق فنادت إلى السماء لتغيثها.»



***

وأخيرًا ..اِنجلى الحقُّ محلّقًا بأجنحة الملائكة.
فور وصول الطائرة في مطار القاهرة تم نقل فهمان إلى مشفى القوات المسلحة مباشرة. ومن التحاليل تبين أنه مصاب بجلطة دماغية. حضر الرئيس مهدي ليطمئن عليه، فقالوا له بأن فهمان في غرفة العمليات. وأجريت له العملية وقد نجحت بامتياز.
ترك المشفى ثم عاود بعد أيام ليطمئن عليه مجددًا. مدّ الرئيسُ مهديّ ليصافح فهمان قائلاً له: «حمدًا لله على السلامة يا عالمنا العزيز.»
أخبره الرئيس بأنه كان تحت أعين المخابرات المصرية طيلة الفترة الماضية، فسر فهمان بذلك، وقد وجد أنه قد أتيحت له فرصة سانحة
لردّ شرف أبيه الذي لطخه أمن الدولة سابقًا -عندما اتهم بالدجل والشعوذة- وسأله مهديّ : «أتذكر اليوم الذي أُطفيء فيه مصباح حجرة نومك؟»
أجاب: «أذكره جيدًا سيادة الرئيس.»
قال مهدي: «أن من أطفأه كان أحد رجالنا، كنا نراقبك في صحوك ونهارك دون أن تدري حتى لا يمسك أحد بسوء.»
ساد الصمت لحظات، كان خلالها ينظر فهمان خِلسة إلي الرئيس ويقول في نفسه: «ليتك تفتح ملف أبي.» بينا الرئيس كانينظر إليه قائلاً لنفسه: «سبحانه، يخلق من ظهر العالم فاسد ومن ظهر الفاسد عالم.» ثم ّ وثبَ واقفًا ونظر إلى رجاله قائلا: «الحمد لله، لقد لطف به وأنقذه من براثن الصهيونيّة.» واتجه ببصره مرة أخرى إلى فهمان وقال: «تماثلْ للشفاء يا فتى؛ فمصر في حاجة إليك، سوف أحقق لك كلّ ما تريد، فقط قمْ وتماثل للشفاء.»
كانت كلمات الرئيس الأخيرة لفهمان بمنزلة عودة الروح إلى جسده، حتى إنّ الكلمة ما برحت تفارقه حتى تماثل للشفاء فيما بعد في غضون أيامٍ قلائل.
بعد مغادرة الرئيس مباشرة ظلّ فهمان يفكر في كلمات الرئيس الأخيرة، وأول ما تبادر إلى ذهنه كيف يبرّئ أبيه.
فتح هاتفه ليطمئن جاك بأمره، فوجد رسائل تقول بأنه اتصل به كثيرًا.
كلمه وطمأنه بالفعل، وقد صمم فهمان على عدم الحضور لكثرة انشغاله في ناسا، واستحلفه بألا يأتي فامتثل.

لحظات، وطرق أحد الحرس المكلف بحمايته ليخبره بوجود زائر يقول بأنه خاله مؤيد أصيل.
فسرّ فهمان وأشار إليه بدخوله على الفور.
قال مؤيد: «أنا جئت لأطمئنّ عليك، والحمد لله على نجاتك.»
قال فهمان: «الحمد لله، وشكرًا لك أبتِ.»
- «لا داعي لأثقل عليك لأنّي بالفعل أجد حالتك جيدة وليست خطيرة مطلقًا، ولدي، أنا في مهمة لمدة طويلة، ولن أرجع قبل شهور، ولقد رأيت موكب الرئيس مهديّ منذ دقائق، ولقد علمت بكلّ ما حدث لك في جنيف، ودور الأمن المصريّ في إنقاذك.»
- «رئيس عادل، وإني أحبه.»
شعر فهمان بأن مؤيد يود قول شيء ولكنه متحرج، وبالفعل، بدأ كلامه بخجل شديد وهو ينظر إلى الأرض: «أريد أن أُخبرك بأمر يخصّ والدك.»
فانتبه فهمان بشدة، وتأكد بأن مؤيد يخفي عنه شيئًا، فقال جامحًا وهو يركز نظره عليه: «تكلم يا أبتِ.»
- «ألم تقل منذ قليل بأن الرئيس رئيسكم رئيس عادل؟»
- «بلى.»
- «إذن، آن الأوان لردّ كرامة أبيك وشرفه يا ولدي.»
- «وهذا ما انتويت فعله بالضبط، فأبي لم يكن مشعوذًا أبدًا.»
- «المسألة ليست مسألة دجل وشعوذة، وإنما، إنما..» تمتم مؤيد لحظات ثم قال بصوت حزين: «أمن الدولة أحرق جثة أبيك.»
تفجّع فهمان على الفور، وحزن حزنًا شديدًا ظهر في انهمار دموعه التي غدت تغطي وجهه، ثم قال له بصوت منخفض: «كيف ذلك؟!»
- «كانوا يخشونه، والرئيس السابق أراد محو قضيته بلا أدنى أثر.»
- «لماذا؟»
- «كانوا يخشون من تعاطف الجمهور معه عندما يعلمون بموته لأنه دخل قلوبهم، والرئيس السابق كان ظالمًا ومواليًا لأمريكا، ومعلوم دوره البارز في خدمة المخطط الصهيوني الشرير.»
- «فعلا، لقد عاش أبي وما آل جهدًا في خدمة أهله من أبناء وطنه.»
مضى مؤيد، وقد خلف وراءه همًا ثقيلا على قلب فهمان إضافة إلى حزنه الشديد عما حدث لأبيه.
بعد أيام جاء اثنان من قصر الرئاسة ليصحباه إلى الرئيس مهدي.
وفور دخول فهمان سلم عليه ثم قال: «أنا سعيد بسيادتكم، وأأمل أن تنهض مصر بكم.»
- «بِِك.»
قال دهشًا: «بي أنا؟!»
- «نعم، بك،المصادم، مصادم الرسالة.»
سكت هنيهات يترحم فيها على أبيه في نفسه عندما علم مرام الرئيس مهدي، بعدها قال بوجه متهلل: «أتقصد سيادتكم بناء المصادم على أرض مصر؟»
هزّ -مهدي- رأسه بالإيجاب دون أن ينبس بكلمة.
قال فهمان بدهشة: «قد يتكلف مممم..
أردفه مهدي: «ليتكلف ما يتكلف، مائتا مليار دولار مثلا، ثلاثة، الذين حفروا قناة السويس وبنوا السدّ العالي قادرون على بناء مصادم كهذا، فهمان مصر فيها رجال (يتكلم وهوقابض على يده اليمنى ورافعها إلى أعلى) والجيش كلّه رجال، لا تخفْ ولا تحملْ همّاً، قلْ أنت موافق ودعني أقوم أنا بالترتيبات اللازمة.» صمت هنيهة أخرى ثمّ قال: «أتعلم لِم أردت تصميمه على يديك؟»
- «لِم سيادة الرئيس؟»
قال مكوّراً يديه بحيث باطنيهما في تلقاء وجهه ورافعهما إلى أعلى بمحاذاته: «لأنّي أريد أن يُبنى بأيدٍ مصريّة.» ثمّ أومأ بسبابته إليه: «وأنت صاحب الفكرة، ولن يستطيع بناءه إلّا أنت، وأرجو أن يكون بناءك له عن علمٍٍ لا عن دجلٍ وشعوذة.»
ضربته الكلمة في أوردة قلبه فانتفض جسده على الفور، وانهمرتْ الدموعُ من عينيه وقال بصوت متهدّج من أثر البكاء: «أبي لم يكن دجّالاً ولا مشعوذًا؛ بل كان وطنيّاً عالمًا، ولولاه ما كنتُ أنا هنا الآن، وقد ساعد المقاومة الفلسطينيّة التي تفضّلتم سيادتكم وساعدتموها من قبل بتمزيق الاتفاقيّة الرباعيّة، وقد حاول الأخذ بثأرنا من قاتل عالم الفندق، بيد أنّه لم يفلح، وخاف علىّ فقام بزرع وجهه، زرعه له بروفيسور بيتر، وكان برنامجه السحريّ يؤديه بقوت يومه، وكان يكره الثورة، والصراع النفسيّ الذي حدث بداخلي كان صراعًا بين أمريكا التي أنعمت علىّ وبين وصية أبي ألّا أعمل لديهم وأنّ تراب بلدي أولى بي، وقال لي لو وفقك الله يا بني فلا تترك رئيس بلدك.»
بعدها رفع فهمان يده اليمنى إلى السماء مشيرًا إلى الفضاء ودموعه تزداد انهمارًا قائلاً: «وبعد كلّ هذا يتناثر رمادًا محترقاً في الهواء، هذا هو أبي، هذا هو أبي، هذا أبي.»

انتفض مهدي من مكانه وسأله: «هل تعرف مكان بروفيسور بيتر يا ولدي؟»
- «لا والله.»
- «وكيف علمتَ بأمره مع أبيك؟»
كذبه وقال: «مِن أبي.»
- «وكيف عرفت أنّ أباك ساعد اتحاد المقاومة؟»
كذبه مجددًا: «من أبي.»
شعر مهدي بأن فهمان كذبه بشأن إعلامه بمصدر معرفته بأمر بروفيسور بيتر، وكذلك بمصدر معرفته بشأن مساعدة أبيه لاتحاد االمقاومة، ولذلك قال مهدي في نفسه: «كذبتني يا بني! لا بأس، لا بأس، يبدو أن هناك شخصًا أخبرك بأمر أبيك وتود عدم البوح باسمه حتى لا يتعرض للخطر.»
وفجأة قال له مهدي وهو مطأطأ الرأس: «صدقتَ يا فتى، صدقت، لكن أخبرني، أمتأكد أنت أن أباك هو كما أخبرتني؟»
فهمان بصوت متهدج: «والله كان كذلك، والله كان كذلك.»
واستدعى مهدي رئيس المخابرات وقال له: «تحريّاتك يا سيادة اللواء غير دقيقة، وسأحاسبك على ذلك، أعدْ تحريّاتك من جديد حول المدعو فطين المصريّ.» ثمّ أشار إلى فهمان بسبابته قائلاً: «والذي هذا هو ابنه، ولن أتركَ هذا الأمر، ولن "ينفى وهو ناظر إلى فهمان الذي خنّ من البكاء" اتركْ هذا الفتى حتى تأتيني بالحقيقة التي أخفيتها عنّي سيادة الرئيس"يقولها سخريّة منه".»
رد رئيس المخابرات: «سمعًا وطاعة فخامة الرئيس، أمهلني ثمان وأربعين ساعة فقط.»
قال مهديّ : «ثمان وأربعين ساعة ليس أكثر، أريد أن أعرف أكان دجّالاّ ومشعوذًا أم كما يقول هذا الفتى وطنيّاً عالمًا.» صمت هنيهة ثمّ أردف: «خذْ فهمان وسله عن أبيه، ثمّ خصص له مكانًا يقيم فيه بالقرب مني .»
وفور خروجه كان مهديّ يخط جواب عزله من منصبه مع عدم المحاسبة لدواعٍ أمنية.
وبالفعل فور انتهاء اليومين حضر رئيس المخابرات قصر الرئاسة وقد كان فهمان حاضرا -فقد استدعاه مهدي- وقال: «سيادة الرئيس، بعد البحث والتقصي مما قاله الدكتور فهمان تبيّن لنا أنّ نظام الرئيس المخلوع هو مَن اتهم أباه ظلمًا بالدجل والشعوذة، ولقد تحرّينا أمر واقعة الفندق الخاصة بالرجل -رحمه الله- فتبيّن لنا بالفعل وقوع معركة شرسة في الفندق بينه وبين أحد أفراد فرق الكيدون الإسرائيلية، ولقد غيّر وجهه آنذاك خشية القبض عليه مِن الموساد أو الأمن المصريّ، إذ كان يظنّ أن كيدون الموساد قد مات . وقام بعمل سيرك في الشارع بتذكرة رمزيّة من أجل الإنفاق على تعليم ولده إذ كان عازمًا على تسفيره لاستكمال تعليمه في أمريكا، ولم تأتنا أخبار بشأن التحاقه بأنفاق اتحاد المقاومة أو الإنفاق على حقول القوى التي حصّنوا أنفاقهم بها و..»
صرخ فهمان مقاطعًا: «أبي لا نظير له، حمى المجاهدين وحمى الأنفاق و ..»
قاطعه مهديّ قائلاً: «هون عليك يا فهمان.» ثم نظر إلى رئيس المخابرات داعيًا له باستئناف كلامه.
استأنف: «وتبيّن لنا أنّه حصل على أموال طائلة من خلال ألعاب سحرية تعجيزية، ولم ندرِ أين ذهبتْ، ولقد أخبرنا أحد الفيزيائيين أنّ ألعابه تنبع مِن قوّة في دماغه ولعلّها الخلية الإلكترونيّة التي أخبرنا بها الدكتور فهمان، ولقد مات أبوه قبل أن يأتيه وفد المخابرات الأمريكيّ ليحقق معه بشأن بروفيسور بيتر. قامتْ أمن الدولة بحرْق جثته لدواعٍ أمنية، فخروج جثته إلى الشارع قد تحدث ثورة عبر رصدها من صحف المعارضة وتتفكك الدولة وتنهار ال..»
قاطعه مهديّ قائلا: «حسبك، انصرف.»
نظرَ إلى فهمان فوجد الدمعة على خدّيه، قال له بصوت فيه مودة: «اذهبْ أنت الآن يا ولدي.»
وفور خروجه وجد مجموعة من الرجال يصحبونه، فسألهم عن شأنهم فقالوا بأن الرئيس مهدي كلفهم بحراسته في النوم واليقظة

***

إبراهيم امين مؤمن
12-28-2021, 01:32 AM
أليس الربّ بالمرصاد؟!

كرّس جاك حياته لدراسة الثقوب السوداء الفضائيّة وكلّ ما يتعلق بها مذ أن شاهد نجم سحابة أورط؛ وعلى ذلك، فقد قرر أن يرابط حول المراصد لمراقبته حتى يسارع في إدراك العالم قبل أن يتحول إلى ثقب أسود حسب ما يظن؛ وإن كان يأمل أن يتحول إلى قزم أبيض بحسب ما ارتأى خبراء ناسا.
وعلى طول فترات المرابطة وهو يردد قول واحد وهو: «نفسي فداءً للبشرية.»
وكثيرًا ما كان يفكر في شأن هذا النجم، ويتساءل قائلا: «لماذا ساقه الرب إلينا في هذا التوقيت بالأخص؟!»
وأجاب بنفسه: «أيكون عقابًا للعالم بسبب تناحره الذي قد يؤدي إلى قيام حرب نووية؟ أم يكون ردءًا لهذا العالم حتى لا تُُقام هذه الحرب؟»
تبسّم ساخرًا مستعبرًا عندما استحضر في نفسه حالة الناس الوحّشية ورد فعل الثقب معهم، حيث إنّهم تذئبوا، وتثعلبوا، فنصبوا كمائن العنكبوت ليمصّوا دماءَ بعضهم بعضًا، وبنوا حضارات العناكب في كل مكان، وها هي السماء تنتفض انتقامًا لتغيث الأرض فتفنيهم وحضاراتهم العنكبوتية الحمقاء.
أليس الربّ بالمرصاد؟
ثمّ عاود وتعجّب من شأن النفس التي جُبلت على الظلم فقال: «ولِمَ كلّ هذا وقد منحها الله كلّ سبل دعم الحياة ووهبها ما يُبقي على حياتها؟»
وبينما تصارعه هذه الخواطر رن جرس هاتفه، إنه فهمان.
وبعد أن تبادلا كلمات الترحيب أخبره فهمان بما فعله الرئيس مهديّ بشأن تَبْرِئةً والده، فسُرّ جاك بذلك أيّما سرور رغم الهمّ الساري بأوصاله بشأن توحّش الناس.
سأله فهمان عن أحواله، فأجابه جاك بكل ما يدور بخلده بشأن نجم سحابة أورط.
قال فهمان بغضب: «ما أرسل به إلّا ذاك الملعون إبليس وأعوانه.»
- «وما شأن إبليس بالثقب؟»
- «هذا الثقب أرسله الله انتقامًا من الناس بما كسبت أيديهم بعد أن أوحى إليهم ذاك الملعون المسمى بإبليس.»
- «أرى أن النفوس لا تحتاج إلى وحي الشياطين يا فهمان لكي تفجر أمامها.»
- «على كل، افعل أنت ما يحلو لك، وآمن بما تعتقد، أما أنا، فلن يقر لي قرار، ولن ينام لي جفن، ولن يطيب لي فراش حتى أدق عنق ذاك الإبليس، وأقسم بربي لأذهبن إليه عبر بوابته، عندئذ، سيقف أمامي صاغرًا لأعد عليه أعماله، وأذكره أفعاله: وآمره، فإن لم يمتثل قتلته على الفور ليكون عبرة للشياطين.»
أشفق جاك على فهمان فور سماعه تلك الكلمات؛ لأنه يعلم أن أمر طرق بوابة إبليس صعب المنال، وأن محاسبة إبليس من رابع المستحيلات بسبب ضعف أبناء آدم.»

***
رسالة ماجستير جاك
اسم الطالب: جاك الولايات المتحدة الأمريكيّة.
تخصص الرسالة: علم الفلك والفضاء.
الرسالة بعنوان: ماذا لو اتجه نجمٌ هِرمٌ إلى مجموعتنا الشمسية وتحوّل إلى ثقبٍ أسود؟
المشرف على الرسالة: أستاذان في علوم الفضاء والفلك.
لجنة المناقشة: لفيف من أساتذة الفضاء والفلك.
القاعة : قاعة كليّة العلوم ببيركلي.
التاريخ : في المستقبل .
ومن أجل المناقشة، زحف الجمهور الأمريكيّ من كاليفورنيا وكذا بقية الولايات إلى بيركلي، وكذلك حضر بعض الأجناس الأخرى ممن يقيمون فيها، والسبب يرجع لعدة عوامل منها: تسابق بروفيسورات الكليّة للإشراف على رسالته، وذكر الدور البطوليّ الذي قام به لإنقاذها من الحريق، واسمه الغريب المسمى نفسه به لأنّه مجهول النسب بالفعل، وإتقانه المنقطع النظير في معرفة دروب ومسالك المجرّات، وكان العامل الرئيس لكثرة الحاضرين هي حملة إعلامية قامت بتدشينها إسرائيل.
ولقد صرّح بعضٌ من العلماء أنّ هذا الفتى سوف يتجاوز علمه علم الكثير من بروفيسورات العالم، بل قال قولا عظيما فيه: «يبدو أن آينشتاين قد بُعث من جديد!»
ومما حفز الشعب الأمريكيّ على الحضور بهذه الأعداد الكثيفة هو ظن الكثير منهم ولاسيما رجال الدين منهم أنّ هذا الفتى هو المسيح المنتظر، فهم لم ينسوا مطلقا قول القساوسة في خضم حريق الجامعة: «إنّ الله حمى تلك الجامعة من أجل رجل سينزل بها سوف يخلّص العالم من كارثة سوف تلم به.»
وما زالت الدوائر العلميّة وبعض الدوائر السياسيّة في شتى بِقاع الأرض تنتظر الحدث المثير والذي سوف يشاهدوه عبر الشاشات .
كذلك الدوائر العلميّة والسياسيّة في أمريكا من رؤساء الجامعات، وأعضاء الكونجرس، ومجلس الشيوخ، ورجال البيت الأبيض.
كلّ إمّا على أرض بيركلي أو أمام الشاشات.
وفهمان ينتظر الآن مشاهدة المناقشة أمام شاشة التلفاز، عيناه مليئتان بدموع الفرح وهو يشاهد الجمع الغفير الذي أتى من أجل صديقه من كافة الولايات.
أمّا العالم الفذُّ ميتشو كاجيتا فيشاهدها عبر التلفاز وعيناه تقدح شررًا من جمرات جهنم.

إبراهيم امين مؤمن
01-02-2022, 10:11 AM
العرض التقديمي
جلس على كرسيّه وأمامه طاولة وعلى يمينه شاشة عملاقة، أمسك بعصا وأشار إلى حركة النجوم وتجمعاتها في بعض المجرّات، وأخذ يشرح قائلا: «حركة النجوم، السماء ملآنة بمليارات النّجوم، يصل بعدها عنّا من أربعة إلى الملايين من السنوات الضوئية، وهي تتجمع على هيئة عائلات تسكن في ناطحات سحاب المجرّات، وستجدون في.. إلخ.»
ظلّ يتكلّم عن النجوم حتى بلغت براعته أن أحد الفلكيين الجالسين قال: «الفتى رسم خريطة جغرافية للمجرات وهو قائم بيننا، رباه ما هذا الذي أراه، ما أسعد بلدك بك أيّها الفتى الفذّ، بل ما أسعد هذا الجيل وأنت فيه يا فتى، فقد شرفتهم.»
....وما زال جاك يتكلم عن النجوم؛ حيث استأنف بقوله: «وقد يشردُ نجمٌ بعد أن عقّ عائلته ثمّ يأتي ليستعمر مجموعتنا الشمسية، لكن كيف يستعمرها؟ هذا ما سوف تعرفونه لاحقًا في السطور اللاحقة.» استراح قليلا ليمسح عرقا قد قذفه الهم والخوف الساريان بأوصاله حزنًا على أحوال البشرية، ثم انتفض واقفًا وأشار بالعصا إلى صورة للمجموعة الشمسيّة وما حولها من كواكب سيّارة تدور في فلك الشمس وهو يقول: «وما خارج عائلة المجموعة الشمسيّة؟ هذه هي المجموعة الشمسيّة كما تروْن، إنّها تتحزّم بحزام عبارة عن سحابة اسمها سحابة أورط، هذه السحابة وما خلفها عبارة عن مجرات ونجوم وكواكب وكويكبات ومذنبات تبتعد عن بعضها من عشرات إلى ملايين السنوات الضوئيّة.» صمت هنيهة ثم أشار مجددًا على موضع فيها وهو يقول: «هنا، هنا بالتحديد سكن نجمنا المارق، انفلت بسبب سرعته الرهيبة وظل سائرًا قاصدًا أرضنا ليستعمرنا، يستعمرنا من هنا، فيحرقنا هنا، يحرق أولادنا هنا، سوف ينادينا بجاذبيته ليحرقنا من هنا، سوف ..»
لجلج، ثم انهار بجبال خوفه المتطفلة في فضاء قلبه، وكعادته، تحامل وتماسك وقال: «ولن يستطيع إلّا بعد أن يموت، ثمّ يُعاد إلى الحياة، وسيعود وحشًا، أتعلمون كيف؟ سأقول لكم، يتقيأ أولاً وقوده النوويّ، ويظلّ يصغر حتى يصبح بحجم هذه القاعة (يتكلم وهو يشير بيده اليمنى) مع أنّه كان بحجم الشمس، ويموت مودعًا حياة النجوم لينضم إلى زمرة وحوش الثقوب السوداء، عندئذٍ يخبّر عن نفسه، فيطهو الأرض داخل أمعائه..و ..»
ظلّ يغمغم بكلام غير مفهوم حتى ثقل لسانه تمامًا صاحب ذلك رجف بالجسد، وسرعان ما انهدّ وانهار كالجبل على كرسيّه.
حينئذٍ، عمّ الصمتَ كل أرجاء القاعة، وليس ذلك فحسب؛ بل عبر الشاشات من كلّ أنحاء أمريكا والعالم، إنه صمت الفاجعة، فتساقط العشرات من الحاضرين مغشيًا عليهم، وكذلك بضعة آلاف من أنحاء العالم، بينما بعض الفئات القليلة شرعوا في تلاوة الصلاة داعين الله -الرب- باللطف والنجاة من تلك الكارثة الكونية.
وعليه، فقد أطلقت الحكومات من كافة أرجاء العالم ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية سيارات إسعافها لتطلق سراينها المتواصلة في الطرقات لإسعاف المصابين من الناس.
قال فهمان عندما شاهد صديقه وقد تضعضع: «ربنا يلطف بك صديقي الرحيم، فأنت تعلم ما لا يعلمون.»
تمالك جاك نفسه واستجمع قواه وعاود الكلام: «إنْ كنّا نخشى مَن يهاجمنا مِن هذه السحابة أو من خلفها فعليكم أن تخشوا ما هو أكثر من مهاجمة هذا الجرم، أتعلمون ما هو؟ إنّها ثقوبكم أنتم! ثقوب الحرب التي أشعلتموها بأيديكم، ثقوب الحقد والكراهية.» وفور أن قال كلمته تلك إلا وقد أخذ ينظر بعضهم إلى بعض ويفكرون بما كسبت أيديهم من آثام ضد الإنسانية.
استأنف: «دعونا نفترض فرْضًا، نفترض أنه تحوّل إلى ثقب أسود، وعلى بعد سنة ضوئيّة واحدة من الأرض، ثمّ ثبت مكانه وظلَّ يدور حول نفسه ليتهيأ لإفنائنا؛ فما الحل إذن؟ ما الحلّ؟»
والحقيقة أن جاك يرى تلك الفرضيات حقيقة لديه، ولذلك استطرد: «أنتركه يمزّق بلوتو، أم يمزّق نبتون؟ أنتركه يعبث بالشمس، أنتركه يعبث بنا؟ لا والربّ، لن يمسّ هذا المارق أمريكا ولا غيرها، فنفسي فداء لكم جميعًا أيّها الناس. أيّها الناس جميعًا، أيتها اللجنة المبجلة، علينا أن نحتاط للمستقبل، فإذا تحوّل النجم إلى ثقب أسود سنكون نحن أهل الأرض بين المطرقة والسندان، بين جاذبيتين، جاذبية الشمس وجاذبيته، عندئذ، ستحدث زلزلة، زلزال يهزّ الأرض؛ فيهلك مَن عليها، علينا أن نحتاط إذن ونهجر الأرض. وقد يحدث ما هو أشدّ تنكيلا بنا، وهو التهامنا، انظروا..»
وأشار بالعصا على الشاشة ليظهر صورة صورتها ناسا تبيّن كيف التهم ثقب أسود نجمًا كاملاً.
لم يتمالك العالم الثبات من كلام جاك الذي وثّقه بصورة ناسا، فتساقط الآلاف من الضحايا خشية أن يتحول النجم إلى ثقب أسود.
أكمل: «لكن كيف يلتهمنا؟ يلتهمنا إذا كبُر، ولن يكبر إلّا إذا التهم بعض الفرائس التي وقعت بين أنيابه النووية.»
ومنذ هذه اللحظة بدأت بعض الرسائل ترِدُ على الحكومة الفيدرالية بوقف بثّ الرسالة عبر التلفاز، أرسلها بعض الساسة على أثر البلاغات التي وردتهم من بعض الناس من مختلف بقاع الأرض، فأرسل وزير الداخليّة الأمريكيّ إلى لجنة المناقشة رسولا خاصًا معه بعض القوات الأمنية لفض المناقشة معللًا ذلك بأنها لدواعٍ أمنيّة.
استأنف: «هل ممكن القضاء على الثقب الأسود قبل أن يقضي علينا؟»
تنفس الناس الصعداء فور كلمته ورددوا خلفه قائلين نفس عبارته.
أجاب: «من الممكن أن يخلّق مصادم fcc-2 الذي سيبنيه الفتى المصريّ – المعجزة- في مصر المادة المضادة، نرسلها إليه بعد حجزها في مصائد مغناطيسيّة بوساطة محرك سريع فيفنيا بعضهما بعضًا كما حدث في الانفجار الكبير.»
سمعها فهمان فانفجر باكيًا وهو يقول: «واعلم أنّني لن أتاخّر مطلقًا في إنقاذ الناس ولو كان طفلا واحدًا حتى لو كانت حياتي ثمنًا لذلك.»
استأنف: «ومن المعلوم أن هذا المحرك لم يتم اكتشافه بعد، ولم تسعفنا تكنولوجياتنا من تصميم محرك كهذا.»
رفع جاك أوراقاً بيده اليمنى وقال: «تصميم هذا المحرك في هذه الأوراق وسوف أوافيكم به عند رسالة الدكتوراه حالما انتهي مِن وضع اللمسات النهائيّة له.»
زمجر رئيس لجنة المناقشة قائلا: «جاك، لا تخاطب الجمهور، ولا تخرج عن موضوع الرسالة ..لو سمحت.»
تبرّم الجمهور من زمجرة رئيس لجنة المناقشة التي لا داعي لها وأخذوا يلمزونه حانقين عليه.
يكمل: «الذهاب إليه لدحره سيستغرق قرابة عشر سنوات، وإذا نجحتُ في تصميم هذا المحرك؛ فليس من السهل توفير سُبل دعم الحياة من شراب وطعام وأكسجين على مركبة فضائيّة خلال كلّ هذه المدة، والحلّ لديّ.» وهنا رفع جاك يده مرّة أخرى، في هذه اللحظة بالضبط دلف رسولُ وزير الداخليّة باب القاعة ورفع الكارنيه، وأقدم على رئيس لجنة المناقشة ليخبره بوقف المناقشة، ثم ما لبث أن نظر في وجوه الحاضرين المكفهرة، ثم نظر إلى جاك وتأمل ملامحه جيدًا، فوجد رجلا يحمل هم العالم على كتفيه، وشدته تلك الملامح؛ فآثر أن يتمهل قليلا في فض المناقشة، هنيهة واحدة ورفع جاك دوسيه جديد وهو يقول: «في هذه الأوراق تصاميم لجهاز شامل يدعم الحياة في الفضاء لفترة لا تنتهي، وأسأل الربّ أن يوفقني لإتمام إنجازه، واعلموا أنه من أحد التحديّات التي سوف اجتازها من أجلكم، من أجل اللقطاء الذين لم يعرفوا لهم أبًا ولا أمًا مثلي.» وفور أن قالها أجهش بالبكاء.
وبكى كلّ لقيط سمع كلمته حتى إنّ كلّ أبّ وأمّ مِن كلّ جنبات الأرض يمسحون دموعهما الحارة قائلين: «أنا أمّك يا ولدي، وأنا أبوك يا ولدي.»
عندئذ جلس رسول الوزير بين الجالسين بعد أن تأثر بشدة.
تماسك مجددًا وهو يقول بعزة وإباء: «أنا ابن الولايات المتحدة الأمريكيّة، واعتزّ بأنّ كلّ أبّ وأمّ يحملون الجنسيّة الأمريكيّة هم آبائي وأمهاتي، وإن كانوا لا يحملونها فلنا نحن الأمريكيون الشرف بأن يمتزج الدم الأمريكيّ بدماء كلّ الأجناس في صلة مودة واتحاد.»
صمت هنيهات ليهيّئ نفسه للخروج من هذا الحمل النفسي الرهيب ليستقبل حملا أثقل منه بمراحل، ثم بدأ كلامه بتؤدة تحمل آهات الحزن: «كذلك من سبل نجاتنا من وحش كهذا هو الوصول إلى الأكوان المتوازية لمقابلة حضارة أرقى منا، إذا قُدر لنا بطريقة ما الوصول إلى كونٍ متوازٍ لنا فلعلّ حضارة هذا الكون تكون أرقى منّا بملايين السنين، عندئذ يدمرونه بما أوتوا من علم من أجلنا. ولا أجد وسيلة للوصول إلى تلك الأكوان إلّا عبور الثقب الدوديّ المتمركز في الثقب الأسود.»
تنهّد بعض أفاضل الناس وقالوا: «الفتى يريد أن يرمي بنفسه في النار من أجلنا؛ ونحن نلقي بأهلينا وجيراننا فيها من أجل المال، ألا لعنة الله على هذه الدنيا!»
أمّا ميتشو كاجيتا ففور سماعه عبور الثقب إلى كونٍ موازٍ سرح بخياله بعيدًا بعيدًا حتى جاءته الغفوة فتكلم فيها قائلاً: «سوف تأتيكم إيريكا300(روبوت متطور) من سحابة أورط، فحوّلوا النجم لثقب أسود حتى تعبره وتعود بكم إلى الأرض (يخاطب هنا كون آخر من خلال اللاوعي كما ستبين الأحداث اللاحقة).»
تابع جاك: «وإذا اجتزنا كلّ هذه التحديّات سنعبر ونحطمه، سندكّ عنقه. والحظ سيكون حليفي، وسوف أؤمّن لكم حياتكم أيها الناس، فلا تتقاتلوا ولا تتباغضوا ولا تتحاسدوا واعتصموا بحبل السلام جميعًا، مسلم ومسيحي يهودي وبوذيّ ..إلخ.»
وبدأتْ مناقشة ما جاء في الرسالة، واستغرقتْ المناقشة أكثر من ساعتين، وفي النهاية تمّ منحه رسالة الماجستير بتقدير امتياز، وفيما بعد حصل على وسام شرف من البيت الأبيض، ووسام آخر من مقرّ رئاسة الوزراء الإسرائيليّ بأورشليم.

إبراهيم امين مؤمن
01-11-2022, 03:51 AM
احتفالات أكتوبر

أرسل مهديّ إلى فهمان ليحضر في ميدان التحرير -مسقط رأس الثورات الشعبيّة على مرِّ العصور- ليشارك في احتفالات نصر الجيش المصري على نظيره الإسرائيلي في السادس من أكتوبر.
استهلّ مهديّ افتتاح الحفل ببضع كلمات، وظلّ يتكلم عن شجاعة الرئيس الراحل أنور السادات، وشجاعة الجيش المصري في حسم الحرب، وتكلم عن تحطيم خط بارليف وعبور قناة السويس، وأسهب كثيرا في شأن الضربة الجوية ودور الرئيس الراحل محمد حسني مبارك في إدارة المعارك الجوية.
وظل يتكلم بعدها عن دور التكنولوجيا في حسم الحرب، وخص بالذكر دور التعليم بصفة عامة في ازدهار حضارة الأمم.
وقال فيما قال بأن أي دولة لن تنهض بدون العدالة حتى لو بلغت قمة الهرم في الازدهار الحضاري.
ثمّ تطرق أخيرًا إلى رجال أنجبتهم مصر وكانوا مخلصين من خلال دورهم البارز في الحفاظ على أمن مصر ووحدتها وحضارتها. بعدها صمت طويلاً حتى ظنَّ الجالسون ومَن يتابع خطابه المتلّفز على الهواء مباشرة أنّه أنهى خطابه. لكنه فاجأ الجميع وتلفظ بالبسملة وكأنه ما تكلم سابقًا.
قال: «بسم الله الرحمن الرحيم.»
صمت وهو يزفر زفرة طويلة تخرج من بين ثناياها نسيج متشعب من الحزن المشوب بالحسرة، ثم عاود واستأنف كلامه: «ونحن اليوم مع رجل، رجل من طراز خاص، لكن للأسف، للأسف لم يكن بيننا بروحه؛ بل بذكراه التي سوف تُخلّد عبر التاريخ. رجل من أغلى الرجال، من أقوى الرجال، من أصدق الرجال.»
ونظر نظرة المستعبر إلى جانب من الميدان مغطىً بعلم مصر، وأومأ بيده إليه فأُزيح العلم -طوله نحو عشرين مترًا وعرضه متر ونصف مترًا- فانكشف عن تمثال كبير ذو جناحين؛ ولكن رأسه مغطى بوشاح يحمل علم مصر أيضًا. تسمر نظر مهدي إليه، وظل صامتًا، وفجأة ألقى إلى التمثال التحية العسكرية وعيناه تغرورقان بالدموع.
فتعجّب الجميع، وتساءلوا فيما بينهم عن شأن هذا التمثال الذي بلغ من عظمة صاحبه أن الرئيس مهدي ألقى إليه التحية العسكرية؛ حتى ظن البعض بأنه تمثال للرئيس الراحل محمد أنور السادات. والبعض الآخر ظن بأنه تمثالا لسعد زغلول. ودارت الظنون في أدمغتهم، وحاروا حانقين على هذا الوشاح الذي يغطي رأسه. بينما فهمان يحوك في صدره شيء ينشرح له ولكن لا يدري ما هو.
وأخيراً، أزيح ستار الرأس، فصُدم الحاضرون لأن التمثال المبجل لم يكن لأي أحد ممن يعرفونه، فهو نكرة في تاريخ مصر بالنسبة لهم.
لكن في المقابل، نجد بعض رجال أمن الدولة يظهرون استياء شديدًا نحو ذاك التمثال، بينما نجد أهل القرية التي كان يسكنها فهمان تهلل وتكبر مشيرة إلى ذاك التمثال فرحين بفعل رئيسهم مهدي وفخورين بصاحب التمثال. بينما نجد فهمان ينفجر في البكاء يتبعه في ذلك بكاء جاك -المتواجد في أمريكا- على بكاء صديقه.
هب فهمان من مكانه، ثم ركض إلى التمثال ودموعه تزداد انهمارًا، وفور وصوله انكبَّ على قدمي التمثال يلثّمُهما بطريقة خاطفة ومتسارعة.
وباقي الحاضرين ما زالوا فاغرين أفواههم ومحدّقين إلى التمثال الأسطوريّ، ولكن من خلال فعل فهمان أيقنوا بأن هذا التمثال يخص أحد يعرفه وتساءلوا: «مَن هذا الرجل الذي أقام له الرئيس هذا التمثال الفاخر ذو الحلة الرائعة والجناحين الأشبه بأجنحة الملائكة؟ وما شأن فهمان به؟»
ولا يزال فهمان يقبّل قدمي التمثال، ثمّ رفع بصره لأعلى وحاول أن يتسلقه ليدرك رأسه فاستعصى عليه الأمر، وحاول مرارًا بيد أنه في كل مرة يقع يائسًا متحسرًا بينما عيناه تحدق في ملامح وجه التمثال وتبكيان بشدة.
أشار مهديّ إلى أحد الحرّاس بأن يحضر له درجًا كهربائياً متحرّكًا، فركبه فهمان على الفور وارتفع به حتى أصبح تلقاء وجهه، وعندها، أطلق قبلاته بحرارة على رأس أبيه الحقيقي الذي لطالما تمنى رؤيته منذ زمن طويل. واحتضن ذاك الرأس -الذي بحجم نصف جسده تقريبًا- حبًا واشتياقا بعد أن كان محروما من رؤيته بعد عملية الزرع مباشرة.
لم يكن بمقدور التمثال الوقوف صامتًا إزاء فعل ابنه نحوه، فضمه بجناحيه -حيث قام مصمم التمثال بالضغط على زر من وحدة تحكم التمثال فحرك جناحيه- ثم قام التمثال بالدوران وهو يحتضن فهمان -قام بها مصمم التمثال لمحاكاة التقاء اثنين أحبة بعد أن تأكدا بأن اللقاء بات مستحيلا- وفجأة، أُلقيَ عليهما من أحد جوانب الميدان ثيابٌ طوقهما وضمهما ضمة الأم الحنون ولا يزالا يدوران لم يتوقفا بعد.
وفور أن تكلم فهمان توقف الدوران، قال: «أبي، أبي، هذا أبي.»
حينئذٍ أميط اللثام عن هوية التمثال وافتخر الحاضرون به (من الجدير بالذكر بأن عامة أهل مصر لا يعلمون من أمر فطين شيء) قال مهديّ بصوتٍ خفيضٍ خاشع: «هذا هو أبوه، فليرِني كلّ منّكم أباه، ألديكم مثل والد هذا الفتى؟» ثم ما لبث أن قص حكايته على الحاضرين مستفتحا بقوله: «هذا هو فطين المصري، وهذا هو (يشير إلى فهمان) طموح أبيه... وقد تحقق له ما أراد، ويحزنني ويحسرني يا فطين (مشيرًا إلى التمثال) أن لا ترى ثمرة غرزك اليوم.»
وبعد الانتهاء من مراسم تبجيل فطين المصريّ قال الرئيس وهو يشير إلى فهمان: «إنّ القوات المسلحة ستبني المصادم الجديد في مصر بيد هذا الفتى.» ثمّ رفع سبابته مشيرًا إلى التمثال واستأنف كلامه: «ابن صاحب هذا التمثال.»
وانفض الاحتفال، وبالنظر إلى فعل مهدي، نجده قد تصرف بحنكة شديدة، وكان بعيد النظر جدا في سلوكه هذا، ويتضح ذلك من خلال العمل على تأهيل فهمان روحيا وذهنيا لبناء المصادم fcc-2، حيث إن نبوغ فهمان كان من أسمى أماني فطين، وقد ضحى بالغالي والنفيس من أجل يوم كهذا، يوم يقف فيه فهمان يساند بلده، ولن يؤهل هكذا ما دام أبوه -رحمه الله- مصنفًا إرهابيا ومشعوذا في نظر بعض الناس الذين يعرفونه.

وشرع مهديّ في أخْذ التدابير وتمهيد الأسباب لبناء fcc-2 ، فأرسل إلى صندوق النقد الدوليّ بصرْف قرض قيمته عشرون مليار دولارًا كدفعة أولى لبناء المصادم.
كما أرسل إلى الروس يطلب الدعم، فلمّا علمتْ أمريكا بهذا الشأن سارعت هي الأخرى لتقديم المعونة، فرحّب مهديّ بذلك أيّما ترحيب مستغلا تلك الحرب الباردة المصغرة لمصلحة مصر.
وتداول خبر إنشاء مصادم الهادرونات الكبير عبر كلِّ وكالات الأنباء المحلية والعالمية، وكان رد الفعل متشابها إلى حد كبير (كما ستبين الأحداث اللاحقة).

إبراهيم امين مؤمن
01-13-2022, 01:36 AM
الماضي مرآة المستقبل
تداول خبر بناء مصادم ابن فطين المصري لدى كلّ قطاعات الشعب المصريّ بجميع فئاته، ولولا نصْرة مهديّ لهم مِن قبل إبان ثورتهم المجيدة ضد الرئيس المعزول، وكذلك نصرته لاتحاد المقاومة الفلسطينية، ونجاحه المتفرد في التوافق بين كآفّة أطياف الشعب على اختلاف مِللهم ونِحلهم ومذاهبهم تحت مظلة المواطنة لارتابوا في أمر بناء المصادم، واعتبروه أمرًا سيفاقم من فقرهم أكثر وأكثر؛ بل قد تتطرف ظنونهم لأكثر من ذلك بأن يعتبروه حجة يتعلل بها مهدي من أجل فرض ضرائب عليهم.
ومما حفزهم على الثقة في مهدي أكثر وأكثر هو الدور الذي قدمه الساسة المصريون وأئمة المساجد وقساوسة الكنائس وخبراء الاقتصاد من أجل إقناعهم بجدوى بناء المصادم بمصر، كل منهم يتكلم من خلال إيمانهم بالرئيس مهدي وقناعتهم الشخصية بجدوى بناء هذا المصادم.
ومما قاله خبراء الساسة والاقتصاد لهم بأن العالم على مشارف حرب نوويّة، وعلى ذلك سيكون محل نظر أصحاب القرار من الدول المتحاربة، وكذلك باحثوهم وخبراؤهم بسبب الطاقة الجديدة التي سيعمل بها -ألَا وهي 400-500 تيرا إلكترون فولت- هذه الطاقة قد تُسخر لصنْع سلاح قد يكون له كلمة الفصل في ترجيح إحدى الكتلتين على الأخرى في الحرب النوويّة المحتملة بينهما.
وبذلك قد بوءوا لمهدي قاعدة عريضة يتكئ عليها ينطلق من خلالها لضم ما تبقى من أموال الشعب المصري إليه ليبني به المصادم.
فضلاً عن هذا التدشين؛ فهناك عوامل أخرى يتكئ عليها مهديّ، وهي أنّ صاحب الابتكار ابن الوطنيّ الشهيد -فطين المصريّ- والذي كُرم في قلب ميدان التحرير.
أما محاولة اغتياله في جنيف كانت بمنزلة كلمة السرِّ أو المفتاح الذي فتح قلوب هذا الشعب الفقير العريان له آنذاك فأحبوه وقلدوه الثقة.
أمّا أصحاب القلوب المريضة فتواروا خلف ألسنتهم المعسولة، وبسماتهم الزائفة، وظلوا يتشدقون عبر وسائل الإعلام بجدوى بناء المصادم في حين إن قلوبهم تمتلئ غيظا من ثبات الرئيس مهدي، وثقته في نفسه، وقوته التي ما بلغها رئيس مصري من قبله.
وبعد تأهيل نفوس للشعب إزاء بناء المصادم شرع مهديّ للقيام بأول خطوة لدعم المصادم، فأرسل يتعجّل البنك الدوليّ بشأن قرض العشرين مليار دولارًا، وأرسل كذلك إلى الروس والاتحاد الأوربي.
وبدأت المفاوضات، وقد استمرت بضعة أشهر، تأكد مهدي خلالها أن كل هؤلاء متشدقون، فأخذ قرارًا أضمره في نفسه ولم يبح به حتى تأتي اللحظة المناسبة، ولما جاءت تلك اللحظة أعلن عنه -وهو الخطاب الآتي- وبإعلانه عن الخطاب تحفزت بعض الدول لسماعه بسبب دورهم المخزي تجاه الدعم الخاص ببناء المصادم، ومن بين هؤلاء دولة إسرائيل، وقادة اتحاد المقاومة الفلسطينية، والولايات المتحدة الأمريكية، والروس، واليابان، كما تحفز أيضًا بعضُ فيزيائيي العالم -كعالم الفيزياء الياباني ميتشو كاجيتا- ورئيس جامعة بيركلي. وكذلك مدير صندوق النقد الدولي، هذا بالإضافة إلى فهمان -صاحب المشروع الأصلي- وجاك صديقه، والشعب المصري.
والآن الخطاب المنتظر..
«أيّها الشعب الكريم سلام عليكم، أنا ألوذ بكم، فهل تغيثوني؟......
امتد يد الشعب قاطبة نحو التلفاز وكأنهم يلبون نداءه بالفعل.
.....أنا واثق أنّكم أهل نخوة ونبل وشجاعة، وسوف تمدّون أيديكم لتضعوها في يدي لنسير معًا نحو حركة إصلاح اقتصادي مستنير. قبل أن أخبركم ما أريده منكم أريد أن أعلمكم بالتفصيل مماطلة البنك الدوليّ، وكذا كلّ الجهات التي أبدتْ رغبتها في دعم بناء مصادم fcc-2، تعرفونه طبعًا، كما تعرفون كيف كانت أمريكا حريصة على بنائه في أنفاق أراضيهم، وهذا لا يمنع بأن كثيرًا من الدول الغربية تود تحقيق هذا الأمر على أراضيها أيضًا، كسويسرا....
لمّا سمعها رئيس جامعة بيركلي تحسّر توجعًا، فكم كان يرجو أن يُبنى على الأراضي الأمريكية.
....أقول لكم الحكاية من البداية أم النهاية؟ أقولها من البداية أفضل. بداية، طلبنا من المصرف الدوليّ قرْضًا بقيمة عشرين مليار دولارًا كدفعة أولى للإنفاق على المصادم، وردّ المصرف بأنّه سيبحث الطلب، وانتظرنا ردهم لكن للأسف لم يردوا. فأرسلنا إليهم؛ فصارحونا بأن هناك بعض العقبات لصرف هذا القرض، قلت لهم كيف ذلك؟ فتمتم لي مندوب البنك الدوليّ ثمّ طلب مهلة أخرى، فأحسستُ أنّه يماطل أملا في نصْب فخٍّ لنا، فلا أجد مبررًا للتأجيل أو المماطلة إلا إنها لا تتصرف باستقلالية....
رئيس صندوق النقد معلقًا وهو يشاهد الخطاب: «نحن لسنا جهة ذات سيادة يا مهديّ، وأنت تعلم ذلك فِلمَ تكابر؟»
...قلتُ في نفسي، ننتظر، بعد فترة أرسلوا إلينا بأنّ الدولة المصريّة ليس لديها موارد لتسدّد قيمة القرض، فضلاً عن أنّ الدين المحليّ كارثي، فالدولة اشترتْ وما زالت تشتري سندات كثيرة من البنك المركزيّ. قلتُ لهم لا دخل لكم بشئوننا الداخليّة، باختصار أنتم تتعلّلون بحجج واهية، أنتم تماطلوننا، وقلتُ لن أعجز أبدًا عن سداد القرض الشهريّ، ولن يعجز الشعب المصريّ على الوفاء به، فطلبوا منا مهلة أخرى حتى يردون، وعلى الرغم من أن طلبهم للمهلة هو للتفكير في صرف القرض من عدمه إلا أنهم قالوا لي بالنص: «أليس لديكم شيئًا تفعلونه غير بناء هذا المصادم؟ إنّه مختبر يحتاج إلى أموال كثيرة لإنشائه كما أنّه يحتاج دعمًا ماليّاً بعد ذلك.»
ومن أجل إثبات وجهة نظرهم أردفوا: «الاتحاد الأوروبيّ ينفق على مصادم سيرن fcc-1 ومن قبله hlc، ألَا تعلمون ذلك؟»
قلتُ لهم تكلّموا فيما يخصكم فقط، عليكم تقولوا سنقرضكم أم لا.
رئيس صندوق النقد معلقًا: «قلت لكَ منذ قليل نحن تابعون ولسنا متبوعين، ثم أغلق التلفاز واكتفى بما سمعه.»
استأنف مهدي: «وانتظرناهم حتى يقولون كلمتهم. فجاء الرد بالموافقة على إعطائنا القرض في مقابل حقّ إدارتهم للمصادم من قِبل بعض العلماء الذين سيختارونهم يتقدمهم صاحب الفكرة -فهمان فطين المصري- وليس هو طلبهم الوحيد؛ بل طلبوا مني فرض ضرائب على الشعب.»
علق جاك عبر كلمة الرئيس الأخيرة: «إنّ علم فهمان أكبر مما تتخيّلون، لا أنت يا مهديّ تعرف حجم عبقريته، ولا صندوق النقد، فهمان لو أراد أن يحتل العالم كله بعلمه لفعل.»
استطرد مهدي: «قلتُ سبحان الله، ألم يكن المصادم بالنسبة لكم مصدر رفض لأنّه عائل يحتاج إلى الإنفاق عليه؟، وما يفاقم من المشكلة أنه لا يدرّ ربحًا، والآن تريدونه تحت سيطرتكم! ثمّ قلت لهم: وأيّ ضرائب أفرضها على شعب يسكن الكهوف والورق والجحور ويشرب من ندى الثرى، ثمّ قلت لهم: أنتم من الآخِر تريدون التحكم في قرارنا! تريدون التدخل في اقتصادنا! تريدون التدخل في حياتنا! علق مندوب البنك بأننا فهمناهم خطأ. قلتُ لا؛ بل أنا فهمتها صح، لا جرم، فهمونا أنتم الصواب. ردّوا بأنهم لو أداروه سيحقق أرباحًا طائلة، فالعلماء سيأتون إليه من كلّ العالم لأنّه أول مؤسسة علميّة يديرها بنك. قلت: لو أدرتموه أنتم سيحقق أرباحًا، ولو أدرناه نحن سيكبّدنا خسائر، عامة ليس لكم شأن بعلماء الأرض جميعًا أنا أعلم جيدًا كيف يأتون مصر. فقالوا بأن هذه شروط البنك، والبنك يستشعر أنّكم لا تحبّون التعاون معه، أي أنّكم تطلبون القرض ولكنّكم لا تريدونه على الحقيقة، لماذا..لا يعرفون. قلتُ: أنا الذي أماطل؟!
فسكتوا ولم يردّوا.»
سكت مهدي بضع لحظات يمسح جبينه ليستعد للدفعة الثانية من الكلام: «قررتُ والمجلس العسكريّ ترْكهم قليلاً لعلّهم يرجعون إلينا ويكونون جآدّين في دعمنا بديلاً عن هذه المماطلات. نترك البنك قليلاً وسأقصّ لكم كوميديا ساخرة أخرى عن الروس....
كان رئيس روسيا جالسًا ومتوكئًا على كفّ يده اليسرى ومستندًا إحدى قدميه على الأخرى عند ذكر اسم بلده في الخطاب المتلفز، فأنزل قدمه ويده وحدّج في مهديّ مقدمًا نصف جسده العلويّ إلى الأمام قليلاً.
....حضر وفدٌ من الروس إلى مصر، واجتمعوا بنا، قالوا نحن علمنا بشأن البنك، وأنّه رفض التعاون معكم، ونحن أصدقاؤكم، ولا نريد أن نخسركم، فإنْ كان البنك رفض فنحن سوف نتعاون معكم. قلت لهم، ليس لكم شأنًا بصندوق النقد، اِطرحوا عرضكم، فقالوا بأنهم سيعطوننا القرض بشرط، ألا نشتري أسلحة من الأمريكان أو أحد من حلفائها، فأنتم على مدار تاريخكم تشترون منّا ومنهم، الآن فقط اشتروا منّا، منّا فقط. فقلت لهم، لو احتجنا أسلحة ووجدناها عندكم سنشتري منكم، ولن نشتري من الأمريكان، موافق. فقالوا، ممتاز، سنعطيكم نصف القرض فقط والنصف الثاني سنعطيكم به أسلحة. قلتُ لهم، سبحان الله، لا أريد أسلحة الآن، أريد الدولار، وهبْ أنّي أريد أسلحة فهل ستبيعون لنا ما نريد؟ لا جرم، لو افترضتُ بأنّي أريد سلاحًا نوويًا، فهل ستبيعونه لنا؟...
حدّق رامسفيلد في التلفاز وانكفأ بجسده إلى الأمام وأصابته حمى الانتظار عمّا سيجيب به مهديّ.
....تمتموا جميعًا، ونظر بعضهم إلى بعضٍ ثمّ قالوا لي بأنهم لا يستطيعون بيع السلاح النووي لنا....
لمّا سمع رامسفيلد ردّ موسكو جلس بأريحية تامة.
....وطبعًا أنتم تعلمون أنّ الروس داخل على حرب نوويّة ضد الأمريكان، وأنا مندهش أنّهم يريدون أن يبيعوننا أسلحة، إذ يتوجب عليهم شراء الأسلحة وليس بيعها، لكنّهم ظنّوا أننا أغبياء، هم يريدون أن يبيعوا لنا الراكد فقط. شعرتُ أنّ الأمر فيه خدعة أو مماطلة أيضًا، شأنهم كشأن صندوق النقد....
فور أن أنهى مهدي كلمته الأخيرة هاتف الرئيس الروسي وزير دفاعه قائلاً: «تخلّص من الأسلحة التقليدية بأيّ طريقة، أريد النوويّ، أريد النوويّ.» وأغلق التلفاز وهو يقول بتأفف: «رجل ثرثار.»

....وفعلاً، قد علمتُ من مصادر موثقة أنّ موسكو لديهم فائض من الأسلحة التقليديّة ويريدون زيادة مخزونهم من الأسلحة النوويّة لتعينهم في حربهم المحتملة مع الأمريكان، بأيّ نقود؟ بأموالنا نحن! طبعًا شعرت بالضعف، وشعرتُ بأنّ الدول العظمى هذه بترخّص في دماء الدول الضعيفة، ولكن شعرت بالفخر عندما رفضتُ، لأني رفضتُ بإباء.»
وجلس مهدي لحظات ثم استأنف: «بعد ذلك جاء وفد أمريكيّ إلينا، وكان غاضبًا، وقالوا لنا هكذا بالنص: «إنّ الابن (يقصدون فهمان) لم يكن ابنكم بل ابننا نحن، فأنتم أنجبتموه وألقيتموه في صناديق القمامة ونحن انتشلناه وربيناه، وهذا شأنكم يا مصريين، ترمون بالجواهر وتتمسكون بالتراب والجيف، علمناه وأرسلناه بحسب إرادته هو وليس إرادتنا نحن إلى سويسرا وزكيناه كي يتبوأ المكانة التي يستحقها هناك، ولقد نشأ وترعرع مع ابننا جاك، ساعده الأيمن الذي مكنه من الوصول إلى ما وصل إليه الآن، وأنتم تعرفون بالضبط حادثة حريق الجامعة، أفق يا مهدي، أنسيت أن دولتكَ قتلت أباه؟ أفق يا مهدي، فخيرنا تجده في لباسك الداخلي وفي حماماتكم، تجده في فتحة أدباركم، عشرات من العقود ونحن نأخذ اللقمة من أفواهنا ونناولها لكم. أنتم لئام يا مصريين، عندما أردتم أن تبنوا مصادمكم ذهبتم لغيرنا رغم أن فضلنا عليكم من مفرِقِ الرأسِ حتى أخمصِ القدم.»، انظروا يا أخوتي هكذا
قالوا لنا في وقاحة منقطعة النظير.....
رامسفيلد معلقًا: «آه يا أنذال، عليكم اللعنة، اللعنة على كل العرب، لتذهب أنتَ وفتاك إلى الجحيم.»
....قلتُ، لن نذهب لغيركم، سامحونا، والآن أنا أمد يدي إليكم أنتم، وولدكم يريد أن يبنيه في مصر فساعدوه، أقرضونا إذن، فردّوا: «نريد أن تتصالحوا مع يعقوب إسحاق، إسرائيل تقول إنّها صديقة لكم، وإنّها تسالمكم، ومن الممكن أن تعطيكم ماءً من عندها لكنكم دائمًا تعادونها، وتحرضوا شعوبكم على معاداتها، وتنصروا الإرهابيين عليهم (يقصد اتحاد المقاومة الفلسطينية).» رددتُ عليهم: مَن الذي اشترى سندات سدّ النهضة من الأثيوبيين في الزمن الغابر؟ ألم تكونوا أنتم؟! ثمّ قلتُ: لو سمحتم نحّو القضيّة الفلسطينيّة جانبًا ودعونا نتكلم عن القرض....
أخذ يعقوب إسحاق يسبّ ويلعن مهدي، بينما مؤيد وقادة الاتحاد رفعوا إبهام أصابعهم لأعلى تعبيرًا منهم على أنه قام بضربة معلم.
....قالوا: «إنّ التوتر الدائر بينكم وبين إسرائيل بسبب مسألة الأنفاق الفلسطينيّة يضايقها كثيرًا، ونحن كأمريكا لن نستطيع مساعدتكم في ظل هذا التوتر.» ثمّ استطرد الوفد وقال: «كيف تبنون المصادم وهناك توتر على حدودكم؟ أكيد لن تستطيعوا سداد القرض في هذه الحالة.» أيّها الشعب، هم يعلمون جيدًا بأنّي سأرفض قبول الدعم مقابل بيع دماء مجاهدي فلسطين إذ لم تكن غاياتهم من عرضهم هذا، وإنّما يريدون معرفة الاتّفاق الذي دار بيننا وبين موسكو، لذلك قالوا: «عرضنا أفضل من الروس؟»
أرأيتم يا إخوتي، المهم، صارحتهم بكلِّ ما دار بيني وبين الروس، فأرادوا قطْع الطريق على الروس بعرض أفضل منهم فردوا: نحن سنعطيكم الأسلحة التي تريدونها ولكن لا تشتروا من الروس. قلت لهم: وقد سمعتم منّي منذ برهة أنّي رفضتُ اتباع هذه الطريقة معنا، وها أنتم تكرّرون نفس كلام الروس، وها أنا أقول لكم مثلما قلت لهم : لا أريد أسلحة، أريد الدولار. وهكذا يا أهل بلدي، يريدون أن يدعموا ترساناتهم النوويّة ببيع أسلحتهم التقليديّة للحمير والبلهاء أمثالنا على حد ظنّهم، هم اعتقدوا فينا ذلك وأنا أقول لهم إنّ الشعب المصريّ سيد العالم، المهم، ذهب الوفد الأمريكيُّ، وبعدها بأيّام اتصلَ بنا صندوق النقد بأنّه موافق أن يعطينا القرض كلّه مقابل إرسال خبراء منهم يقومون بتحصيل إيرادات قناتي الرئيسين الراحلين -جمال عبد الناصر وعبد الفتاح السيسي- قلت نحن دولة مستقلة، ردّوا: «ونحن لن نستعمركم.» قلتُ التحكم في حركة السفن استعمار، نفرض أنكم أدخلتم أسلحة لإسرائيل لضرب إخواننا الفلسطينيين فنحن لن نستطيع منعكم. طبعًا أنا أعلم أن صندوق النقد لماذا يريد إدارة قناة السويس، هم يريدون التحكم في ملاحة الأسلحة، فتمرّ أسلحة الأمريكان عبرها دون غيرهم وخاصة الروس. رفضتُ قائلاً: لا تدخلونا في حربكم، قناة السويس للجميع، فردّوا: «أنت فهمتنا خطأ، دعك من قناة السويس، افرضْ ضرائب على شعبك وارفعْ الدعم ونحن سنتعاون معكم؛ ارفعْ الدعم حتى تخفّض الدين المحليَّ وتستطيع أن تسدد قيمة القرض الشهريّ.» قلت: أقولها كما قلتها لكم من قبل: أنا شعبي تحت خطّ الفقر فماذا بعد ذلك أطلب منهم؟ دعكم وشعبي....
سمع العبارة عامة الشعب ولاسيما أشدهم فاقة من خلال الشاشات المنصوبة في المقاهي، وكان أحدهم يتابع بانتباه وبجانبه ولده، فقال الولد: «أنا عايز أشرب يا بابا.» فخرج أبوه من المقهى وذهب إلى أحد المحال فملأ له غطاء أحد الزجاجات، فأمسكها بيدٍ مرتعشة حسرة على ما آل إليه حال مصر، فوقعتْ على الأرض، فأغشي عليه، فانكبّ ولده على صدره ويهزه بكلتا يديه كي يفوقه ويبكي قائلاً: «معلش يا بابا أنا مش عايز مية.»
....مرّتْ عدة أيّام، ووجدتُ وكالات أنبائهم وصحفهم يتحدّثون عن طلب الحكومة المصريّة منهم الدعم لبناء ال fcc-2، لكن الحكومة الفيدراليّة أبتْ وقالتْ: «إنّ الشعب المصريّ فقير، ولا يجد شربة الماء فكيف يبني مصادمًا؟» ثمّ زادوا من وقاحتهم وقالوا: «إنّ الرئيس المصريّ يريد أن يعطّش شعبه أكثر وأكثر مثلما فعل أحد الرؤساء في العصر الغابر من تاريخ مصر، ثم استطردوا: أيّها الشعب المصريّ اعلموا بأنّ الإدارة الأمريكيّة لن تترككم جائعين عطشانين وسوف نظلّ نعطيكم معونتنا حتى لو سلّط الله عليكم متسلّطًا مثل مهديّ. فعلق مهدي: سبحان الله، سبحان الله، هم يكلمون شعبي أم شعبهم ؟! يخاطبون شعبي، فما شأنهم به! هي هي أمريكا، لن تتغيّر غطرستهم، ولن تتغيّر نظرتهم للأمور، فهم يزنوها دائمًا بمكيالين، إلى متى ستظلّ الغطرسة الأمريكيّة تهيمن على الدول الضعيفة! يريدون أن يحكُمُوكم أيّها الشعب ولديكم رئيس يحكمكم، مَن قال لهم إنّي عميل أو والٍ من ولاتهم؟ عجبًا....
ردّ رامسفيلد: «أنت إمعة وليس لك قيمة، أبله، كلكم يا حكّام العرب ثرثارون، ليس لديكم بضاعة إلّا ألسنتكم، تظلون تتشدقون بها إلى شعوبكم وبضاعتكم الرائجة هي الكذب من أول اعتلائكم الحكم وحتى النزول بقبوركم.»
... طبعًا أيّها الشعب الكريم، أنتم تعرفون كمّ حقدهم وحنقهم على تمزيقي للاتفاقيّة الظالمة التي عقدها الرئيس المعزول، تلك الاتفاقيّة التي كانت تسلم أعناق الشعب الفلسطينيّ لتسيل دمًا على أخاديد سيوف الصهاينة....
هبطت الدموع من الشعب الفلسطينيّ كالأنهار حال سماع هذه العبارة.
...تنهّد عدة تنهّدات ثمّ قال: نرجع لاستكمال حكاية الروس، جاء الوفد الروسي مرّة أخرى وعرض عرضًا جديدًا وهو نفس عرض البنك ألَا وهو السيطرة على قناة السويس مقابل تمويل المصادم مجانًا، أي أنّ المبلغ لن يردَّ، وهذا أفضل عرض جاء إلينا، لكنّي عندما فكرتُ فيه ورجالكم من أبناء القوات المسلحة وجدتُ أنّ هذا العرض سيؤلّب دول العالم علينا، وأنّ الموافقة على عرضٍ كهذا سوف يجعل كلّ جيوش الأمريكان والغرب وأحلافهم يزحفون إلى أرضنا، وبديلاً من أن تُدار الحرب النوويّة بعيدة عنّا تُدار على أرض مصر، وتتلوث أرض المحروسة بدمائهم ودمائكم . رفضتُ طبعًا. نرجع مرة ثالثة لقصة صندوق النقد، عاد البنك من جديد يقول: «سنعطيكم القرض على دفعات بشرط ضمان وصول مساعدات من الأمريكان والإنجليز والروس، وكلّ دفعة لها شروطها.» يا للعجب، مال البنك والروس، ماذا يريدون؟ لعلهم فقدوا كلّ حيلهم ولم يبقَ لهم سوى أن يتعاملوا معنا بشيء من الاحترام، وينحّوا السياسة بعيدًا عن أمر القرض أو على الأقل يجعلونا نعتقد ذلك. وطبعًا هم يعلمون عروض موسكو وواشنطن جيدًا، فكان كلامهم لنا تحصيل حاصل، أي ليس له قيمة. وجاءنا عرض من إسرائيل المحتلة، هاتفني يعقوب إسحاق به، العرض يقول: «سنعطيكم القرض طويل الأجل في مقابل شيء واحد، أن تجعلونا نفتّش في أنفاق سيناء، رفضتُ طبعًا، وقلت لهم: إنّ الدم المصريّ دمٌ عربيّ، وإن الدمَ الفلسطينيّ دمٌ عربيّ؛ وهما يخرجان من مشكاة واحدة.»...
قال يعقوب: «وسوف أشرب دماءكما أيها المحتلون أرضنا، أنت فاكر نفسك ضرغام يا صرصار، يا ثرثار يا ابن الزانية. ثمّ بصق على الشاشة (على وجهه الظاهر له).»
...بعد رفض كلِّ العروض المقدمة وجدت ملف المصادم fcc-2 في أروقة الأمم المتحدة يقولون: «إنّ مصادم بطاقة 400 إلى 500 تيرا إلكترون فولت سوف يخلّق ثقوبًا سوداء مجهريّة قد تبتلع الكون كلّه، ويجب على الأمم المتحدة أن تمنع بناء هذا الوحش حفاظًا على البشر.»
... وأنا أقول لهم هذا ردّي إليكم جميعًا، أيّ شحنة أسلحة ستمرّ عبر قناتي جمال والسيسي سيتضاعف سعر مرورها ثلاثة أضعاف. وأنّنا سوف نبني مصادمنا بسواعدنا وبهمة أبناء شعبنا.»
هبّ فهمان واقفاً مهللاً كالمحتفل بعيد النصر.
في نفس اليوم والأيّام التي تليه خرجتْ جموع الشعب المصريّ من مختلف المحافظات يحتفلون بقرار رئيسهم مهديّ، خرجوا بأثوابهم البالية من الخيام والجحور والأنفاق مسرعين كالمتسابقين في العدو يصيحون قائلين: «ناصر ناصر، مهديّ مهديّ، السدّ العالي، السدّ العالي، المصادم المصادم .»

إبراهيم امين مؤمن
01-24-2022, 04:08 AM
ابدأ بنفسك أولا
سعيًا وراء عمل خطوات جادة وفعالة لبناء المصادم fcc-2 قرر مهدي أن يبدأ بنفسه ثم بالنظام الحاكم، وهذا البدء يمتاز بالذكاء والحكمة فضلا عن أنه يتسم بالعدل. فمهدي يعلم بأن أكبر محفز لتحريك كافة أطياف الشعب للمساهمة في بناء المصادم هو الوزن بالقسط في الدولة، وهي ملكة مرتكزة في نفوس المحكومين ولاسيما العائل منهم والفقير سواء بسواء.
ومن قلب الرقيب على النظام الحاكم، ومن قلب درع الأمة، من قلب المؤسسة العسكرية قرر مهدي حثهم على المساهمة من رواتبهم وحوافزهم عن طريق فكرة رائعة أيضًا وهي إجراء استفتاء حول تطوع إجباري.
وبالفعل قام القادة ومَن يلونهم مِن الرتب الكبيرة بعمل الاستفتاء عن طريق فتح لجان انتخابية داخل المعسكرات والكتائب والوحدات وكلّ فصائل الجيش بكافة رتبه.
وتم الاستفتاء، وقد صُدم مهدي بعد أن أبلغ بنتائجه.
فأكثر من 70% من أفراد المؤسسة العسكرية على كافة رتبهم رفضوا المساس بمرتباتهم وحوافزهم معًا. ولقد هاله الأمر إلى حد الصدمة، وكاد أن يُغشى عليه لولا أن تداركه من حوله.
بعدها بأيام عقد جلسة طارئة مع المجلس العسكريّ، واستهلّ كلامه بمشاورتهم قائلاً: «يا أصدقائي، نحن وضعنا أرواحنا على أكفّنا إبان الثورة لخلع الرئيس الخائن الذي باع مصر لكل من هب ودب، واليوم أود أن نضع أرواحنا مرة أخرى لننهض بمصر. فماذا ترون؟»
قال وزير الدفاع متمتمًا نتيجة هاجس بداخله: «ماذا تقصد بالضبط يا مهدي؟»
رد: «تعرف مقصدي يا سيادة الوزير بعد أن عرفت نكسة الاستفتاء، أظن أن وقعها على قلبي كان أشد من نكسة 1967 على عبد الناصر.»
تقهقر وزير الدفاع للخلف مستاء من تهويل مهدي للأمور.
قال أحد الأعضاء: «أرى أن تُنحّي الجيش وتخرجه من مسألة دعم بناء المصادم fcc-2.»
نظر إليه مهدي متلهفا وهو يقول: «ولِمَ ؟ ولم؟»
أجابه: «الجيش هو الدرع الذي حافظ على مصر منذ عقود طوال، وهو الدرع الذي يتصدّى دائمًا للمخططات الخارجية التي تهدف لإضعاف مصر وخاصة المخطط الصهيوني، وضياعه أو تمزيقه سيُحدث يقينًا إضعافا للوحدة الداخليّة لمجتمعنا في شتى مناحي الحياة، هذا فضلاً عن أنّه البوابة أو الدرع الذي يحمي الجيوش العربيّة، فإن فُتحت البوابة أو تحطم الدرع فسوف تسقط المنطقة جزءًا جزءًا، تباعًا تباعًا.»
ارتدّ مهديّ إلى الوراء، واختلجتْ عيناه وقال منكرًا كلامه: «مستحيل، مستحيل أن أعرض الجيش لمثل هذه العثرات، هو يتعثر أحيانًا بسبب اضطلاعه بحمل ثقيل يحمله على كتفيه، أما أن يتعثر لأننا نطلب منه الوقوف بجانب شعبه فأنا لا أعتقد ذلك.»
وعمّ الصمتُ المجلسَ دقيقة وذلك مرجعه إلى أنّ المجلس لم يتصور أن هذه نظرته في المجالس العسكرية في الأزمان الغابرة، كما أنهم يرون عكس ما يعتقد مهدي، فاضطلاع الجيش بحثه على بناء مختبر علمي من أمواله هو الذي سيسقط الجيش.
فكرّ عليهم قائلا: «أرى في وجوهكم الإنكار عما قلت، نسيتم كيف ضاع نيل مصر بسبب الحمل الثقيل الذي ذكرته آنفا، نسيتم مجموعة القرارات التي كانت تُتخذ بصورة خاطئة بسبب الثورات الداخلية.»
ما زالوا خائفين من إثارة قضية دعم الجيش الإجباري في بناء المصادم، فهم متأكدون بأن مهدي سوف ينظر في أموالهم الطائلة التي يحصلون عليها من خلال عملهم.
استأنف مهدي: «لابدّ أن نبدأ بأنفسنا حتى نشجّع الشعب على المشاركة والتفاعل في بناء المصادم، لابدّ أن نكون البادئين بوضع حجر الأساس لبناء المصادم من هنا من هنا ..من الجيش.»
ووقع ما كانوا يحذرون بالفعل، ولكن إلى أي مدى سوف تكون الكارثة؟ وزير الدفاع وأكثر الأعضاء ينتظرون متخطفي الأبصار.
عضو آخر قال: «على مرّ العصور يا سيادة الرئيس والجيش يأخذ، ويأخذ، ويأخذ، فمن الصعب الآن أن ...»
قاطعه مهدي وهو يحدج فيه بقوله: «ليس صعبًا أن يأخذ وصعبًا أن يعطي؟!»
عم الصمت لحظات بعد أن صمت مهدي فجأة، فما زال الهاجس يكتنفهم ويكاد يحبس أنفاس قلوبهم ويسألون من الله اللطف بهم على ما يود مهدي فعله.
ثمّ تابع مهديّ كلامه: «الجيش هو درع الشعب الحصين ولا مانع أن أعطيه أكثر مما يأخذ غيره عن بقيّة المؤسسات، ولكن جاء دوره الآن ليعطي، نحن في أزمة.»
سكت هنيهة مجددا ثمّ أعاد نفس الكلمة إمعانا في التوكيد : «جاء دوره ليعطي، في مثل هذه الظروف لابد أن يضحي.»
قال نفس العضو السابق آملا في الإفلات من عزم مهدي على المساس بمرتباتهم: «لا أرى أن نغامر بمصير دولة كاملة مِن خلال الاعتماد على فتى صغير يدّعي القدرة على بناء مصادم حذر منه كلّ فيزيائيّ العالم لخطورته على الكون.»
هنا قال مهدي في نفسه: «ما زلتم تريدون الإفلات من الأمر الذي أود فرضه عليكم بأي وسيلة.» توقف الكلام، وكادت أنفاس أكثر الأعضاء تتوقف. فقال وهو يرمقهم: «يبدو أنني سأعلن في اللحظات القادمة عن موت محبيني إثر أزمات قلبية. تعسًا لكم.» بدأ العرق يتصبب من بعضهم بعد قوله الأخير، ثم قال بعد هذه الحالة التي عاينها: «هذا الفتى الذي لم تعرفوا قيمته عرفها الموساد، وكذلك السي آي أي، وعلى خلفيّة معرفتهم وإصرار الفتى على عدم التصريح بمكان بناء المصادم تيقّنوا أنّه سيدين بالولاء لبلده كما فعل عالم الفندق المقتول، فحاول أفراد الكيدون اغتياله، إسرائيل تعرف مدى أهمية العلم ونحن نجهله سيادة الوزير، الفتى كرّس حياته من أجل هذا البلد ونحن نبخل عليه بحفنة من الدولارات.»
قال أحد الأعضاء رغبة في إثناء مهدي عن عزمه: «الحكومة تخلّصتْ من الديون القديمة لدى البنك الدوليّ في عهد الرئيس المعزول على حساب الشعب فجاع وتعرّى وسكن القبور، ولا نريد أن نكون نحن السبب في الاستدانة مرّة أخرى و..»
صرخ فيه مهديّ: «تخلصنا كيف؟! لمّا بعنا أرضنا، وناولنا كئوسًا من دماء الفلسطينيين للجيش الإسرائيليّ ليروي بها ظمأه.»
قال عضو لم يتكلم من قبل رغبة في توسيع الفجوة بين ما يود مهدي فعله وما هم يودون: «أرى إعطاء منح للجيش حتى يحرسوا المصادم حال بنائه فضلاً عن سواعد أيديهم التي ستشترك في بنائه لا أن يُطلب منا.» قال ما في قلبه، لذلك تمتم وتراجع عن قوله السابق بقوله: «لا أن يُطلب منهم الدعم المالي من رواتبهم ومنازلهم و..»
قاطعه مهدي ساخرًا: «نسيت أن تقول سيادة العضو:وأولادهم.» رفع مهدي يديه اليمنى باسطا كف يده في وجوههم وقال: «كفى كفى.» ثم نظر إليهم محدقًا ثمّ استفتاهم استفتاء المجبرين لا المخيرين: «وأخيرًا الموافق بشأن دعم الجيش لبناء المصادم بالمال والنفس يرفع يده.»
كشر وزير الدفاع عن أنيابه وهو يقول: «يساهم بعرقه نعم، يكدّ ويتعب لبنائه نعم، لكن يساهم بالمال فذاك أمر عصيب عسير.»
نظر إليه مهديّ بحنق مشوب بالحزن ولم يعلّق، ثمّ أعاد نفس الكلمة.
فرفع قرابة 15 % من عددهم على استحياء.
عبس وجه مهديّ وازورّ للوراء كأنّما يتّقي سهمًا سُدد إليه ثمّ قال في نفسه: «لعلّ وطنيتهم نائمة تحتاج إلى من ينشطها، فهم أصدقائي وأنا أعرفهم فرادى فرادى، إذا رموا غدْرًا فضمائرهم ترعش أياديهم فتهوى الرميّة، وإذا انتقوا سهمًا ليرموا به بريئًا انتقوه مكسورًا لأنّ نفوسهم تأبى الجور، علي أن أفرض عليهم وأنا متأكد أن عملي سوف يكون مأمون الغوائل.
قال في حزم: «نؤجّل الأمر ريثما اجتمعُ بالحكومة.»
انفضّ المجلس وظلّ مهديّ يفكر فيما قال أعضاء الثورة المجيدة من المجلس العسكريّ، ورأى أنّهم جانبهم الصواب في كثيرٍ ممّا قالوا ولكن لاَ بُدَّ مِمَّا لَيْسَ مِنْهُ بُدٌّ وهو إشراك الجيش بالجهد والمال في بناء المصادم وإلّا سيعزف الشعب عن الإسهام فيه.
كما رأى أنّه لابدّ من الاجتماع السالف حتى يؤهّل نفوس أصدقائه لقبول أيّ قرارات يتخذها، فعنصر المباغتة في مثل هذه الأمور لا يصبّ مطلقاًَ في مصلحة المشروع.

إبراهيم امين مؤمن
01-31-2022, 09:15 AM
حان الموعد المحدد والتقى الرئيس مهديّ بالوزارة.
ولقد عزم في قرار نفسه ألّا يصدق كلامهم، فما تخفي صدورهم أكبر، ولذلك فقد قرر أن يعرف خبأ نفوسهم من خلال ملامح وجوههم وحركات أجسادهم التي تبدي تفاعلا مع الحدث.

قال: «بعد تخلّي صندوق النقد الدوليّ وكذلك تخلّي الجهات الأجنبيّة عنّا ليس لدينا إلّا الاعتماد على أنفسنا، فماذا تقترحون؟»
قال وزير المالية: «ليس أمامنا إلّا خيار واحد، هو دعوة الشعب للإسهام بماله مقابل إعطائهم شهادات استثمار تصرف أرباحها بعد فترة معينة.»
علق مهديّ على كلامه: «وكيف نحفّزه على شرائها؟ وكيف يثق هذا الشعب في دولة كادتْ تعلن إفلاسها حتى تحاشتْ ذلك ببيع القضية الفلسطينيّة على خلفية الاتفاقيّة الرباعيّة التي كانت تقضي بإخلاء قطاع غزة للإسرائيليين.» زفر زفرة طويلة ثمّ استأنف: «لابدّ من إنجاز عمل كبير كي نستنفرهم على إخراج ما يملكون ثمّ يضعونه في البنك سواء بشراء شهادات استثمار أو غير ذلك. أعلمُ أنّهم مستَنفَرون قبل ذلك من خلال حملة التدشين التي قام بها رؤساء الأحزاب المختلفة، لكن هذا لا يكفي، لا يكفي بتاتًا، لابدّ من عمل كبير من جنس ما يُطلب منهم ولاسيما بأنّ غالبيتهم تحت خطّ الفقر.»
وزير التكنولوجيا: «يكفي يا سيادة الرئيس قيامنا بعملية أنهار الطائرات، فقد جلبت حب الشعب لك.»
علق مهدي: «ها أنت قلت، حب الشعب لي، فأين حب الشعب للحكومة؟»
لقد استدعى السؤال الصمتَ فخيم على المجلس، وبعضهم تصبب عرقا، فرائحة الكلام تدل بأنه يريد شيئا من الحكومة، وماذا يريد منها غير المال؟
نظر إليهم مهدي وقد تفجر حزنًا من داخله، لكن ما خف عنه حزنه بأن الأفضل منهم اتخذ موقفًا رافضًا (يقصد المجلس العسكري).
هبّ وزير السياحة وكسر الصمت وقال: «مصر بلد السياحة، وما ضُربتْ السياحة إلّا بسبب التوتر الأمني الداخليّ والخارجيّ، والضربة الموساديّة الأخيرة بتفجير الكنائس لم تاتِ من فراغ، حيث إنهم استغلوا النزاع المتجذر بين المسلمين والقبط على مرِّ التاريخ وعملوا على نزع فتيله ففجّروا هم من ناحية ومن ناحية أخرى قامت بعض التيارات المتطرّفة من التيار الإسلاميّ بالتفجير بسبب عداوات قديمة ترجع جذورها إلى اختلاف الديانات. هذه الضربة كانت بمنزلة دمار السياحة، أقصد أنّ السياحة مرتبطة دائمًا بالأمن الداخليّ، فإذا استطعنا أن نحافظ على الأمن ستنتعش السياحة، ويتوفر بعض الدعم.»
ردّ مهديّ ساخرا مستنكرا: «موت يا حمار، تريدني أن أعمل على توفير الأمن لأوفر حفنة من الدولارات للمصادم؟ ننتظر خمسة سنوات حتى يتوفر الأمن وتنتعش السياحة، وخمسة أعوام أخرى لنكسب ثقة الدول التي ترسل رجالها إلينا، ثم تأتي حادثة موسادية أخرى لتضرب السياحة فنعود إلى نقطة الصفر.»
رد الوزير عليه: «ما قصدت ما قصدته يا سيادة الرئيس!»
قال مهدي: «إذن أخبرني مقصدك بالتحديد.»
وضح الوزير: «أمران يا سيادة الرئيس: الأول أنّ انتعاش السياحة سينعش الاقتصاد، والآخر وهو الأهم أنّه من الممكن تحويل المصادم من معمل اختبارات يُنفق عليه إلى مشروع لإنتاج الأسلحة، فالعالم مقبل على حرب نووية، وهذا سيدفع الدول التي ستخوض الحرب بالدفع بعلمائها إلى fcc-2 لعلهم يتمكنوا من ابتكار سلاح أقوى من النووي فتنتهي الحرب قبل أن تبدأ. وعندها نطلب مبالغ ماليّة مقابل حضورهم، عندك مثلاً أمريكا وروسيا وحلفاؤهما سيرسلون علماءهم لدينا، وهذا ليس بجديد ، ونلمس ذلك في إبان الحروب الباردة التي كانت بين أمريكا وروسيا؛ فما بالك بحرب، وأيّ حرب، إنّها حرب عالميّة في عقيدتنا واسمها هرمجدون في عقيدة اليهود.»
أُعجب مهديّ بكلام وزير السياحة وانشرحَ صدره.ورغم هذا الإعجاب فلم يجد في كلامه ما ينمّ عن التضحية من أجل مصر.
استأذن وزير التعليم العالي والبحث العلميّ قائلا: «إنّ المسائل الفنيّة الخاصة ببناء المصادم ككلّ ستستغرق ما بين 5-7 سنوات، وهذه فترة تعتبر قصيرة نسبيًا إذا ما قارناها بالوقت الذي استغرق فيه عمل المصادم الجديد fcc-1 بجنيف والذي شيد بعد المصادم الأول hlc. وتكلفة مصادمنا fcc-2 قد تصل ما بين 250-300 مليار دولارًا حسب إحصائي وإحصاء المتخصصين لديّ، وهذه المبالغ كبيرة جدًا على شعب يسكن الجحور ولا يجد شربة الماء بعد أن فقد نهر النيل في الزمن الغابر.»
عاود وزير الماليّة مُعلقًا على كلام وزير التعليم العالي والبحث العلميّ بعد أن أذن له مهديّ: «وهذه تمثل عبئًا كبيرًا على الحكومة،
وقد ترجعنا لعشر سنين إلى الوراء في وقت لدينا فيه عجز نسبيّ في الموازنة.»
ردّ مهديّ عليهما مشيرًا بسبابته تقترب وتبتعد عن وجهه: «لو كلنا يحبّ مصر لاستطعنا تشييده دون أىّ عناء، فمثلاً يا سادة ممكن تتبرعوا بنصف مرتباتكم أو حتى ربعها لمصر لحين الانتهاء من بناء المصادم، وممكن تجميد الزيادات السنويّة لمرتبات القوات المسلحة لفترة 2-4 سنوات مثلاً مثلاً.»
ساد الصمت المجلس، حيث اعترض الخوف حناجرهم فلم يستطيعوا الكلام. عيونهم اختلجتْ والتمعت نظرات غضبٍ سرعان ما اختفت تحت غيم الكظيم، أساريرهم تقلّصتْ، وجوههم اكفهرّتْ، أجسادهم أصابتها رعدة فور ذكر كلمة مهدي الأخيرة.
سارقهم مهديّ النظر، ولذلك قال لهم جميعًا بعد أن أخرج خبء نفوسهم: «أعلم ما يدور بأذهانكم، خسارة وألف خسارة، ولكن اعلموا إن لم نبدأ نحن المسئولون والحكام بتدعيم المصادم فلن أستطيع أن أحفّز الشعب واستنفره على التدعيم، وسيظلُّ متثاقلاً لا يودّ الحراك. وإن كان لا يجد شربة الماء، وإن كان يسكن الجحور فلديهم سواعد وعزائم قد تصنع المستحيل بشرط أن يجدونا نحن أهل تضحيةٍ وعطاء.» صمت مهدي لحظات، ثم لحظات أخر ثم قال: «لتكن شهادات استثمار المصادم المصريّ.»
بعد ذلك اعتدلَ في جلسته وتناول ورقة كانت مدونة فيها ما كان يضمره من قبل، وأخذ يتلوها كأنّه كأحد الكتب المنزّلة من عند الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لفرط عزمه وإمضاء ما انتوى عليه بلا مناقشة مع أنّ الحزن والألم والحسرة يعصرون قلبه بسبب مواقف الوزراء المخزيّة ونقص عزيمة المجلس العسكريّ بشأن دعم المصادم.
قال مسطرًا لهم وللتاريخ كيف يكون رئيس جمهورية مصر العربية: «1-تخفيض مرتب رئيس الجمهوريّة بنسبة 70% لحين الانتهاء من بناء المصادم، ووضع كلِّ الهدايا والمنح التي تأتيه من الداخل والخارج لدعم المشروع.
2-إصدار قرار بوقف زيادة المرتبات السنويّة لأفراد القوّات المسلّحة لمدة ثلاث سنوات، وتُردّ إليهم في صورة منح بشرط نجاح المشروع.»
حملق في المجلس وأدار عينيه عليهم جميعًا ثمّ استأنف: «3-تخفيض مرتبات الوزراء بنسبة 30% مع وقف الزيادات السنويّة لحين الانتهاء من بناء المصادم.
4-وضع حد أقصى للأجور بحيث لا يتعدى ال ... كذا...لحين الانتهاء من بناء المصادم، فإذا انتهينا ترجع الأجور كما كانت.
5-تخفيض مرتبات الكوادر الخاصة من عمال الشعب بنسبة 30%.
6-رفع الضرائب بنسبة 10% على شركات القطاع الخاص لحين الانتهاء من بناء المصادم.
7-حثّ المصريين وخاصة المقيمين في الخارج على شراء شهادات استثمار المصادم المصريّ بالنسبة التي يحددها البنك المركزيّ.
8-استقدام كلّ من له خبرة في بناء هذا الصرح على المستوى المحليّ والدوليّ.
9-تعمل المؤسسة العسكرية بكامل طاقتها للمساهمة بالمال والعمل حتى الانتهاء من بنائه.»
ثمّ همّ بالنهوض وترْك المجلس كما يفعل القاضي في نهاية الجلسة وهو يقول: «رُفعت الجلسة.»

إبراهيم امين مؤمن
02-11-2022, 06:11 AM
نفسي فداؤك يا أنصف الناس
خرجت جموع الشعب المصريّ من كلِّ محافظات مصر -بعد قرارات الرئيس مهدي- تمتلئ وجوههم بالسرور والفخر مرددة نفس الشعارات التي رددوها من قبل يوم أن فرد مهدي أذرعه على الدول الأجنبيّة بفرض ضرائب إضافيّة لشحنات الأسلحة التي تمرّ عبر قناتي عبد الناصر والسيسي. وعبروا عن فرحتهم وثقتهم برئيسهم مهدي -بعد أن فرض على الجيش والحكومة دعم المصادم من رواتبهم- بالإقبال الشديد
على البنوك لشراء شهادات استثمار المصادم المصريّ. ومن يشاهدهم لن يملك نفسه ولابد له من البكاء، فهؤلاء الذين يهرعون إلى البنوك لشراء شهادات استثمار المصادم ffc-2 يخرجون من تحت الأنفاق ومن الخيام الورقيّة والصوفيّة ومن المنازل الخربة والقبور.
وأكثرهم يكبو من الفاقة وقلة الزاد لكنهم سرعان ما ينهضوا رغبة في الوقوف إلى جانب رئيسهم العادل.
أما الأغنياء، فقد كان لديهم عزيمة قوية أيضا لتدعيم المصادم، وأكثرهم كانوا يعيشون حياتهم بكل شرف وأمانة.
وصلوا البنوك، وقد اكتظت الشوارع بهم قبل اكتظاظ البنوك، ونظموا أنفسهم تنظيمًا رائعًا سواء داخل البنك أو في خط سيرهم.
ولقد تعجب موظفو البنوك من شأنهم، حيث إن أكثر هؤلاء كانوا يقولون: «نريد الدعم بمائة جنيه.» وفور أن يحصل موظفو البنوك على المائة جنيها كانوا يسألونهم: «ينفع نتبرع بملابسنا أو أثاث خيامنا؟»
وبعض هؤلاء كانوا يحضرون معهم بعض الفرش ويقدمونها لموظفي البنوك.
وبدأ بعض الإعلاميين يقابلون هذه الجموع الغفيرة عند البنوك، فسأل بعضهم.
قال لأحدهم وقد كان يلهث من العطش بسبب شح المياه: «أرى معك شهادة استثمار، فبكم هي؟ »
رد الرجل: «أنا وأهلي وكل ما أعرف من الناس أتوا اليوم ليشتروا هذه الشهادات بعد أن أفرغوا دواليبهم من الملابس وباعوها، حتى إني أعرف الكثير منهم قد باعوا خيامهم وأقاموا في العراء.»
ومضى الإعلامي وقال في نفسه -وقد كان لبيبًا -: «سبحان الله، عندما يصدق الرؤساء نرى من شعوبهم العجائب!»
ومن بين الأمثلة التي يندى له الجبين، أنه في يوم جاء أحد أفراد الشعب بثيابه الممزّقة وشفاهه المشقّقة إلى أحد مراكز علاج الكلى، في الاستقبال قابلوه وسألوه ظنًا منهم أنه متسول: «ماذا تريد يا رجل؟»
أجاب: «لدىّ كلية فاسدة تحتاج إلى فصْل وأريد زرع أخرى وسأعطيكم مالاً كثيرًا، هيّا أسرعوا فإنّها تؤلمني، ارحموني من هذا العذاب.»
اتصلوا بوحدة الطوارئ ليحولوه فورًا إلى القسم المختصّ.
دخل على الطبيب، فأفرده على طاولة الكشف وفحصه فلم يجد شيئًا.
قال له الطبيب دهشًا:«كليتاك سليمتان.»
ردّ على الطبيب ناشجًا: «يا دكتور، إنّي أشتكي من وجع أشدّ ألمًا من ألم الكلية، أشتكي ألّا أجد ما أعطي رئيسي وحبيبي مهديّ.»
- «وما شأني أنا بهذا الأمر؟»
- «أريدك تبتر كليتي من جسدي وتبيعها لأحد الأغنياء لأشتري بها شهادة استثمار.»
ظن الطبيب أنه يمازح أو أنه رجل مجنون لذلك سأله: «هل أنت جوعان أيها المواطن؟»
فتمطَّق الرجل كأنّما يشتهي طعامًا، ثمّ مسح شفتيه العلويّة والسفليّة بلسانه.
فاغتاظ الطبيبُ وقال له: «أتسخر منّي أيها اللئيم! شفتاك مشققتان ووجهك شاحب وتدّعي أنّك تأكل الزيت والسمن؟!»
رد: «أيها الطبيب، إنّي أحاول أن انتصر بالعزيمة والأمل.»
قال الطبيب وهو يسخر: «كيف إن شاء الله؟»
رد بثقة وثبات: «أأكل الجوع قبل أن يأكلني، أداعب لساني وشفتي قبل أن يشكواني من العزلة، أبثُّ الأمل في روحي حتى لا تغادر جسدي.»
شعر الطبيب بأنه كان مخطئًا في الحكم على الرجل، ولذلك قرر أن ينتبه له ويرعي سمعه له.
استأنف الرجل: «إنّى أأكل من صناديق القمامة، ولكن كلما ذهبتُ إلى صندوق وجدته فارغًا، أصبحنا في أزمة اقتصاديّة بسبب نفاد طعام صناديق القمامة، لكن لا عليك، ابترْ كليتي وأعطْها لمَن شئت وأعطني المال حتى أذهبُ إلى المصرف.»
قال الطبيب وهو متأثر: «لِمَ تضحّي بكلِّ هذا؟»
رد: «الشعوب عندما تجد حكامهم يضحّون من أجل بلادهم، يهبونهم أجسادهم.»
لم يجد بُدًا من تلبية رغبة الرجل فقد تأثر تأثرًا شديدًا، وقد أضمر في نفسه نِحلة له فقال له: «ائتنى غدًا.»
وبمجرد خروج الرجل جلس الطبيب القرفصاء ثمّ خرّ ساجدًا يشكر الله بأن هذا الصنف من الناس لا يزال موجودًا.
أتاه الرجل في اليوم التالي فأعطاه مئة ألف جنيهًا وهبها له من غير اقتلاع كليته وبلا ضمان، وقال: «أيّها الرجل، اذهبْ واشترِ شهادة استثمار من رئيسك هذه هبة مني لك.»
رفض الرجل بشدّة وقال: «قلتُ لك اقتلعْ كليتي، فأنا أود الدعم لرئيسي من جهدي لا من جهد الآخرين.»
رفض الطبيبُ ذلك وحلف بأغلظ الإيمان بأن يوافق على نحلته.
فأعاد الرجل عليه نفس الكلمة.
فلمّا وجد الطبيب إصرار الرجل قال له: «لتكن سلفة إلى أجلٍ غير مسمّى.»
ولم يمهله الطبيب الرد على عرضه الأخير وأخذ يدفع به نحو الباب ليخرج ومعه المال. لم يجد الرجل بدا من أخذ المال الذي فُرض عليه بالقوة، وتوجه مباشرة إلى أقرب بنك، وفي الطريق استوقف شابًا تبدو عليه مظاهر البذخ وقال له: «أريد أن أبيعك ثيابي.»
قال الشاب: «إليك عني أيها الرجل الحقير، هل أنت مجنون يا رجل؟»
فأمسكه من ياقة قميصه الفاخر بقوة وقال: «أنا لست مجنونا، ويجب أن تشتري هذا الثياب.»
بدأ الشاب يتألم من قبضته التي بدأت تؤلمه فدفع له مائة جنيها.
قال الرجل: «أنا لا أشحذ، القميص لا يساوي أكثر من أربع جنيهات، أعطني أربعة جنيهات فقط وخذ هذه الورقة.»
وصل الرجل البنك، وعندما جاء دوره قال لموظف البنك: «أعطني شهادة بأربعة جنيهات.»
قال الموظف: «أربعة جنيهات؟!أقل قيمة عشرة جنيهات أيّها الرجل.»
- «لم أملك سواها، فخذها.»
- «قلت لك ممنوع.»
- «هذه أربعة جنيهات ملكي، وهذه مئة ألف من الجنيهات مِلك رجل من أخلص الرجال في مصر.» وبلهفة ألقاها له.
وصل الخبر إلى الرئيس مهديّ عن طريق المخابرات المصريّة التي كانت تتابع عمليات الشراء.
فانكبّ على وجهه باكيًا وقال لنفسه: «شعب لا يجد قوت يومه، ولا يجد شربة الماء يُقبل على شهادات الاستثمار بمائة جنيهًا، وخمسين جنيهًا، وأربعة جنيهات،أربعة جنيهات! سبحانه جعل في النفس البذل عند الإيمان، والمنع عند الكفر، شعب يبيع الخرق الباليّة ويكتفي ببل الشفاه عند الظمأ ليشتري شهادة استثمار ب .. ب .. أربعة جنيهات. رغيف العيش بخمس جنيهات في هذا الزمن الأغبر.»
وعلى الفور أصدر أمرًا للبنك ببيع شهادات استثمار بجنيهٍ واحد، واحد فقط.
أمّا تحويلات المصريين من الخارج فقد كان لها نصيب الأسد من أجل الإسهام في المصادم، وتتزايد يومًا بعد يوم حتى بلغت خمسين مليارًا من الدولارات.
بينما يستشيط غضبًا أولئك الذين يستخفون وراء بسماتهم الزائفة وقلوبهم المريضة.
أمّا وراء الجدران فتكلّم بعض الوزراء قائلين: «غدًا يجعلنا مهدي نكشح الشوارع.»
أمّا داخل الجيش فقد حدث تمرّد خطير من بعض القيادات، فقد حاولوا الانشقاق وعزْل الرئيس مهديّ، ولكنّ أكثر القيادات رفضت تمامًا الخروج عليه؛ فسهل القبض عليهم والتخلّص منهم، أمّا أذنابهم فقد حبسهم في السجن العسكريّ.
وعلى الصعيد العالميّ، فهناك في الغرف المغلقة تحاوروا مع بعضهم بشأن المصادم ومصر.
حيث قالوا: «إنّ الشعوب عندما تحبُّ حكّامها، والحكّام يحبّون شعوبهم، صعب على أيّ جهاز مخابرات مهما كانت كفاءته أن يُحدث بلبلة ويخلق أزمات لإيجاد فوضى تهدم على إثرها المؤسسات ويختنق الاقتصاد وتتنازع فيها الشرائح الاجتماعيّة. ومع ذلك لن تثنينا هذه العقيدة الصحيحة عن المضي قُدمًا نحو مخططنا لحكم هذه الدول ولاسيما المسلمة منها.»
وبالفعل عبروا عن غلهم بأن ظهروا عبر القنوات وقالوا خلاف ما يعتنقون ويقولون وهم يضحكون: «شعبٌ لا يجد قوت يومه، ولا شربة الماء يبني مصادمًا بحثيًا، والمصادم كباقي المختبرات تحتاج إلى دعم الحكومات ولا تدرّ أموالاً، الرئيس المصريُّ سيتسبّب في موت شعبه جوعًا، خبراء الاقتصاد يقولون إنّ مصر سوف تعلن إفلاسها في مدة لا تتجاوز خمس سنوات.»
وما أرادوا بذلك إلّا زعزعة الإصرار الذي تغلغلَ في جموع الشعب نحو تدعيم المصادم فينصرفوا عنه، فتظلُّ مصر تقبع في ظلمات الضعف.
هم خبثاء لأنّهم يعلمون أنّ المصادم سوف يجعل مصر بلد العلوم والتكنولوجيا ومنارة للعالم، يعلمون أنّ العلم هو السوّاقة لأيّ بلد كي تنهضَ اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا وسائر مجالات الحياة الأخرى.

إبراهيم امين مؤمن
05-08-2022, 09:00 AM
بالعزيمة يتردى المستحيل
لم يهنأ جاك بنوم ولا بطعام بعد رصده لآلاف النجوم ومئات الثقوب السوداء، هذا الرصد الذي تفحصه وحلله مرارًا وتكرارًا واستخرج منه إمكانية تحوّل نجم سحابة أورط إلى ثقبٍ أسود ، كما أنّ التصاميم الخاصة بالمحركات والجهاز الشامل لدعم الحياة في الفضاء قد وضع لهما بالفعل اللمسات النهائيّة وما بقي إلّا التنفيذ عمليًا على أرض الواقع.
وفور أن انتهى من تلك اللمسات وضعها في رسالة لكي تناقش بين لفيف من الأساتذة الكبار في بيركلي.
حيث إنّ لجنة المناقشة آنذاك من أكبر فيزيائيّ العالم على الإطلاق.
ذهب إلى رئيس ناسا ليفاتحه في الأمر، كلّمه
- «سيدي، أريد أن أناقش هذه الرسالة.»
نظر إلي ما في يده وقال: «أناقشها وهي في يدك؟ أعطنِيها.»
- «لم أقصد ما اعتقدته، أريد مناقشتها مع خبراء ناسا قبل إرسالها إلى بيركلي.»
- «لم أفهم، أتقصد مناقشة رسالة دكتوراه؟! لم يمضِ على حصولك على درجة الماجستير سوى ثلاث عشر شهرًا فقط.»
- «أعلم، ولذلك أتيتك لتساعدني.»
- «لن أستطيع أن أفعل لك شيئًا، ألَا تعلم أنّ هناك قوانين ولوائح منظمة لمناقشة الرسائل وستحول دون ذلك.»
- «سيدي، القوانين واللوائح لن تحمي العالم مِن الخطر المحدّق به، وأردت المناقشة لإنقاذ العالم لا للحصول على الدكتوراه.»
- «أنذرها إلى حين، ودعنا نتشاور مع خبراء ناسا بشأنها قبل إرسالها إلى رئيس الجامعة كما اقترحتَ.»
- «إذن، عليك بإعطائهم الرسالة ليدرسوا ما بها، ثمّ بعد 3-4 أشهر نجتمع معًا لنتدارس محتواها وليس أكثر فإنّي أخشى ألّا يكون هناك متسع من الوقت.»
- «أخفتني وآثرت فضولي، ما بها؟»
- «سطور فيها مسار رحلة من الأرض إلي ذاك الرابض الملعون في السحابة للفتك به وتدميره.»
- «أجننت؟!إنّه نجم، والنجم لا يُقتل وإنّما ينتحر.»
- «لن يكون نجمًا عندما أذهب إليه، سيكون ثقبًا أسود.»
- «لذلك أتيتني حتى أخبر الجامعة بقبول الرسالة، ثمّ أخبر الرئيس الأمريكي ليجتمع بالحكومة لتوفير نفقات الرحلة.»
- «أقصد ذلك بالفعل.»
بينما هم على ذلك إذ رنّ جرس هاتف رئيس ناسا، إنّه الرئيس الأمريكيّ جورج رامسفيلد يدعوه هو وجاك لمقابلتهما غدًا في البيت الأبيض، فردّ عليه قائلاً: «أنا وجاك سنكون سعيدين بذلك سيادة الرئيس، غداً سنكون في البيت الأبيض.»
همّ جاك بالانصراف بمجرد الانتهاء من المكالمة، ولمْ يهتم بالأمر مع أنّ المتحدث أكبر رأس في العالم.
قال رئيس ناسا بغرابة شديدة: «ألم تسمع المكالمة؟»
- «معذرة سيدي لم أهتم بالأمر، مرني سيدي.»
حدّق فيه رئيس ناسا ثمّ قال له بسخريّة: «الرئيس الأمريكيّ يدعوانا لمقابلته غدًا.»
ردّ جاك: «ليس لديّ وقت، فأنتَ تعلم مشاغلي.»
- «طلبات الرؤساء أوامر يا جاك، استعدْ سنذهب غدًا.»
مضى جاك ولم يعتني بالأمر برمته، كلّ ما شغل فكره هو نجم سحابة أورط وكيفية الخلاص منه.

******

تسخير الكفاءات

فخامة الرئيس العادل: «أنا جاهز تمامًا ومنتظر إشارتكم.»
مهدي: «جيد أنك أتيتني، كنت سأرسل إليك منذ لحظات، تسعدني همتك يا ولدي، فليس لدينا وقت لنهدره، فأموال الشعب أمانة في أعناقنا.»
- «سيادة الرئيس، أريد أساتذة متخصصين في فروع الفيزياء المختلفة وخاصة الفيزياء النظريّة وفيزياء الجسيمات، وفيزياء الإحصاء.(يكلمه فهمان ولا يحدّ النظر إليه إجلالاً).»
تبسّم ابتسامة لطيفة وهو يقول: «طبعًا يا فهمان، لقد عملت على ذلك منذ فترة، منذ أن انتهيتُ من اجتماع الوزارة، وسيصل إلى مصر قريبًا العديد من الخبراء الفيزيائيين مِن أوروبا وآسيا، كلّهم أخبروني بأنهم يفتخرون بالعمل تحت قيادتك.»
قال وهو مندهش: «تحت قيادتي أنا؟!»
أجابه بطأطأة رأسه ولم ينبس بكلمة، ولكن ملامح وجهه ملآنة بالتأثر.
قال فهمان: «فخامتكم دائمًا لا تهدرون وقتًا، تصرفاتكم رصينة وحكيمة وتدبيركم محكم متين.»
- «أتظنّ أنّ رئيسك نائم، قلتُ لك منذ قليل أنّ أموال المصريين أمانة في أعناقنا وليس لدينا وقت لنهدره.»
سأله فهمان على استحياء: «هل من الممكن أن أطمع في كرم سيادتكم العليّة واستفسر عن أمر؟»
-«بكل سرور ..سل ما تشاء.»
- «لقد سمعت عجبًا، كيف يفتخرون بالعمل تحت..؟»
قاطعه مهدي بسيل من ضجيج الضحكات المتتابعة ولم يتوقف حتى أصابته نوبة سعال من حشرجة أحباله الصوتية، ثم كوّر يده ووضعها على فمه حتى توقف سعاله وهو يقول والدموع تنهمر من عينيه: «هذا الكلام يقال في البلاد العربيّة التي ما زالتْ تعيش تحت بئر السلم وخاصة في مصر، أمّا الغرب فلا يعترفون إلّا بالكفاءات، لو عندهم صبي لا يتجاوز السادسة مِن عمره ولديه كفاءتك لبنوا به المصادم على أراضيها وكان القائد عليهم هذا الطفل.» صمت قليلا ثم تكلم بحكمة: «الفرق بين الجنس العربيِّ والجنس الغربيِّ أنّ جنسنا اعتاد على الفشل منذ الصغر،
وجنسهم اعتاد على النجاح منذ صغرهم أيضًا، فسلكنا سلوك الفاشلين على الدوام وهم سلكوا سلوك الناجحين على الدوام، فامتلكوا رقابنا وتحكموا حتى في كيفية لبس ملابسنا الداخلية. الآن عرفتم لماذا يفتخرون بالعمل تحت قيادتك، ويجب عليك أن تعرف أيضًا كيف يتبرأون منك العرب ويسخرون منك لو طُلب منهم العمل تحت قيادتك مع أنهم لا يساوون أكثر من النعال التي ينتعلها هؤلاء العلماء الغربيون.»
أدار مهدي وجهه عنه وأعطاه ظهره وهو ينظر من الشرفة بعد أن رفع شراعتها وقال: «أتعرف أن هؤلاء الذين انتعلوا علماءنا قالوا عنك بالنص: «ما لدى فهمان وجاك ليس علمًا مأخوذًا من الكتب؛ إنما وحيًا من السماء ».» استدار مرة أخرى ووقف أمام فهمان وربت على كتفيه وقال: «قلت لهم أهم رسولان؟ قالوا متعك الإله بالصحة والعافية سيادة الرئيس فعصر الأنبياء ولّى.»
قال فهمان: «ألم يذكروا لفخامتكم ميتشو كاجيتا؟»
أجابه: «ذكروه متأففين.»
سمعها فهمان منه ودار بخلده استفسار سبب تأففهم منه ولم يجد إجابة إلا لسلوكه المريب الذي سلكه تجاهه من قبل عندما كان جالسًا مع الدكتور وليم. لكن فهمان قال لنفسه بأنه يظن أن كاجيتا يكره العالم، حتى امتد كراهيته له إلى نفسه هو.
قال مهدي: «لم تكن تكلفة خزانة الدولة ثلاث مائة مليارًا من الدولارات أمرًا هينًا في بلد أهلها يعيشون في البرك والمستنقعات، ولذلك فأنا متأكد بأنك ستستطيع بناءه، وسيصبح منارة وقبلة لعلماء الأرض يأتونه، عندئذ أضرب ضربتي، فأرفع شعبي من المستنقعات إلى الروابي، وأخلع النعال التي ينتعلها علماؤهم وأضربهم بها.»
نظر فهمان إليه وتعجب من قسوته
ولم يفهم معنى كلمة أضرب ضربتي، ولكنه شعر فيها بالقسوة ولاسيما أنه كان يقولها وهو يلكم الهواء بكلتا يديه.
قال مهدي: «هل من الممكن أن يعمل جاك معك؟ وهذا الكاجيتا أيضًا؟»
أجابه وهو يبكي: «لقد فرّقت الشياطين بيني وبينك يا جاك، كم أنا مشتاق إليك! كم أنا محتاج إليك.»
- «حسنًا، أرسل إليه يأتك.»
- «لن يستطيع، فلديه هم أشد مما نحن فيه، إنه سوف يلقي بنفسه في جحيم ثقب أسود محاولة منه لإنقاذ هذا العالم.»
قال مهدي مرعوبًا:«كيف ذاك؟»
أجابه: «ثقب أسود يهدد حياة البشرية بالزوال، بل قد يلتهم المجموعة الشمسية أيضًا.»
قال مهدي: «لطفك يا رب، هل أنت متأكد مما تقول؟»
أجابه: «متأكد، لكني متأكد من قدرة جاك على التصدي له ودحره بعيدا عنا.»
قال مهدي: «ألم تقل بأنه سوف يلقي نفسه في جحيم ثقب أسود منذ قليل، فكيف يدرأ أخطاره عنا؟»
أجابه فهمان والدموع قد ملأت وجهه: «سيدرأ أخطاره عنا بأن يكون قربانا له.» وظل يبكي حتى تقطع صوته.
فأراد مهدي مواساته فقال له: «لا تألوا جهدًا في بناء المصادم وسوف أجعل أباك -رحمه الله- بجانبك.»
ذهل من كلامه ولم يدرِ مقصده وسأله مستفسرا عن الأمر فقال له مهدي بأنه عندما يحين الوقت ستزول عنه دهشته.

**********

إبراهيم امين مؤمن
05-29-2022, 01:07 AM
الحي والميت

دخل رئيس ناسا على جاك في الصباح الباكر بعد محادثتهما بالأمس بشأن مناقشة رسالة الدكتوراه، واستنهضه من أجل الذهاب معه إلى جورج رامسفيلد -كان جاك آنذاك مندمجًا في مراقبة النجم من خلال المراصد وصور الأقمار الصناعيّة التي تأتيه أولاً بأول- قال جاك: «اذهبْ وحدك وأخبرني عما يريده هذا الصعلوك.»
نظر إليه دهشا وهو يقول: «صعلوك! هيّا، هيّا يا ولدي.»
تحرك جاك معه متثاقلاً، واستقلّا سيارته الطائرة ومضيا -يصحبهما بالطبع حرس المهام الخاصة المكلف بحراسة جاك- دخلا البيت الأبيض، وقابلاه، بينما حرس جاك جلس مع حرس البيت الأبيض يتضاحكون معًا.
قال الرئيس الأمريكيّ: «طبعًا هذا اللقاء غير رسميّ.» وظل يثرثر كثيرا، يسمعه رئيس ناسا بينما جاك ينظر في طيور الحديقة ويتوجع خشية على أن يلتهمها الثقب الأسود.
وفجأة، رأى على أحد أشجار الحديقة ثعبانًا يتسلل إلى شحرور يغرد وهو يطعم صغاره في وكر على الشجرة، فانتفض جاك من مكانه وجرى نحو الشجرة ثمّ تسلّقها كالقرد وانقضّ على الثعبان وقتله.
انتفض الرئيس الأمريكي من مكانه مذهولاً وشاهد الحدث وقال: «أمجنون هو؟»
قال له رئيس ناسا وهو متحرج: «معذرة سيدي الرئيس.»
ولم تمضِ إلّا لحظات وعاد جاك وقعد في مكانه وهو يقول غير مكترث للاثنين معًا: «لابد أن نعمل على السلام لمن دعا إلى السلام.»
قالها جاك رغبة في أن تصل إلى أذني رامسيفلد، حيث يتوقع بأن رامسيفلد سوف يعمل على شن حرب عالمية ثالثة بإيعاز من يعقوب إسحاق.
جلس رامسفيلد مرة أخرى وهو يكتم غيظه وقال من فوره: «هل من الممكن أن تقوم وكالة ناسا ببناء مصادم هذا الفتى المصريّ؟» وعلى الفور وجه كلامه لجاك خصيصا: «إنّي أعلم قدرتك الخارقة على الابتكار لذلك دعوتك يا جاك لعلك تستطيع بناءه.»
قال جاك: «لن يستطيع بناءه إلا واحد فقط، أتعلم من هو؟ فهمان ابن الشهيد فطين المصري.»
تمتم رئيس ناسا وقال : «وكالة ناسا فضائيّة سيدي الرئيس، وجاك تخصص فيزياء فلكية وفضاء، هذا الشأن ليس من اختصاصنا.»
ضرب الرئيس الأمريكيّ جبهته وقال: «لقد غفلتُ عن ذلك، إذن تستطيعون أن تصنعوا لنا طائرة محجوبة عن الرؤيا.»
قال جاك ساخرًا: «يا ليتك أنت تبتعد عن المشهد وتُحجب، هذا أعظم اختراع بشري.»
ثمّ نظر إلى رئيس ناسا واستنهضه فتثاقل ولكنّه جذبه فمضى معه مكرهًا.
نظر إليهما الرئيس الأمريكيّ ثمّ قال: «فتى أخرق، أحمق.»
وكان فوق الشجرة ببغاء فقال: «يا أخرق، يا أحمق.»
استقلّا السيّارة وبمجرد أخْذ مسارها في الهواء انتابتْ رئيس ناسا نوبة ضحك هيستيري ولم يسأله جاك عن السبب، فلمّا توقف عن الضحك قال: «جاك كلّ العالم يعلم بأنّكَ قادر على بناء ما ذكره الفتى في رسالته بجنيف.»
فحدّقه جاك وقال: «أسرعْ سيادة الرئيس، أسرعْ بنا إلى ناسا.»
فقال رئيس ناسا باسمًا: «اِعملْ له مصادم مِن الكرتون وريّحه.» قالها وضج بالضحك، ثم تعالت ضحكاته أكثر وقال: «أقول لك شيئًا جيدًا، اعملْ له طائرة وألبسها طاقية إخفاء.»
نظر إليه جاك هنيهات، لم يتمالك نفسه فانفجر ضاحكا على الرغم من أنه قلما يضحك في حياته حتى في الصغر.
قال جاك: «معذرة سيدي أن ضحكت في حضرتك بهذه الطريقة.»
- «تعتذر لي لضحكة في حضرتي وتترك رئيس أمريكا وتعتلي شجرة من أجل إنقاذ شحرور، فضلا عن سخريتك الواضحة منه وفظاظة كلماتك له؟!»
أجابه: «الشحرور صوته جميل، وجورج صوته نشاز، ربنا يخلّصنا منه فهو رأس الأفعى.»

***

بعد استشارة الجيولوجيين تقرّر بناء مصادم الهادرونات المستقبلي FCC-2 في إحدى مناطق الوادي الجديد تحت الأرض بمائة متر -ولقد اُختيرت هذه المنطقة بسبب أنّ باطن قشرتها الأرضيّة هادئة لا تثور فتحدث زلزال أو بركان، كما أنّها ذات مساحة كبيرة، فضلاً عن سهولة توفر المياه الجوفيّة في المحافظة كلّها- وحُدد حجم المنطقة الصحراويّة المراد حفرها -وهي دائريّة وها هيّ مساحتها:الطول120 كم، والعرض 15 متراً والارتفاع 80 و 250 مترا- ورسم فهمان حدود المنطقة التي سوف تُحفر إلى عدة مناطق ما بين المتر والمائة متر مربع والقليل أقل من المتر وكذلك المائة.
وأُحضرت معدات الحفر، وتصافّ العمال ومعهم الآلات الحافرة الحديثة، يتقدمهم أفراد المؤسسة العسكريّة من أقل رتبة إلى أعلاها -يعملون بلا أجر- ثمّ طوائف الشعب على اختلاف أعمارهم بلا أجرٍ أيضًا.
وحضر اليوم الأول لبداية العمل الرئيس مهديّ والمجلس العسكريّ، ومع أول حفيرة قام الرئيس مهديّ بحمل التراب منها وألقاه في عربة اللوري؛ وبذا يكون قد أعطى رمزاً للتواضع والفداء.
ثمّ كلّم أفراد الجيش بأنّ يعملوا ويكدّوا من أجل مصر، وانصرف هو ورجاله.
وظلّ الحفرُ على مدار عامٍ كامل لم يتخلّف فهمان فيه ولا يوم واحد، كان يعطي رسمه الهندسيّ للحفّارين لينفذوه، إذ إنّ هناك ارتفاعات معينة، وكذلك انخفاضات وجدران مقعّرة، وأخرى محدّبة، وذلك لتتناسب وشكل المصادم وأجهزته ومعداته فضلاً عن غرف المبيت.
وهذا هو الشكل النهائيّ للمنطقة التي سوف توضع فيها أجزاء وتركيبات المصادم -شكل دائريّ يتكون من ثمانية قطاعات كلّ قطاع قوس محددة من كلا طرفيها فواصل مستقيمة تفصلها عن بعضها (تعمل كمداخل متعددة الاستخدامات)- وأثناء هذه الفترة كان خبراء المصاعد الكهربائيّة في تواصل مستمر مع الحفّارين؛ هذا التواصل من أجل صنع بعض المصاعد بالقرب من الأماكن المحفورة لتساعد الأوناش فيما بعد في نقل الثرى واستخراجه من الأعماق إلى الخارج لتحمله اللواري فيما بعد.
وخارج المصادم كان هناك لفيف من الخبراء يعملون على تصميم ليناك 64، وقد شرعوا العمل فيه لأنّه خارج منطقة الحفر بالإضافة إلى أنّه مسرّع سيستغرقُ وقتًا طويلاً جدًا حتى الانتهاء منه، وكانوا يصممونه من الرسم الهندسيّ المثبت في رسالة فهمان، وقد احتاجوا إليه كثيرًا، إذ واجهتهم عقبات كثيرة أثناء التنفيذ.
وكلُّ أعمال المصادم آنذاك تظهر للرئيس مهديّ ورجاله على حواسيبهم.
وقد كانوا يستوردون بعض قطع الغيار من الخارج بناء على اجماع الخبراء المصممين عليها، ثم تمر على وزير التكنولوجيا ليمررها فيما بعد إلى الرئيس مهدي الذي آل على نفسه وقرر أن يباشر أعمال المصادم بنفسه لما له من اثر في نفوس المصريين بعد أن باعوا كل ما يملكون من أجل بنائه.
يتداول بين الناس بان كل الشعب المصري كان يساهم في عملية الحفر.

***


هاتف رئيس ناسا جاك ليذكّره بموعد مناقشة الرسالة مع خبراء ناسا التي قدمها له منذ ثلاثة أشهر، كان جاك وقتها يشاهد آخر ما أُنجز من حفر المصادم FCC-2.
فقد كان الإنشاء في الأساس يظهر على شاشات التلفاز.
وانعقدت الجلسة، وبعد نقاش طويل دام أكثر من خمس ساعات اعترضوا على ما جاء في رسالته، وقد تركهم جاك غاضبا بعد أن سبهم جميعا. وهذا أبرز ما حدث في المناقشة.
قال له بكْ: «إنّ ما اقترحته في رسالتكَ من شراع شمسيّ يسير بعشْر سرعة الضوء بالتقنيات المذكورة فيها من محطات ليزر ومفاعلي اندماج وانشطار نوويّ ومحطتي الخلايا الشمسيّة وجهاز يدعم الحياة من غذاء وأكسجين وماء مستحيل تطبيقه على أرض الواقع، ولقد أُعجبتُ بذكائكِ وسعة إدراكاتك من قبل عندما شرحتَ لي نفس هذه التقنية في ثاني لقاء جمع بيننا، تذكره طبعًا، كنت أمام الشاشة التي تعرض المصاعد الفضائيّة، ورددت عليك بأن الفكرة عبقريّة ولكن..عمليًا مستحيلة.»
لم يجد ما يرد به جاك عليه.
استطرد بك: «يا جاك النجم لن يتحوّل إلى ثقبٍ أسود؛ بل إلى قزم أبيض لصغر حجمه، هذا إذا تحوّل أصلاً. ولن أوافقك كما لا يوافقك كلّ من في المجلس على هذا .»
نظر جاك إلى رئيس ناسا وقال له: «وأنتَ توافقهم على ذلك؟»
قال: «يا جاك يا ولدي أنا حائر وليس لديّ خيار إلّا أن أكون مع رأي الجماعة ولكنّي لا انتقص من قدرتك العلمية وأمانتك.»
قال جاك له: «إذن لن توفر لي ناسا الدعم اللازم للرحلة، ولن تقبل جامعة بيركلي الرسالة.»

هب منتفضا وصاح بهم غاضبا: «تقولون مستحيل التطبيق على أرض الواقع، أنا جاك أقول لكم أنّي أستطيع أن أفعل هذا المستحيل، وأتمنى أن يجانبكم الصواب ويتحوّل بعد تفجيره إلى قزم أبيض ولكنّه لن يتحوّل إلّا لثقب أسود، أنا منذ سنين أرصد حركة النجوم والثقوب وأقولها في أفواهكم جميعًا، هذا النجم سينفجر ويتحوّل لثقب أسود وعندها أنتم المسئولون عمّا سيحدث للعالم.»
قال رئيس ناسا: «اهدأ يا جاك، اهدأ يا ولدي، هم يخافون عليك.»
ازداد غضبه وقال مستاء: «يخافون عليّ، يكفي ما يفعلون على القمر من استخلاص آلاف الأطنان من هيليوم-3 لصنع القنابل الهيدروجينيّة،يكفيهم هذا.»
وترك المناقشة وولّى مستاءً غاضبًا بعد أن قذف بكرسيّه على الأرض.
سعى خلفه رئيس ناسا ونادى عليه أكثر من مرّة فلم يردّ عليه.
وفور خروجه هاتف رئيس ناسا رئيسَ جامعة بيركلي ليخبره بشأن رسالة جاك وقصّ عليه كلّ ما حدث.
فقال رئيس الجامعة: «لا يملك أحد أن يقول لجاك لا، حتى لو قالت اللوائح لا، ولو قال الرئيس الأمريكي نفسه لجاك لا.رغبته هو التي ستنفذ.»

ما إن دخل المنزل حتى فتح التلفاز وما زال الغضب يتملكه من إجماعهم على مخالفة ما يرى في الرسالة، وعلى إحدى قنوات المعارضة التي تعارض نظام حكم جورج رامسفيلد يقول أحد المعارضين في شأن التدخل الأمريكيّ في الأرض العربيّة: بينما المراسلة مستمرة بين الرئيس الأمريكيّ جورج رامسفيلد وأصحاب القرار في إسرائيل حول إحكام الحصار على الأنفاق والتدخل في المنطقة العربيّة بشكلٍ سافر.
كذلك فإنّ يعقوب إسحاق لا يكفّ عن تحريض رامسفيلد لوقف أعمال إنشاء مصادم الوادي الجديد، لكنّ دائمًا محاولاته تبوء بالفشل بسبب ولاء الشعب المصريّ بكافة طبقاته لأنظمته الحاكمة والعكس .
ولم ينته المعارض من كلمته حتى أقبل على الشاشة وخرقها بأصبعه الفولاذيّ .
والهاتف يرن منذ دقائق ولا يكفّ عن الرن، فأمسك به ليحطمه، فنظر في الرقم فوجده يخص رئيس ناسا فردّ عليه.
قال له: «يا جاك، إنّ رئيس جامعة بيركلي يخبرك بأن تختار الموعد الذي تحدده لمناقشة رسالتك.»
انفرجت أساريره بعد سماع هذه الكلمة فهدأ وسكن.

***

دكتوراه في الخيال العلمي
وعلى مشارف نهاية العام الأول لبناء المصادم لم يخض مهديّ الانتخابات الرئاسية، إذ تمّ له التجديد فورًا، وكان الرأي العام المصريّ يدعو إلى خوض الانتخابات وخاصة فلول النظام القديم، فضلاً عن الذين يضربون في الخفاء وتحت الأحزمة، لكن خروج الشعب عن بكرة أبيهم ليدعوا له لفترة ثانية قد ألجم ألسنتهم وأزاغ أبصارهم وزلزل أقدامهم.
السنة الثانية
*استغرق عمل التشطيبات اللازمة عامًا كاملا، كما تمّ بناء مبانٍ فوق النفق مباشرة وقد تمّ تشطيبها أيضًا، تلك المباني الغرض منها فيما بعد تلقي البيانات القادمة من تجارب المصادم لإحصائها.
وتمّ الانتهاء من كلّ المصاعد الكهربائيّة، تلك التي تساعد الخبراء في التنقل عبر كلّ غرف المصادم ومساحاته المختلفة، كما أنّها تساعد على نقل مكونات المصادم إلى الأماكن المناسبة والتي سوف توضع فيها أجهزته، وبمجرد وصولها إلى الأماكن المناسبة يعكفون الخبراء على دراستها وكيفية تركيبها.
وما زال الخبراء خارج المصادم يعملون على تصميم المسارع الخطيّ ليناك 64 وقد قطعوا فيه شوطًا كبيرًا.
بينما آخرون يعملون على تكوين أكبر المجسات على الإطلاق وهو مجس أطلس، كان يشير فهمان للخبير فتوضع القطعة في المكان المشار إليه.
انسلبَ فهمان أثناء مشاهدة تشطيبات أعمال البناء ل FCC-2 وتركَ الإنشاءات الفنيّة والهندسيّة وذهبَ إلى حجرته المخصصة له ليشاهد مناقشة رسالة الدكتوراه لصديقه العزيز.
***
فتحَ التلفاز.
تقديم الرسالة: آخر السنة من هذا العام "ليس المراد شهر ديسمبر".
قال الإعلاميّ: بعد لحظات يحين موعد مناقشة رسالة الدكتوراه التي وضعتْ تصورًا لشراع ضوئيّ يستطيع السفر بعشْر سرعة الضوء، وهذا الشراع الآن موضع مناقشة وفحص.
كما أنّها تحتوي على جهاز شامل لكلّ سُبل دعم الحياة أثناء الرحلة طويلة الأمد إلى الفضاء السحيق، وهو أيضًا محل مناقشة وفحص.
هذه الرسالة التي ناقشها خبراء ناسا معه منذ عام ولم يقتنعوا بمحتواها إذ اعتبروها من الخيال العلميّ، مما يترتب عليه عدم دعم ناسا للمشروع.
المناقشة
وبدأت المناقشة بعرضه التقديمي، عرض فيه كل مقترحاته بشأن قاعدة الإطلاق القمرية والشراع والجهاز الشامل.
وانتهى العرض، وانصرفت اللجنة بعدها مباشرة وهي في قمة الضيق والتبرّم.
ولمّا ولجوا بابَ الحجرة سقط كلّ منهما في مكانه يستبقي نفسه وكأنّما كان على أكتافه أثقال طرحها منذ ثوانٍ، ومنهم من أطلق ضيقه زفرات في الهواء، يلوذ بعضهم ببعض لإيجاد مخرج من هذه الكارثة.
فالجامعة كلّها مكتظّة بالناس من أجل تهنئته، والقيادات السياسيّة الأمريكيّة والإسرائيليّة ينتظرون حصوله على الدكتوراه ليفتخروا به أمام العالم.
قال أحدهم: «ما هذا الشراع الذي يتكلّم عنه؟ أيريد أن يُدفع من غير وقود؟ إنّه مجنون.»
ردّ عليه آخر: «يقول إنّ حزم المحطات الليزريّة العملاقة ستدفعه عن طريق استخدام الطاقة الكهربائيّة المتولدة من المحطات الشمسية نهارًا ومفاعلي الاندماج والانشطار النوويّ ليلاً، يبدو أن جاك جُنّ.»
قال واحد منهم: «والجهاز الشامل الذي يدعم الحياة هذا له شأن آخر.»
ثمّ أمسك رأسه بكلتا يديه قائلاً: «رأسي سينفجر.»
قال أفضلهم رأيا: «أنا لدي اقتراح يخرجنا من هذا المأزق.»
حدّقوا به جميعًا وقالوا: «ائتنا به أرجوك.»
قال: «نمنحه دكتوراه في "فيزياء الخيال العلميّ"، وبذلك نتحاشى الصدام مع القيادات السياسية الأمريكيّة، ونتحاشى أيضًا السبّ واللعنات من الشعب الأمريكيّ، ولن يكتب عنّا التاريخ أنّنا غيّرنا ضمائرنا لأنّنا منحناه الدكتوراه في خيال وليس واقع.»
أجمعوا أمرهم على ذلك، وبمجرد خروجهم للمناقشة أعلنوا على الفور منحه الدكتوراه في الخيال العلميّ.
أسكتت الدهشةُ كلَّ الجمْع المتابعين للرسالة فالتصقتْ ألسنتهم في سقوف حلوقهم للحظات، إذ كانوا ينتظرون مناقشة حادة لساعات طوال، حتى أولئك الذين يتابعون عبر الشاشات صمتوا محدّقين بها.
وتخطّفتْ قلوب اللجنة عندما شاهدوا هذا التحديق بهم مع الصمت الرهيب.
وفجأة. هبّوا جميعًا فرحين مهللين شاكرين اللجنة.
صرخ جاك بعد إعلان خبر منحه الدكتوراه بهذا الأسلوب، صرخ قائلاً: «أنا لم أقدّم لهذا العالم خزعبلات أيّها المجانين، أنا لا أهذي، أنا لست مجنونًا. أيّها البلهاء، النجم سيتحوّل، وشراعي سينجح، جنبوا العالم الفناء أيّها الحمقى.»
والناس يتابعون انفعالات جاك وصراخه عبر الشاشات حتى تساقط الدمع من محاجر عيونهم ليعلن هذا الدمع أنّ جاك هو الصادق، وهو الإنسان.
لقد شاهده فهمان وهو يصرخ فقال : لم يعرف أحد أنّك على حقّ إلّا أنا يا صديقي، وأسأل الله أن يلطف بك.
أمّا رئيس ناسا فلم يتمالك دموعه وقال مرتعدًا: كم أخشى عليك يا ولديّ من لؤم هذا العالم، وأسأل الله أن يلطف بك.



اعرف عمق البحر قبل أن تسبح فيه


السنة الثالثة
هذا العام تدفقَ الكثير جدًا من العملة الدولاريّة من المصريين المقيمين في الخارج إلى المصارف المصريّة حتى قيل إنّه لم يعد يملك أيّ مصريّ مالاً في الداخل والخارج إلّا شهادة استثمار المصادم FCC-2.
تمّ إخلاء المصادم من كلِّ العاملين تقريبًا، ولم يوجد به إلّا خبراء ومهندسو التركيبات وبعض المعاونين من الذين ينقلون لهم قطع غيار التركيبات عبر المصاعد، ومن ثَمّ وضعها في الأماكن المخصصة لها والتي سوف تستقرّ فيها إلى الأبد.
وقد تمّ توفير الدعم اللوجستيّ لقطع الغيار من كافة الدول التي يعمل خبراؤها على تصميم وإنشاء المصادم.
ما زال فهمان يجلس ويحاور المهندسين بشأن تركيبات أجهزة المصادم، وما إن ينتهوا من جهاز يضعونه في المكان المخصص له والنهائي لحين اكتمال كلّ التصاميم ليخرج FCC-2 إلى النور.
بينما فريق كاشف أطلس يعملون فيه ليل نهار.
أمّا ليناك 64 وهو الحلقة الأولى المسئولة عن تسريع البروتونات فقد انتهوا منه توًا.
وعلى بداية هذا العام"ليس يناير وإنّما أول السنة الثالثة لبناء المصادم" تمّ عقْد لقاء سريّ بين يعقوب إسحاق ورامسفيلد لإتمام مشروع الشرق الأوسط، على أن يتولى فترة رئاسيّة ثانية مقابل إتمام مشروع المنطقة حتى النهاية.
وفي ديسمبر من هذا العام تولّى جورج رامسفيلد رئاسة الولايات المتحدة الأمريكيّة بعد خوض انتخابات مزوّرة.
وضعوا الخطة وهي الخطوة الثالثة من المخطط الصهيونيّ.
وهذه بعض الشروحات في ورقة الاتفاق بين رامسفيلد ويعقوب إسحاق.
الخطوة الثالثة تنقسم إلى قسمين..
القسم الأول: هو تفتيت كلّ دولة عربيّة إلى دويلات صغيرة.
القسم الثاني: إثارة الخلافات بين هذه الدويلات المفكّكة فيما بينها على الحكم، ثمّ العمل على تأجيج الحروب الطاحنة بينهم بسبب ترسيم الحدود وحصص المياه الدوليّة، وبالتالي تتنازع الدول العربيّة كلّها فيما بينها وتتحوّل المنطقة كلّها إلى دمار.
وهذان القسمان هما التمهيد لدخول أمريكا وحلفائها إلى المنطقة العربيّة.
من التحديّات التي يجب على يعقوب ورامسفيلد إنجازها وهي من القسم الأول .. العمل على إثارة الأكراد على الحكّام وتبنيهم عقيدة الانفصال عن الدولة، وإثارة الشيعة على السنة في الدولة الواحدة، وإثارة بعض التيارات الإسلاميّة التي تنفصل أيضًا عن الدولة، والدعوة إلى حقِّ النصارى لإقامة دولة خاصة بهم داخل دولتهم الأمّ للخروج من الاضطهاد والحفاظ على أمنها وهويّتها ودينها، وبصفة عامة مراعاة حق الأقليات على مستوى العالم في تقرير مصائرهم .
كلُّ هذا يجب أن يحدث ثمّ يقرّه رامسفيلد ليظفر العالم بحالة من الأمن والاستقلال.
ثمّ يأتي دور التحديّات الخارجيّة وهي القسم الثاني ..
منها العمل على تأجيج الخلافات القديمة، والتي كانت تظهر بوادرها أحيانًا وتختفي مرّة أخرى على مرِّ تاريخها ألَا وهى النزاعات الإقليميّة، سوف تتأجج اليوم بفعل الوقود اليهوديّ الأمريكيّ الذي سوف تلقيه على نيران الفقر والحاجة لدى هذه الشعوب فتشتعل مطلقة أبواق الحروب، مستغلة في ذلك نقص مصادر المياه وقلة النفط في المنطقة.
وبالتالي سيعملون على تفشّي الحروب بين دول المصبّ والمنبع فيما بينهم.
كذلك من التحديّات لهذا القسم إثارة العراق على إيران والعكس، والجزائر والمغرب، وسوريا على تركيا والعكس، وكذلك السودان على مصر والعكس، و... الخ .
السنة الرابعة والأخيرة
نصب المجسات
وهي المسئولة عن رصد الجسيمات التي تنتج نتيجة ارتطام البروتونات.
-تمّ وضع الكواشف في مكانها وهي بالضبط ..
-كاشف أطلس ATLAS .
-وكذلك ال CMS كاشف الميون اللولبي المدمج.
-وكاشف أليس ALIC.
-وكاشف LHCB W ويطلق عليه "الجمال beauty".
-كاشف مُتعقّب الألياف الضوئيّة اختصارًا SciFi، يجمع مائة ألف كيلومتر من الألياف الضوئيّة ويبلغ قطر كلّ منها 0.20 ملليمتر وبزيادة عدد الألياف عمّا كان عليه في سيرن تزداد درجة كشفه لنتائج الارتطام .
كلّ هذه الكواشف ترصد البيانات الناتجة من ارتطام حزمتي البروتونات.
-تمّ نصب المغانط: وهي تقوم بتسريع البروتونات التي تسير في الأنبوبين.
-تمّ نصب الأنبوبين فائقي التخلية وفيهما تتسارع حزم البروتونات لحين التصادم.
-شبكة الحوسبة: وهي المسئولة عن إحصاء نتائج التجارب التي رصدتها المجسات.
-جهاز الليزر الفائق: هذا الجهاز لم يدخل في تكلفة المصادم ولم يصممه خبراء المصادم بل هدية أرسلتها الصين إلى مصر رغبة منهم في التعاون المصريّ الصينيّ في مجال التكنولوجيا.
-التكلفة: لقد بلغ تكلفة إنشائه مائتي وتسعون مليارًا من الدولارات، تشمل مرتبات الخبراء والعمال.
وأصبح من الواضح أنّ الشعب المصريّ على حافة الهلاك بسبب مجاعة قد تضرب البلاد خلال بضعة أشهر.
فمعظمهم الآن ينامون على الأرصفة عرايا بعد بيع خيامهم وجحورهم وملابسهم المرقعة .
ينامون على الأرصفة ويسيرون في الطرقات بالفانلة والشورت المرقعين .
خلال الأربع سنوات الماضية تمّ إنشاء مصادم فهمان، مصادم الهادرونات المستقبلي FCC-2.
وهذه فترة قليلة جدًا لبناء مصادم بهذا الحجم بسبب توفر إيجابيات ساعدت على إنجازه بهذه السرعة.



منها حبّ الشعب لمهديّ، وتطور الآلات في هذا الزمن، وتسارع الخبراء من كافة أنحاء العالم للمشاركة في بنائه رغبة من كبار ساساتهم أن يكون لهم دور فعّال فيما بعد في حسم الحرب المحتملة عن طريق اكتشاف سلاح جديد من هذا الصرح العلميّ، وكانوا يأملون منهم صناعة سلاح يفتك بالأسلحة النوويّة.
أمّا أقوى عامل على الإطلاق هو رباط الجيش المصريّ بجانب المصادم.
لقد كان دور الجيش المصري دورًا ثلاثيًا، ففضلاً عن الإسهام الذي فرضه مهديّ عليهم فقد كان الدرع الحصين بمخابراته ضد أيّ فوضى قد تحدث خلال عمليات الحفر والبناء وتصميم الأجهزة.
و كانوا يعملون ويحملون على أكتافهم الثرى ويصطفون أفواجًا ويسيرون سير العسكريين، كانوا خدمًا للفنيين من مصممي المصادم لكن الواحد منهم يحمل عزة وشرفًا ليس لهما نظير.
وقد كان مهديّ يتابع أعمالهم في موقعهم عن طريق عمل زيارات على فترات متباينة ليشدّ من أزرهم ويبثّ فيهم روح العزيمة والإصرار، كذلك كان يتابعهم عبر كاميرات المراقبة التي تصوّر الموقع كلّه.
وقد كان كثيرًا يطأطئ رأسه تعبيرًا عن الرضا حتى كاد أن يقول لهم إنّي راضٍ عنكم فهل أنتم راضون عنّي.
وكان يشعر في نفسه أنّه أبوهم وأخوهم حتى عندما يُجرح أحدهم كانت مشاعره النبيلة هي التي تضمد جراحهم.

الافتتاح الكبير للمصادم fcc-2
في مشهد عظيم حضره الرئيس مهديّ وصحب معه أعضاء المجلس العسكريّ وبعض رؤساء العرب الذين نجت بلادهم من الفوضى، كما أنّهم نجوا أيضًا من كمين الصراعات الإقليميّة وحصص المياه، شأنهم في ذلك شأن مهديّ.
كما حضر وزراء وسفراء ودبلوماسيّون من قارتي آسيا وأوروبا.
وفضلاً عن الخبراء الذين شيدوا المصادم تحت قيادة الفذّ فهمان فطين المصريّ، فقد حضر خبراء آخرون أكثر عددًا، وبذلك تجاوز عددهم عشرة آلاف فرد.
هذا الجمع السياسيّ والعلميّ حضر للافتتاح والذي ستتمّ فيه أول تجربة على أعظم مختبر علميّ شُيد في التاريخ.
وعلى شاشات التلفاز يشاهد الاحتفال معظم رؤساء الدول الأوربيّة والأسيويّة الذين أرسلوا خيرة خبرائهم لعلّهم يساعدونهم في حربهم المحتملة على أرض العروبة.
يتعشّم أكثرهم أن يأتوهم بتقنية طائرة مقاتلة محجوبة عن الرؤيا، أو ابتكار شيء يسير بسرعة الضوء كالانتقال الفوريّ البعيد.
وعلى طول مائة وعشرين كيلومتر احتشدتْ الجماهير المصريّة من جميع أنحاء الجمهوريّة، خرجوا من الأكواخ والخيام والكهوف والمنازل التي يقطنونها إلى الحضارة التي كادتْ تلامس السماء والممتدة من أنفاق تحت الأرض حيث يوجد المصادم fcc-2.
تظهر معظم الأطفال في صحبة أمهاتهم وآبائهم، تستخرج الأمهات رغيف الخبز ويقطّعنه أرباعًا، وأمهات أخريات يقطّعنه أخماسًا وأعشارًا ثمّ يناولنه في أيادي أطفالهنّ.
وملابس الرجال والأطفال والشيوخ لا تكاد تستر أجسادهم وخاصة الرجال والشباب، أمّا الأطفال فكان آباؤهم وأمهاتهم يقطعون من ملابسهم ليوصلوها في ملابس أطفالهم على هيئة رقع.
وتظهر فئة لا تكاد تُرى بالعين المجرّدة، هيئاتهم حسنة، يستقلّون سياراتهم التي لا يُسمع أصواتُ هديرها بسبب دبيب أقدام أصحاب الكهوف.
شرعوا كلّهم للاحتفال، فكانوا يصفّقون بأيديهم ويصفّرون بشفاههم ويقرعون الأرض بنعالهم.
من بعيد يشاهد الساسة والخبراء التمثال الرابض فوق النفق، ترفرف أجنحته لا تكلّ ولا تملّ، إنّه تمثال فطين المصريّ الذي لولاه ما بُني هذا المصادم.
ويحدّق فهمان الواقف بمقدمة لفيف الخبراء والفيزيائيين إلى أبيه المنتصب فوق المصادم وهو يتمسّح بخطابه باكيًا، يقول: صدقت أبتِ ها أنا بجانب رئيس بلدي يحوطني برعايته.
والآن، الآن، حانتْ لحظة التقدّم، يتّجه مهديّ والسياسيّون إلى البوابة الرئيسة للمصادم لافتتاح المختبر.
يتبعهم فهمان ومن معه من الخبراء.
الآن.. الآن..
حانتْ لحظة الافتتاح ، فُتحت البوابة الرئيسة، فتقدّم وزير الدفاع ليفسح الطريق للرئيس مهديّ ووزراء وسفراء ودبلوماسي البلاد الغربيّة والعربيّة، بيد أنّ الرئيس مهديّ نظر إليه بازدراء وأدار سبابته نصف دائرة في الهواء مفتوحة باتجاه الأرض وقال: «غبن، غبن يا سيادة الوزير.»
ثم قال مستدركا: «ألمْ تنحدر مصر بسبب هذا على طول القرون الماضية؟! ألم نقبعْ في دهاليز التخلف ونغرقْ في بحار لجيّة بسبب هذا يا سيادة الوزير؟!»
لم يفهمْ الوزير ما يروم إليه الرئيس مهديّ فسأله دهشًا: «ما أغضبك سيادة الرئيس؟»
فردّ مهديّ متأثرًا: «أتريد أن نهوى بعد أن اعتلينا السحاب، أغضبني نسْب الفضل إلى غير أهله، أغضبني تقدّم مَن وجب عليه أن يتأخر، وتأخّر مَن وجب عليه أن يتقدّم.»
ثمّ أومأ بيده إلى فهمان وقال: «هذا الشبل.»
ثمّ أومأ بها عاليًا نحو التمثال فقال: «من ذاك الأسد.»
ثمّ نظر إلى فهمان وقال: «تقدم يا ولدي ونحن خلفك، حُقّ لك أن تتقدّمَ بعد أبيك الشهيد.»
فترك فهمان موقعه من بين الأساتذة ويُبكيه خطاب أبيه الذي ألصقه على صدره، وتقدّم ليفتح باب العلم والحضارة، ليفتح المصادم.
وتقدّم من بعده الرئيس مهديّ وبقيّة الجمْع.
وتمّ الافتتاح وتأهبّوا لعمل تجربته.
من الخارج التفّ بعضُ الأساتذة حول المسرع ليناك 64 لوضْع دفقات البروتونات للعمل على الطاقة المنخفضة له حتى يطمئنوا عليه.

إبراهيم امين مؤمن
06-19-2022, 02:34 AM
اعرف عمق البحر قبل أن تعبره
تجربة الافتتاح
إنّ الهدف الآن هو فحص تركيبات fcc-2 وقدرتها على أداء عملها على أكمل وجه.
ليناك 64 والكواشف وشبكة الحوسبة وبقيّة أجزاء المصادم.
وهي تجربة فحص، ولذلك سيكون العمل عليه الآن بأقلّ طاقة ممكنة.
العالم كلّه الآن ينتظر أوّل تجربة له لتصلهم عبر شبكة حوسبة ممتدة لمعظم دول العالم، هم بالأساس لا يعتنون بالتجربة الأولى لعدم جدواها في تقديم جديد في الفيزياء، كما لا يعتنون بعمل ارتطامات ذات طاقة أقل من مائة تيرا إلكترون فولت والتي حققها مصادم سيرن fcc-1، ولكنّ أنظارهم تتطلع لإحصاء النتائج عندما يعمل بطاقة أعلى من هذه القيمة.
يتم دفع دفقات البروتونات أولاً من خلال ليناك 64 تستقبلها بعد ذلك مغانط عملاقة ذات حقول مغناطيسية هائلة قدرتها ستون تسلا.
بعد عدة خطوات تدخل الدفقات إلى داخل fcc-2 على هيئة قسمين، واحد في اتجاه عقارب الساعة والآخر عكسها، تتسارعا حتى تصلا إلى سرعة تقارب سرعة الضوء، ثمّ يحدث التصادم عند كواشفه.
تتحطم حزمتا البروتونات إلى جسيمات أصغر أثناء التصادم ويستطيع الكاشف رصد بعضها قبل أن تعاود تجميع نفسها من جديد، ثمّ ترسل البيانات إلى شبكة من الأنظمة الحاسوبيّة.
البروتونات التي لم تتصادم تظلّ سائرة حتى تصل إلى القسم المخصص بإخماد الحزم.
ومن بعد هذه التجربة تبيّن أنّ كل مكوناته تعمل بكفاءة عالية.
اِطمئنّ فهمان والرئيس مهديّ على حالة المصادم وتناقلتْ وكالة الأنباء العالميّة خبره بعد ذلك، وتناول الصحفيون الحديث مع فهمان والأساتذة الذين عاينوا التجربة، ودارتْ عدة حوارات تدور حول المصادم وماذا يمكن أن يقدّم من جديد، وكان من بين الأسئلة التي سُئلت لفهمان: «دكتور فهمان، هل تظنّ أنّ المصادم قد يفكُّ ألغاز نظريّة الأوتار الفائقة الخاصة بالأبعاد الكونيّة؟»
فردّ فهمان: «نظريّة الأوتار الفائقة منذ أن تمّ الكشف عنها والعلماء يحاولون إثباتها ولكنهم يفشلون في كل مرّة، لعلّ سبب فشلهم هو عدم توفر مصادم يعمل بطاقة كبيرة لينتج أصدقاء جددًا من الجسيمات.وكانوا يأملون الكشف عن جسيم الجرافيتون الافتراضيّ المسئول عن نقل الثقالة بيد أنّه كما قلتُ بأن قدرة المصادمات ضعيفة ولم تسعفهم لتحقيق آمالهم.أنا متأكد أنّ عبور الأبعاد التي أخبرتنا بها نظرية الأوتار تكمن في هذا الغرافيتون، وسأكتشفه إن شاء الله، سأكتشفه من أجل أن أحمي هذا العالم من الفناء.»
وانفضّ الاحتفال، الاحتفال بأعظم تكنولوجيا على أرض مصر.


خطوات التجربة الثانية (اكتشاف الغرافيتون)
اجتمعَ جمْعٌ كبير من الأساتذة يتقدمهم فهمان لخوض تجربة التاريخ.
كلٌّ واحد منهم وقف في مكانه المنوط به.
بدءوا بطاقة ارتطام ضعف طاقة FCC-1 الكائن بسرن؛ والخوف يعصر أوصالهم، إذ يرجون أن تنجح التجربة لعبور البوابة إلى تجربة التاريخ. والتجربة نجحت بالفعل.
تنفسوا الصعداء، ولما شرعوا في الإعداد لإجراء تلك التجربة نظر بعضهم إلى بعض تدور أعينهم فيما بينهم، يلوذون بعضهم ببعض للنجاة من الموت، إذ إن التجربة ستجرى بطاقة المصادم القصوى ألا وهي خمسمائة تيرا إلكترون فولت التي قد تتسبب في هلاكهم وهلاك الكون كله إذا ما تضخم الثقب وبات نسخة عن جهنم الآخرة.
وداهمتهم هواجس شتى، من بينها خوفهم من أن يلتهمهم الثقب ويرمي بهم في بوابة بُعدية قد تكون النملة فيها بحجم الفيل.
وبعد أن دكتهم تلك الهواجس أماتت في قلوبهم طموحاتهم وأحلامهم فذهبت مع الريح خاطرة جائزة نوبل في الفيزياء، وكذلك خاطرة صنْع سلاح يكون له كلمة الحسم في الحرب المحتملة بين الكتلتين، حتى خاطرة القنبلة التي أثارها فهمان في رسالة الماجستير بجنيف ذهبتْ أيضا مع الريح، لم يتبقَ لديهم إلّا خاطرة الكينونة، نكون أو لا نكون.
أمّا فهمان فلا يسيطر على نفسه إلّا أن يحيا العالم في سلام وفضيلة، أمّا خاطرة الكينونة فلم تدب أقدامها على مسرح قلبه لأنّه متأكد أنّ الثقوب المتولّدة نتيجة الاصطدام ستتلاشى بمجرد تكوينها.
تمّ دفع البروتونات إلى داخل المصادم وحدث الارتطام بعد مرورها عبر مكونات المصادم.
سجلتْ المجسات البيانات، وحدثتْ بعض الاهتزازات عند منطقة التصادم المقصودة، تلك الاهتزازات أشبه بالاهتزازات الرعديّة العنيفة، ممّا تسبّب في هلع المراقبين فبعضهم فرّ هاربًا، ومنهم الذي انكفأ على بطنه إذ لم تستطع قدماه أن تحملاه، ومنهم من سقط مغشيًا عليه نتيجة الاختناق.
وتمتْ التجربة بنجاح منقطع النظير، فهلّل مَن هلّل وصاح مَن صاح، وهبَّ واقفًا من سقط منذ ثانية، هبّ مهللاً كالطفل.

إحصاء نتائج التجربة:
عند كاشف SciFi مُتعقّب الألياف الضوئيّة تمّ رصْد أعلى بيانات التجربة بعدها سجّل أطلس بيانات أقل.
إنّ الارتطام تمّ عند مِجس أطلس وكاشف SciFi مُتعقّب الألياف الضوئيّة.
والحقيقة أنّ الاهتزازات صاحبها سحب الهواء مما تسبّب في اختناق وغثيان بعض الباحثين.
ولقد فسّر فهمان أنّ التجربة أسفرت عن ثقبٍ أسود تلاشى بسرعة، وأنّ الثقب كان بداخله جسيمات حاملة لقوى الجاذبيّة وهو الجرافيتون، وهو المسئول عن سحب الهواء الذي تسبب في اختناق وغثيان بعض الباحثين.
ترامتْ البيانات إلى كلِّ أنحاء العالم عبر شبكة الحوسبة الفائقة، وخلال أيام وامتدت بعد ذلك إلى شهور تقدّم مجموعةُ من العلماء بأكثر من مائة ألف ورقة بحثيّة تحلل بيانات الكواشف.
وممّن حلل البيانات العالم اليابانيّ الفذّ ميتشو كاجيتا، وقد اكتشف الغرافيتون من خلال تحليله.

رد فعل العالم إزاء اكتشاف الغرافيتون
ميتشو كاجيتا:
في غرفة مغلقة لا تجمع إلّا اثنين من شياطين الأرض وهما ميتشو كاجيتا ورئيس وزراء اليابان.
ثمة عامل مشترك يجمع بين كاجيتا ورئيس وزراء اليابان ألَا وهو التخلص من الولايات المتحدة الأمريكيّة.
فكاجيتا من فرط كُرهه لأمريكا كره الإنسان، وفي المقابل يحبّ وطنه بولعٍ شديد، وسبب كراهيته لأمريكا أنّ نسبه منحدر من عائلة كانت تقطن هيروشيما، ماتت كلّها إثر إلقاء القنبلة الأمريكيّة عليها سنة 1945.
عائلته كانت ذات نسب عريق جدًا تقدّس التقاليد، ومن تقاليدها أنّ الثأر لا يموت ولو مضى عليه عشرات العقود.
وإمعانًا في حبْك التقاليد وإضفاء الشرعيّة عليها اعتنقوا قولا بمثابة عقيدة راسخة وهو: إنّ الأحفاد كما يرثون الأجداد في أموالهم وحضاراتهم يرثون كذلك إجرامهم.
أمّا رئيس وزراء اليابان فقد كان يكره أمريكا أيضًا والسبب أن عراقة حضارتها وكبريائها صرعت كبرياءه المتوغل في روحه. فهو الآخر ينحدر من أصل كبار الأباطرة اليابانيين الذين زالت إمبراطوريتهم وذابت على أعتاب الولايات المتحدة الأمريكية في ماضيها وحاضرها.
قال كاجيتا له: «إنّ الغرافيتون قد يستطيع اختراع قنبلة جديدة أشبه بالثقب الأسود.»
صُعق الرئيس من هول الكلمة ونظر في وجهه مذهولا ولم ينبس بكلمة.
تابع كلامه: «إن ما منعني من اختراع هذه القنبلة إلّا عدم تمكّني من رصد الغرافيتون، أمّا الآن وبفضل مصادم الوادي الجديد فيمكن رصده والإمساك به وصنْع قنابل الثقب السوداء.»
وأكّد له كاجيتا أنّ مصادم الوادي الجديد أنتج ثقوباً سوداء أطلقت فوتونات ضوئيّة وجرافيتونات الجاذبيّة وقد أدّوا عملهما وهو حالة الاختناق وسحب الهواء.
قال الرئيس: «علام تنتظر؟ يجب أن تكون هناك في غضون أيام.»
سكت هنيهة وعيناه تنظران في زاوية أحد الجدران العلوية ثم قال: «أيّ قنابل ملعونة هذه يا ملعون اليابان.»
أجابه: «القنبلة الذريّة تعتمد على الانشطار، والهيدروجينيّة تعتمد على الاندماج، لكن قنابل الثقوب السوداء لها شأن آخر؛ فهي تجذب ماحولها من مادة آخذة إيّاها إلى المجهول. نضعها أمام جيوش أمريكا لعام 1945 التي دمّرت اليابان "يقصد الجيوش الحالية " فتجذبهم وتنهيهم.» مسح كاجيتا يده اليسرى باليمنى إشارة إلى تنظيف يده من قاذرواتها وهو يستطرد: «وأنّه حان الآن تنظيفها بعد إلقاء أمريكا في المجاري.»
ثمّ نظرَ إلى خريطة العالم وأشار إلى موقع الولايات المتحدة الأمريكيّة فيها وردّد قائلا: «وتُطهّر الخرائط الجغرافيّة من الخطيئة بمسح هذه المنطقة المتّسخة منذ اكتشافها.»
ردّ الرئيس: «هذا ما أروم إليه، لكن علينا بتوخي الحذر والعمل في السرِّ حتى نتيقن من نجاح هذه القنابل الملعونة، عندها نقيم سُرادقات العزاء الذي تأخّر قرونًا، ونستعيد إمبراطوريتنا من جديد.»
ثمّ قال بحزم بعد أن زفر زفرة طويلة: «كاجيتا الخزانة كلّها تحت أمرك، اخترْ من خبراء اليابان ما يصلح معك لتلك المهمة، واعملْ على إحضارها هنا، وحاذرْ حاذرْ أن يعلم أحدٌ بهذا الشأن غيرنا،أنتَ وأنا، أنا وأنت.»
ردّ كاجيتا: «هذا ما انتويتُ فعله بالضبط، سأعكف في معملي أدرس خطوات صنعها وإيجاد معادلتها، وهذا الأمر قد يستغرق وقتًا.
وسأعقد مؤتمرا صحفيا في الحال لأقول فيه أنّي سأنزل بالوادي الجديد خلال بضعة أشهر، وسأقول إنّي نزلت من أجل اكتمال النموذج القياسيّ للجسيمات حتى لا يشكُّ أحد فينا.»
وتمّ عقد المؤتمر وقد قال ذلك بالفعل .

فهمان:
وشأن فهمان متباين عن شأن كاجيتا؛ فخطة كاجيتا هو صنْع القنبلة للتدمير والفناء، أمّا فهمان فكلّ خطته من صنْعها هو البناء والبقاء.
خطة كاجيتا إزالة الناس من على خريطة العالم بالحرب، أمّا خطة فهمان فهو بقاء العالم كلّه على خريطتهم بنشر السلام.

جاك:
وفور أن عرف جاك بأمر اكتشاف الجرافيتونات إلّا وتبلّورت لديه فكرة القنبلة التي ذكرها فهمان في رسالة الماجستير بجنيف والتي كادتْ تودي بحياته بعد هجوم وحدة الكيدون عليه.
كلّ خطوات عمل القنبلة تبلّورت في ذهنه وهو صامت، ثمّ همس لنفسه: قنابل الثقوب السوداء تطرق أبواب الكون.
فانقبض قلبه على الفور.
حاول أن يروّح عن نفسه بعد معرفته بأمر الجرافيتون الذي أجرى الخوف في أوصاله، كما لم يرحمه ذاك الخوف وفتك به أيضًا بسبب خشيته من تحوّل النجم إلى ثقب أسود قبل أن يبتعد عن المجموعة الشمسية.
وفي قصره الكائن في واشنطن توسّط حديقته الغنّاء لينعم بالطبيعة الساحرة محاولة منه للترويح عن نفسه كما قلتُ، فيسمع تغاريد العنادل العذبة، ويشم روائح الياسمين والأزاهير.
لكنّ نفسه المفعمة بالهموم والخوف على العالم لم تفارقه أبدًا، فألقتْ بظلالها فيما حوله، فما وجد في صوت العنادل إلّا أصواتًا تنتحب وتقطر ثغورها دمًا، بينما الأزاهيرُ ما عاد ينبثق الأريج من براعمها.
فتقزّز وشعر بأنّ أنفه امتلأ بالإشعاع النوويّ، وأنّ دويّ القنابل اخترقتْ أذنيه.
أمسك بصحيفة اليوم التي على الطاولة بجانب كرسيّه وفي الصفحة الأولى شاهد صورًا وقرأ مقالات عن مؤتمر لكاجيتا والذي قام بتغطيته عشرات الصحفيين.
كلها تتكلم عن رغبته في اكتمال النموذج القياسي للجسيمات من خلال التجارب التي سيقوم بها بوساطة FCC-2.
شعر جاك أن كاجيتا مخادع وأنّه ما أراد من مصادم الوادي الجديد إلّا ابتكار قنابل الثقوب السوداء، فأراد أن يستوثق من خداع هذا المكير عن طريق مشاهدة ملامح وجهه والتفرس فيها.
بيدين مرتعشتين فتح اللاب توب فشاهد على اليوتيوب المؤتمر الصحفيّ الذي عقده كاجيتا، يسأله فيه خبراء الفيزياء عن سبب نزوله أرض الوادي الجديد فأجابهم بأنّه يأمل بعد اكتشاف الجرافيتون بالطاقة الجديدة أن يكتمل النموذج القياسيّ للجسيمات، وأن ..إلخ.
ظلّ يتكلم عن معضلات وألغاز لم يهتدِ إليها العالم على مرّ تاريخهم ، حتى قال: «واعتقد أنّه حان الوقت لحلّ الكثير من الألغاز الكونيّة التي لم يتوصّل إليها أحدٌ بفضل مصادم فهمان فطين المصريّ.»
وبعد أن تفحص جاك ملامح وجهه وهو يتكلّم تبيّن أنّه يخادع ويراوغ، وأنّه يضمر شرًا مستطيرًا، وجاك يعلم بالضبط ماذا يريد كاجيتا من FCC-2.
ظلّ يغمغم مرتعشًا: كذّاب، كذّاب..... كذاب.
وصرختْ كلُّ جوارحه، وعاش لحظات بين الوعي واللاوعي فرأى الأزاهير تنحني وتتساقط واحدة تلو الأخرى أمام عينيه وكأنّها تعلن عن موتها، والبلابل تخرّ ساقطة بعد أن هوت أزاهيرها.
أفاق وانتبه من الحالة الوسطية التي اعترته، بعدها أمسك باللاب توب ورماه في السماء قائلاً: إذن نهاية العالم على أيدي مصادم FCC-2، بل على يديك يا فهمان.
وما أن انتهى من قوله أمسك بالهاتف واتصل بفهمان.
قال له جاك: «العالم على حافية الهاوية بسبب مصادمك، قلْ لرئيسك يغلق المصادم.»
سأله دهشا: «لِمَ ؟»
أجابه: «أغلقْه، ميتشو كاجيتا وفريقه في الطريق إليك من أجل الجرافيتون.»
- «تقصد أنّه أتى وفريقه لصنْع قنابل الثقوب السوداء؟»
- «طبعًا، وإن نجح سيركعُ العالم كلّه لليابان، وخاصة أنّي أعلم عن رئيس وزرائهم أنّه مجنون بداء العظمة، لكنّه يداري ويضمر حتى لا تلجمه أمريكا وتقتل ما بداخله من عفن.»
- «أنتَ تعلم أنّ صنْعها صعب، ومع ذلك سأسعى جاهدا للحيلولة دون ذلك.»
- «وهل لديك بروتوكولا من بروتوكلات المصادم لتمنعه عن ممارسة التجارب؟»
-«لا.»
- «إذن أغلق المصادم بحجة ترميمه أو اجعلْ رئيسك يطرده هو ووفده.»
- «لن أغلقه قبل الوصول إلى إبليس لقتله فتحيا البشريّة بلا حروب.»
- «لن تعبر، العالم سينتهي قبل أن تعبر، العالم الذي تُضحّي من أجله سيضيع بسبب مصادمك يا فهمان.»
- «صديقي، ليس لدي صلاحية لإغلاقه، وليس من صلاحياتي طرده كذلك، لكن سأشرح الأمر للرئيس مهدي.»
- «فهمان، صديقي، لو قامتْ الحربُ بين آسيا وأوروبا بقيادة أمريكية فكلٌّ منهما لن يستخدم النووي إلّا بحذر شديد لأنهما خاسران في حالة تبادل الضرب به، لكن عندما تمتلك دولة قنابل الثقوب السوداء وهو سلاح أشبه ببوق إسرافيل فلن تصدّه قنابل نوويّة ولا قنابل هيدروجينيّة، فهمان لو حصل عليها أحدهما سيعمل على الخلاص من الآخر بها.»
- «صديقي، لن أسعى لإغلاقه قبل العبور، فأنت تعلم ما أريد، وأكرّر لك، أريد طرق بوابة إبليس، أريد قتْل إبليس، أريد الهداية للناس.»
- «وأنا أكرر لك لا جدوى من الوصول إليه، فكلّ الطرق المؤدية إليه محفوفة بالمخاطر.»
ثم قال مستدركا: «صديقي إن نجحتَ في العبور فسيقبضون عليك ويقتلونك.»
سكت هنيهة، وزفر زفرة طويلة ثمّ قال راجيًا: «دعك من هذا الوتر المهتز الذي سيبلغك بُعد الشياطين، دعك منه، لو أدرك كاجيتا قنابل الثقوب السوداء فلن يرحم منا أحدا ولو رضعائنا.»
- «لن أدعه ولو كانت نفسي فداء لذلك، وسأقف حجرة عثرة حتى لا يحقق مخططه الشيطاني.»
- «إذن فأنا أحملك ما سيحدث للعالم من جراء حمقك.»
وأغلق الهاتف ثم رماه فارتطم بالحائط وهو يزفر غيظا وغضبا.

العالم:
أمّا شأن الدول إزاء اكتشاف الجرافيتونات فهو أمر مؤسف أيضًا.
تهيّأت قوى التحالف لإرسال المزيد من خبرائها وعلمائها فضلاً عن الموجودين أساسًا من قبل إلى FCC-2 بعد ان تأكدوا من وجود الجرافيتون.
ولقد حثّ الرئيس الأمريكيّ الأمم المتحدة بكافة أقسامها بجعْل مصادم الوادي الجديد تحت مراقبة لجنة متخصصة من أفضل العلماء الأمريكيين متذرعا بأنه قد يهلك الكون، ولقد سعى إلى ذلك سعيًا حثيثًا، وغرضه الحقيقي هو إطلاق حريّة الحركة للخبراء الأمريكيين دون غيرهم من الروس وحلفائها بعمل ما يحلو لهم على المصادم.
اكتشاف الجرافيتون فتح آفاقًا جديدة للدول المتوقع خوضها الحرب النوويّة، تلك الآفاق المتمثلة في عمل بحوث حول إمكانيّة تطويعه لصنع سلاح أفتك من الأسلحة النوويّة.
ولقد منّوهم خبراؤهم بأنّ المصادم FCC-2 قد يكون الوسيلة لصنع سلاح دفاعيّ ضد الرءوس النوويّة وبالتالي يعصف بأخطار القنابل الذريّة من قبل المهاجم.
وبدأتْ الدول ترسل دعمها بمليارات الدولارات مما كان له أثر بالغ في تحسين الاقتصاد المصري شيئا فشيئا.


غزو مشروع
تجارب مصادم FCC-2 تتم على أكمل وجه، وما زال الخبراء والباحثون يتوافدون عليه من كلِّ أنحاء العالم، والكثرة الكاثرة منهم من الدول المحتمل خوضها للحرب المحتملة وهي أمريكا وحلفاؤها ضد الروس وحلفائها.
ولم يغفلْ مهديّ لِما تُدبّره الكتلتان العظميان للمنطقة العربيّة، فالمخطط الصهيو أمريكيّ يريد ضرْب دول آسيا في مقتل بدب أحذيتها الغليظة على أعناق أهل أرض العروبة، كما لم يغفل أيضا أن دول آسيا لن تسكت وستسارع هي الأخرى للزحف نحو المنطقة لتدافع عن نفسها.
ولقد تأكد لمهدي بأنهم سيبدءون زحفهم بإرسال خبرائهم للعمل على المصادم، ولقد استغل مهدي تلك الفرصة وفتح المصادم للجميع من أجل أن يأخذ ما بجيوبهم من مال ليخرج بشعبه من المجاعة التي ضربتهم بسبب ضياع نهر النيل وتسليم مقدرات اقتصاد مصر لدولة إسرائيل من قِبل الرئيس المخلوع.
***
مضى عامان على الاتّفاق الصهيو أمريكي، خلالهما كانت الحروب الأهلية في المنطقة العربية على أشدها، والانقسامات داخل جيوشها تسببت في استنزاف قواهم الجسديّة والماديّة.
تلك النكسات أيقظت بقوة الخلافات القديمة الخاصة بحصص المياه بين تلك الدول العربية من خلال المصبات والمنابع فضلا عن الحدود الجغرافية المتنازع عليها من قبل أيضا، تلك اليقظة بمنزلة دق طبول الحرب فيما بينها.
ولم تنج الدول العربية من داء التطرف المذهبيّ والعقائدي أيضًا، ولقد ظهرتْ ملامح هذا الداء العُضال من خلال مجموعة من الحروب بين السنة والشيعة داخل الدولة نفسها ثمّ بين الدول وبعضها؛ فتقاتلوا وأنهكوا بعضهم بعضا.
ونتيجة لكلّ ما سبق، ترامتْ الجثث في كلِّ مكانٍ على أرض العروبة، وانهدمتْ المنازل فوق رؤوس أصحابها.
وغدت الحياة مستحيلة على أرض العروبة حتى كثُر فيها العواء والزئير والفحيح، وتحوّلتْ الأرض كلّها إلى مجموعة من الغابات يعيش عليها أعتى أنواع الحيوانات شراسة وتوحشًا وافتراسًا.

***

وبالرغم أنّ المخطط سالف الذكر هو السبب في ذلك، إلا أن القادة الأمريكيين أذناب نظام رامسفيلد والصهاينة خرجوا في بجاحة لا نظير لها عبر وسائل الإعلام وأدانوا العرب جميعًا، وفيما قالوا: إنهم قوم إرهابيون، وما كان يجب من البداية أن نتركهم لأنفسهم يدمّرون بعضهم بعضًا ثم يصدرون لنا معتقداتهم الإرهابية بزحف المنتصرين منهم نحونا.
ومن أجل تجنب زحفهم إلينا يجب أن نبادرهم ونذهب إليهم لنحميهم من أنفسهم أولاً، ثمّ نحمي أنفسنا منهم.
ويجب إعداد جيوشنا كاملة العدة والعتاد، حتى إذا حصلنا على شرعية الدخول إلى المنطقة من الأمم المتحدة استطعنا الانتشار جيدا في المناطق الإستراتيجية فيها.
***
ولم تمضِ سوى أيّام على خروج الساسة المتبجحين حتى عقد الكونجرس الأمريكيّ جلسة تناقشوا فيها حول زحْف القوات الأمريكيّة وحلفائها إلى أرض العروبة، وقد كان عدد الأصوات الرافضة للزحف تعادل الأصوات الموافقة له.
صبيحة اليوم التالي من عقد الكونجرس خرج الشعب الأمريكيّ كلّه تقريبًا في مظاهرات عارمة رافضًا التدخل الأمريكيّ في المنطقة العربيّة معللاًَ أنهم ليسوا في حاجة لإرسال أولادهم إلى هناك ليخوضوا حربًا ضد الروس يحترقون فيها.
ولقد قالوا أيضًا لا يجب على دولتنا وأحلافها أن يحاربوا آسيا من أجل فشلنا في منافستهم اقتصاديًا.
اعتصموا أيضا في الشوارع وأقاموا الخيام وافترشوا الأرصفة وندّدوا بجورج رامسفيلد ويعقوب إسحاق ودعوا الأمم المتحدة ألّا تُعطيهم شرعية الزحف إلى هناك.
ولقد ترك جاك رصد نجم أورط ووقف مع الثورة تضامنا لهم، ونتيجة ذلك أن خرج الشعب الأمريكيّ عن بكرة أبيهم فحدثتْ ثورة لم تشهد أمريكا لها مثيلاً على مدار تاريخها كله.
وكان جورج رامسيفلد يتابع مشاهد الثورة بأسىً بالغ، فلمّا شاهد جاك يحرّك الثوّار ويشدّ من أزرهم تأكد له حينئذ أنّ الثورة ستنجح ويفشل مخططه الذي من أجله اعتلى عرش الرئاسة الأمريكية، لذلك تراءى له أن يخطط لإفشال الثورة الأمريكية.
وعلى صعيد آخر خرج جمْعٌ ليس بالقليل من حاخامات اليهود تبعهم عدد غفير من الشعب اليهوديّ متّجهين إلى المؤسسات الإسرائيليّة رافعين شعارات تدين سياسة يعقوب إسحاق تجاه العرب.
وقد قال حاخام المعبد الأكبر بأنّه ولده"يقصد يعقوب" وقد ربّاه، فلمّا علم باجتماع الكابينت الشيطانيّ عارضه فلم يمتثل، فطرده من المعبد وقال له إنّ اليهود شعب الله المختار بطاعة الله وليس بالعمل على تأجيج الحروب والصراعات بين الدول.
وقال حاخامٌ آخر إنّ الحاخام الذي اجتمع معهم في الكابينت وأعطاهم شرعيّة إثارة الفوضى في العالم من أجل تمكن دولة إسرائيل من رقاب كل العالم لم يكن حُجّة على التوراة، وقد ردّ عليه كثير من الحاخامات في طريقة تأويله للنصوص التوراتيّة، وقالوا له مرارًا وتكرارًا إنّ عليهم نشْر نصوص التوراة بالحقّ والعدل وليس بالدم والقتل، وإنهم مُفضّلون على العالمين بالتقوى، بيد أنه رفض ذلك كله وأصر على إثارة كافة الدول على بعضهم البعض.
وهم أحبار اليهود يقولون للعالم وللتاريخ أنّهم لا يدعون إلى مذلّة الشعوب أو قتلهم أو إثارة الفتن بينهم، ويقولون أيضا أنّهم أسياد بالتقوى، ودولة إسرائيل الكبرى ما هي إلّا حضارة لابدّ أن تحكم العالم بالحقّ والسلام.
ولقد أخبرتْ أجهزةُ المخابرات الإسرائيليّة يعقوب إسحاق حركة الشارع اليهوديّ أولاً بأوّل وكان يعلق حينها بنعتهم بالجهل، أمّا بالنسبة للحاخامات فقد علق بأن ما يقولونه مجرد محض هراء.
أمّا مؤيد فكان يتابع ثورات الشعب الإسرائيليّ وأقوال الحاخامات فلم يعبأ بها لأنّهم مجتمعون على رأي واحد هو أنّ فلسطين مغتصبة، ومغتصبوها هم الفلسطينيّون.

***


ضربات إرهابيّة في أمريكا وأوروبا
وإنهاك الدول العربيّة بعضها بعضًا كان يُبثُ ليلاً ونهارًا على شاشات التلفاز والقنوات الإخباريّة العالميّة، وكانتْ تشاهد بشغف وترقب كل هذا الشعوبُ الأجنبيّة وخاصة جيوشها المحتمل زحفها إلى أرض العروبة.
ولم تغفل هذه الشعوب أنّ أمريكا وأوروبا يمثّلون حِلْفًا لخوْض حروب باردة منذ زمن ضد آسيا بسبب ازدهار الأخيرة عن الأولى اقتصاديًا، بينما أوروبا تعاني حالة من الكساد والركود الاقتصاديّ.
ولذلك خرجتْ الثورات تندّد بسياسة حكامها في أمريكا بالخصوص، تلتها فرنسا ثمّ بلجيكا، بينما كانت حدّة المظاهرات خفيفة على أرض إنجلترا.
وهذه المظاهرات تقف حجر عثرة تجاه زحف القوات الأوروبيّة، وإن زحفتْ فسوف تضطرب بسبب الرفض الشعبيّ مما يتسبّب في هزيمتها من أول جولة حرب ضد آسيا.
وزادتْ حالات الاعتصام والمظاهرات والمسيرات اعتراضًا على سياسة أمريكا ودول أوروبا في أسلوب معالجتها للخروج من الأزمة الاقتصاديّة التي تعتقد أنظمتها أن دول آسيا هي السبب فيها، وبدأتْ هذه الشعوب تنادي بإسقاطها، حتى إنّ من يتابع الشعارات الثوريّة هناك كان يقول إنّ الشعوب الأوروبيّة والأمريكيّة متضامنة مع الشعوب العربيّة.
وظلّ الحال مستمر حتى وقعت الكارثة، أحداث إرهابيّة في أمريكا ومعظم أنحاء أوروبا.
فقد تمّ اختطاف بعض الطائرات التي تقوم برحلات داخليّة وتوجيهها لضرْب بنايات كمباني المخابرات ووزارات الدفاع ومراكز التجارة والمصارف في هذه الدول السابق ذكرها.
وكثُرت فيها حالات الدهس بالسيارات والطعن بالسكين، وقيام بعض الإرهابيين بارتداء أحزمة ناسفة والهجوم على بعض المنتجعات والقرى السياحيّة، لكنّ أكثرها كانت في الفنادق والملاهي الليليّة.
وما زالتْ هذه العمليّات تُعلن على شاشات التلفاز ليل نهار، وتزداد الأحداث دموية يومًا بعد يوم.
ولقد كانت الضربة على مؤسسات الولايات المتحدة الأمريكيّة خاصة بمنزلة فكّ شفرة هذه المعضلة وترياق الأسقام لأنفسهم المريضة، فعلموا وتعافوا وسارعتْ أقدامهم للدخول إلى المنطقة.
ولم يعرف أحدٌ على وجه الحقيقة مَن قام بهذه العمليّات ضد الولايات المتحدة الأمريكيّة وحلفائها، ولكنّ الغالبية من تحليل الساسة العدول يؤكّدون أنّها ضربة ثأريّة من بعض الجماعات الإسلاميّة المتطرفة ردًا على مساندتها لإسرائيل في مخططها الذي أضاع المنطقة العربية بأثرها.
وبالفعل بعد الضربة ببضع ساعات خرج متحدث رسمي باسم هذه الجماعات ليُعلن أنّ على أمريكا الابتعاد عن الأراضي الإسلاميّة وعليها أن تكفَّ عن دعمها للمخطط الصهيونيّ الشيطانيّ الدمويّ.
وهناك كثير من المحللين شككوا في البيان، وطمست الحقيقة حتى الآن ولم يعرف أحد على وجه اليقين من وراء هذه التفجيرات.
وبمجرد حدوث الضربات انسحبَت جماعة من المعتصمين لا تلوي على شيء ومضت إلى منازلها، بينما كان جاك يحاول تثبيتهم حيث هم.
ولكن بعد إعلان الجماعة تركوا جميعهم الميادين بعد أن أدانوا الضربة بصراخ وبكاء على أهليهم وذويهم الذين فقدوهم إثر هذه الهجمات الشيطانيّة على حد قولهم.
ولم يجد جاك مفرًا من الإذعان للأمر الواقع، ليس لديه ما يقوله فانفضوا جميعًا من حوله، ووجد نفسه وحيدًا فريدًا فرحلي استسلام ويأس إلى مراصد ناسا.
وبعد الإعلان ثمّ انسحاب المعتصمين تعبّدَ الطريق للمخطط ليتّجه بجيوشه نحو الشرق.
وبذلك خسرَ العربُ والعالم الإسلاميّ الرفض الشعبيّ الأمريكيّ والأوروبيّ.
زحفتْ أمريكا وحلفاؤها نحو المنطقة سريعًا ردًا منها على الضربة الإسلاميّة في عملية لحفْظ السلام وتربية النفوس، وهذه هي الأسباب المعلنة وهي هي نفس الأسباب التي استندَ إليها جورج رامسفيلد في الحصول على شرعيّة دخوله إلى المنطقة العربيّة.
وتوالى إرسال قوّاتها وقوّات حلفائها للسيطرة على المنطقة برمتها.

***
انسلب فهمان من حرسه وخرج هائمًا على وجهه يمرّ على الأكواخ والجحور ويخاطب الناس كالمجنون بقوله: لا تخافوا، سأقتله، سأقتل إبليس، لن تقوم الحرب لو قُتل إبليس.
وظلّ يردّد كلماته كالمجنون، ولأنه شخصية هامة تبعه أحد الصحفيين وصوّره، وهبط الظلام وهو ما زال يهيم في الحارات والأزقة والجحور. جاء خبره إلى مهديّ فكلّف حرسه الشخصي بإحضاره.
ذهب الحرس إليه بينما هو يشاهده عبر القناة وهو يصرخ ويبكي ويتوّعد إبليس فبكى لبكائه.

إبراهيم امين مؤمن
07-03-2022, 02:11 AM
تركّزتْ القوّات الأجنبيّة في المناطق الحيويّة من معابر ومسطحات مائيّة ومضايق وكذلك مناطق الحدود بين الدول العربيّة المتنازع عليها، ومن مناطق منابع الماء إلى روافدها تركّزتْ أوروبا هناك بحجة القضاء على حرب عربيّة شاملة بين المنطقة بعضها من بعض، لكن الغرض الأساسيّ هو ضرْب الاقتصاد الأسيويّ والتحكم في سير التجارة العالميّة.
وعلى الصعيد الآخر لم تسكت آسيا ولم تعبأ بقرارات الأمم المتحدة، فزحفتْ هي الأخرى نحو المنطقة وتمركزتْ أيضًاً في بعض الممرّات والمعابر والمضايق الحيوية.
ولم يكن تمركزها هذا وليد اليوم، فهي معدة مسبقًا خطة دفاع إستراتيجي في حال زحْف القوات الأمريكيّة وحلفائها إلى المنطقة العربيّة.
ومنذ بدْء دخول القوات الأجنبيّة تزايد عدد الوافدين إلى مصر من رجال الأعمال العرب ونظرائهم من الغرب.
وفدوا من أجل الحفاظ على دمائهم وأموالهم، تلك الأموال المعرّضة للنهب والسلب على إثر الفوضى العارمة التي سرطنت أنحاء المنطقة العربيّة وبعض الدول الأجنبيّة.
ففي بعض الأراضي الأجنبيّة التي تعرضت للضربات الأخيرة قامت شعوبها بالثورات، فخشي رجال الأعمال الكبار على مصانعهم وأموالهم فوفدوا إلى مصر التي أصبحت دار أمن، يقيمون مصانعهم ويضعون عملاتهم الأجنبيّة في مصارفها.
وشرعوا في بناء المصانع واستصلاح الأراضي وبناء ناطحات السحاب.
ولكي يحققوا ذلك اضطروا لبيع عملاتهم الأجنبيّة ليشتروا العملة المحليّة فضلا عن أنّ مهديّ منع تداول الدولار بين أيدي رجال الأعمال والمستثمرين.
وبدأ الجنيه المصريّ يتعافى شيئًا فشيئًا، وبمرور الوقت بدأ يرتفع، وعلى لسان أحد خبراء الاقتصاد قال: يبدو أنّ الجنيه المصريّ في الفترة القادمة سيصبح بنصف دولار.
ولقد تحوّل ظنّ مهديّ إلى يقين، وشعبه في طريقه للرخاء بعد الأحداث التالية.
في الحقيقة أنّ الصراع بدأ أول ما بدأ هناك، هناك في تايون منذ نحو سبع سنوات تقريبًا عندما دخلت القوات الأمريكيّة ردًا على الرفض المتكرر من الصين بعدم تعويم اليوان، وكان صراعًا يأخذ محمل الهزل، أمَا وقد تمرّكزتْ الكتلتين في المنطقة العربيّة بات الصراع فيها يأخذ محمل الجد.
وعلى أثره وجّهتْ الصينُ أسلحتها النوويّة إلى مناطق تمركز القوات الأمريكيّة هناك.
والآن بدأ الصراع الغربيّ الأسيويّ في المناطق الإستراتيجيّة في سوريا واليمن وغيرها من المناطق الهامة كالمعابر والمضايق والقنوات فضلاً عن هذا الصراع القديم في تايوان.
وبالنسبة لقناة السويس فخرجتْ من حسابات الكتلتين وذلك بسبب تماسك البني الداخليّة لها تماسكًا متينًا بفضل القائد مهديّ والقوات المسلحة التي ظهرتْ معادنها الثمينة حين تمّ تجميد مرتباتهم لمدة ثلاثة أعوام. وللأسف لم يمنع مهديّ أيّ سفن حربيّة عبر قناة السويس كي لا ينقض الاتفاقات الدوليّة من جهة ومن جهة أخرى لا يجعل دولته عرْضة للهجوم بسبب عدم توفير الدعم اللوجستي لسفنهم الحربيّة.
وانقسمَ العالم آنذاك إلى كتلتين، أمريكا وحلفائها من الغرب ومن جهة أخرى روسيا والصين وحلفائهما.
وتحوّلتْ الجيوش العربيّة من حرّيتها إلى تبعيتها للاستعمار الجديد، وذاقتْ الشعوب مرارة ظلميْن، ظلم الحكام العرب العملاء آنذاك وظلم رقّ الاستعمار.
وطفح على الأراضي العربيّة كثير من المنظمات الإرهابيّة والعصابات، وعاد عصر الفتوات حتى أنّهم باتوا يرتدون اللاسات والجلابيب ويحملون النبابيت.
ودُقّتْ طبول الحرب، ولم تكن بدايتها على أرض العروبة، بل بدأتْ في تايوان كما ذكرت سالفًا، تبادل إطلاق النيران بين الصين وأمريكا من أجل استعادة تايوان.
تبادل الاثنان الأسلحة الكيماويّة والجرثوميّة وأكثر المتضرّرين من هذه الهجمات مدنيي تايوان والصين.
ولأنّ العالم مقبلٌ على حرْبٍ نوويّة في منطقة الشرق الأوسط، ولأنّ وجود أمريكا في تايوان احتلال صارخ، لم تكتفِ الصين باستخدام الأسلحة الكيماويّة والجرثوميّة بل هددت بالنوويّ مباشرة حيث قالتْ على وسائل إعلامها أنّه لا مفرّ من استخدام الرؤوس النوويّة لتحرير تايوان، ثمّ تابعتْ كلامها: أمّا الحرب الدائرة الآن في منطقة الشرق الأوسط فلن تكون الصين البادئة في استخدام الصواريخ النوويّة العابرة للقارات، وإذا استخدمتها أمريكا فلا بديل لنا إلّا ضرْب المنطقة كلّها بترسانة الأسلحة النوويّة التي تمتلكها الصين وحلفاؤها.
وهذا موقف طبعيّ من الصين، ففي المطامع يغلب على القوى الطامعة في التورتة طبْع الانتقادات واستخدام الأسلحة التقليدية والتلويح من بعيد بإطلاق الرؤوس النوويّة، لكن عندما يتعلق الأمر بأخذ قطعة من أرضين أحدهما فليس لدى المحتل إلّا التهديد المباشر باستخدام النوويّ.
وعلى أرض سوريا تبادل إطلاق النيران بين القوات الغربيّة الأمريكيّة المتمركزة في أحد جهاتها وهي منطقة الشمال وبين الروس والمتمركزة في الجنوب هي وحلفائها.
كذلك بدأ الصراع الحربيّ وسقوط آلاف القتلى والجرحى حول المعابر والمضايق التي تؤمّن الدعم اللوجستيّ للنفط والغاز والسفن الحربيّة المحملة.
وقد بدا واضحًَا من خلال المعارك أنّ كفّة الأمريكان وحلفائها أرجح قليلاً.
ونتيجة ذلك، تزايد عدد الوافدين أكثر وأكثر من كلّ أرض إلى مصر هروبًا من الحرب وتداعياتها مما كان له عظيم الأثر في زيادة الاحتياط الأجنبيّ من العملة الأجنبيّة الدولاريّة وغيرها إثر قدومهم بأموالهم وإنفاقها، ونتيجة لذلك لم يتوانَ البنك المركزيّ المصريّ في طبع النقود المحليّة ليل نهار التي تستقرّ في جيوب الأجانب بعد تخلصهم من العملة الأجنبيّة التي لديهم.
والغلاء ارتفع عالميًا بطريقة لم تحدث منذ الحرب العالميّة الثانية 1945، ولقد حققتْ سياسة الرئيس مهديّ ارتفاع الناتج المحليّ بقيمة لم يشهدها الاقتصاد المصريّ من قبل.
كما أنّه جنّب مصر بذكائه وقوّته الخوض أو المشاركة في الحرب العالميّة الثالثة.
وأنشأ حضارة وجد فيها المواطن المصريّ العزة والكرامة والعدل، حضارة من أنفاق الثري إلى قمم الشموس.
وبدأتْ أنفاق المواطنين المصريّين تُردم شيئًا فشيئًا، والخيام الورقيّة والصوفيّة تتحوّل إلى أطلال رغم أنّ القليل من الشعب بكى على هذه الأطلال الورقيّة والصوفيّة، لأنّهم أصلاء وهؤلاء هم أنفس معادن الناس.
وبدأتْ المنازل تُشيّد، وتمّ استيراد الكثير من الملابس الحريريّة والقطنيّة الفاخرة من الخارج التي أقبل عليها المصريون يرتدونها داعيين لفهمان ومهديّ بطول البقاء.

***

ذهب رجل المائة ألف جنيهًا صاحب الكلية التي زعم أنّها تالفة إلى الطبيب وردّ له المبلغ بعد تمنع جامح من الطبيب.
استقل سيارته المتواضعة وظلّ يجوب شوارع مصر مستعبرا متأوها وهو يحدث نفسه قائلا: أخشى أن تتصارعوا يا بني وطني على القبور قبل القصور، وقماش الخيام قبل أبراج السحاب، وكسْرة الخبز قبل الكباب، ومعطف الورق قبل معطف الحرير، كم أخشى يا أغنياء بلدي أن يسيل لعابكم وتشرئب أعناقكم وتدور أعينكم على ما ليس لكم فيكون رنين الفخار لدىَ فقراء مصر أطرب على مسامعكم من رنين الذهب الذي لديكم.
كم أخشاكم يا أهل بلدي أن تأتون يوماً لمهديّ تطلبون منه مائدة من السماء بعد أن ملأ جيوبكم بالدولارات.
وقف بسيارته فجأة وسرعان ما قال: المعدة الجائعة تشبع، لكن إذا شبعت تقنع صاحبها آنذاك بأنّها جائعة على الدوام، صدق المثل القائل: "ما يملأ عين ابن آدم إلّا التراب".
سار بسيارته قليلا وقال حينها بتوجع: يا ترى يا مهديّ أغنيتَ شعبك على حساب مَن! أخشى أن يسبح قومُك ...
وقبل أن يكمل فرمل سيارته فتوقف فجأة حتى كاد يُقذف في زجاج السيارة الأمامي ثم ما لبث أن أكمل: .. بأطواق النجاة على بحور دماء العالم يا مهديّ.
أوجعته الكلمة التي تساءل بها فشهق على أثرها شهقة أزهقت روحه فيه رغبة وطواعية منه حتى لا يرى دماء الغرب تسيل بسهام مهدي الذي أطلقه من مختبر فهمان فطين المصري ffc-2.
***
مرّ عامٌ على تبادل إطلاق النيران بين الكتلتين المتحاربتين، وفي هذه الأثناء حقّقتْ الولايات المتحدة الأمريكيّة نصرًا مؤزّرًا على الروس وحلفائها، وتقدّمتْ قواتها إلى معظم المناطق الإستراتيجيّة؛ بينما تراجع الروس وآثروا القهقرى ليعلنوا بعدها مباشرة الرغبة في الجلوس على طاولة المفاوضات.
ومنذ هذه اللحظة وهي لحظة إعلان الرغبة في إجراء المفاوضات مع الأمريكان توقع أكثر الساسة انتهاء الحرب، بينما قلة منهم توقعوا تطور الحرب من تقليدية إلى نووية إذ لن يتعامل الأمريكان مع الروس إلا من قبيل المنتصر والمهزوم وعلى ذلك يرى الأمريكان أنه يتوجب عليهم إملاء شروطهم على الطرف الروسي بينما يرى الروس أنهم ليسوا في موقف ضعف على أساس أنهم قادرون على تحويل الكرة الأرضية إلى قطعة من جحيم جهنم.
واجتمعوا، وبعد مداولات عديدة استمرت عدة ساعات قدم الروس فيها عدة تنازلات منها إبرام عدة صفقات تجارية بين آسيا كطرف أول وأمريكا كطرف ثانٍ تصب كلّها في مصلحة الطرف الثاني بالطبع، هذا فضلا عن تعويض الأمريكان بمبلغ ضخم بسبب ما تكبدته من خسائر في هذه الحرب.
ولم يشترط الروس علي الأمريكان إلّا شرطًا واحدًا وسط كل هذه التنازلات وهو الانسحاب المشترك من كافة المنافذ والمضايق وكافة المواقع الإستراتيجية واللوجستية من المنطقة العربية في آن واحد.
وكان رد جورج رامسفيلد هو طلب مهلة ليفكر في العرض المقترح من الروس.
وبعد مداولات عديدة بين قادة الحرب من الطرف الأمريكي قررّوا الموافقة على العرض باستثناء انسحاب جيوشها من المنطقة العربية، وهذا ما رفضه الروس رفضًا قاطعًا، حيث قالوا: نحن لسنا مضطرين للخنوع الكامل ولدينا أسلحة نوويّة، وسوف نحوّل بها الكرة الأرضية إلى أجيج مشتعل، والآن اعلموا أيها الأمريكان أنّ رؤوسنا النووية محملة على صواريخ عابرة للقارات تنتظر الإذن بالإطلاق.
ولقد تفاجأ الساسة والعسكريون من كلّ أنحاء العالم ردّ الأمريكان الغريب وأرجعوا ذلك لتدخل يعقوب إسحاق في الأمر حيث هو من زجّ بجورج رامسفيلد بعدم الموافقة على إنهاء حالة الحرب إلّا بشروط أمريكيّة خالصة .
***
العالم يغلي وعلى وشك الانفجار كانفجار النجم حال موته، لم يستطع فهمان متابعة تجاربه على المصادم الذي يبغي من ورائه الذهاب إلى إبليس رغم إصراره وإيمانه بأنّ إبليس السبب فيما وصل إليه العالم حتى الآن من دمار.
أمّا جاك فلم يستطعْ هو الآخر عمل أيّ رصد لنجم سحابة أورط رغم إيمانه بأنّه سيتحوّل إلى ثقبٍ أسود في أي لحظة؛ وعليه فلابد أن يتحرك سريعًا حتى يدحره عن طريق شراعه الضوئيّ المقترح في رسالة الدكتوراه.
ورغم الفائدة العظيمة التي يبغياها من وراء عملهما إلّا أنّ الأحداث جثمتْ على صدريهما فاختنقا، وانصهر قلباهما في بوتقة الحرب الدائرة.
أمام موقع التجارب على المصادم ffc-2 ظل فهمان يلكم الطاولات والحوائط حسرة وغضبا على رفض جورج رامسفيلد للمقترح الروسي، ونفس الحال بالنسبة لجاك ولكن في موقعه، أمام مراصد ناسا.
سقط فهمان على الأرض مغشيًا عليه لأنه رهيف القلب، بينما نجد جاك ممسكا بصفيحة معدنية كانت بجانبه مرسوم عليها خريطة العالم، وأخذ يثقبها بأصابعه الفولاذيّة، فلمّا شارف على الانتهاء منها بكى ثمّ احتضنها ووضعها على الأريكة.
ولأنه ذو قلب جسور انتفض فجأة واتّجه إلى باب المرصد ولم يفتحه بل اقتلعه من مكانه وتذكّر ولأول مرّة ذاك البركان الذي ضرب ولاية كاليفورنيا منذ أربعة عشر عاماً تقريبًا وتذكّر أنّهم لقّبوه ب "فتى البركان الملثّم" فقال لنفسه: الآن أنا فتى بركان البيت الأبيض.
أقبل عليه حرسه شاهرين مسدساتهم ظنًا منهم أنّه كان في مشاجرة مع شخص استطاع التسلل والوصول إلى مخدعه.
فلما رأى منهم ذلك قال لهم: لا شيء خطر، انتظروني هنا حتى أعود، لعلي أستطيع أن أطفئ حرائق البيت.



***






جاك في البيت الأبيض
إبراهيم أمين مؤمن-مصر
وصل جاك إلى مبنى البيت الأبيض وما زال يتوقّد حنقًا على وتيرة الأحداث التي قدْ تُنذر بزوال العالم ولاسيما أن مؤجج هذا الصراع هو رئيس جورج رامسفيلد بإيعاز من يعقوب إسحاق.
وصل إلى البوابة الرئيسة للبيت الأبيض، دلف إلى أحد حرّاسها، ثمّ قال له بابتسامة هادئة رغم أن غضبه يكاد يتحول إلى لهيب: «أريد مقابلة فخامة الرئيس.»
تفحّصه الحارس بنظرة عميقة، وأوغل في شرارة عينيه وطأطأة بشرته وتذبذب جوارحه، تبين حقيقته ولم تخدعه ابتسامته الهادئة، عندئذ قال له الحارس بهدوء: «هل أخذت موعدًا من فخامة الرئيس يا دكتور جاك؟»
أجابه بسؤال: «أتعرفني؟»
- «وهل تظنّ أنّ حارس البيت الأبيض لا يعرف مَن هو مثلك يا جاك، يكفي أنّك تُسمِّي نفسك جاك الولايات المتحدة الأمريكيّة.»
صمت هنيهة ثمّ قال: «أنا سعيد برؤيتك، وأرجو أن تُهدّئ من روعك وتملك أعصابك العائمة في بركان غضبك.»
- «لا شأن لك بغضبي، فقط أخبره أنّي أريد لقاءه.»
انتحى الحارس جانبًا ليكون بعيدًا عن سمع أذني جاك، بينما جاك يرمقه مقطبا.
كلّم الحارس رئيس حرس البوابات وأخبره بحالته، فأخبره رئيس الحرس بمنعه من الدخول والانتظار لحين إشعار آخر.
ومرّت ساعة وما زال جاك ينتظر على أحد المقاعد، وبدأ الظلام يهبط وئيدًا، فنهض وأقبل على الحارس وهو يزفر غضبا، وقال: «بعد إذنك، افتحْ البوابة واتقِ شرّي، أنت ومن وراءك.»
رد ّالحارس: «لا تضطرني يا جاك أن أفعل ما أكره وتكرهه أنت، انتظرْ حليمًا أو انصرفْ راشدا.»
ضربة جاك ضربة قوية في قضيبه فتقلصت ملامح الحارس ألما وسقط طريحا، حاول النهوض فلم يستطع. مضى جاك قدما واخترق الباب، خطا خطوات وهو يلتفت يمينًا ويسارًا يريد أن يعرف السابلة إلى حجرة الرئيس، لكنْ سرعان ما التفّ حوله حرس البوابات ولم يكن بينهم رئيسهم.
أحصاهم جاك عددا وقال لهم متوعدا: «دعوني، أريد مقابلة الرئيس.»
هاتف أحدهم رئيس الحرس فأتى مسرعا وهو يكلم الرئيس بشأن جاك.
أقبل إليه رئيس الحرس وقال له ممتعضا وأنفاسه تتلاحق: «أهذه طريقة تدخل بها البيت الأبيض يا جاك، اتفضل الرئيس بانتظارك.»
ورغم دخول جاك عليه متجها إلا أن الرئيس نهض له والتزمه وبش له، هكذا تراءى له.
أما جاك فلم يبد له أي احترام؛ بل لم يبسط يده إليه.
أنزل الرئيس يده بعد أن أخذ تلك الصفعة النفسية وتجاوز أيضا عن هذه الأخرى وبادره بقوله: «لعلّك فكّرت في عرضي السابق وقرّرت أن تصنع الطائرة.»
هز جاك طرف أذنه اليمنى بإبهامه وكأنه يريد أن يطرح أرضا بكلمة الرئيس التي سمعتها أذنيه، وسرعان ما قال: «أشعلتَ الحربَ أنت ويهودك، ماذا ستجني أمريكا من وراء الحروب؟»
واستطرد مستدركا بصوت عال: «بل ماذا ستجني أنت من العرش؟»
لم يعد يحتمل الرئيس استخفاف جاك به لذلك قال: «تأدب أيّها الفتى، وإيّاك تظنّ أنّ وكالة ناسا أو حبّ الشعب الأمريكيّ لك سينفعانك عندما تتطاول على رئيسك، أنا هنا على هذا العرش أحمي بلدي ممن يريدون بها السوء.»
- «أيّ سوء؟» قالها جاك باستخفاف.
- «من الشرق يأتينا الإرهاب، ومن آسيا يسرقون ملكتنا الفكرية ويتربصون بنا عبر المضايق والممرات المائيّة ليقطعوا عنا إمدادات النفط وخطوط الغاز، ولا يتورعون بالفعل أو القول لإلحاق الأذى بنا رغم أزمتنا الاقتصادية الخانقة.»
وسرعان ما هرول وفتح التلفاز وأراه أسعار النفط التي فاقت الخيال ثم قال له: «أرأيت كيف فعلت بنا ودول الخليج، أما آسيا فقد منعت النفط عنا.»
ثمّ حدّ إليه النظر وقال ممتعضا متعجرفا: «وهم صنيعتنا ونحن الذين ثبّتناهم على كراسي الحكم.»
قال جاك: «أيّها الرئيس، أنا غير مقتنعٍ بما تقول، مَن كان قبلك أفضل منك وقد ساهم في الخروج مِن أزمتنا الاقتصاديّة إلى حدٍّ كبير.»
ثم أقبل إليه بضع خطوات ورفع سبابته في وجهه وقال محذرا متوعدا: «ارفعْ يدك من هذه الحروب، اسحبْ الجيوش الأمريكيّة وخذ تعويضات الحرب التي عرضها عليك الروس والصين، انسحبْ بالجنود من أرض العرب إلى أرض أمريكا فهي (الأرض) الأولى بأن تدب أقدام الأمريكيين عليها.»
لما همّ الرئيس بالحديث بادره جاك بقوله: «اسمع، ليس لنا شأن بهرمجدون والهيكل والمسيا الملك وأرض الميعاد والنيل إلى الفرات وسائر تلك المخططات الصهيونية القذرة، شأننا هو (يشير في تلك اللحظة بسبابته إلى السماء) ذاك الرابض في السماء، ارفعْ يدك عن العالم، ارفعْ يدك عن أمريكا.»
قال الرئيس ممتعضا: «ما شأنك أنت بالسياسة والحرب يا فتى، لابدّ أن تحكم أمريكا ولا تُحكم، حتى لو اضطررت لإبادة العالم كلّه، ولا مانع أن تضحّي أمريكا ببعض جنودها مِن أجل أن يعيش شعبها كله في كرامة وكبرياء، اذهبْ أيّها الجاهل إلى ناساتك ولا تعدْ.»
تملك الغضب جاك وجرت الدماء في عروقه وأخذ يتمتم بعبارات الحنق، وتحولت عيناه إلى جمرتين وقال بصوت كالرعد: «أنت جرثومة يا خادم يهود، أنت عضو خبيث في الجسد الأمريكي يجب بتره، وأنا باتره.»
وانقضّ عليه ليخنقه، وطوقه بذراعيه وأخذ يضغط حتى جحظت عينا الرئيس واندلع لسانه وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة بادر إليه حرس القصر وانتزعوه من يديه.
أخرجَ أحدّ الحرس مسدسه من غمده ليطلق الرصاصة على جاك، لكنّ رئيس الحرّاس رفع يده إلى أعلى في الوقت المناسب فطاشت في الهواء ثمّ قال للحارس: «أجننت! أتودّ أن يثور الشعب على الحكومة! هل تظنّ أنّ وسائل الإعلام الأمريكيّة سترحمنا؟ ألا تعرف ماذا يمثل جاك لأمريكا وللعالم؟»
ونظر إلى كل الحرس وأمرهم بالصمت.
التفوا جميعا حوله والذعر يتملكهم، وتمكنوا منه وهو يسب ويلعن في رامسفيلد ويرميه بأفظع الشتائم، بينما توارى رامسفيلد خلف ظهر رئيس الحراس.
استطاع جاك بعد لحظات التخلص من قبضتهم وركض كالوحش نحو رامسفيلد ولكن رئيس الحراس لكمه لكمة شديدة ارتد على إثرها للوراء وسرعان ما هجم عليه الحراس من جديد قبل أن ينهض.
أمرهم رئيس الحرس بأن يتركوه، وفور أن نهض قال لجاك: «جاك امضِ لحال سبيلك ولن يمسك سوء، امض وحسبك ما فعلت.»
قال جاك: «لن أمضي حتى يأمر هذا الصعلوك (يشير إلى الرئيس) بانسحاب بلدي من أرض العروبة وترك الحرب بلا عودة.»
لم يجد رئيس الحرس بدا من تهديده بعد إصراره فقال: «جاك، لو قتلتك الآن لن أُعاقب فيك، وأمور الحرب هذه سياسة دول وشأنها وليس لنا أن نتدخل فيها، ولا بديل لك الآن إلا أن تمضي.»
ردّ جاك: «لن أمضي قبل أن يعدني هذا الأخرق (يشير إلى الرئيس) بألا تتدخل أمريكا في شئون أحد.»
قال رئيس الحرس: «جاك، أنت بذلك تثير فتنة ببلدك، لا أريد أن أؤذيك لأني لا أريد للبيت الأبيض أن يصطدم بوكالتك فتتسبب في عودة الثوار مرة أخرى.»
وفور أن انتهى من قوله كرّ جاك مرة أخرى يريد الفتك بالرئيس، فوقف رئيس الحرس حائلا بينه وبين وقال له بثقة: «إذن لا محيص، قاتلني أنا.»
وأمر جميع الحرس بعمل دائرة كبيرة أشبه بحلبة المصارعة، وكل منهما يحمل بداخله أمرا، فجاك يريد هزيمته ليفتك بالرئيس، ورئيس الحرس يريد الفوز ليصرف جاك عن المشهد.
لم ينصاع الحرس للأمر، واندفعوا إلى جاك في لحظة خاطفة وتمكنوا منه وقيدوه.
أمرهم رامسفيلد بسلسلته ووضعه في أحد حجرات البيت حتى يُنظر في أمره.