المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الورَقة


نجود عبدالرحمن
08-26-2020, 03:56 PM
أعود إلى الوراء البعيد، إلى اللحظة التي تركت فيها أمي في غرفة الطبيب، ورحت أتبع الممرضة إلى القاعة الأخرى لتسحب مني أنبوبة أخرى من الدم بغية تحليلها، إلى اللحظة التي عدت فيها إلى غرفة الطبيب فلم أجد أحدا.
إلي..
إلى التفاتي عن يميني وعن شمالي،
إلى جري في الرواق وأنا أسأل العابرين من حولي:
- أين ذهبت أمي؟ ألم تروا أمي؟
إلى هلعي..
أنا التي لا أعرف أحدا في هذه المدينة الكبيرة ، فكرت في أن أمي قد تعبت وملت وفقدت القدرة على احتوائي.فكرت في أنها قد تخلت عني إلى الأبد!
أخذت أجري من رواق إلى رواق، أطرق الأبواب من حولي، والشريط الوحيد الذي يمر أمامي: مقطع من فلم مصري كنت قد شاهدته عند جارتنا" ربيحة" ذات مرة، أتذكر كيف كانت البطلة مريضة، كيف أنزلها زوجها من السيارة في مدينة بعيدة وهو يقول لها:
حبيبتي انتظريني هنا ريثما أعود.

ثم ذهب ولم يعد.

عشر دقائق من الجري والذعر، كانت كفيلة بخلق سيناريو بشع جدا داخل رأسي، وطرح أسئلة لا متناهية عن ماذا سأفعل بي؟ وكيف سأتصرف؟ وأين سأعيش أيامي القادمة؟

وقرب باب المشفى، في الشارع، وقفت، وقفت لأجد أمي جالسة على الأرض وهي تبكي، سمعتها كما أسمعها الآن وهي تقول للطبيب:

" أنا لم أتعلم من قبل، ولا أفهم فرنسيتكم، لكنني أستطيع أن أحس بالأشياء السيئة فيم تقولونه".

والطبيب يحاول بما أوتي من صبر أن يقنعها بأن الأمر لا يتعدى الشك ولا شيء مؤكد ليقال صراحة.

لم أحفل بالسوء الذي كان يحوم بي لحظتها، ولم أكن أفهم ما تكون ماهيته من الأصل، لكنني شعرت بأن روحي ردت إلي بمجرد أن رأيت أمي. لم أخبرها بما جرى لي في الداخل، لم أسألها عن دموعها، وهي الأخرى لم تخبرني بشيء مما حدث معها. أمسكتني من يدي ومشينا.. مشينا طويلا ونحن نتبادل الصمت، وعند المنعطف، لمحت هاتفا عموميا فطلبت مني أن أجري اتصالا ببيتنا الذي غبنا عنه أياما طوالا، وشوشت ببضع كلمات ثم سلمتني السماعة، كان صوت شقيقتي على الطرف الآخر مبتهجا جدا وهي تزف لي خبر نجاحي في امتحان الشهادة برتبة جيدة، وحين أخبرتها.. أمي.. لم تبد شيئا من الفرح المطلوب، واكتفت باطلاق عينيها في المدى البعيد بصمت خاشع.
لطالما كانت امرأة مفضوحة في مشاعرها ، وسرعان مايطفو على ملامحها وحركاتها ما يشي بأنها في معترك قاس من الهد والبناء. كتمت فرحتي ووضعت يدي بيدها.. ومشينا.. مشينا طويلا.

لاحقا وبعد سنوات، وبعد أن صرت أكثر ادراكا بمعاني الكلمات وبعدها العلمي، وجدت نفسي هذه المرة بمفردي، في مكان بعيد أيضا عن مدينتي، وبينما راح قلبي يخفق بشدة، وجسدي لا يكاد يحملني من الخوف، رحت ألتقطني و أعبئ رئتي بنفس عميق عميق... مدركة أن الأشياء كل الأشياء مرتبطة بالسطر المخبئ داخل ورقة التحليل الذي تسلمته للتو، تعجبت لحظتها من الحياة، وكيف لمصيرنا فيها أن تقرره كلمة واحدة فقط، تذكرت حينها أمي، فكرت فيم يمكن أن يحصل لها وهي التي لطالما آمنت بأن المرض يُمرض أهل المريض أكثر مما يُمرض المريض ذاته. وقرأت... قرأت ما رد الروح إلى الروح وجعلني أتمنى لو أن ذلك العابر الذي مر بالقرب مني لحظتها شخص أعرفه لأذهب إليه فأعانقه وأقول: أنا الآن سعيدة، سعيدة جدا، هل لك أن تبتهج معي؟

أتذكر كل ذلك ثم ألتفت إلى إحداهن، إلى المرأة الممددة على فراش الوهن وفجيعة ابنها بها، وبينما الجميع من حولها يدري ، فوحدها التي لا تدري.. وبينما يحاول الجميع إخفاء الحقيقة، تحمل هي أوراق الطبيب بين يديها، تنظر فيها بعجز، تلعن جهلها بالقراءة، ثم تقول في ترج: ليته فقط لا يكون ذلك المرض!

والله المستعان.

رشا عرابي
08-26-2020, 09:06 PM
موجِعة فواصلُ السّرد
أكثر من مرة شددتُ قبضةَ يدي ضامّة أصابيعي في توقِ المُترجّي
خوفاً على تلك الأم.. ورأفةً بتلك الموجَعة التي تتحسّسُ الأحداث

من لحظتي خطفتِني يا نجود لأراني هناك في المشفى بالقرب أمها

راااائعة وأكثر

فيصل خليل
08-26-2020, 09:17 PM
والله المستعان

حال المريض في انتظار النتائج لا توصف
وحال اهل المريض اشد بؤسا منه

سطر في التقرير تقلب الحال اما فرح واما احزان مستمرة
شفاك الله

نثرية جميلة توصف حالنا عندما نتعرض للحظات فاصلة

دمت بخير وعافية

نادرة عبدالحي
08-26-2020, 11:27 PM
يا لكم الوجع الذي تحمله الام بين ضلوعها قبل أن تحمله بورقة خطها المُداوي ،
هنا سرد كفيل بإيصال المشاعر بإيصال الموقف بإيصال جميع التفاصيل
التي تغيب للحظات عن فكر القارئ، الخوف بين الردهات والجدران
الذي يشعر به الإنسان في ضعفه ، هذا الشئ الذي يعجز الإنسان عن إخراجه
وهو في أصعب المواقف وجدناه هُنا ،
الكاتبة والمبدعة نجود عبدالرحمن يسعدنا ان تزيدي لهذا المكان المزيد من إبداعكِ،
دمتِ بألف سعادة والف خير ،

سيرين
08-27-2020, 02:16 AM
حياتنا عدة اوراق منذ الميلاد وحتى انتهاء العمر
سرد عايش الواقع بصدق احتراف الحدث والاسترسال به حد ملامسته
كاتبتنا المبدعة \ نجود
دام غدق قلمك مورق بأبجديات الجمال
ود وامتنان

\..:icon20: