المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مَرْحَـى لدفء العالَم !


د. لينا شيخو
03-05-2007, 07:05 PM
اكتحلتْ عيناها بالحزن وتمادى الحرمان متمدداً على تفاصيلِ وجهها ..
مارست الأمومة في سنٍّ مبكرة لتمحو اليتم عن وجهِ أخوتها ، تبنّى الشقاء جسدها النحيل ومع ذلك أكْسَبَتْها قسوةُ الظروفِ قوة في التحدّي .
أضبطُ تأخيري أو تبكيري في الخروج على موعد قدومها الثابت للعمل في الجوار ..
غابتْ لثلاثة أيامٍ باردة .. تتخلل عظامها جرأة الريح .
تسلّقَ القلق خلالها إلى ذروة قلبي .
قادتني ريحٌ جسورة لارتداء عباءة الليل ، إلى حيث تسقطُ الأحلامُ في بطونِ الجوعى ويمتصُّ البرد آخر لهاثهم المحموم .
..
يمَّمْتُ شطرَ الحيّ لأصلَ إلى نخلةٍ لا تسقِطُ رُطَباً ولا فيئاً قليلاً ؛
سرَدَها أخو رجاء لجدارٍ في زاوية الحيّ من بقايا دهانٍ وسخ .
ببطء تنقلني السيارة عبْرَ بركٍ من الماءِ الراكد .. رأسي يرتطم بسقف السيارة وبالروائح الكريهة والرطوبة المخرّشة .
ضوء السيارة يعكس في قزحيتي جدراً متهتكة نمتْ عليها أفواهٌ وآثارُ ركضٍ طويل ؛ بحثتُ عن وجوه على أطرافِ الطريق لم ألتقِ أحداً ، يبدو أنها اختفت خلف الليل .
ترجلتُ من السيارة فألفيتُ طفلاً بجواري ..الناس هنا يشتَمّون رائحة الغريب كما يحفظون روائحهم جيداً .
سألته عن بيت رجاء ، فأشارَ إليَّ أنْ أتْبَعَه ..
كان حافياً وشبه عارٍ ، وعلى صخورِ المستنقع بدأتُ أقفز خلفه وتشارِكُنَا الضفادع هذا المرَح ..
فجأةً صرخَ : هنااا..!
تطلَّعتُ أمامي ..لا جدارَ مطلقاً ..كان رسماً لحوافِّ شيءٍ ما ، وأطلالُ جدارٍ تهالكَ على نفسهِ .
فجعلتُ أردِّد على غرار:
قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل .. بسقط اللوى بين الدخول فحومل
قائلةً :
قفا نبكِ من بلوى فقير مجندل .. بطمر الجوى طي النحول مهلهلِ

على بعدِ أمتار استطعتُ أن أميّز ضوءاً خافتاً من نافذة غرفة خَرِبة ..
تقدَّمتُ بخطواتٍ غير واثقة ..، طرقتُ شبه الباب ، فتحته لي فتاةٌ نحيلة تشبه رجاء ، لم يلزم أن تقودني عبر ممرّ أو مدخل .. فقد أصبحتُ ماثلة بين يدي رجاء المحمومة في الفراش بانعطافةٍ من رأسي .
جلستُ إلى جوارِها ـ وعلى مضض ـ ابتسمتْ في وجهي وحاولتْ أن تعتدلَ فرجوتها أن لا تفعل .
لا أدري من أين يستلهمُ الفقراء ابتساماتهم ...أومن يُعيْرُهم أسمال البشاشة في وجوه الآخرين ..؟!
قليلُ أشياءٍ من حولي ..تطَلَّعتُ بحنو إلى رجاء المريضة ، لازالتْ تتصبَّبُ وجعاً.
ومع ذلك ..بدأتُ في تحليل لوحة تشكيلية من الألوان في رُقع غطاء يستر جسدها الهزيل المنهك ؛ ربما هو الشئ الوحيد الصارخ الذي شدَّني في شحوب المكان .
تقَدَّمتْ إليَّ أختها لمياء بكأس الشاي ، البرد شديد .. وبخار الشاي يتكاثف كمارد يستطيل ثم رأيته يتناسخ إلى أكثر من مارد .
تقمَّصتْ أحدهم السيدة " أنيميا " ولبستْ سحْنَة كل واحد منهم .
مررْتُ بكفّي على شعرِ لمياء المتقصِّف وبإصبع الفضول سحبْتُ جفنها للأسفل ؛ فصرخت في وجهي الأنيميا لأشهق شهقة الموت .
سعَلَ "عمّار" قبالتي ، وطالَ سعالهُ .. تحرَّجَ كثيراً ناولْته منديلاً من حقيبتي ..
آه .. يا إلهي ..ينفثُ الدم ..!
ها هو السيّد كوخ تقمَّصَ مارداً آخراً من كأسي ، لم ينسَ كوخ أن يزرعَ عصيات السلّ في رئتيّ الصبيّ سيقتلُه التدرّن السلِّي .
جلْتُ ببصري إلى الناحية الأخرى .. ذلكَ العجوز المشلول.. والد رجاء يتمددُ تحته فِرَاشٌ رقيقٌ ، كأنه كومةُ عظامٍ تطوّع ليغطيها بقايا جلدٍ متوسّف ؛ يتجمع الذبابُ حولَ وجههِ بينما تجاوره امرأة نحيلةُ البنية سُمِلَتْ إحدى عينيها ؛ وبِرُقعةٍ بالية تهشُّ الذباب عن وجهه .
إنها زوجة أبي رجاء ..
فتحَ باب الغرفة بقوَّة طفل يصرخ : رجااااء ..رجااااء ويضحك بلا توقُّف ..!
وقفَ أمامي .. وكنتُ قد افترشتُ قدميّ في جلستي على حصيرة بالية .
رفعتُ بصري إليه ..
يبدو بديناً ..لامسني إحساس بأملِ أن يكون متمايزاً عنهم ..تأملتهُ أكثر ..وجنتين ممتلئتين .. أرْداف ممتلئة .
آه ..يا إلهي تقمَّصتْ البلاهة المنغولية مارداً آخراً وحَشَتْ شحمها في جسَدِه وتشوهاتها الصبغية في مورّثاته .
أي بؤسٍ هذا ..بل كأن البؤس ينتهي إلى هنا فيقف ..!
فجأة ..تسارع نبضي بعدَ أن وقع بصري على ذلك الذي أطلَّ برأسه من فتحة الجدار مرتين .
فأر قذر لا يشبه فئران صاحبة المتجر الكبير " ريتا " التي تربيها وتعتني بها في صندوق كريستالي ..
حاولتُ أن أتلهَّى .. عنه فسألْتُ السيدة : كيفَ أنتِ ؟
أجابتني مشيرةً إلى العجوز : إنه نائمٌ منذ الأمس ..!
ثمّ سألتها : كيفَ هوَ ؟
قالت : أكلنا اليوم بيضتين ، فقد باضت الدجاجة اليوم ..!
رباه .. هي الأخرى تعاني من تخلّف عقلي ..!
بعد قليل.. في قمّة ما تهاوى في نفسي من بؤس وخيبة ، تردّد إلى سمْعي صوت ذكّرني بمعزوفة لـ يوهان سباستيان باخ ..انقطعَ..
تغيّر العزْف تعالى أكثر ..كأنه مقطع من إحدى روائع بيتهوفن ..
تساءلتُ: تُرى أيّ مجنون يقصدُ هنا ليمارس العزف ..؟!
حتى لطمني الماء على وجنتي ، رفعتُ رأسي فعلمتُ أن السماء تبكي على سقف توتياء موشّى بثقوب ؛ مُحْدِثةً هذا النغم المختلط ..
أزِفَ موعدُ الرحيل وأنا في حالة بليغة من التردّي في مجاهل النفس ، ابتلعتُ ريقي أغص بأشواك النكد وبخطوة مرتجفة وضعتُ قدمي بالباب .. وإذا بقطة كبيرة تُجْهِزُ على ما تبقّى من الدجاجة المسكينة .
لطالما كنتُ أمقتُ القطط .. كائنات انتهازية ..!
تقفزُ في أحضان الأغنياء الوثيرة ، وتداعبهم بفرائها لتنعم بسلسلة في عنقها أو قطعة لحمٍ فاخرة .
عندَ الفقراء تتركُ الفئران وتلتهم دجاجتهم اليتيمة ...!

قطَعَ هذا الفيلم البئيس صوتُ تصفيقٍ حادٍّ ، تعالى أكثر بتصفيقي ابتهاجاً بتسلٌُّمِ رجاء لجائزة الدولة بامتياز على جودة منتجات القطع الفنية التي قدّمها مركّز التأهيل المهني ؛ والذي أسَّسَتْهُ منذ خمسةِ أعوام مع عدد من الأيدي المساهمة .
صفَّقْتُ لغمازتيها اللتين أزاحتا تجاعيد القهر ..
ولغيمة الورد التي تحفُّ دهشتي بها .
صفَّقْتُ للأيادي البيضاء التي نَبَتَ الخزامى على دفئها .
صفَّقْتُ لشِعْبِ أبي طالب ، لأنصار المدينة ، لغاندي ، لعُمَر بن الخطاب ..
صفَّقْتُ لي .. وأنا أزيح الغطاء عن لوحةٍ حميمةٍ لعالَمٍ جميلٍ انتظرتْ طويلاً في متحف أحلامي .!

ـــــــ
شــتاء 2005

قايـد الحربي
03-05-2007, 08:51 PM
ذات طيب
ــــــــــ
* * *

بين اللغةِ والرسمِ تآمر ..
تقول الأولى : افعلني ،
ويقول الآخر : اعمليني .

المشهدُ بُكائيٌ حدّ الشحوب المغموس بملامح
إذ تفعل اللغة ذلك : [ مُنتهى ] : البهجة
إذ تعمل ذلك : [ بهجةُ ] : المُنتهى .

ذات طيب
تُجيدُ هنا [ الرسم ] ــــــــ وغيْرُه أجادتْ - سَبْقاً -
والتفاصيلُ : صِلةٌ بين الدهشة ونقيضها
وثمّةَ دهشةٍ هُنا تفصلك عن كل نقيضْ .

شكراً
شكراً لمنحكِ الجمال .

سلطان ربيع
03-05-2007, 10:19 PM
إزداد الكرب هنا
عندما يكون الحرف مزدان بـ لغة
ستسكن الدهشة ذائقتك .

سأعود ياذات طيب .

عبدالعزيز رشيد
03-05-2007, 11:13 PM
اختي
ذات طيب

ماأجمل التيه هنا
والتجوّل هنا
والعودة مرارا وتكرارا هنا
ان فتح قوس التعليق يفضح عجزنا عن اغلاقه !
فشكرا ألف مره لك

د.فيصل عمران
03-06-2007, 02:03 PM
ذات طيب ..
لغة يتكسّر عذب الفرات عند نقائها ..
...

الغيث
03-06-2007, 11:44 PM
ذات طيب ......

الحزن مبدع أكثر من ريشة فنان في رسم الواقع

تلك الصفحات كتبت بحروف مختلفة ....


الغيث .....

د. لينا شيخو
03-07-2007, 02:32 PM
ذات طيب
ــــــــــ
* * *

بين اللغةِ والرسمِ تآمر ..
تقول الأولى : افعلني ،
ويقول الآخر : اعمليني .

المشهدُ بُكائيٌ حدّ الشحوب المغموس بملامح
إذ تفعل اللغة ذلك : [ مُنتهى ] : البهجة
إذ تعمل ذلك : [ بهجةُ ] : المُنتهى .

ذات طيب
تُجيدُ هنا [ الرسم ] ــــــــ وغيْرُه أجادتْ - سَبْقاً -
والتفاصيلُ : صِلةٌ بين الدهشة ونقيضها
وثمّةَ دهشةٍ هُنا تفصلك عن كل نقيضْ .

شكراً
شكراً لمنحكِ الجمال .

" الأكثر " أستاذ قايد أن اللغة والرسم تآمرتا عليّ في منعطفات النص
قراءتكَ محفّزة لاستدراج المخبوء الأقدم من جيوب الذاكرة ؛
وعليَّ حينها تحمل عثرات التجربة التلميذة ، وجَمْع تبعات الضوء السابق حين مرورك .
" شكراً " مبتهجة تليق بك .

العـنود ناصر بن حميد
03-07-2007, 02:59 PM
كنت أردد

خلف كل سطر كتب بألم

أي بؤسٍ هذا

ذات طيب

محترفة في إقتناص كل التفاصيل الصغيرة

مبدعة وأكثر

مرحى لوجودك هنا

تحياتي

مليـ نبض القلوب ـسا
03-08-2007, 04:28 PM
رائع ومميز جدا

لي عودة قريبا.

مودتي مليسا

د. لينا شيخو
03-24-2007, 12:26 PM
إزداد الكرب هنا
عندما يكون الحرف مزدان بـ لغة
ستسكن الدهشة ذائقتك .

سأعود ياذات طيب .


مرحباً أخي سلطان
ربما اللغة وحدها تبدو سخية كدموعهم الطافرة
أهلاً كلما مررت ..
تقديري وامتناني

د. لينا شيخو
03-24-2007, 12:35 PM
اختي
ذات طيب

ماأجمل التيه هنا
والتجوّل هنا
والعودة مرارا وتكرارا هنا
ان فتح قوس التعليق يفضح عجزنا عن اغلاقه !
فشكرا ألف مره لك


بصدق تكفي قراءتك ليفرح النص بوصوله للقلوب
شكراً
وتقبل تقديري ومودتي

د. لينا شيخو
03-24-2007, 12:40 PM
ذات طيب ..
لغة يتكسّر عذب الفرات عند نقائها ..
...


شكراً د. فيصل
هذا فقط من رفعة ذوقك وكثير جودك
تقديري

لحظة
03-24-2007, 01:37 PM
لنستطيع أن نحلم ... ننام

ولنشعر بأحلامنا .... نصحى


هنا عالم غير متزن الأطراف ...


مؤلم حد اليقظة من حلم .!


تصوير بالغ الدّقة ... بعوالم بائسة

قد لا نراها إلا بأفلامنا المصنوعة ...


وكأننا نبعد عنهم ملايين الأميال ...


وهم بيننا ...


ذات طيب ....


رائع هنا الألم .... حد الإختناق !



كوني بخير ليعم الطيب


دمعة في زايد