المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : واستثمروا البائس الفقير


عبدالاله الأنصاري
08-31-2007, 12:13 AM
حتى الليل في آخره ؛ أجواؤه ساخنة وكأن الشمس أودعته بعض لفحها قبل أن تأوي إلى جهة أخرى ، ومع ذلك كان حماس نديم وهو يملي على صابر وصاياه أشد حرارة من تلك الأجواء الصيفية في ذلك المقهى المنزوي بعيدا عن العمران( بكرويتاته *) الأثرية وغباره الكثيف . أراد نديم أن يخرج قداحته من جيبه المشقوق فسقطت منه فانحنى صابر والتقطها وقام بإشعال نارها على فتحة ( ليّ شيشة الباعشن ) التي يتعاطاها نديم ذات الشكل المخروطي بلونها النحاسي الذي منذ أن خُلقت لتزين المقاهي العربية وهي تقشعر من الصدأ ، هل كان نديم بفعلته تلك يطرد الصدأ أم كانت ثقافته توحي إليه بأن الحرارة تستطيع قتل البكتيريا !

يسأل صابر:
كيف توجد البكتيريا ؟

يجيل – صابر – ببصره في أنحاء المقهى ، يتفرس وجوه الحاضرين ، ويعود ممسكا بالإجابة :
لابد أن تلك الأفواه لها دور في ذلك !

يحضر القهوجي إبريق الشاي الأصفر ..المرقع في ذلك المقهى المسرف في الترقيع ، كل شيء فيه مرقع ؛ حصير الكرويتات .. مرقع , وجدرانه مرقعة , وثياب مرتاديه مرقعة , بل حتى وجوههم لم تخلُ من الترقيع ،
وعلى ذلك كانت أفكار صابر شبه مرقعة , يبحث عمن يواري شقوقها ، وكان نديم أمله الوحيد !

كانت تبدو على صابر أمارات الاهتمام وهو يصغي إلى رفيقه الذي سينتشله من عالم المعدمين الذين لم يعد يعبأ بهم غير أشباههم , وحتى هؤلاء باتوا يتنصلون من شبهة أمثال صابر !

قرقرت ( شيشة ) نديم بعد أن أخذ عدة أنفاس متسارعة ، وسرح بنظره بعيدا , كمن يفتش عن مفقود في قلب الظلام الممتد أمامهم ، وتكلم بلغة الواثق الموجِّه . .

- يا صابر ، لست الوحيد الذي يقطن الخرائب ، فلا تتأسى لضيق الحال ،
فلقد أخبرني العرّافُ بأن ملامحك المضيئة قادرة على جعل الخير يهمي عليك من كل ذات رداء حريري وصاحب مجد ورقي موروث دون عناء ، ولكنك في حاجة إلى إحداث قليل من التغيير في الداخل والخارج .

يهمس صابر وقد راق له منطق صديقه المتأمل من وراء حسنه الكثير :

- ما الذي يجدر بي عمله ؟ أنقذني من هذا الفقر و لك نصف ما أرث !

صابر - هذا - رجل يرى بأنه لم يأخذ حقه من الدنيا ، وأن الحظ وقلة اليد نأوا به وأسلموه للردى ، يعتقد أنه يمتلك عقلية تستحق أن يكون صاحبها في مصافّ اللامعين الذين تبوؤوا المجد والشهرة .
يرى أن الظروف لو تهيأت له لفارق جلدَه الخشن , ولأثبت جدارته بكل ما يحلم بالوصول إليه ، ولكن لا يعرف من أين تؤكل الكتف ، لذا .. اتكل على نديم ، علّ الوساوس تساعده في الخروج من قمقمه !
مع أنه يعلم بأن نديم كالحرباء , ولا يؤمَنُ له جانب ، فهو شخص وصولي ومنافق ثرثار ، وأكثر من ذلك فهو من المتعالمين الذين يتحدثون في كل شيء ، و أي شيء .!

دنَتْ شياطين رفيقه وأرسلت أنفاسها لتصب في خلَدِهِ ، قائلة :
النبلاء – يا صديقي – ما كان نبلهم عفة ؛ بل قدرة على التلون و استثمار الفرص و تكيفهم مع الظروف المحيطة بهم وجعلها تصب في مرافئ أطماعهم ، ولا أخال أنه يعجزك أن تكون واحدا منهم في زمن يؤمن بالخرافة والأساطير القادرة على تيسير أمرك بقليل حنكة ودهاء !
يسأله صابر :
- وكيف ذلك يا صديقي ؟

يمد نديم ( لي الشيشة ) لصابر ، ويكمل :

- سأكيل لك المديح أمامهم ، وأشعل الفتيل ، وألوي عنق القادر على تغريرهم ممن نرجو حظوتهم ، حينها عليك أن تشمخ عاليا وتتحدث بتؤدة وتُعمِل التفكير وتظهر قليلا من الحكمة ، لن يكلفك ذلك سوى بعض حروف ونظرات واثق و ابتسامة لا تتكرر كثيراً !

الناس أكثر جهلا من السابق ، و الأغبياء منهم ، لا تحتاج لمعرفتهم سوى أن تدير رأسك في أكثر من جهة ، بعد أن تختبر ذلك بإثارتك لشأن ثقافي / اجتماعي ، وحتى دينيّ !

أعني أنك قادر على استغفالهم بأكثر من جملة , وادعاء علم وثقافة ,
وإذا كانوا حميرا فما عليك سوى ركوبهم ، ولكن يجب عليك أن تصدمهم بمخالفتك وإظهار الفهم , وتلجَ إليهم من حيث لا يعلمون .. ويعلمون !

عليك أن تُعلي شأن الوضيع ، وتحقّر رأي عالمهم فيما شذ من رؤاه ، واحذر أن تخالف ما دون الكبيرة المؤرقة جدلاً ، فالناس الأغبياء لا يجب أن تـأتيهم في مسلّماتهم الجاهلين بكنهها . عليك معرفة ذلك !

ابدأ بأدعيائهم ممن هم دونك من المشابهين لك – ذكورا وإناثا – , وإن بدأتَ بأنثاهم كان ذلك أكثر حظوة !

وضيعٌ مثلك ، إما أن يعتلي على أكتاف الآخرين ، أو يغوص أسفل ضِعَتِه ، حقيرا ذليلا !
فـ هلّا فعلت ؟
وإلا ؛ فكما أنت .. وأدنى !

تومض عينا صابر .. وبحماس يلتقط القداحة فتسقط القداحة على الأرض .. يصرخ بـ علوّ :

- هاتِها يا نديم ...

يبستم نديم بسخرية :

- لا .. ليس الآن يا صديقي !

ــــــــــــــــــــــــ
* الكرويتات هي الكراسي المصنوعة من الخصف

خالد صالح الحربي
08-31-2007, 02:31 AM
:
المقاهي
هي المكان الأمثل ..لتعاطي الهُمُوم وَ الوِحْدَة
حيثُ الدّخَان يتلاشى كَالأحلام .. تماماً .
نديم وصابر .. هُمَا أنا وأنت والآخر ..
وَ كُلّ من لم يَجِف عَرَقُه .. بعد .
_ كُل الشكر ياعبدالإله _

العـنود ناصر بن حميد
08-31-2007, 04:07 AM
بصدق
نص عجيب
توغل للداخل لرصد أدق التفاصيل
.
.
رائع عبدالإله
شعرت أنني هنا
أسمع و أرى
لك السلام

محمد الزهـراني
08-31-2007, 09:40 AM
جميل اخي الكريم
سرد تحمله لغة بسيطة وانيقة

تحياتي لك

قايـد الحربي
08-31-2007, 05:22 PM
عبدالإله الأنصاري
ـــــــــــــــ
* * *

أولاً : لأرحب بعودتك المُفعمة بالروعة
والتميّز __ ،
وبـ اللغة الشاهقة الباسقة .


قليلٌ من يمتلك خيوط الحكاية و يحيكها ليحكيها
بتواصلٍ مُنفرد و تفرّدٍ متواصل ..
تلك [ القدّاحة ] : بعثها عبثٌ كالحياة أو لأقل :
عبثها بعثٌ كالحياة .
وأنت الأجمل رسماً لمشهدها ودلالة حركتها في الـ [ قبل ]
وفي الـ [ بعد ] لتمنحنا صدقاً بالكذب بين أطراف الحكاية .

عبدالإله
أقسم أنّ لوجودك : كائناتٌ أخرى تبتهج .
شكراً بحبٍ ومودة .

سلطان ربيع
09-06-2007, 01:12 PM
عبدالاله الانصاري
بـ إمكان أصغر الأشياء
أن تكشف حقيقة أكبر الأشياء
حجم القداحة الصغير
قادر على إحراق غابة كما فعلت بـ نديم .

ملاحظة :
لن يتحول رماداً إلا في موقد النبلاء
تذروه أنفاسهم النتنة .

الأنصاري
كنت ومازلت رائعاً
ودمت بخير .

منى الصفار
09-07-2007, 05:54 PM
نصّ صيغَ بحرفنةٍ مبدعةْ




دمتَ بودْ