![]() |
معاوية الرواحي
ابتسامة لـرجل الغروب لأنه هناك. رأيته واقفا بسكون النجوم، في البعيد .. يترك بصْمته بذاكرتي صدى، كالراحلين، والتفاتة أخيرة يتركونها لدموع الأحبة. أنصت لوقع خطواته الحزينة وأتأمل خيال وجهه المنطفئ، أتخيل عينيه فأخاف السقوط من السماء بدونهما. يمشي برفق وكأنه يشفق على القرميد من الوداعة الساكنة خطاه في مروره العابر. هناك أسفل معطفه الداكن أترك للخيال نفسي وأسافر معه في غروب جديد من التأمل. يقف كتمثال نابض بالحياة، واضح التفاصيل، مبهور الأنفاس. يحدق في المدى الواسع، أتخيل عينه وهي ترفّ تحت عصف النسيم؛ فيبدو مرهقا من وطأة لطفها على قسماته الساهمة. وتهرب الأنّات من صدري مرة أخرى. تنتهي الشمس من غرقها الأزليّ فيدير ظهره بادئا غروبا آخر لغريب وحيد، وفتاة تتبعه ببقايا التساؤل وتتابع الأنفاس. وأغمض عينيّ مقترفة حلما جديدا: - أيها الرجل هناك. أيها البعيد. ((يلتفت إليها كما يرى سفينة تعبر البحر، يبتسم كما ابتسم يوم اختفت الشمس خلف السحاب، وغربت مرتين، تناديه فيغادرها النداء، يريقه لفح أنفاسها على شرفتها، تسكب الماء على الزهور ويغادرها بابتسامة الغروب، فترتجف.)) ربّاه، أهو الحب؟ شرفة تعانق الغروب، ويدي المرتجفة وراء أصيص الزهور، رجل غريب يأتي ويرحل بكل غموضه ليتركني محدقة في حمرة الشفق، ولا أعلم أين أنا. ليته يحملني على الطرف البعيد من ابتسامته، وليتني أودع نفسي في شروده للأبد وأبقى هناك حتى تنتحر الشمس للمرة الأخيرة. تسقطتٌّ أنباء قدومه الذاوي وحضوره الخائف لمقتل الشمس كل يوم، فلم يجبني إلا الغياب وكأنه لم يكن إلا بداخلي، ربما لأنه يمرّ على هامش الزمان والمكان لديهم، لا يرونه من شرفتي الصغيرة كما أفعل كل يوم، لا تحاصرهم الأسئلة لمرآه شاخصا الأبصار مشدوها كأغنية المآتم، أو مبتسما كرضيع في صدر أمه. ربما لأنهم لا يلتقونه مع أفق يشرب آخر انثناءات الضوء، وزهور منتعشة التويجات، تشرب ماء الحياة كما يشرب البحر حمرة الشفق. لأن السؤال كان من نصيبي، والدهشة آخر ما يجعل قلبي ينتفض كطير مذبوح أو كطائر طنّان يبحث في عمق عينيه عن وجهه مستديرا إلى زهور شرفتي. لأنه رجل الدهشة، رجل البسمة، رجل جاء ولم يثر غبار الأسئلة حوله، ولم ينثر العجب على الجميع كما فعل معي؛ آمنت أنني أرى الغروب مرتين، مرة في هروب الشمس داخل البحر، ومرة وهو يخطو خطاه بإيقاعهن الناعم؛ ليترك فتاة قابعة في انزواء شرفتها، متلاحقة الأنفاس، مصعّدة الأمل. لأنه رجلي أنا، ورحلتي اليومية في ارتباك لطيف؛ تركته للخيال فرسمه كما شئت أن أراه، بعيدا عن ظله الممتد من حافة الرصيف حيث يستقر تطاولٌه على صدري. جعلت له عينين واسعتين، يشع الغروب منهما، ويستوطنهما بريقه الآسر، أعطيته لحية خفيفة تهديه الوقار، تخيلته صوتا واضح النبرات، نابضا بالقوة، مهذبا بالحزن. أوسعت معطفه برائحة البرتقال، تتصاعد منه فلا تصل لسواي، غادرني كلُ ما رأيته إلا ابتسامته التي يرحل بها وهو يستدير نحوي بوجهه المفعم بالظل ليواصل نقر الرصيف بوقع أكثر حزنا. جعلت للغبار ثورة رقيقة وهو يمرغ قدميه في نثار الرصيف الرملي. كما جاء هو بالخيال؛ جاء به الخيال بصورة تهيّج الرعشة، صورة تتركني صريعة لهاجس وحدتي، وتقلبات سؤاله العنيد، من هو؟. وأصغي مرة أخرى لحلم آخر: - أيها الرجل، أنت، يا رجل المعطف. (( يمر أمامها برتابته المعتادة، يغمرها برائحة البرتقال، يحتك مرفق معطفه بيدها الممدودة، ويواصل عبوره خلالها بين قرميدة وأخرى. وترتجف مرة أخرى)). قديس يسدن خاشعا أمام البحر، هناك أمام بقايا الملح الجافة في القرميد الأحمر أذعنت للتلاشي، الاستسلام لموجة الوهم تقذف بي أسفل قدميه فأراه عملاقا كالسماء وأنا جزيرة صغيرة في بحره المتلاطم. رأيته يزفر وقاره الساكن على تخيّلي فأتنهده أكثر. أصرخ للسماء: "إنني إنثاك أيها البحر، حوريتك أيتها السماء، ودعة يغمرها ظلك أيها القديس ويطهرها ضوءك أيها المحراب الطاهر، فانزل لي من عليائك أيها الرجل، تنهدْني يا رجل الغروب، دعني أغمرك بالحب، وأرتّلك تسعين غطسة للشمس، تولّني بصمتك الهادر واحتضنّي حتى تموت السماء". سُجنت بصوتي المختنق طويلا لاجئة لظله المنتهي في صدري وقلبي يسّاءل عن سره. هناك حيث اللاحلم واللاحقيقة، بين اشتياق ضفائري ليده المودعة بمعطفه دائما، وبين تحرّك غموضه في حناياي؛ تصاعد صوتي المرتعش حاسبة نفسي أتمازج مع إحدى أخيلتي، حيث افترقت عن كينونتي لأسكن رغبتي في النداء، هناك وهو الواقف بتأمله الرفيق لغروب يراه كل يوم، ويفرحه كل يوم، كنت -ولم أحس- أقترف غروبي به وفيه. حيث كان هو ذلك الــ(هو)، ولم أعرف هذه الــ(أنا). لأن الهاجس ناداه وقلب الهاجسة تاه في عتمة وجهه تسعون يوما: - إيــــــــــــــــه. يا رجل. هناك حيث اقترب ناقرا الأرض أسفل شرفتي، عيناه السوداوين، لحيته الخفيفة، وجهه النورانيّ حاملا استفهامه المتجلي مع اقترابه البطيء. من هناك جاء يقترب لفتاة نادت فيه غروبه الآفل وجاءها رافعا نظره إلى شرفتها، برائحة البرتقال التي تضّوع وتنتشر في أوصالها المرهقة. وقف على عتبة الحلم والحقيقة، أسفل شرفتي، أرفع رأسي لأراه، ويرفع نظرته ليراني. - يــــــــــــا رجل. اخبرني. من أنا؟ يتمايل رأسه قليلا ويغوص أكثر في عينيّ، يلتفت بخطاه الرتيبة نحو طريقه المعتاد، ويكمل رحيله الذي رتّلته الأيام خطوة فخطوة تاركا صمته أمامي. هناك والشمس تتبع ناموس الأفق، استصرختْ الأنثى بداخلي، والحبُ، والدهشةُ، والتساؤلُ، استصرختُ لهفتي وأيامي الممتزجةَ بوقفته: - يـــــــــا رجل. من أنت؟ يلتفت ويخرج صوته متغلغلا في أوصالي، باعثا الرعشة، ومثيرا رجفة الحلم الأخير: - أنـــــا رجل الغروب. يلقي ابتسامة الظل في الهواء، ويكمل خطوه الرفيق طيّ الطريق، مجليّا درب رحيله الأفقيّ، ورأيتني هناك أتشبث بطيف ابتسامة أخيرة، وذاكرة لتسعين رعشة ذهبت ولم تعد. |
| هذا الصفحة دافقة جدا ً وخصوصاً أبن الجارد كان لانشطاره دفء خاص سأكون هنا و لا أتعب من شكرك شكر أول لعبدالعزيز واسمحلي بنقلها لمدونتي ووطن آخر مدثرة بأسم الجارد . . http://www.wl3.net/uploader/up/20891104120080423.gif |
لشروق الخالد
تكورت داخل بطن أمي، لاصقت ما بين قدمي وبطني، التحم رأسي بركبتي. ضاعت يدي وسط أحشائي. رغم الغشاء الذي يحيطني هممت بالخروج، كلى فضول وشوق، لم أتنفس بعد، مرتبطة بتنفس أمي، تأتيني الحياة من خلال السرة التى تربطني بها, رئتاها ترتجفان, أرتجف أنا أيضا, تتنفس، أتنفس بدوري، تضحك فأشعر برعشة تدغدغني، تأكل أو تشرب فاشعر بنشوة، فأندفع في هزة إلى الأمام وهزة إلى الوراء، أحيانا أصعد وأحيانا أهبط، لكنى غالبا ما أكون شبه نائمة أو في غيبوبة جميلة, دقات قلبها منتظمة وحزينة غالباً كأني أجلس تحت ساعة ميدان هائلة، أسمع من خلال أذني صوت جريان الغذاء السائل في الجهاز الهضمي، وحركة دوران في الجسم بأكمله. أشعر بدغدغة ونشاط جديدين, اهتز من جديد في حركة دائرية ثم أشعر بسرعة تنفسها فأعرف أنها تسير، أنتبه قليلا، ثم أعاود النوم اللذيذ, ولم أفتح عيني بعد, وأحيانا أخرى أشعر بيد ثقيلة تداعبني ، عرفت بعد ذلك أنها يد أبي , فقد كان لا يفارق أمي أينما حلت بينما هي تحملني أنا/ وحلم أبي بداخلها, أبي كثير القلق , لطم موضع رأسي بيده حين راودته فكرة أن أكون أنثى فانزعجت قليلا, ثم هدأت محاوله أن أتحرك لأفصح لأمي عن غضبى, فيهدأ أبي ويبتسم مطمئناً قلبه بذكورتي فأرتاح لمداعبته انتفاخ أمي وأعود إلى النوم* ولكن لم أهنأ بنومي ,, قطع هناء إغماضتي صرخات أمي تعلن عن قدومي , مبللة بدماء اختناقي,ودوار يصيب رأسي, كل الأشياء تصرخ , وكلها تدفعني للخروج عنوه,لم تمهلني صرخات أمي بالتفكير بيومان متبقية لي بهذه الظلمة , فانتقلت على عجالة عبر سراديب ظلمة من ظلمة أولى وثانية حتى أوشكت على اختناق بالثالثة, حيث كانت فرحة أبي تطوق عنقي , وارتباكه يؤخر ميعاد إنقاذي,وفرجت أمي ساقيها وتسرب هواء, عبر ممر خروج,وتلقفتني يد الطبيب ورفعني عالياً, فامتلأت رئتاي برائحة مستشفى, فضربني على مؤخرتي, كعادة مشينة جداً لا زالوا يمارسونها ,فبكيت , حين علمتُ بأن الحياة ما هي إلا وجهان للظلم ظالم أو مظلوم ,ثم غسلوني, معلقة برقبتي كـ صغار الهررة بيد أحداهن,وتناثرت قشوري حولي, وبعدها غفوت,ليخترق صوت أذان مسامعي ,الله أكبر ,الله أكبر ,أشهد أن لا أله ألا الله ,أشهد أن محمداً رسول الله ,الله أكبر,الله أكبر, مستقراً بقلبي الصغير لتحبا بداخلي الفطرة الإلهية وفتحت لي الدنيا عيناً أرهقتها ظلمة رحم تسعه أشهر ألا يومان, وكان يومي الأول الذي عمل فيه عداد العمر المتصدي ممزقاً بطنينه حلمي في حياه هانئة بدنيا رضعت الشهوات وغرِقت بالمتع ,فبكيت مجدداً , حين ضحكت أمي بشراً بمقدمي ,ولم يفعل هو , (أبي) فقد تراءت خيبه أمله عذابات تضيق على مهدي حين سأل : ( أيمن..؟؟)وحين لم تجد أفواه الحلم ما تجيبه به,تفجرت ملامحي بالأنوثة وقتلته,فأقترب عاقداً حاجبيه حينها أحسست بأنفاسه وهو يؤذن بأذني , ممارساً طقوسه الإيمانية, دون إي رغبه صادقه منه!لأبدأ حياتي مفعمة بالرضا والإيمان, كيوم ولادتي الغارق بابتهالات الحجيج وقد استقرت أقدامهم وقوفاً بعرفات ,وكانت تلك البداية ,بعدها جاء صوت أمي الهادي من ركن سحيق لـ يجبرني على الابتسام بوجه أبي المتجهم حين قالت : (فؤاد ماذا ستسميها ..؟؟) فجاء رده متأخراً مدنساً بكفرة بمشيئة الرب,وبارداً بعد أن مارس رجولته بنزع تلك الأفكار والعواطف التي تخنقه مبدداً بيده ضبابات خيال أسهدته ضاغطاً على نظارته لترتطم بقسوة بأنفه الكبير: ( من, اُسمي من ؟؟)تمزقت أمي حرجاً وهي تبتهل للرب شكراً حين منحنها الستر وحرمني نمواً كاملاً لحواسي وعقلاً كي لا أفقه شيئاً مما يقولان و قالت : (ابنتنا..!!) (إيمان ..) قالها بضيق واصطكت أسنانه حين نطق حروف أسمي محرقه كل مسافات عبور بـ حنجرته وكأن أمي واجهته بحقيقة مرة , صافقاً الباب خلفه,فسقط بعض دمع على شفتاي مبللاً حلقي (فيا عجباً أأرُضعت دمعاً..!!)وبذات الصباح الذي استنشقت اختناق رئتاي من رائحة سيجار أبي , أودعت قفصاً صغيراً, بتلك الحضانة المقرفه, حيث عبرت ممراً طويلاً أراقب نظرات حاملتي وهي تلاحق حلمها بسلب قلب الدكتور المشرف على مراقبة حالتي غير كاملة النمو وتمرر يديها على إزار قميص يستر صدرها,وقبل أن تقذفني مسرعه وسط وجوه عده وتهرب حيث الأخرى التى تعلن عن قدوم دكتور آخر أعلنت عنه بقولها : (بيتفل مان ) , مارست الأجهزة احتضاني حين ضاقت الصدور بحملي ,فـ كنت وقتذاك أراقب الفرحة تشرق في الوجوه عداي ,(أرأيتم رضيعا بائساً..؟؟) مؤكد لا ولكن أنا كُنت كذلك فقد كان إحساسي بالفقد / والحزن سبباً بنضج حواسي قبل أوانها, فكبرت أيامي سريعاً لاحتيازي استفهامات كُثر ,فباءت كل محاولات مناغاتي , مداعبتي بالفشل فلا أبتسم ألا نزراً قليلاً, أليست الأجنة تحمل أمزجة من ضاق بحملها ؟؟!هكذا علقت أمي حين علقت الممرضة ع ملامحي قائلة بلطف : ( ستكون فتاه قوية وجميلة ,,)كانت عبارة أمي كفيلة بمنحي الإيمان بموعد ولادتي الخطأ ,, فرضعت الحزن وعاشرت الكفر مع أبي, حين لم يكن راضياً بقدومي,رغم ممارساته الإيمانية الأخرى,فكانت أول شناعة أرتكبها هي عدم الرضا بأي شيء , ومنها ثديي أمي,وقد حاولت معي كثيراً , حدود التوحد الجسدي حيث ضمتني بقوة وبكت,كان يؤلم قلبها إحساسها برفضي لها, و لوجودي هنا بين يديها لأمتص قذارة ما قذفه أبي بجسدها,ولكن حين عاد الحجيج بيوم عيد لممارسه التكبير,وارتفعت أصواتهم بالدعاء ,وعلا صوت أمي بالتأوهات وصوتي بالبكاء منحت قلبي رضعتان, وحالما انتهت نقمتي من جوع توقف أداراها للحليب, وكأن الرب يعرف أنها لا تستحق منحي حبها المدنس , وأني لا أستحق سموم تقذفها بجسدي,وفي اليوم التالي,تمزق جسد أمي وأنتشر به هزال كالوباء وتابع جسدها قذف دمائها المدنسة بحيوانات أبي وأنبوب اختبار , فتتابعت عليه العمليات, حتى كسا شعرها الشيب وترهل جسدها وسقطت كل أعضائها الجميلة ككتل لحم رطبة أعدت للشواء, لتتسرب لخياشيمي رائحة احتراق ,ففتحت عيناي لأراه أبي واقفاً منتصباً كجسد شيطاني , بعيناه الحمراويين وجلدة الأسمر وابتسامته الصفراء وثوبه الباهت كملامحه الباردة ونظراته القذرة ,ليرسم كمداً وحزناً ع وجه أمي , فلا يكتفي بخمس عشر عاماً ذاقت بها الموت وهي تستسلم لمشارط أطباء تعبث بجسدها النظر في سبيل تحقيق رغبته بامتلاك طفل, وحين سقطت مشوهه كـ كبش فداء لي,عاد ليخرجها حيث جحيمه قبل انقضاء ممارسات العيد بأيامها الأربع قائلاً : ( وليس الذكر كالأنثى) لتغوص أمي بالفكر معلقه نظراتها الحزينة نحوه, ليتابع بصوته الخشن نافثاً دخان خبث من صدره : (أنتِ ترهقين نفسك وتكلفيني الكثير فما فائدة كل ما فعلناه , هي أنثى ) وكـ مشرط كانت كلماته, لتقتسمني نصفين,نصفٌ يكرهه وآخر يكرهه أكثر . ايقونه فلتس لجورج البهورجي / بتصرف |
سالم العمري
هداية
لاتسألني ياصاحبي لماذا أضحك تارة وأدمع تارة فالمشكلة ليست في الكأس التي في يدي ، فماكان الشرب يوما سببا كافيا للدموع ولا سببا كافيا للضحك . فقط أتذكر لحظات معينة مرت بي في هذا المكان، أتذكر حين خسرنا أنا وأنت في السوق تلك الخسارة الكبيرة ، أنت أنجدك أخوتك في لحظتها ، أما أنا فعدت إلى القرية في ليلة رائحتها تشبه رائحة امراة خائنة مكسورا ذليلا . عدت إلى هنا إلى قريتي ، إلى المكان الذي سقط إسمي من قوائمه منذ زمن طويل ، منذ أن نسيت أهلي وكل من في القرية ووهبت حياتي للمال ولذيذه فقط . أذكر تلك الليلة تماما ، كنت أسأل نفسي : ماذا أقول لهم ؟. كيف احيا بينهم ؟، وغدا عندما يكتشفون أني لم أعد أملك شيئا ، ماذا سيفعل بي كل من أسأت اليه ؟. في تلك اللحظات ... أدركت كم أنا وحيد؟! .. وأحسست أن كل ما بداخلي كان خواء أو أسوأ من ذلك . دخلت القرية بداية الليل ، نمت في قصري .. الذي أعرف جيدا بأني سأفقده حين يعلن افلاسي . ذلك القصر الذي كان لعمي الغبي ذات يوم وانتقل بموته إلى حيازتي ... لا أعرف لماذا تخيلته تلك الليلة ؟ ورأيت صورته في كل المكان؟. رغم أنه منذ موته لم يمر بذاكرتي إلا حين يذكره الآخرون ، حتى بوجود ابنته في سريري ، ربما حضور صورته الطاغي تلك الليلة سببه أن كل المال كان له لذلك يعاتبني على ضياعه . أتعرف ياصاحبي أن الساعة الثالثة والنصف صباحا ليلتها لم تسعفني بالنوم؟. ولم تسعفني بأن أذهب إلى مكان ما؟. ولا أدري لماذا حركتني قدماي أو قدماي حركتاني لأتمشى ليلا في القرية ، كم هي تعيسة تلك الليلة ؟!. وصلت إلى المسجد بعد أن مررت مشيا على بيوت كانت طفولتي أمام ابوابها واسوارها . آه تذكرت في لحظتها بأن في قريتنا مسجدا ، كانت صورته قد اختفت كباقي تفاصيل القرية عندي منذ زمن .. وجدته يجذبني اليه ، دخلته دون وضوء ، وبعد أن دخلت بقليل ، تذكرت بأن علي ان أتوضأ. توضأت . عدت إلى ماكنت أفعله في سالف الايام ، قرأت القرآن ، كان جميلا و مسكنا ، وكان وصول الناس ووصول إمام المسجد قاسيا على قلبي . أردت أن لايقطعوني عن القراءة ، انها لذة لم أعهدها من قبل. أردت أن أواصل ، صليت معهم وأعرف أن بعضهم تهامس عند خروجه مستغربا من أن اصلي الفجر ، أردت أن أواصل قراءة القرآن ، سلمت على الإمام وعلى عدد ممن بقي متأخرا ، ظللت أقرأ حتى أشرقت الشمس . كانت ثمة نافذة جنب المحراب تأتي بالضوء كأنه حزمة من النقاء ، اطلت عيناي منها ، لترى ذلك المنظر الجميل ، الله كم موقعه جميل مسجد قريتنا في قمة الجبل؟! تنظر إلى الأسفل فترى الوديان والسهول الممتدة مع خور جميل يمتد حتى البحر الذي تعكس زرقته أشعة الضوء بجمال متناه ،لماذ لم يفكر أحد أن يستثمر هذا المكان الجميل ؟!. أنا متأكد أن السياح سيجنون حين يشاهدونه ...... تسألت في داخلي لحظتها : (أعوذ بالله .. ماذا بي ؟ .. ماذا دهاني ؟ .. أنا في بيت الله .. واريد أن استثمره للتجارة وللسياحة .. لما لا .. لما .. لما لا يكون الله قادك إلى هذا المكان لتنجو من الافلاس والهوان والذل ؟.) كانت تلك الكلمات بداخلي ، عصفت بي للحظات ثم انتصر الشيطان الساكن في يسار قلبي كعادته ، وخرجت إلى مسكن الإمام .. لم يكن من الصعب بأن أجعله إلى جانبي ليساعدني في إقناع أبناء القرية بأن الخير سيعم المكان والمنطقة كلها ، وبأن أبناءهم سيعملون في المشروع السياحي وبأننا سنبني مسجدا أكبر منه في موقع آخر ، فقمت بأخذ تنازلات من الجميع واستعنت بمعارفي في كتابة الأرض بإسمي وبعتها لمستثمرين كرام ، أحبوا الفكرة وأقبلوا عليها بسرعة وسددت ديوني وبدأت الحياة تلعب لعبتها معي من جديد . - هل كان بعيدا من هنا هذا المسجد ؟ - ليس كثيرا أظنه مكان المسبح والمطعم الإيطالي أو أقرب قليلا إلى خيمة الرقص الشرقي. - وأين بنيت لهم المسجد الجديد ؟ - لم يبن بعد ، المشكلة ياصاحبي بأن أسعار أراضي القرية ارتفعت والميزانية المخصصة للمسجد الجديد لم تخطط وتحسب لهذا الإرتفاع . |
المجنون:عدي الحربش
(ما ترسمهُ الريحُ و تمحوه) |
عدي الحربش ..
(حكايةُ الصبيِّ الذي استطاعَ أَنْ يَرَ الَنوم) |
*
عدي الحربش أو "علي الزيبق" كما يسمّي نفسه بالمنتديات أصدر مؤخّرا كتابه (حكاية الطفل الذي استطاع أن يرى النوم) بحقّ أشكر تلك اللحظة التي قادتني إلى هذا الكتاب واقتنائه أنصح الجميع به ماأجمل\أمتع اللحظات التي أقضيها معه أغبط كلّ من استطاع التعرّف على كتاباته باكرا جميل جميل وأكثر وربّي |
عبدالعزيز الراشدي - زقاقُ الموتى
في زقاق الموتى أرتعد كلما تبدى بياض. كنتُ سيد أحلامي ،لكنها أحيانا ترهقني وأنا أمر مستندا إلى جدار الزقاق. تتحرك الكائنات في الزقاق وفي مخيلتي فترتعش ساقاي. آه يا بياض طفولتي، كل شيء في زقاق الموتى في حلكة الليل أبيض، حتى وأنا أغمض عيني وأركض تظل الأشياء حليبية تتراقص في غنج .. وفي بياض النهار، حين تطلع الشمس الحارقة، أركض نحو الزقاق لا يُدركني خوف .. أتحسس الجدار، وأؤكد التفاصيل كي لا تملأني الرهبة ليلَا .. وأسخر من نفسي ولا أتجرأ على إخبار الأصدقاء، أقول: ليست سوى خدوش هذه، وتلك بُلغة مهترئة، وفي اليسار نخيلة لا تنمو ، ثم كيف تُفزعني هذه المسافة القصيرة؟ .. أسجل المكان وأهله بدقة، لكنني بالليل أنسى كل شيء، ولا تعود تراودني غير أحلامي، وقصص الذين سكتوا مرة واحدة، ولم ينطقوا لأنهم رأوا ما هو في علم الغيب، أو ماتوا بحسرتهم. أتذكر القبر والظلمة والملكين ومطرقة النكير فأسمع الهمهمات، وأُسرع فيسرع معي من يتعقب الخطى .. ثمّة امرأة وجدوها في الزقاق ميتة، على صدرها خدوش حادة، والذباب الأزرق يصنع الولائم حول الدم المتخثر .. و -أمي رحمة- المرأة الحنون محنية الظهر تدفع بالأطفال نحو الدنيا وجدوها بالزقاق ميتة, و بسمة الطفلة الصغيرة، كانت تجري فسقطت هناك في زقاق الموتى .. رَشّوا الحليب في كل مكان تحركت فيه, حيث تلعب، حيت تركض، حيث تخرج لسانها الصغير لنا، وتكشف عن مؤخرتها نكاية بنا .. ما عُدتُ أستطيع شرب الحليب لأنه يذكرني بجسمها الرخو .. وحين يمر الموتى إلى مثواهم لا يمرون كرامًا، بل يظلون في خيالي .. يتسامرون، يقهقهون، يلعبون، يصمتون أحيانا لأن الكلام انتهى، ينظرون بحزن إلى الحدود القصوى لمملكتهم .. ثم أخرج عند المساء و أركض، كي لا يمسكني الموتى، وألتفت فلا أرى سوى الظلام، لكن العيون تظل ترقبني ما إن أسير .. وإيقاع قلبي يعزف وأقرأ قصار السور، ثم أرى أبي يدخل الدار لأن بيتنا في آخر الزقاق وأصيح به كي يترك الباب مفتوحًا لكنه لا يسمعني .. يُقفل الباب ويضع الرتاج وخشبة الأمان .. وألحق الباب لاهثًا، أطرق أطرق بكل القوة، والأعين تترصدني، الأعين الميتة المخيفة الحزينة البريئة، تلك الأعين التي أتحداها في الصباح، وأقول اظهري، ولا أجرؤ وقت الليل والغمام لأنها ترد الصاع صاعين .. وأفكر في الحياة العنيدة، وفي جارتنا كثيفة الشعر على الوجه كرجل، مكتنـزة الشفاه كأنما تتأهب للكلام باستمرار.. تجلس في الزقاق طوال اليوم تعد الموتى، على الأرجح، ولا تموت .. لكنها اختفت في يوم وقالوا وقالوا وبحثوا في كل مكان ثم شموا الرائحة .. وقد جرى في الزقاق -بعد موت مكتنزة الشفاه-، أن شيّعها الناس بعد العصر ووضعوا على قبرها الشوك .. وزعت النساء علينا خبزا حارا بالفلفل، ثم اجتمع الأطفال بدوني، يتدارسون أمورا حسبتها خطيرة .. تدافعوا نحو بيتها، وكنت في أعقابهم .. دخلتُ فخرجوا و أغلقوا الباب دوني .. ها إني أصبحت وحيدا مع كل أشيائها, مع صورتها التي لا تُفارِق وأقول ستظهر الآن لتقترب ببطء وتطوقني بلحمها البارد .. آه أيتها الأحصنة المالحة في حلقي، يا هذا الجفاف في مياه الروح، وهذا العرق المتفصد، وهذه العزلة الفائضة .. أتخيل موتي، أتخيل الكلاب في المقبرة تنبح: هوهوهو، والذئاب تعوي: عوعوعو، والموتى يتذمرون بأصوات لا أجيدها: حمممم حممم حمم .. وأنا أحلم بالأصوات ذاتها، شهرين متتاليين وأنا أحلم، والمرأة مكتنزة الشفاه تطير خفيفة حول فراشي، لا تفعل بي شيئا، لكنها تسلخ وجهها ثم تعيده، تنصحني بأكل النبق و تسألني عن بعض القلائد التي سرق الأطفال وتقول: طَمْئِنْ أهلي, أنا هنا مرتاحة .. ولقد مر بعدها بالزقاق رجل لم يغطوا وجهه، وكنت بالسطح، فبانت عيناه البيضاوان .. ظل البياض يغزوني ويحرك في شهوة البكاء .. أراهن الآن أني كئيب للسبب ذاته، كوني تطلعت وأمعنتُ وكدت أسقط لو لم تمسكتني يد .. يدُ من يا ترى؟ يدُ من؟ .. تراب المزارات لم ينفعني، وأمي مَلّت، لذلك تركَتْني حتى كبرت ُوشختُ، وعاد البياض قريبا مني، لكنه مُرعب على الدوام، ثم حانت ساعتي، فجاءت المرأة التي كانت تتأهب، كما يحدث في الأفلام على الدوام، حين يغادر الجسد ذاته ولا يذهب بعيدا لأن كل شيء يخترق صلابته، وجاء الرجل الذي كان يُصلح لنا الكهرباء، يمسك الأسلاك ولا يتأذى، ويسأله أبي فيقول: -الكهرباء صديقي .. ويقهقه .. جاءت المرأة فَقَدّتْ مني شبحا ومضت .. الشبح مني الآن وأنا منه .. لكنه لا يفهمني .. يظل طوال اليوم يفرضُ رغائب قارسة .. يتجول في الزقاق وأنا لم أتكيف مع ليله بعد، يلاعب الكائنات التي ماتت، وأنا أخشاها .. ثم آلف .. الوجود فكرة مبهمة، والزمن يوضح كل شيء .. أرى في الزمان ذاته، والأمكنة الغامضة اللزجة، الفتاة الصغيرة وقد كبرت .. ما عادَتْ تأبه الآن لمقالب أحد .. تسير مرفوعة الرأس بجناحين يغطيان القليل، ولا يكشفان طراوة الجسد و الدنيا .. وأظل رفقة الشبح طوال الوقت، بنفس الزقاق، ثم نبدأ في اختصار المسافة، رفيقين هذه المرة، فقد تعودنا على بعضنا .. نسير متفقدين الأحوال كدورية الشرطة، دون سلاح أو حزام, تبدو الأمور عادية.. يتوافد المزيد من الأشباح, لكن لا يظهر أبي في نهاية الزقاق ليغلق الباب دوني .. وأجاهد كي أرسم صورته القديمة، لكنها تتسامى .. ويتراكم الغبار حول الشجيرة الصغيرة، ولا يعود الشبح يشبهني فجأة، لأنه ملَّ السير والزمن لايتوقف .. ثم أرجع قليلا إلى الوراء، إلى الشباب لأتوازن و أصنع ما فاتني .. أُصبحُ أبًا، لكن ابني لا ينتظر كي أغلق الباب دونه .. هو يغلق الباب دوني ويسخر.. وأحاول جاهدا الابتسام في وجهه .. وأعرف أن الحياة بالضبط هي زقاق الموتى .. الحياة التي يَنْزَرِعُ الموت في كل مكان فيها .. الحياة التي تَنْزع أضراس الناس بكُلّابِها .. ثم أعود إلى الطفولة هذه المرة، في زقاق الموتى كي أهنأ قليلا .. لا يهنأ جسدي لأن الزقاق دوما كالسابق .. وأسير في الزقاق وحيدا، كما الماضي، أخاف فأركض لأغادره .. أظل أركض .. هناك من يتعقبني .. وقبل أن أنحرف إلى حيث منزلنا، حيث الخلاص، تصطدم رجلاي بشيء ثقيل فأتدحرج. : http://www.l44l.com/upfiles8/5Z767029.bmp * عبدالعزيز الراشدي / زقاق الموتى من كتابهِ اللوحة "وجعُ الرمال" |
الساعة الآن 09:47 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.