منتديات أبعاد أدبية

منتديات أبعاد أدبية (http://www.ab33ad.com/vb/index.php)
-   أبعاد العام (http://www.ab33ad.com/vb/forumdisplay.php?f=9)
-   -   يوم تركت الصلاة / لــــ...نجيب الزامل (http://www.ab33ad.com/vb/showthread.php?t=10342)

بعد الليل 03-25-2008 11:12 AM

يوم تركت الصلاة / لــــ...نجيب الزامل
 
"السرّ في الصلاة أنها لا تغير العالم. الصلاة تغيرنا نحن.. ونحن نغير العالم."
.. كنتُ شابا صغيرا، وكانت التياراتُ تلاحقنا في كل مكان، في كل كتاب، في كل نقاش، كانت أيام الثانوية أصعب أيام، وهي أيام الشك والحيرة، والضياع والزوغان بين مدارس الفكر الوضعي، وأخذتني المدارس واستلهمت كبار مفكري العالم، فانقطعت مدة طويلة متبتلا بالفكر الألماني، ومع أني أقرأ من صغري بالإنجليزية، إلا أن تراجم الإنجليز لجوته، وتشيلر، وكانت، ونيتشه، وريلكه، أخذت بلبي، ثم تعرفت على شبنهاور فصقل فكر نيتشه في رأسي عن عنفوان القوة، وعدل البأس والجبروت، وكأنه دين يُبَشـّر به، أخذني نيتشه إلى مسوغاته، ومبرراته الصعبة التي كانت بمشقة تسلق جبال بافاريا، وكانت القمة هي ما أسماه مصطلحا "بالإرادة العلـّية"، ثم قذفني إلى شواطئ برتراند الرسل المتصوف المادي الرياضي، وهـُمْتُ بعد ذاك بمدارس الفابية مع برناردشو في شقـِّهِ الجاد، وتبتلتُ مع إنجلز.. وأخذ الفكرُ يجرفني تماما وبعيدا عن الروح المتصلة بالسماء، حيث اليقين كل شيء، حيث الإيمان هو الشمس التي تسطع من بعيد، ولكنها أقرب لك من أي عنصر في الكون، لأنها طاقة الوجود، فضعت كثيرا، وتجبرت بما سفحت من معلومات وكتب وظننت أني في تلك السن الباكرة قد جمعتُ سحرَ العلوم، وكأني خيميائي المعرفة.. ولم أعد أقرأ الكتبَ التي كنت أتوسدها في السابق حتى يغالبني النوم من أمهات الثقافة الدينية في التفسير والفقه الحديث، والأدب العربي.. ونفضتُ عني ما حسبت وقتها أنه عالمٌ عتيقٌ مليءٌ بغبار الغابر من التاريخ المعتم، إلى معارف تُشرق فيها أنوارُ العقل الإنساني متوهجا سواء في التاريخ أو المعاصر. .. ثم تركتُ الصلاة.
وكان مدرسي, يرحمه الله, في اللغة العربية رجل من غزة متدين، وقويم الفكر، ويؤثرني لميلي إلى الاطلاع، ولظهوري في اللغة، ثم توطدتْ بيننا صداقةٌ غير صفيّة، حتى انتزعتني أفكار الوجودية، والتي كانت أول مزالقي نحو كل الفلسفات، وصار يقف ضد هذا التوجه ويحذرني كثيرا، ويقول لي لستَ في سنٍّ تحكم فيها على العالم، ولا على معارف أمتك ولا أمم الآخرين.. ارجع إلى منبعك وانهل منه، وتقو، ثم رِدْ من كل منهل، وستجد أنك ستتذوقه وتعرف مكوناته، ولكن لن تدخله جوفك لأن ذائقتك المعرفية المتينة من بنيان تشربك المعرفي لدينك وثقافتك ستمنعك من ذاك.. ولكني تماديت، وشعرت أنّ موجة مشرقة أخذتني منه بعيدا تاركا له كل بحار الظلام..
وأنا في طريقي المادي الجديد، بدأت في سن السابعة عشرة أكتب لمجلة "الجمهور" اللبنانية، وكانوا يحسبوني شخصا كبيرا في بلادي ويخاطبوني كما يخاطبون الكبار، وتـُرسل لي تحويلات النقد، ثم صرتُ أكتب في مجلةٍ إنجليزيةٍ تصدر من البحرين، ودار اسمي تحت اسم المفكر المتحرر.
وكانت كتاباتي تنضح عما في داخلي من معلومات وكتبٍ سفحتها سنوات لا أرفع رأسي من متن كتابٍ إلا إلى آخر، فأغوتني علوم الفلك والإنسان، والحفريات التاريخية، والطب، والجغرافيا.. وكنت أقرأ لعلماء أتأكد من كونهم غير روحانيين.. حتى لا يشوشوا علي بأفكار لا تثبت بالاستدلال المادي.. وانفتحت أمامي المجلاتُ والصحف، وصرت أكتب وأنا في الثانوية بغزارةٍ لمجلات وجرائد في لبنان, الكويت، إيران، البحرين، وأمريكا.. وانفتنتُ بنفسي.. وأرى أستاذي، وأكاد أطل عليه بمكابرةٍ من علٍ.
" لماذا لم تعد تصلي ؟ " سألني أستاذي بحدة عميقة، فأجبته : " وهل تغير الصلاةُ العالم؟ " فأجابني إجابة طيرت عقلي، وخلخلت أركانَ نفسي التي ظننت أنها مكينة.. "نعم الصلاة لا تغير العالم، ولكنها تغيرنا فنغير نحن العالم".. ولكني صارعت أثر الجملة المريعة.. ومضيت في غيِّي.
مرت سنوات، عدت للمنزل.. وكان بيتنا لا مهادنة فيه بالنسبة للصلاة وفي المسجد، كان أبي يجعل من خروجه للمسجد طقسا ضوئيا، ووالدتي توقظنا للصلاة قبل أن يصدح الأذان.. جرْجرتُ نفسي وعدتُ للصلاة، ولكن مكابرتي كانت في الداخل. ..
.. ويوماً مرضتُ.. وقال لي الطبيب : " آسف يا نجيب، ستموت لا محالة بعد تسعة أشهر "..
كنت في مدينة تاكوما الساحلية بأمريكا، ورحتُ وحيدا إلى تلة خضراء، ورأيت المحيط الجبّارَ شاسعا أمامي.. ولا شيء إلا أنا والسماء والماء.. والموت، والحياة. وسألت نفسي هل أغيرُ شيئا؟". ورحت متأملا، والدموع تنفر فتغطي شساعة المحيط بسرابيةٍ مهيبةٍ مبهمة.. وفجأة، قفزت تلك العبارة إلى رأسي: " الصلاة تغيرنا، ونحن نغير العالم".. وبسرعة ذهبت إلى حيث أقيم وأبرقت لأستاذي تلك الجملة بلا مقدمات ولا خواتيم.. وردّ علي. " لقد استردك الله.. عش مطمئنا."
أعظم صلاة أخذت بمجامعي كانت على ساحل الأطلسي في تاكوما الأمريكية.. وعرفت أن الله حق.. وعرفت ما معنى الحق.. وأن معناه النهائي في السماء لا في الأرض..
ولم أمُتْ.. حتى الآن.


للــــ...كاتب: نجيب الزامل




موضوع يستحق القراءة
فدائما البحث عن الأفضل يجعلنا نصل إليه ... ولو بعد حين

أرجو أن تجدوا فيه المتعة التي وجدت
http://cloudskies.jeeran.com/Big%20Rose.gif

د. منال عبدالرحمن 03-25-2008 11:30 AM

بعد الليل ..

هُنا قرأتُ انساناً وجدَ نفسهُ في زمنِ الفقدان ..

نحنُ فعلاً نتوهُ منّا و تأخذنا بهارجُ الحياة و ننسى في الكثيرِ من الأحيان , بعضاً من نورٍ يلتصقُ بفطرتنا ..

الجميل دوماً أن نستطيع العودة , و ثقتنا بانّ الله سبحانه وتعالى , باب رحمته واسعٌ , فهو الرحمنُ ذو المغفرة .

شكراً لكِ على هذا الصّباح .

أصايل شماليه 03-25-2008 03:18 PM

سبحان الله

انك لا تهدي من أحببت ,, ولكن الله يهدي من يشاء


بعد الليل

كـَ عادتكِ مميزة

ودي

بعد الليل 03-25-2008 04:03 PM

منال عبدالرحمن
 
مساؤكِ الورد أيتها الواعية

أتعرفين ما هو الأجمل
أن تجدي من يتحاور بوعي مع الضياع حين ضياع
وأن تجدي المؤانئ التي ترسوا بها سفنك حين رياح
وأن تتعلمي من الدروس التي مرت بك أو مررتي بها .. ولو بعد حين
وأن كل الوجوه جميلة وكل الأفكار صحيحة ويفضحها التحاور والوعي وقبول الاختلاف.

هكذا قرأتُ مقالته .. ليصل حيثُ وصل بـــ...سلام

ودي وتحياتي

بعد الليل 03-25-2008 04:05 PM

أصايل شماليه
 
وإذا كنا مسملمين بالفطرة
ألا نحتاج أن نُدرك اهميته من زوايا أخرى غير زاويتنا
ومن مداراتٍ أبعد عن مداراتنا
؟!

هَكذا وصل هو لنفس نفطة البداية
ولكن بـــ...ثباتٍ أكبر


أيتها العذبة
ودي وتحياتي لـــ..حضوركِ

أسمى 03-31-2008 04:05 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة بعد الليل (المشاركة 260004)
أعظم صلاة أخذت بمجامعي كانت على ساحل الأطلسي في تاكوما الأمريكية.. وعرفت أن الله حق.. وعرفت ما معنى الحق.. وأن معناه النهائي في السماء لا في الأرض..
ولم أمُتْ.. حتى الآن.


للــــ...كاتب: نجيب الزامل


http://cloudskies.jeeran.com/Big%20Rose.gif[/LEFT]

:
لا روعة تضاهي العودة.
الإحساس بالأمن..الإطمئنان..وسكون القلب.
وذلك هو..حين الاستظلال بظله وادراك فضله..حين يعود كل شئ الى مكانه الأنسب له.
النفس الإنسانية..
صنعة الله سبحانه..وهل هناك من يعرف لكيفيتها إلا هو..سبحانه.

ريم علي 03-31-2008 05:25 AM

بعد الليل
شكرا لهذا النقل
مقاله كبيرة جدا لكاتب اعتبره اهم الكتاب العرب
واكثرهم تأثيرا على فئة الشباب تحديدا.
انه نجيب الزامل ...القلم الحي والصادق والممتلىء بالثقافه والوعي والاطلاع والانسانيه.
انا من اشد متابعاته

شكرا لك

رضا التومي 08-24-2008 03:39 AM

..

قرأت هذه القصة اليوم في أحد المواقع بعد أن حدثني أحد الأصدقاء عنها .

سبحان الله !

لم أستطع إلا : الانبهار والصمت !

والدعاء لنجيب الزامل .. الشجاع .

..

جزاك ِ الله خيرًا أيتها الأخت الكريمة .


الساعة الآن 12:11 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.