منتديات أبعاد أدبية

منتديات أبعاد أدبية (https://www.ab33ad.com/vb/index.php)
-   أبعاد النثر الأدبي (https://www.ab33ad.com/vb/forumdisplay.php?f=5)
-   -   قِصصٌ تُروى . (https://www.ab33ad.com/vb/showthread.php?t=16280)

عبدالعزيز رشيد 02-19-2009 01:49 AM

قِصصٌ تُروى .
 
هنا نختار القصص من عمق الذاكرة\الذائقة
... مع بعض الآراء إن أحببنا ذكرها

عبدالعزيز رشيد 02-19-2009 01:50 AM

محمّد عطيف
 
(الأمنية)


شعرت بأنني سأموت !
عمري ثلاثة وعشرون عاماً ، لم أكن مصدقة أبدا !
خصلات شعري تتجاوز نصف طولي ، وبشرتي كالأطفال ، وروحي كالمستحيل.
الدوار الذي شعرت به وسقطت بعده كان على فترات متباعدة يعودني ، ولكن لم يلحظ أحد . كانت في كل مرة دقائق معدودة أعود بعدها أنثى جامحة بكل مفاتن الحياة ووهجها الخلاب .

في تلك الليلة .. لم أستطع منع الهاجس أكثر !، كنت أشعر أن الحياة تُسحب مني رويداُ رويدا .. سخرت من نفسي وأنا أفكر في الحديث له عن ذلك فليس ثمة ما يمكن وصفه ..

أخذت مصحفي وبقيت أقرأ في طمأنينة لم أشعر بها قبلاً ، أو هكذا بدا الأمر ، الهدوء الذي غمرني حينها جعلني استرق بضع نظرات نحو ثلاث سنوات هي عمر طفلي المبتسم لدميته وهو يحضنها نائماً .
فكرت أن أصلي بحثاً عن طمأنينة أكثر، لكن نفس الهاجس داهمني من جديد وهذه المرة بدأت أشعر أنني أفقد الإحساس تدريجياً بحركة أطرافي ..
ازددت التصاقاً بمصحفي وإن لم أعد قادرة على التلاوة فقد امتلأت عيناي بدموع غزيرة ، وجبيني يتصبب عرقاً ! ، للحظات تمنيت أن أصل لحضن أمي ، تمنيت لو مت أن أموت في حضنها ، .. لكم أشعر بفقدانها ! ، يبدو أنني سأموت فعلاً ؟ لماذا أنا خائفة لهذه الدرجة !الموت حق ! وهو لم يعقد اتفاقاً مع أحد! ، بكيت في فزع غريب ، وجاهدت للسيطرة على نفسي . وعندما نجحت قليلاً في ذلك جاءت الطمأنينة ! طمأنينة من ذلك النوع المؤقت ، استغليتها بالمسارعة إلى سجادتي وبدأت أصلي .. حينها بدأت السير في فناء أبيض من كل الجوانب ، ليس له سماء ولا أرض ولا جوانب ولا جهات ! .. قابلت طفلة تشبه صوري التي التقطت لي قبل سبعة عشر عاماً .. ابتسمت لي وأنا أعبرها ونظراتي تتعلق بوجوه كثيرة بعضها ضاحك وأخرى باسمة ، كانت أمي الحزينة الوحيدة من بينهم ، فيما كان فؤادي الصغير يجر دميته الشقية المتمردة خلفه ، وعندما اعترضت طريقهما مرا من خلالي ..! تنبهت إلى أنني لم أعد قادرة حتى على التحية . انشطر السقف نصفين ورأيتني ارتفع تدريجياً باسمة . رأيته يتأمل صلاتي في سكون المحب . اعتادني كذلك . تمنيت أن يقترب لحظتها . في ارتفاعي سقط المصحف من بين أصابعي ورأيته يشع نوراً على السجادة ، حركت أصابعي فلم تستجب ، سجدت في داخلي وأغمضت عيني وأنا أمد روحي باتجاههما ، كانا يقتربان في ضحكهما ، يداعبه كالعادة ثم يتسابقان نحوي . الثلاث سنوات هي التي تصل أولاً ، أحتضنه كما لم أحضنه من قبل ، وأمد يدي الأخرى مطوقة أباه .

رأيت ضياء أبيضاً نورانياً يغشى كل شيء ويقترب مني . استدار وارتفع كأنه يريد أن ارتديه . كانت معه نسمات كنسائم مابعد مطر الصبـاح ، كم هي الحياة حلوة !، . . شعرت به يطرد الرعب من قلبي ، وسمعت أيضا كصوت الباب يقفل . لم ألحظ أنني كلما توغلت في ارتدائه كان الحبيبان يغيبان أكثر فأكثر . اختفيا تماما عندما أكملت ذلك وأنا أدعو ربي أن أعود مراراً لرؤيتهما ، كنت أشعر أنه سيعوضني لأنني مت وأنا مازلت برعما نديا ، هي الأمنية التي خطرت لي حينها .. ما من آلام فقد اختفت !

طوال الليالي التي عدت فيها لرؤيتهما كانا يبدوان حزينين أو فرحين إلى حد ما . لم يشعرا بي أبداً!! ، لكنني في آخر المرات وجدتهما يتأملان صوري و .. يبكيان ! وثمة أخرى كانت تقف صامتة وهي تعيد ترتيب أولويات الحضور !
بكيت كما لم أبك من قبل و تجرعت حينها كل الآلام من جديد ، وسألت ربي ألا أعود من الموت مرة أخرى .

عبدالعزيز رشيد 02-19-2009 02:05 AM

د . كوثر القاضي
 
(إغفاءة)




أمسكت بعصاي السحرية ووجهتها إلى كومة الكتب المكدسة على مكتبي منذ شهور .. وأزلت الغبار عن سطحها .. وحاولت أن أتهجى بعض عناوينها فاستعصت علي .. نزلت بعيني إلى

أرض المكتب .. فرأيت صرصورا صغيرا يحاول تسلق ساقي العارية .. هززت ساقي بقوة

فطار والتصق بالجدار .. أمسكت بقلمي وكتبت بعض أرقام كانت تلح على مخيلتي .. وحاولت ن أتذكر أصحابها فلم أستطع .. نظرت إلى ساعة الحائط فوجدتها تشير إلى الواحدة بعد منتصف

الليل .. اتجهت عيناي مرة أخرى إلى كومة الكتب .. فوجدتها تتطاير أمامي .. فركت عيني أحاول أن أستجمع بعض خوفي وكثيرا من جنوني .. كانت الكتب تتسابق للاصطدام بوجهي

تساقطت عناوينها عند قدمي .. وكونت كومة استمرت في الارتفاع حتى بلغت ركبتي ..

حاولت القيام فلم أستطع .. عدت إلى الجلوس على كرسي مرغمة .. ألقيت برأسي إلى الوراء ..فاصطدم بالباب الزجاجي لخزانة المكتب .. شعرت بخدر لذيذ .. أغمضت عيني

واستسلمت للنعاس .. رأيت نفسي أركض على أرض دخانية تحيط بها الغيوم من جهاتها الأربع .. نظرت إلى الأسفل .. فلم أعثر على قدمي .. كانت ركبتاي معلقة في الغيوم ..

أحسست بألم في مؤخرة رأسي .. وضعت يدي على موضع الألم .. ثم نظرت إليها ..

فوجدت لونا أحمر قانيا يغطي أطراف أصابعي .. ابتسمت لغبائي .. لم أكن في يوم من الأيام أكثر انتباها ويقظة مما أنا عليه اليوم .. عدت برأسي إلى الأمام .. فلم أجد الكتب

التي كانت تغطي ساقي .. نظرت إلى سطح المكتب فوجدتها مرتبة حسب الحروف الهجائية

قرأتها عنوانا عنوانا .. وتذكرت مؤلفيها كاتبا كاتبا .. نظرت إلى الورقة التي كتبت عليها أرقاما كانت لأناس كنت أعرفهم في يوم من الأيام .. فوجدت أمام كل رقم اسم صاحبه ..

أمسكت بعصاي السحرية مرة أخرى .. ولمست بها أطراف قدمي .. فدبت فيهما الحركة

من جديد ..توجهت إلى باب المكتب .. وقبل أن أخطو خطوة واحدة نظرت إلى كرسي الذي كنت أجلس عليه .. فوجدتني ملقية برأسي إلى الوراء ومغمضة عيني ويرتسم على وجهي

ظل ابتسامة شاحبة كما هي حالي عندما ينتابني التعب من الاستذكار .. ابتسمت مطمئنة ..

وخرجت وأغلقت الباب ورائي بهدوء ..


عائشه المعمري 02-19-2009 02:37 AM


عبدالعزيز
أيها المثمر على أرض أبعاد
لا تأتي إلا بـ سُقيا رَحمة

/
،
هذا الموضوع وسيلة لـ التعرف على أسماء لامعه ف كِتابة القصة القصيرة
ووسلية أيضاً إلى الولوج في ذائقة العابرين من هُنا
وبلاشَك ، هُنا سَيكون مُتسع لـ المُتعة السردية التي تَمنحها القصة لـ قارئها .

عبدالعزيز رشيد 02-19-2009 09:11 PM

عائشة المعمري
وجودك زاد المكان بهجة وأضاء ألوانه ليمنحه رونقه ,وهنا فرصة لنعرف مافي جعبتنا من قصص لهم
ممتنٌّ كثيرا لكلماتك
تحيّتي ,

عبدالعزيز رشيد 02-19-2009 09:14 PM

مصطفى ذكري
 
(تجربة)



فَقَدَ الهروب الدائم من المدرسة الإعدادية مذاقه، وكأيّ شيء ممنوع يقع تحت طائل الإفراط، يضبطه التكرار بنغمة الرتابة والملل، وتدهسه العادة صانعةً من طريقه الوعر طريقاً معبداً مثل الذي هربتُ منه. كنتُ أقضي الليلة السابقة عليه مُمنياً نفسي بمتعٍ لا نهاية لها. سبع ساعات من التسكع والتدخين ومعاكسة بنات مدرسة المعلمين والجلوس في المقاهي والذهاب إلى السينما والمكتبة العامة. لم يعد الهروب يتم بيننا باتفاق. يذهب كل واحد إلى أحد الأماكن المعتادة، وبطريق الصدفة يدور حديث عابر عن إنجازات الساعات السابقة، وآمال الساعات اللاحقة. كنتُ من النوع الذي يفضِّل مكاناً أو مكانين على الأكثر، لكنني جرَّبتُ في البداية شهوة التنقُّل في الأماكن جميعاً، ثم بدت لي سريعاً شهوةً تافهةً تحتاج إلى سرعة بديهة لا أملكها، لكنني لا أحقدُ على عدم ملكيَّتي لها. كنتُ أحتاج دوماً إلى الرسوخ والثبات وانْفلات الساعات من حولي دون إحساس، والتشبُّع اللانهائي بهذا الانْفلات الزمني. ذهبتُ اليوم لإهدار الساعات السبع في الحديقة اليابانية. كان قرار إهدار وإحراق الوقت استراتيجية كل صباح، تلك الاستراتيجية التي كانت عيناي تطرف من عذوبة إمكان تحقيقها على الوجه الأكمل.
وكان الفشل يأتي عادة قبل ساعة أو ساعتين من زمنها الكليّ، ويأتي معه الألم من الإحساس العميق بالزمن وقيده. تظل الحديقة من السابعة حتى العاشرة مُحتفظةً بوحْشَةٍ هادئة مُنعزلة.
هناك ثلاث ساعات قبل أن يظهر أحد الأصدقاء. جلستُ أمام البحيرة المؤطرة بتماثيل بوذا المُتربعة الساكنة. وجوهها باسمة، وجذوعها راسخة. كان الصمتُ شديداً حين انعكس وجهها أمامي على صفحة الماء الراكد، وجه غريب مُهان. التفتُ إليها وأنا أكبتُ قشعريرة خوف من ظهورها المُفاجئ. كانت تقفُ فوق رأسي. ابتسمتْ لعنف لفتتي، فخرجتْ منها الابتسامة بائسة حزينة. تبدو دون الخمسين بقليل. بشرتها مُلوَّحة بشمس قوية. بسرعة ودون تمهيد- وكأنها لا تملك أمرها- مالتْ على أذني وسألتني إن كنت أريد أم لا؟ أبعدتُ رأسي عن فمها وأنا أحاول أن أبدو أقل انزعاجاً، أن أبدو مُتماسكاً بسنواتي الخامسة عشرة. مَن؟ أنتِ؟ نعم. خرجتْ منها كلمة الإيجاب مدعومة بهزة تأكيد حادة من رأسها ووضع يدها على صدرها. تأثَّرتُ بقولها ودعمها المُتزامن، وأحسستُ بشفقةٍ جارفة تتجاوَزَها بعماءٍ مُسْكِر، وتتطلع لكائنات من مثل نوعها. لا. ومع هذا خرج مني الرفضُ مُتعالياً، وارتسم على وجهي نفور ساخر. اعتذرتْ وهي تسحب الرفضَ لتُضاعِف به وجودها. قلتُ في نفسي: ربما القبول لا يدعم وجودها. كانت ابتسامات تماثيل بوذا على وجه البحيرة.

عائشه المعمري 02-19-2009 09:39 PM

محمد سيف الرحبي
 
(صدر الريح)

دفنت رأسها في صدره ، احتضنت قفصه الصدري بقوة ، قالت : صدرك مملكتي ، لكنه حكم شجرة الدر ، غدا سيغادرني ، وأبقى وحيدة كأنني الليل .. ابتسم الرجل داخله : " أنت تلميذة في مدرسة الحب .. دعيني أعطيك دروسا أكثر " .. أغمضت عينيها ، وغابت في حلم العناق ، وحين أفاقت سألته عن مدى صلاحية الحب في صدره .. أجابها: " سيحميك من الريح".

في الصباح ،وبينما كل شيء يتلون بالذهب .. تناولت حقيبتها المدرسية ، وضمتها إلى صدرها بقوة .. كالرجل الآخر تماما : " أحب أيها النهار ، ذكرى حبيبي معي ، ولون كلماته تحفظه رموشي " ..

تناولت القلم وكتبت قصائد شوق ملونة ، رسمت صدرا يمنع موج الريح ، وامتطت غيمة بيضاء إلى حلم بعيد كشفافية الروح ، كالملكة المتوجة ، داعب خصلات شعرها بأصابع جميلة كساها عطر الحناء جمالا لا يضاهى.


الليلة الأخرى تتكدس في حقول الزمان والمكان ،والأمكنة تتحول إلى ضفاف شواطئها جزرا من الأقمار لا تنتهي ، وأمل تخضب كفيها من رائحة الانتظار أسفارا من صدر رجل العشق ، ولا تنتهي إلا في مواسم جفاف العاطفة .

جبينك سجادة بوح وغرام.

… وهي صامته تعبث بالحلم يفجره نهار الغد.

" أحب وجهك غائما وحزينا"

… يخفق رمشاها بدمعة حانية تستجدي آخر الحلم.

صدري بوابات مفتوحة اذ يضيق بك الرعب من الحياة.

… من وراء زجاج الدموع تتكسر نظراتها إلى صدره .. انه البوابة الوحيدة والبعيدة.

لماذا الصمت يا حبيبتي ، وبيننا بحور العشق تنتظر منا الإبحار ؟!!

… تلتقي نظرات الخوف ، ونظرة الرغبة ، عيناها تغسلان صمت اللسان وضجيج الجسد.

ما آخر الحلم؟!

حلم آخر.

وأين يقظة الواقع ؟!

واقعنا جميل ، بحر لا نهاية له ، لماذا نغتاله بحسابات الغد؟! ويومنا مدفون في وحشة الجفاف ، والأيام معركة الخاسر؟!!



الطريق إلى الجامعة تكسوه خفقات مطر البارحة ، أمل تصارع خطوات الأمس القريب ، ومن خلال السحب ترنو إلى قمر الليالي التي سهرتها تحلم بالحصان الأبيض .. الطريق يتلوى تحت عجلات الباص . والجامعة تبدو كأنها آخر العالم..

"السنوات تعبر جبينك يا أمل أسرع من عمرك" .. يا صديقتي من يأمن العاصفة ؟! .. " كانت نجمة تسكن القلب" .. وفي مرماها تتباعد السنون .. " اختاري قدرا ودعي النزيف يستمر ، قد يتوقف يوما ، قد تولد الحياة من رحم الموت " .

.. يا صديقتي ، الريح تهب بقوة على صدري ، والحمل يتلاشى ، وأنا …



هي .. والسكون .. وروزنامة هيبة الليل تتأرجح تحت ثقل العواصف .. أمل تختزل مساحات الظلمة ، وتجر أنفاسها إلى المدن البعيدة ، في الغرفة شمعة وكتاب جامعي أوراقه تسبح في فاء آخر .. الريح تعبث بلسان الشمعة ، وأوراق الكتاب .. تمتد يد مرهقة إلى الهاتف .. الستارة تخفق مع هياج الطقس..

الشمعة تكاد الريح تقتلها .

لكنه الليل يا حبيب العمر!!

الريح تأكلني ، فأين صدرك أقهر به محطمة الجبال ؟

الليل يزداد سوادا ، والريح تمزق الستارة ، والشمعة الوحيدة تأكلها الحلكة ، وقف الليل يدثر وجها كأنه بقايا أسطورة قديمة ، وسماعة هاتف تسقط ، وشيء يتهاوى كأنه آخر ما تبقى من أمل.

عبدالعزيز رشيد 02-21-2009 01:08 PM

طارق الجارد
 
(انشطار على مربعات متناقضة )




أظن أنني قضيت وقتا طويلا هنا. يبدو ذلك من حثالة البن المترسبة في فنجان القهوة التركية. من فتات الشوكولاتة المنثور على مفرش الطاولة ,كآثار طبق (تراميسو) لم يعد موجودا. أضع مرفقاي على الطاولة, أفتح يداي كما كتاب, فأسند رأسي على راحتيهما. و أتأمل بيادق رصّت على رقعة شطرنج. لا أذكر أني جلبت رقعة الشطرنج معي. و لا أعلم لم جلبتها أصلا, رغم أني أجلس وحيدا في المقهى.

اقترب مني أحدهم, فطلب أن يلاعبني. أذنت له. و لأنه وحيد مثلي في المقهى, لم أشعر أنني بحاجة لأية أسئلة عن هويته, كي ألاعبه.
ترك لي شرف النقلة الأولى. و بعد تأمّل, حرّكت البيدق خطوتين إلى الأمام.

- يبدو أنك تخفي شيئا- قالها خصمي و هو يقدم البيادق ليفتح الطريق للفيلة- لقد استغرقت نقلتك و قتا غير مبرر من التأمل, و عندما رفعت البيدق فوق مربعات الرقعة, كانت يدك ترتجف..أنت كالمتردد, تخفي شيئا.

قفزت بالحصان فوق بيادقي:
- حسنا, أنا أخفي أسلوبي في اللعبة.

ضحك خصمي:
- تعلم جيدا أني أقصد أبعد من هذا. الشطرنج ليست مجرد مبارزة بين عقلين, إنها –أيضا- حوار بين عقلين. و أنت لم تلاعبني لكي تغلبني و حسب, بل لكي تحادثني. لكنك تخشى مداخل الحوار, كما تخشى النقلة الأولى.

قدّمت بيدقا آخر, كنت بحاجة إلى تحريك الوزير, فلقد بدأت فيلته تهدّدني:
- أعطني سببا واحدا يدفعني لمحادثتك بأشيائي الخاصة؟

- أنا عابر, لا أستطيع فضح سرّك. أنا غريب, لم تقدّمني إلى محيطك. إن أخبرتني بأمرك, فلن أجد من يعنيه أمرك, حتى أكشفك أمامه.
قالها و هو ينطح بفيله أحد البيادق, فيطرده خارج الرقعة.

تقدمت بقلعتي, كانت حركة عبثية. تسمح لبيادقه بالاقتراب من حدودي:
- حسنا , سأخبرك. الصحة ليست بحال جيدة. أذكر أني غادرت المستشفى (التخصصي) في العصر, بعد فحوصات لم تظهر أي تحسّن في الحالة. و لكني من الذهول, لم أعلم كيف انتهى بي الأمر هنا, ألاعبك مباراة شطرنج, في هذه الساعة المتأخرة من الليل.

حرّك وزيره بشكل قطري, فحاصر حصاني:
- لم لا تسمّي الأشياء بأسمائها؟!..(الصحة ليست بحال جيدة)...فلتقل أنك مريض.

- حسنا, أنا مريض.
قلتها, و تركته يغتال حصاني بالوزير. لكني أطبقت على قلعته بالفيل.

- و ما الذي تخافه في المرض؟...أهو الألم؟!

عندها دفعت بالوزير إلى الأمام مهددا الملك..كانت نقلة انتحارية, و لكني أردت أن أقول له:
- كش ملك!... ماذا تريد مني؟! ألا يكفي أني أخبرتك أني مريض؟!

- على رسلك..أخبرني ولا تخف. فأنا عابر, لا أستطيع فضح سرّك. أنا غريبٌ, لم تقدّمه إلى محيطك.

كان بإمكانه أن يغتال وزيري, إلا أنه اكتفى بإبعاد الملك.
حينها, قتلت أحد بيادقه بالوزير, حفظا لماء الوجه, و استعادةً لإيقاع اللعبة الذي كان هادئا:
- سأجاريك...أنا لا أشعر بالألم الآن, فكيف أخشاه؟..أقصد أنني و إن كان يتنظرني الألم مع تطوّر المرض, فإني لن أستوعبه حتى أتذوقه؟ و لن يخفيني كثيرا ما أسمعه من المرضى حولي. أليس الألم تجربة ذاتية؟

قفز بحصانه إلى الأمام, و هو يقول:
- ألا تخشى جحيم جهنم؟!
- طبعا!
- كيف تخشاها و أنت لم تجرّبها؟!
- حسنا..لأنني..لأنني أحرقت إصبعي بكبريتٍ حينما كنت صغيرا !
قلتها, و أنا أشاهده يباغت بحصانه الوزير الذي عفا عنه من قبل.

أكملنا اللعبة صامتين بعضا من الوقت. ثم بادرت بنبرةٍ لا تخلو من ترددّ:
- أتصدق أني لم أخبر أهلي بعد؟ لم أخبر أصدقائي أو العمل؟ كنت حريصا على إخفاء زياراتي إلى المستشفى. و التخفيف من شأن الأعراض التي أشكوها.

لقد وصل خصمي بأحد البيادق إلى نهاية الرقعة, فحدّثني و هو يستبدله بالقلعة المطرودة:
- حسنا سأتفهّم ذلك..فليس ثمة عودة بعد إخبارهم. سيُلزمك محيطك بتقبّل الحقيقة. المرض بالنسبة لك الآن حقيقة ذاتية, يسهل عليك إنكارها, يسهل عليك القول أن زياراتك إلى المستشفى, الفحوصات التي تجريها, و الطبيب الذي تقابله, كل ذلك كابوس ستستفيق منه بأية لحظة, كابوسٌ لا يعيشه أحد سواك. أما إن أخبرت أهلك فلا ثمة عودة, سيصبح المرض حقيقة موضوعية, يذكّرك به الجميع و يسألك عنه الجميع.

اعترضت بالفيل قلعته الجديدة.. و وضعته في مربعٍ يهددّ منه القلعة و الحصان:
- لا ليس ذلك يا عزيزي...أولا, لا أريد إخبارهم لأني لا زلت في مرحلة الفحوصات, و لن أجعلهم يقلقون و لمّا أتأكد بعد. و ثانيا, أخشى أن يدفعهم القلق على صحتي عن حرماني من الحياة, حرماني من مواصلة الإنجاز. أقصد أني أخطط مع زوجتي للإنجاب, و لا أريد أن يدفعها الخوف من مرضي, أو الخوف من المستقبل على حرماني من الإنجاب. كما أنني أنتظر ترقيةً إلى مرتبة مدير قريبا, و لا أريد أن يحرمني علمهم بالمرض من ترقيتي.

و بالوزير التف خصمي على الفيل الذي كان يهدد قلعته:
- أنت لا تخشى التوقف عن الإنجاز..لا تخشى الحرمان من الحياة..أنت تخشى الموت!

نقلت القلعة بشكل أفقي حتى أحاصر بها ملكه في النقلة التالية:
-لحظة...و من أنت حتى تحدثني بالموت و الحياة؟!

- أنا العابر الذي لا يستطيع فضح سرّك. أنا الغريب الذي لم تقدّمه إلى محيطك. إن لم تصارحني بما لديك, فليس من السهل عليك أن تجد غيري لتصارحه.

- حسنا..سأصارحك.. و لكن أقنعني أولا كيف عرفت أنني أخشى الموت من كلامي.

اقترب بحصانه كي يحاصر قلعتي إن تجرأت على الملك:
- أنت تقاوم الموت بالإنجاز..أنت تبحث عن الخلود بأية طريقة.. بابنٍ يحمل اسمك, أو حتى بلقب (المدير السابق).. و لكن صدّقني,إن نقلك المرض إلى العالم الآخر, لن يبهجك أن يظل ذكرك من بعدك, فالحسابات هناك مختلفة..إنها مختلفة!

حينها قفزت بالبيدق إلى حدود رقعة الشطرنج, و استبدلت به الوزير:
- أتعلم أني أستطيع إنهاء هذه المبارة معك بأية لحظة؟ أن أغلبك و أتخلّص من حديثك المزعج في أية لحظة؟

- أنا و أنت نعجز عن إنهاء هذه المباراة. بل أنا و أنت لا نريد لهذه المباراة أن تنتهي. الزمن و الظروف هي الكفيلة بحسمها. في كل مرة أضيق على ملكك أترك لك مخرجا, و أنت فعلت المثل. أتذكر حينما اقترب الوزير من...

و ضع النادل الفاتورة مقاطعا, و قال بشيءٍ من النزق:
- متأسفين... و لكن ينبغي أن نغلق المحل.

نظرت إلى خصمي و على وجهي نصف ابتسامة:
- فلنلتقي هنا غدا.

لا أعلم لم افترض النادل أني كنت أحدّثه حتى يقول:
- المحل تحت أمرك كل يوم.

أخرجت من محفظتي خمسين ريالا فوضعتها بسرعة كي لا يدفع خصمي الفاتورة. بدأت بطي رقعة الشطرنج كي أعيدها معي. تعجبت حينما رأيت النادل يطويها معي. بل أكثر من هذا, لقد سحبها من بين يدي قائلا:
- دعها..إنها ليست مهمّتك!

صعدت عيناي بدهشة إلى وجه النادل. و عندما ارتدّت إلى ما بين يديه, كانت رقعة الشطرنج قد ذابت في مفرش الطاولة المرقّط بمربعات حمراء و بيضاء!
لم ينتظر النادل حتى أستوعب ما حدث, وبد أ بقلب الكراسي على الطاولة, و من بينها كرسي خصمي الذي لا أذكر أنه غادره. لقد غاب كطبق (التراميسو) الذي لم يعد موجودا, و لكن هذه المرة دون أثرٍ يتركه على الطاولة!

خرجت من مقهى (الركن الإيطالي) و بدأت أتلفت بحثا عن سيارتي, لقد أزاحتها زحمة شارع التحلية إلى موقفٍ بعيد. سرت إليها و رأسي مطأطأٌ إلى الأرض, أسترجع على مربعات الرصيف , حركات البيادق على رقعة شطرنج لم تعد موجودة, مثل طبق (تراميسو) بلا آثار على الطاولة, أو وجه غريبٍ قد أصبح في ذاكرتي مثل لغز فسيفسائي.
لم أتأمل وجه خصمي كلّه,و كل ما تبقى منه أحجار فسيفساء تنتظر أن تنتظم في صورة. حينما أقبل نظرت إلى عينيه فقط ,و حينما حدّثني نظرت إلى فمه فقط, مرة نظرت إلى جبهته, و مرة تأملت أنفه. و بمجرد أن جلست في مقعد السيارة, اكتملت في ذهني صورة عنه. صورة تذكرني بالوجه الذي أراه في مرآة السيارة!


الساعة الآن 03:29 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.