منتديات أبعاد أدبية

منتديات أبعاد أدبية (https://www.ab33ad.com/vb/index.php)
-   أبعاد الهدوء (https://www.ab33ad.com/vb/forumdisplay.php?f=4)
-   -   الشيء الذي ترك لسانه عندي وذهب... (https://www.ab33ad.com/vb/showthread.php?t=33490)

فقـد 04-08-2014 04:28 AM

الشيء الذي ترك لسانه عندي وذهب...
 

مرحباً


أنا فقـد
فقـد فقط، هكذا مع مدّ بين القاف والدال
فَقْـ دْ... بدون تنوين، لأن اسمي مثل كل الأسماء ممنوع من الصرف
وبدون قلقة، وبفتح الفاء لأني مثل كل الأسماء، لا يمكن أن أكون فعلاً مبنياً للمجهول، أو حتى للمعلوم
ولا يمكن أن أضاف لأل التعريف
ولست نكرة، ولا معرفة
ولست فقّود، أو فقّودة، أو حتى دودة
أنا... فقـد، فقـد فقط

ستكتشفون لاحقاً بأن فقـد ليس اسمي الحقيقي
وستكتشفون أنه بلا معنى، وربما لا يشبهني كثيراً. ولو تساءلتم عن السبب الذي دفعني لكي أسمي نفسي اسماً درامياً كفقـد
ستخيب آمالكم، لأن الإجابة على سؤالكم هذا بالذات، غبية وسطحية وبلا قيمة
تشبه الجواب الأبله الذي كتبه أخي في امتحان الجغرافيا عندما سألوه: عرف المياه الإقليمية، فكتب بكل جرأة: هي البطاطا المقلية!
وصدقوني، لا أعرف مالذي دفعه لأن يكتب جواباً فارغاً وغبياً كتلك الإجابة التي يعرف حتماً أنها خاطئة
لكنه فخور جداً بالجانب الفكاهي من إجابته، والذي دفعنا جميعاً، حتى أبي الذي لا يمزح في موضوع الدراسة، للضحك
وصارت إجابته تلك مثال نحكيه للتدليل على الغباء.

قالت أمي مرة بأنهم كانوا سيسموني "سَحَرْ"
نعم سحر، ولسبب سخيف أيضاً، فقد كانت أمي تتابع مسلسلاً أو فيلماً أو شيئاً ما تمثل فيه "سحر رامي"
وقررت أمي وقتها أن المخلوقة المجعدة مختلطة الملامح والتي اندفعت تواً من رحمها، تشبه "سحر رامي"
تقول بأن السبب الأكبر هو شعري الداكن، وعيوني البنية، وبشرتي الحنطية...
شخصياً لا أعرف "سحر رامي" كثيراً لكني أؤكد لكم بأنها لا تشبهني، ولا يمكن أن تشبهني عند ولادتي لأني كنت أشبه الفأرة!
وقتها وقف عمي، أحد أعمامي الكثيرين، وقف في وجه أمي ورفض التسمية تماماً...
أبي كان منشغلاً عن كل شيء باللعب بالمخلوقة الصغيرة التي سقطت بين أحضانه فجأة،
كان يبلغ من العمر 24 عاماً، وأعتقد بأنه تخيل شكل حياتي كلها في اللحظة التي ألقى فيها الأذان على أذني
تخيل كمية الأوامر التي سيلقيها عليّ، المدرسة التي سأدرس فيها، الملابس التي سأرتديها،
الألعاب التي سيشتريها لي، وتخيل شكله وهو أب للمرة الأولى
عندما اشترى لي أبي دراجتي الأولي، كنت في الثالثة من عمري،
وكانت دراجتي زرقاء فيها شرائط زرقاء وسلة صغيرة في الأمام وعجلتين صغيرتين في الخلف للاتزان
وقتها قالت أمي بأن أبي يعلمني على أشياء الفتيان. قال أبي بأنه يريدني حرة ومتمردة
أنا متأكدة من أنه نادم جداً على ذلك الآن!


عندما كبرت قليلاً، أقل بكثير من الآن...
أردت أن أغير اسمي إلى "سارا" اسم خفيف ولطيف وسهل في الكتابة
لكن لم يتقبل أحد الفكرة، ولا حتى صديقي الوحيد "عبدالله" والذي كان يعيش في المنزل المقابل لبيتنا
طلب مني أن أكف عن إخبار الآخرين بأن اسمي "سارا"، لأنه لا يشبهني.
كان "عبدالله" يعشق كابتن ماجد في تلك الفترة، لذلك قال بأن الاسم الوحيد الذي قد يليق بي هو "لانا"
"لانا" أيضاً سمراء وذات شعر داكن وقصير مثلي، وكانت شرسة وقوية، لذلك وافقت "عبدالله" وقررت أن أسمي نفسي "لانا"
أخبرت آمي في اجتماعنا الأسري، نعم صرنا أسرة فقد أنجبت أمي أختي نورة وأخي أحمد بعدي بأربع سنوات فقط،
أخبرتها بأن تناديني "لانا" لأنه اسمي الجديد
لكن أمي رفضت رفضاً قاطعاً،
وقالت بأن الاسم الوحيد الذي قد تناديني به غير اسمي هو: أورسولا، الساحرة الشريرة في فيلم حورية البحر الصغيرة
يومها غضبت من أمي كثيراً، وقاطعتها فترة طويلة تجاوزت الساعتين. ربما كانت أطول فترة قاطعت فيها أمي بذلك الوقت.

ثم تنقلت بين مجموعة كبيرة من الأسماء
سميت نفسي أسماء كثيرة، أكثر من أسماء الكرة الأرضية
وعندما كنت في مرحلة المراهقة صرت أحب الكذب على الصبيان، وكنت أختار اسماً جديداً كلما تعرفت على واحد منهم
وكنت أهتم بأن يكون الاسم قصيراً وجذاباً ومغرياً.
كنت أستمتع كثيراً بالكذب، وطرح القصص الخيالية، ولم أعتقد أن واحداً منهم سيكون صادقاً معي،
صادقاً للدرجة التي كسرت فيها قلبه كثيراً... ولم أهتم!
ويبدو أن لعنته لاحقتني بعدها، حيث أنني وقعت في الحب بشكل غير جدي،
كنت في وضع سيء واكتشفني رجل يجيد اللعب بالنساء، ويجيد اكتشاف النساء العابثات
فتعابثنا معاً، وكذب كلانا على الآخر. ثم تناقصت كمية الكذب،
وتضاءلت للدرجة التي صار فيها يناديني باسمي الحقيقي هكذا أمام الملأ، وأصبح عريّنا واضحاً للآخرين
حتى وصلنا إلى تلك النقطة التي يصل إليها المتعابثين بالعادة،
النقطة التي نتراجع فيها إلى الخلف، ونسقط وسط أنفسنا، ونكتشف أننا فقدنا قدرتنا على الركض
وعندما سقطت كل القيود، قررت أن أكفّ عن ابتكار الأسماء التي لا تشبهني، وأن أتعرف على نفسي الحقيقية. عليّ أنا.

وفي وسط المعمعة، هكذا وبدون سابق إنذار، شعرت بالجوع، جوع شديد، واشتهيت البيتزا
أخبرت شخصاً ما، الشخص الذي سأقع في حبه وسأتزوجه لاحقاً ولسبب سخيف جداً، أخبرته بأني آشتهي البيتزا.
ذهب هذا الشخص وأحضر لي قرص بيتزا لذيذ جداً، لكنه نسي أن يخبرهم بأني لا أحب البصل!
لذلك قام هذا الشخص بإزالة كل حبات البصل بيديه، قطعة قطعة، قبل أن يعطيها لي. ولهذا السبب وقعت في حبه.

استمر هذا الشخص في إزالة كل الأشياء التي لا أحبها من حياتي
قطعة قطعة، هكذا بيديه وعينيه وفمه، وصار بالنسبة لي بطلي الخارق، صار جزءاً لا يتجزأ من جسدي، من روحي
لوحده اكتشف اسمي الحقيقي، لوحده اكتشف الجرح العميق في ظهري والذي لم أكن أعرف بأنه مازال واضحاً للآخرين،
ولوحده اخترع لي أسماء كثيرة، أسماء مشتقة من اسمي، أسماء تخصه لوحده وتعنيه لوحده... ولا يفهمها الآخرين
وعندما كنا أمام البحر ذاك اليوم قبل سبع سنوات، ناداني باسمي الجديد، الاسم الذي مازلت أحمله لليوم،
وختم كل شيء بقبلة عميقة على شفتي السفلى

الآن أنا زوجته منذ أربع سنوات، وأحمل ابننا الأول بين أحشائي
الطفل الذي مازلنا لا نعرف اسمه مع إننا قررنا أننا سنسميه سيف، مثل اسم أبي الغاضب مني لأني تمردت عليه كثيراً
لكني أحياناً أتراجع وأفكر بأسماء أخرى مثل: تيْـم... لأني كنت أحب "تيْماء" من مسلسل "العبابيد"،
لذلك كنت أفكر بإنجاب ولد أسميه "تيـم" وفتاة أسميها "تيـماء"
ويقول زوجي بأنه لا يهتم باسم الطفل، ويهتم بأشياء أخرى
أنا متأكدة من أنه الآن يتخيل شكل حياة طفله، يتخيل كمية الأوامر التي سيلقيها عليه،
المدرسة التي سيدرس فيها، الملابس التي سيرتديها، الألعاب التي سيشتريها له،
ويتخيل شكله وهو أب للمرة الأولى،
تماماً كما تخيل نفسه وهو زوج في تلك المرة التي ضحك فيها الشيطان علينا،
وفلت من بين أيدينا دون أن نحسب له حساباً يذكر.....

فقـد 04-08-2014 04:30 AM

نشأتُ...
في بيت جدي
فيلا كبيرة في منطقة راقية، كانت راقية في ذلك الوقت، في مدينة أبوظبي
كان البيت ينقسم إلى غرف كثيرة، تعيش عمتي الكبرى في إحداها لوحدها،
علاقتي فيها سطحية وغير مهمة ولم تؤثر في حياتي غير مرتين، مرتين رسمتا شكل حياتي إلى اليوم
الغرفة الأخرى تعيش فيها عمتين من عماتي، واحدة منهما ربتني وأنا طفلة واعتبرتني ابنتها
العمة الأخرى كانت تكره الأطفال، لكنها الآن صديقتي، ونحكي أسرارنا لبعضنا البعض بشكل مستمر

الغرف الباقية توزعت بين أعمامي السبعة الآخرين غير أبي
وكانت هناك غرفة كبيرة، كانت مقر اجتماعاتهم السرية، كنت أتسلل إليها دائما لأنها تحتوي على تلفاز خاص، وأتاري
وكنت ممنوعة من اللعب بالأتاري غير بعض المرات القليلة التي أعطوني فيها جهازاً غير موصول، ورغم إني كنت أعرف أنه لا يعمل وأنهم يكذبون علي
إلا إني كنت أستمتع بتحريك الجهاز، وأستمتع أكثر باستسلامهم لنقي المستمر، النق الذي سيكون سلاحي الأول مع زوجي

كان أبي يمتلك غرفته الخاصة مع أمي، وكنت أعيش معهما في ملحق صغير بناه جدي بدلاً من التراس الكبير الذي كان يحيط بالغرفة
وكان حمام غرفة أمي أسود، وكنت أخاف من دخوله، وكثيراً ما سمعت أشخاصاً تغني وتصرخ وأنا في الداخل...
ذات مرة كنت أستحم لوحدي، فقام عمي الصغير، والذي تفصل بيني وبينه 5 سنين فقط، بإطفاء الأنوار والضحك بشكل هستيري من الخارج
أنا مت من الخوف، وأغمى علي، واضطر أبي لكسر الباب وحملي إلى المستشفى
في ذلك اليوم اكتشف الطبيب أني أعاني من ضعف بسيط في عضلة القلب،
ونصح أبي بضرورة إخضاعي لعدد من الفحوصات الطبية البسيطة حتى لا تتفاقم المشكلة
استمرت الفحوصات حتى أصبحت في العشرين من عمري، ثم مللت... وقررت أن أتوقف عن إجرائها،
وصف لي الطبيب بعض تمرينات التنفس، والكثير من تمرينات اللياقة البدنية، ما جعلني أدمن رياضة اليوغا

كانت علاقتي بجدي وجدتي أكبر من علاقتي بأمي وأبي
بالنسبة لي كانت أمي عمة أخرى، وكان أبي عم آخر، أما جدي فقد كان هو المربي، وهو المعلم...
وجدتي هي خط الدفاع الأول، وحضني الدافيء
علمني جدي القراءة والكتابة وأنا في الرابعة من عمري، وكان يهتم بتعليمي القرآن والصلاة
أما جدتي، فقد علمتني التنسيق في ملابسي، وكانت تطبخ لي ألذ الأكولات في الحياة...
ولأني عشت في بيتهما مع أعمامي الآخرين، اعتدت على أن أناديهما: أمّاه، وأباه،
وحتى بعد أن جاء الأحفاد الآخرين، سأظل أنا الوحيدة من بين الأحفاد التي أناديهما بهذه الطريقة،
حتى بعد سنوات طويلة من انفصالي المفاجئ والغريب عنهم

قررت أمي أننا سننتقل لبيت آخر خارج المدينة، وكان هذا الانتقال بالنسبة لي حجر كبير وقع في منتصف حياتي
لذلك اعتبرت أن أمي هي عدوي الأول، وصرت أعاندها بطريقة مدهشة ستستمر لفترة طويلة، إلى أن يقوم أبي بكسرها
وأشعر بضعفها الكبير، وسأحاول قدر الإمكان أن أحميها وأن أسند ظهرها... قدر الإمكان
أبي، وافق على إبقائي في نفس مدرستي في مدينة أبوظبي
لمدة ثمانية أشهر أخذني أبي بسيارته من مدينة بني ياس إلى مدرستي، ثم أعود منها إلى بيت جدتي
أتغدى هناك، وأعود مع أبي في المساء إلى بيتنا الجديد
كانت رحلتنا اليومية أنا وأبي هي أجمل حدث يوميّ،
كان أبي يحكي لي العديد من الحكايات، ويسألني عن مدرستي وعن حياتي، ويناقشني في مواضيع كثيرة
وكانت ألذ المواضيع هي التي يختمها بعبارة: "بيني وبينك... لا تخبري أحداً"
كنت أهز رأسي بجدية، وبعد أن يدير لي ظهره، أقفز من كرسي السيارة وعلى فمي ابتسامة كبيرة، لم أبتسم مثلها حتى اليوم
وبسبب علاقتي هذه بأبي، تفهمت كثيراً قراره بنقلي إلى مدرسة أروى الابتدائية للبنات في مدينة بني ياس
وعندما جاء ليكلمني حول الموضوع، هززت رأسي، ولم أبك مثل الأطفال، رغم الوخزة المؤذية التي انغرست في قلبي
والتي نسيتها مباشرة بعد أن اكتشفت أنني يجب أن أمشي إلى المدرسة الجديدة التي سأنتقل إليها، وأعود إلى بيتي مشياً أيضاً

كان البيت الذي انتقلنا إليه صغير جداً
بالنسبة لأمي كان هذا البيت الذي لا يقارن ببيت جدي، نقلة مؤلمة
كان يحتوي على شجرة سدر كبيرة مزروعة خارج المنزل، وتسقط ثمارها كل يوم وطول الوقت إلى الحوش الداخلي لبيتنا
وكان على جذعها، هذه السدرة، شكل وجه، وجه آدمي له عينان وفم وأنف
كنت أسمعها كل يوم تناديني باسمي، وكانت تحتفظ لي بثمرات السدر اللذيذة والخالية من الدود فوق سطح المنزل، في كومة صغيرة خلف أوراقها
ذات مرة وأنا آكل السدرات، سألتها عن سر وجهها، لأنني لم أر من قبل شجرة بوجه، ولا أعرف لماذا لم أندهش عندما ردت عليّ...

قالت لي بأنها كانت فتاة جميلة تعيش في البيت المقابل لبيت أبو سالم المعمري، وبأنها نست اسمها لأنها لم تستخدمه من زمان
كانت ظفيرتها طويلة تصل حتى منتصف ظهرها، "ورثت شعري الناعم وعيناي الواسعتان من أمي الهندية" قالت وهي تهز أوراقها
كانت في الثانية عشرة من عمرها فقط، لكن معظم الشباب تهافتوا لخطبتها، هكذا هكذا مثل الدود
ثم توقفت فجأة وحركت غصنها تجاهي: هل تخافين من الجن؟
قلت: هل أنت جنية؟
- لا لا، أنا سدرة…
- لا أخاف من الجن… أختي الصغيرة تخاف منهم
في ذلك الوقت كانت أمي قد أنجبت أختي صفية، وكانت صفية، بعد أن بلغت عامها الثاني تنام معي على سريري أحياناً
قالت سدرة بأن ابنة عمها سلمى غارت منها، كانت سلمى ذات شعر أجعد، وكانوا ينادونها الإثيوبية،
وكانت تحب ابن عمهم خلفان، ابنه المتوسط، "اللهم صلي على محمد... نسيت اسمه، لكنه تقدم لخطبتي..."
قبل العرس بيومين جاءت سلمى لزيارتهم، وأعطتها هدية بمناسبة زواجها
في اليوم التالي استيقظت وهي شجرة، شجرة كبيرة...
قالت: شعرت بالرعب، صرخت، ضربت أركان المنزل، لكن لم يحدث شيء
أحضر أبوها عدداً كبيراً من المشايخ ليقرأوا عليها لكن... لم يقدر أحد على فك السحر
كانت أمها ترويها بالماء كل يوم، وتأمرها بالصلاة وتضع أمام وجهها مصحفاً صغيراً للذكر
في النهاية اضطرت عائلتها للانتقال من المنزل لأن أمها لم تحتمل رؤيتها على هذه الحال... وجئنا نحن وسكنا في البيت

أخبرت أمي بالقصة لكنها أمرتني بعدم الصعود لسطح المنزل
وصارت تعاقبني كلما رأتني أقفز فوق خزان الماء الكبير خلف البيت، لأنه كان وسيلتي في الصعود لسطح البيت
توقفت سدرة عن الحديث معي بعدها، لأنها لا تريد أن تشعل المشاكل بيني وبين أمي
لكنها استمرت في قذف ثمار السدر فوق رأسي كلما مررت من تحتها إلى المنزل....

فقـد 04-08-2014 04:33 AM

يقع بيتنا، البيت الذي انتقلنا إليه، في منطقة فقيرة جداً في بني ياس
ورغم إننا لم نكن فقراء في الحقيقة، إلا أن أبي وجدي سمعا بأن الحكومة قررت هدم المنطقة
وتوزيع بيوت شعبية كبيرة للمواطنين القاطنين فيها، بيوت من الحكومة...
ومازاد هذه الإشاعة تأكيداً أن أبونا زايد -رحمه الله وطيب ثراه-
ظهر على التلفاز وهو يأمر ببناء بيوت للمواطنين وتوزيعها بأسرع وقت ممكن
ووعد ببيت لكل أسرة مواطنة، ولكل شاب مواطن.

كانت بيوت الناس مصنوعة من الخشب، مثل المخيمات سطوحها من القصدير
أحياناً كانت الأبواب حديدية، وأحياناً كثيرة كانت مجزد غطاء خشبي مثبت ببعض المفاصل
لم تكن الأبواب مقفلة، كانت كل الأبواب مفتوحة. وكان الجميع يدخل على الجميع، والجميع يعرف الجميع
بيتنا كان خشبياً من الخارج لكن اسمنتي من الداخل، ربما كان البيت الوحيد المبني من الاسمنت
وكانت فيه غرفتان فقط، ومساحة خارجية أغلق أبي نصفها فيما بعد وحولها إلى صالة

عندما دخلت أمي أول مرة إلى البيت انصدمت، قالت بصوت عال: "أنا... كيف أعيش هنا؟"
كان انتقالها من بيت جدي إلى هذا العش الكئيب طعنة مؤلمة
وكان خروجها من مدينة أبوظبي إلى قرية نائية وفقيرة لتلك الدرجة، غصة تعلقت في حلقها لفترة طويلة
خصوصاً وأن كل حريم أعمامي الأخريات لم يضطررن لمثل هذا الانتقال
كل واحدة منهن عاشت في شقق متطورة، أو فلل مؤثثة بأحدث الأثاث وأجملها
لم تستوعب أمي سبب اضطرارها للعيش في تلك المنطقة... لم تستوعبه أبداً
ولم تتفهم الأثاث البسيط والتافه الذي أثث فيه البيت
كان أثاثاً مستعملاً، حتى غرفتها المستقلة الأولى لم تكن جديدة!

عندما عدنا لبيت جدي قبل انتقالنا بفترة بسيطة، سمعت أبي يحاكي أمي
أقنعها بأنها فترة مؤقتة، قال: "تسعة أشهر، تسعة أشهر فقط، ثم تعطينا الحكومة فيلا كبيرة ستصبح ملكك أنت
ستكونين أنت أميرتها والله، تسع شهور مثل الحمل والولادة"
لم تقل أمي شيئاً، ولم تكن تعرف أن هذه الأشهر التسعة ستمتط إلى سنوات كثيرة، تسع سنوات على وجه الدقة
كانت على استعداد لأن تفعل أشياء كثيرة من أجل أبي، أي شيء وكل شيء
خصوصاً عندما تكون بين يديه، خصوصاً عندما يشاركها كل شيء

العلاقة بين أبي وأمي كانت هادئة
كان أبي حنوناً جداً، حنوناً على أمي بالذات،
كان يشعر بأنها امرأة بسيطة ولذلك كان يحبها، لم تكن أمي معقدة، طلباتها في الحياة صغيرة
كلمة واحدة ستقلب يومها كله إلى سعادة أو... حزن شديد
وكان أبي يعرف ذلك، ويقدره كثيراً
لذلك عندما تغضب أمي وتثور ويعلو صوتها، كان أبي يلتزم الهدوء، ويحاكيها بصبر يوازي صبرها على كل شيء
وكنا نعرف أن أبي يحب أمي لأن أمي تخبرنا كل يوم كم تحب أبي، وكم هو رجل طيب، ويتعب من أجلنا... يتعب كثيراً

نعم،
كانت حياتنا تشبه تلك التي نقرأ عنها في الكتب والحكايات
الأب الذي يغيب طوال اليوم بحثاً عن لقمة العيش،
والأم البسيطة التي تهتم بالمنزل وبالأولاد وتطبخ الطعام وتدرس أبناءها
كان أبي يغيب عنا أسبوعاً كاملاً، كان يعمل في حقل من حقول البترول
وكان يعود إلينا لمدة ثلاثة أيام فقط تسميها أمي: أيام العيد
في أيام العيد، تجهز أمي أجمل ملابسنا وتزيد مصروفنا اليومي درهماً كاملاً،
كنا نذهب إلى مدارسنا ونحن نحمل في جيبنا ثلاثة دراهم، ما يعني أننا وصلنا لطبقة الأغنياء جداً
أحياناً كنت أحتفظ بالدرهم لكي أشتري به حلويات من دكان أبو بكر القريب جداً من بيتنا

كانت عودة أبي إلى البيت تمثل حدثاً أسبوعياً بهيجاً، احتفال لم تمل أمي من إقامته طوال فترة عمل أبي
كانت تهتم بنظافة كل زاوية في المنزل، حتى تلك الزوايا التي لا يمكن أن ترى بالعين المجردة
لم أفهم أبداً، إلى اليوم، أهمية أن نسحب الثلاجة الثقيلة لكي ننظف تحتها ثم نعيدها لمكانها!
تقول أمي: آبوك قوي، لو فتح الباب وتحركت الثلاجة قليلاً ورأى كل هذا الوسخ تحتها ماذا سيقول؟
لا أعتقد بأنه سيقول أي شيء، سيصمت ويأخذ ما يريد ويذهب...

بعد أن تتأكد من أن أركان المنزل لمعت،
وهو ما كان صعباً نظراً للمنطقة التي كنا نعيش فيها
تحني شعرها لأن أبي يحب رائحة الحناء، وكانت تخرج قنينة عطر خاصة لا تضعها إلا لأبي، تقول بأن أبي يحب رائحة الياسمين
وكانت تلبس الألوان التي يحبها أبي، خصوصاً الأزرق والبنفسجي والبني
ولم تكن تضع الماكياج، لا يحب أبي الماكياج أبداً، يقول بأن الله خلق أمي جميلة ولا تحتاج للمساحيق،
لذلك كانت أمي تعتني برائحتها كثيراً
أمي امرأة جميلة جداً، بيضاء مثل الثلج، وشقراء وشعرها ناعم، يسميها أبي الزبدة السايحة.
وكنت أتساءل دائماً لماذا خلقني الله حنطية لهذه الدرجة، وشعري أسود وثائر بهذه الطريقة الغبية

كانت أمي تجبرني على ارتداء الفساتين الأنثوية يوم عيدها، وكنت أكرهها
لأني عندما أخرج للخارج ويراني أصدقائي وأنا أرتدي هذه الثياب التافهة يعلقون على شكلي
خصوصاً مع التريحة البلهاء التي تعتمدها آمي مع شعري الثائر،
حيث تشد كل شعرة للوراء في ظفيرة واحدة ملفوفة من قمة رأسي لأسفل
كان عبدالله يضحك على شكلي وأحياناً كان يحضر كاميرة أخته الكبرى ويلتقط صوري للذكرى!

عندما يعود أبي، عندما يدخل للمنزل، كنا نصرخ: جاء العيد، جاء العيد.
نركض جميعاً إلى حضنه، وكان يضمنا أنا وأختي نورة وأخي أحمد بقوة
ثم يرفع رأسه إلى أمي ويقبلها ويحتضنها ثواني قصيرة كفيلة بأن تحول وجه أمي الأبيض للون أحمر قان،
أحياناً كان يخرج من جيبه وردة اقتطفها من الطريق ويعلقها وراء أذن أمي
وأحياناً كان يقول: اشتقت لك
وأحياناً لم يكن يقول أي شيء، يدخل للصالة الصغيرة ويجلس على الأرض
لأننا لم نمتلك كراسي للجلوس وقتها...
ونبدأ حفلة الكلام، أنا أحكي ونورة تحكي وأحمد يحكي
وأبي يستمع بصبر شديد بينما تجهز أمي السفرة
ونجلس كلنا على الأرض حول صحن كبير
ونأكل أطيب الوجبات في العالم: رز بعدس وسمك مقلي وسلطة، خبز بلدي وعسل وفتة موز، رز ولحم وصالونة
كانت هذه الوجبات الاحتفالية خاصة فقط بأيام العيد، الأيام الثلاثة التي يعود فيها أبي للبيت

في اليوم التالي بعد أن نعود من المدرسة
نخرج بعد العصر ونذهب إلى أبوظبي، نذهب إلى الكورنيش ونصعد لقمة النافورة الكبيرة وندور حولها
ثم نذهب إلى حديقة المطار ونلعب بالمراجيح ويركض أبي وراءنا ويركب كل الألعاب معنا
ثم يشتري لنا وجبة فروج مشوي وتبولة وحمص من زهرة لبنان ونذهب إلى حديقة صغيرة نأكل الوجبة ونعود للبيت

في اليوم الثالث نزور بيت جدتي
التي تطبخ لي المعكرونة لأنها تعرف جيداً أني أعشق المعكرونة
ولسنوات طويلة ستطبخ لي جدتي المعكرونة كلما عرفت بزيارتنا لهم،
وستخبر الجميع بأنها طبختها لي خصوصاً
ثم نعود للبيت، وتحزن أمي مرة أخرى، وتخلع كل ألوانها، وتغيب رائحتها إلى العيد المقبل...

فقـد 04-08-2014 04:34 AM



كان غياب أبي الطويل عن المنزل يراكم بعض المشاكل الطارئة التي كانت تحتاج لعلاج مستعجل
مثل انقطاع المياه، انقطاع الكهرباء، تسريب من فتحات الصرف
وكان أبي يتصل بنا يومياً لكي يسلم علينا ويكلم أمي
أحياناً كانت تتجنب ذكر بعض المشاكل، وأحياناً أخرى كانت تخبره بما يجري
عندما اكتشف أبي حجم الأشياء التي تخترب بشكل دوري وتحتاج لصيانة مستمرة
صار يعلمني كل شيء

- عندما تنقطع المياه، تعالي إلى الخزان هنا وتأكدي من أنه ممتليء بالماء،
تأكدي من أن الدينامو يعمل بشكل جيد، سيكون صوته هكذا، شغليه من هنا.....
- إذا كان هذا الخزان فارغاً تسلقي إلى السطح وافتحي الخزان الآخر، يجب أن يكون ممتلئاً دائما
- انفخي هنا، حتى تضغطي على المياه، عندما تصنعين منطقة ضغط كافية سينزل الماء من الأنبوب الآخر
- لو انطفأت الكهرباء تأكدي أن كل المفاتيح متجهة للأعلى، لو كان واحداً منها مطفياً يجب أن تعرفي لماذا،
سيكون ماساً كهربائياً وعليك أن تطفئي الجهاز الذي يسببه
-يجب أن تتعلمي كل شيء لأن أمك مسكينة وتحتاج لمن يعينها

وهكذا وهكذا...
تعلمت كيف أنظف فتحة الصرف، وكيف أشغل آريال التلفزيون عندما يتشوش التلفزيون، وتعلمت كيف أعيد تشغيل الكهرباء
كنت رجل المنزل، كانت أمي تستعين بي في كل شيء
وقتها... شعرت بأهميتي، وكنت أثق بقدراتي كثيراً... أكثر من اللازم

تقع مدرستي الإبتدائية، مدرسة أروى للبنات، في منتصف المنطقة التي كنا نعيش فيها
كان الجميع يذهب إليها مشياً على الأقدام على طريق رملي
كنت أحب الرحلة الصباحية للمدرسة أحياناً، كنت أغير الطريق حسب المزاج وحسب الوقت
أجمل الأيام كانت أيام المطر حيث تتكون البرك والمستنقعات طوال الطريق
وكنت أتعمد القفز في كل بركة، وكنت أتزحلق على الطين ما كان يدفع أمي لحافة الجنون عندما تراني
أحياناً كان أبي يدللنا ويأخذنا إلى المدرسة بسيارته التيوتا
وعندما نتأخر عن الطابور الصباحي كانت أمي ترافقنا إلى المدرسة لكي تبرر تأخرنا للمديرة

كنا جميعا نعيش نفس الظروف الاجتماعية تقريباً، أنا والطالبات الأخريات
وكان الجميع يعتبرنا أعلى منزلة من الآخرين، حتى المعلمات
لأننا أنا وأختي، نظيفات جداً، وملابسنا نظيفة، وواجباتنا محلولة
وكنا أذكياء في الفصل، نجيد القراءة والكتابة ونحفظ القرآن
كانوا يعاملوننا بشكل مختلف لأن أمي وضعت نفسها في منزلة أعلى من الأمهات الأخريات
كانت أمي مثقفة... كانت تهتم...
لم تختلط أمي بنساء الحي الأخريات أبداً وكان باب بيتنا مغلقاً دائماً
أم عبدالله، هي المرأة الوحيدة التي صادقت أمي، وكانت تزورنا
أحياناً كانت تحضر معها صديقاتها لكن لم تخرج أمي لزيارتهن إلا قليلاً جداً

كنت أثق بنفسي
في مدرستي، كنت أثق بما أفعل
كنت أعرف أن رسوماتي أجمل من رسومات الجميع
كنت أعرف أني سأحصل على الدرجات النهائية في كل اختبار أخوضه
وكنت متأكدة من تساهل المدرسات معي لأني تلميذة نشيطة
وكان الجميع، حتى الطالبات يحبونني، وكنت مثلاً أعلى للطالبة المجتهدة
رغم إني في الحقيقة كنت من أشغب البنات على وجه الأرض
للدرجة التي قامت فيها أمي ذات مرة برمي إناء زجاجي على رأسي ثم قالت: احمدي ربك ما انكسر!

حدث الانفصام الداخلي في نفسي عندما انتقلت إلى مدرسة الزلاقة المشتركة للبنات
تقع مدرسة الزلاقة في منطقة خارج منطقة الفقر التي نعيش فيها وسط فلل شعبية جميلة وحدائق
الطريق إلى تلك المدرسة كان جميلاً ومعبداً ويحتوي على إشارات مرورية
كنا نذهب بالحافلة...

في تلك المدرسة اكتشفت للمرة الأولى في حياتي أقلام الحبر الملونة
والمسّاحة الوردية المرسوم على غلافها الورود والحيوانات
اكتشفت أدوات مدرسية مرسوم عليها شخصيات ديزني
الشخصيات التي أحببتها وشاهدتها عبر أفلام الفيديو طوال حياتي
سخرت البنات في فصلي من أدواتي المدرسية الغبية، مساحتي عادية بيضاء، وقلم حبر أزرق وآخر أسود
ومسطرة شفافة وبراية زرقاء، من ذاك النوع الذي لو قلبته يحتوي على مرآة دائرية
حتى مقلمتي كانت عبارة عن شنطة صغيرة زرقاء، وحقيبتي المدرسية عادية ومملة
لم أمتلك أشياء ملونة
ولم أكن أعرف أي شيء عن مرطب الشفاه
ولا مرطب اليدين
وكان حجابي أبيض بسيط، مثبت من المنتصف بدبوس
وكن هن يرتدين شيل سوداء تظهر من تحتها شعورهن الملونة
وكان مريولي واسعاً يتبع التعليمات المدرسية
ومراييلهن ضيقة، فيها فتحة من الخلف، ولا يرتدين أي شيء في الأسفل....
وقتها فقط، شعرت بأني... أقل من الأخريات

عندما صارحت أمي بما يحدث في المدرسة
قالت بأن الأدوات الملونة لا تصنع العظماء،
ورفضت تماماً أن أظهر شعري من تحت حجابي رغم إني لم أكن محجبة أصلاً
ومنعتني من مقارنة نفسي بالأخريات لأني لا أشبه أحداً و لا يجب أن أشبه أحداً
في داخلي...
كنت أريد الأدوات الملونة باهضة الثمن
وكنت أريد حذاء أسود جميلاً فيه كعب قصير من الخلف بدلاً من حذاء البالرينا الأبيض
وكنت... أريد... أن أكون مثلهن...

في تلك المدرسة لم أصادق أحداً
ولم يرغبن في مصادقتي أصلاً
ولأول مرة، لأول مرة... بدأت في السرقة
صرت أسرق الأدوات المدرسية من البنات من الفصول المجاورة وأدعي بأنها ملكي
أتركها في الدرج في المدرسة حتى لا تكتشف أمي سرقاتي المتكررة
وتعلمت الكذب... صار كلامي كله عبارة عن كذبات متتالية
وكنت أبرر كل شيء...
تعلمت أن أقول بأن أمي "العبيطة" تحب النظام والقوانين
وعندما أرسلت لها المدرسة بروشور الملابس قررت تفصيل الثوب المدرسي حسب اللوائح
وكنت أختم: "أفففف من الأمهات، يخربون حياتنا والله"
وكنت أتكلم عن خادمتنا الهندية الوهمية بكثرة،
وكيف أحرقت حجابي ذات مرة ولأني مستعجلة لم أجد الوقت الكافي لتغيير الحجاب
لم أخبرهم بأن أمي تجبرني علي كوي ملابسي قبل الذهاب للمدرسة
وبأني في ذلك اليوم حرقت حجابي، ولأني خفت من أمي... ارتديته وخرجت وأنا أجهز الكذبة الكبيرة التي سأكذبها في المدرسة
شعرت بأن البنات يعرفن بأني أكذب، لأنهن بكل تأكيد يعرفن المنطقة التي أخرج منها كل يوم
ربما الشيء الوحيد الذي لم أحاول إخفاؤه أبداً هو المكان الذي أعيش فيه
شعرت بأنني سأزيد من قيمة كذباتي عندما يعرفن بأن هناك جزء كبير من الحقيقة فيما أقول

ثم جاء اليوم الذي سأكتشف فيه أهمية النقود
وزعت علينا المعلمة أوراق رحلة مدرسية إلى "حلبة التزلج في أبو ظبي"
في مدرستي القديمة، كانت أمي تعطيني عشرة دراهم للرحلات دائماً وكنت أشعر بأني ملكة العالم
في هذه المدرسة، العشرة دراهم تشبه مصروفاً يومياً تحمله الطالبات معهن كل يوم..
عندما تجمعت الطالبات وبدأن الحديث حول مصروفهن للرحلة، نظرن إلي وسألنني عن المبلغ الذي سأحضره معي
قلت بلا تردد 100 درهم
عدت للمنزل وأنا أفكر بالطريقة التي سأقنع فيها أمي بمنحي مبلغاً هائلاً مثل هذا المبلغ
ولم يكن هناك أي مجال للتراجع، خصوصاً بعد أن سمعت شهقات البعض، وعدم تصديقهن لما أقول
عندما سألت أمي عن المبلغ الذي ستعطيني إياه نظرت إلي وقالت خلاص رح أزيدك هالمرة، بعطيك خمسة وعشرين
توقعت أمي أن ترى في وجهي كل علامات الابنتهاج، لكني... أخفضت رأسي لأسفل وخرجت من الغرفة

اقترب موعد الرحلة المدرسية
وكنت أزداد توتراً كلما تكلمت البنات في موضوع الرحلة
عندما جاء يوم الرحلة، إرسلتني أمي كالعادة إلى دكان أبو بكر لشراء الحلويات.
أعطتني خمسة دراهم لشراء كل ما أريد، كانت تشعر بشعوري بالنقص،
وكانت تحاول أن تكون سخية معي بدون مبالغة حقيقية....
فجأة، توقفت سيارة خارج الدكان، ونادى صاحبها أبو بكر،
اضطر أبو بكر للخروج من الدكان للاستجابة لطلبات الرجل،
ولأنه يعرفني جيداً ويعرف كل من في الحي... قال لي: خذي ما تريدين، وضعي النقود هنا
وفتح لي درج النقود الصغير في منتصف الطاولة التي يضع عليها العلكة، والتوفو، والبولو...
وكل الحلويات الملونة التي أحبها، وأشتريها بشكل يومي من دكانه...

فقـد 04-13-2014 05:51 AM

عدت للبيت وأنا أجمع حلوياتي بكيس صغير
اشتريت شيبس عمان، بفك عمان، جيلي كولا، مصاص أبو ربع، علك أبو ربع، معصار
ومجلة ماجد، عندما كان سعرها ثلاثة دراهم فقط...
ثم اندفنت في سريري رغم أن الساعة لم تتجاوز السادسة والنصف مساء

عندما عاد أبو بكر للدكان رآني وأنا أقف أمام درج النقود
سألني إن كنت اشتريت ما أريد أجبته بالإيجاب
أخبرني بأنه خبأ لي العدد الجديد من مجلة ماجد،
كنت الوحيدة في الحي التي أقرؤها وكان يحضر نسخة واحدة كل أربعاء لي خصيصاً
شكرته واشتريت المجلة وهممت بالخروج

بعد قليل وأنا فالخارج ناداني بصوت عال
وقفت...
نظرت للخلف ببطء
أشار لي بأن أعود إليه
كان الطريق إليه طويلاً، طويلاً أكثر مما تخيلت
عندما وصلت مد يده يعطيني حلاوة جيلي كولا، حلاوتي المفضلة إلى اليوم
قال: سمعت بأنك ستذهبين إلى حلبة التزلج غداً، خذي هذه، وقولي لأمك أن الحساب وصل 148 درهم

اتفقت أمي مع أبو بكر ألا يزيد حساب الدين مع الدكان عن مئتي درهم
وأنه يجب أن ينبهها عندما يتعدى الحساب مئة وخمسين حتى تحتاط
تشتري أمي من الدكان المياه المعدنية والخضراوات والفواكه، وبعض اللوازم المنزلية
ورغم أن أبو بكر أخبرها ألف مرة بأن مياه الحنفية نظيفة وقابلة للاستعمال
كانت أمي ترفض أن نشربها

في اليوم التالي، يوم الرحلة
تجهزت للخروج بسرعة، ارتديت مريولي ولبست تحته بنطلون جينز وقميص أبيض
وحملت معي جاكيت قصير آسود مطرز بنمر كبير من الظهر
وبالطبع لم أرتد الحجاب...
حملت معي حقيبة الرحلات وركضت إلى موقف الباصات

في الحافلة، اعتصرت المئة درهم التي أخذتها من درج أبو بكر بين يدي
شعرت بالعرق يتجمع حول الورقة،
كانت مشاعري مختلطة، أقنعت نفسي بأني فقط سأريها للبنات
ثم سأخبئها في جيبي وسأستخدم الخمسة وعشرين درهماً التي أعطتني إياها أمي
وسأعيد المئة درهم لأبو بكر آخر النهار فور عودتي من المدرسة
كانت خطة محكمة وغير قابلة للخسارة، وكنت متأكدة بأن أبو بكر لن يخبر أمي

كانت الرحلة ممتعة، وحسب الخطة شاهدتني البنات وأنا أخرج للعاملة 100 درهم من جيبي
ثم أستبدلها بخمسة وعشرين درهماً لأنها لا تمتلك فكة كافية
وجلست على الطاولة لوحدي آكل وجبة الغداء وأنا سعيدة جداً، سعيدة من الداخل
أبدى الجميع إعجابهن بجاكيتي
في ذلك الوقت لم أكن أعرف أي شيء عن الماركات العالميةا
سألتني إحداهن إن كان قميصي من صنع إحدى الماركات
قلت: ربما، أنا لا أهتم بنوع الماركة طالما أن القطعة أعجبتني
أبدت الفتيات إعجابهن بكلامي

تزلجنا لفترة طويلة ذلك اليوم، ثم حان موعد خروجنا من المكان
عدت للمنزل وأنا أشعر بأني أكّدت على مكانتي بين الطالبات أخيراً
وعندما وصلت، جلست مع أمي وإخوتي نشاهد أفلام الكرتون
ثم خرجت للعب في الخارج، وعدت الساعة السابعة مساء, ونمت... بعمق

في اليوم التالي عندما استيقظت قالت أمي:
- وجدت مئة درهم في جيبك البارحة، من وين جت؟
كنت قد نسيت موضوعها تماماً، رفعت رأسي من صحن الكورن فليكس ومخي يعمل بطريقة سريعة جداً
- أوه، نسيت أن أعطيها للمعلمة، البارحة طلبت مني شراء بعض الأشياء ولم أفعل
- رجعيها اليوم
- أوكي ماما…

لم أنسى هذه الحادثة أبداً منذ حدوثها
كانت نقطة فصل في حياتي، لأنها سهلت عليّ أشياء كثيرة في المستقبل
سمحت لي بتجاوزات أخلاقية بسبب أغراض تافهة مثل أخذ النقود من جيب أبي،
أو… من حقيبة أمي
أو بعد ذلك عندما كبرت وصار عندي صديق أكلمه عبر الهاتف،
صرت آخذ النقود من حقائب زميلاتي لكي أشتري بطاقات الموبايل
ثم صرت أسرق من المحلات التجارية الكبرى والصغرى
لم تعد المسألة مجرد حاجة نفسية لتغطية متطلبات طفولية
صارت مثل التحدي
مثل دفعة أدرينالين قوية تتدفق إلى جسدي عندما لا يكتشف أمري أي شخص
ولم يكتشفني أي أحد أبداً

لم أعد المئة درهم إلى أبو بكر
ولم أصرفها
دفنتها في مكان خفي بعيد عن الجميع خلف بيتنا
وأقسمت ألا أخبر أحداً عن السر
وأقسمت ألا أكرر هذه الفعلة نهائياً بعد الآن


اكتشفت لاحقاً
أني لا أجيد الاحتفاظ بالأسرار
ولا أوفي بالوعود
نهائياً

فقـد 04-15-2014 04:51 AM

أمي...
يمنية الأصل
تقول ذلك رغم أن والدها فارسيّ وأمها هندية
لكنها تتكلم العربية فقط، لا تجيد ولا الهندية ولا الفارسية
المفاجآة أن والدتها وأخوالها لا يجيدونالتحدث بالعربية بطلاقة،
تقول بأن جدتي، والدتها، أصرت على أن تعلمهم العربية لأنهم في مجتمع عربي

تعود أصول والد أمي لأسرة يهودية استقرت في اليمن منذ زمن بعيد،
لا تحب أمي الحديث عن الموضوع رغم إني سألتها مراراً كيف تحولوا من يهود إلى مسلمين
تقول أمي بأن جد جد جدها هرب إلى اليمن من زمان، من أزمن الزامنين
وانتقل إلى حارة في عدن، في المنصورة، وهناك اشترى بيتاً هو بيتهم لليوم
ودخل في الإسلام لكي يقترب من الناس حوله، لأنهم لم يحبوا التعامل مع اليهود
ولكنها لم تتربى تربية إسلامية،
فقد عاشت في وقت منعت فيه ممارسة الدين في اليمن
منع الحجاب، اختلطت المدارس، رفع تعليم القرآن
وعاش الناس في بيئة كانت فيها كلمة "مسلم" مجرد لفظة تضاف إلى الهوية بلا معنى حقيقي


كان أبوها يعمل مع الإنجليز، وكان يجيد العديد من اللغات،
"لم يستطع أحد أن يعد عدد اللغات التي يجيدها أبي" تقول بفخر شديد
كانت اللغة الإنجليزية هي إحدى اللغات التي اكتسبها بعد الاحتلال البريطاني لليمن،
وبذلك ضمن جدي وظيفة مرموقة بين الإنجليز أهدت أهل أمي مكانة جيدة في المجتمع

كان لهذه الوظيفة سلبية وحيدة، فقد عرفت جدي على حياة "الكفار "
وصار مدمناً على شرب الخمر
لم تكن أمي أو أي أحد حولها يعرف أو يهتم بحقيقة أن الخمر محرم في الإسلام
لكنهم يعرفون أن المجتمع من حولهم ينظر نظرة دونية للسكارى،
وكانت تحزن لأن والدها رجل عظيم جداً

في الأيام القليلة التي كانت فيها أمي تحكي لنا حكاياتها،
كانت تخبرنا كيف كان يخزن جدي زجاجات الخمر في ثلاجة منزلهم
وكيف كان يطلب منها بالذات أن تحضر له زجاجة من الثلاجة والكثير من القات لتعديل المزاج
ورغم أنها كانت ترفض كل ذلك من الداخل، إلا أنها كانت تلبي طلباته بهدوء شديد
عكس كل إخوانها وأخواتها الذين كانوا يمطرون والدهم بالشتائم بسبب العار الذي يجلبه لهم
لم تخبرنا أبداً عن موقف والدتها من كل ما يحدث، لم تتحدث عنها كثيراً،
كان حديثها عن والدتها قصير وحميم ولا يحمل العديد من الذكريات

كانت أمي أجمل فتاة بين أخواتها، وهي رغم عصبيتها حساسة ودافئة جداً
وكان جدي مرتبطاً بها أكثر من بقية بناته وأبنائه
أطلق جدي على أمي اسماً فارسياً معناه "البلورة" بسبب بياضها وشفافيتها الشديدة
وعندما ظهرت عليها معالم الأنوثة، تهافت عليها الخطاب من كل مكان
لكن جدي لم يعتقد أن أمي تستحق أن تعيش في اليمن
كان يشعر بأنها أفضل من ذلك بكثير

تعرف أبي على والدتي عن طريق جدتي، أم أبي، التي تقرب لأم أمي من بعيد
أبي هو أكبر أبناء العائلة، وكان جميلاً جداً وقتها يشبه ممثلي السينما
وعيون أبي، تقول أمي: "عيون أبوكم العسلية هي أول ما لفت نظري"
كان أبي وقتها طالباً جامعياً مبتعثاً للدراسة عن طريق إحدى شركات البترول الإماراتية
وكان الخليج حلماً يراود كل الناس في ذلك الوقت
وكانت الإمارات في الثمانينات في بداية الثورة الاقتصادية،
حيث تحولت من دولة صحراوية إلى مدينة شبه متطورة، ترتفع أبنيتها وتزيد المساحات الخضراء فيها
وأن تتزوج أي امرأة من رجل إماراتي الأصل هو قمة الحظ، وقمة الترف

لم تر أمي أبي قبل الزواج، ولم تكن تعرفه
أرسلت لها جدتي صورة أبي، وطلبت منها أن تفكر على مهل
"أعرف جيداً أن الغربة صعبة يا ابنتي، لكنك ستكونين هنا بين أهلك، لا تقلقي"
كانت أمي وقتها في الثامنة عشرة من عمرها، تخرجت تواً من الثانوية
وعملت في مجال التدريس كخدمة وطنية قبل الالتحاق بالجامعة
وأبي أيضاً، رأى صورة أمي، أعتقد، أو... لا أعرف، نسيت

تم كل شيء بسرعة، انتقلت أمي من عدن إلى الإمارات
تزوجت في عرس كبير جداً في فندق الشيراتون، أكبر فنادق الإمارات في الثمانينات
ودخلت بيت جدي الكبير، وصارت لها غرفة مستقلة، شبه مستقلة
ووقعت في حب أبي،
أحبته لدرجة الألم
لدرجة لا يمكن أن تتحملها أي فتاة على وجه هذه الأرض

عاملت جدتي والدتي كابنة لها
ربتها، علمتها، أمسكت بيدها، دافعت عنها، وأحبتها
أمي بطيبتها وهدوئها وتهربها من المشاكل أصبحت قريبة من الجميع
من كل أهل أبي، كل أعمامي وعماتي يضعون والدتي في موضع مختلف عن جميع زوجات إخوانهم الآخرين
تزوجت أمي أبي وأعمامي صغار جداً
وكانت تحبهم وتدافع عن أخطائهم أمام جدي
علاقة أمي القوية بأهل أبي انعكست علينا، صرنا نحن أيضاً مرتبطين كثيراً بأعمامنا
وصارت معاملتهم لنا تختلف كثيراً عن تعاملهم مع الباقين
إلى اليوم

لم أر أهل أمي غير مرات قليلة جداً، ولا تربطنا فيهم أي علاقة من أي نوع
لا نعرف أسماء معظم أخوالي ولا حتى أشكالهم
بعد أن تزوجت أمي من أبي حمّلها أهلها مشاكلهم المادية
وكانت أمي تخجل منهم ومن تعاملهم معها
وبذلك فضّلت أمي أن تفصل علاقتها بأهلها عنا جميعاً
زارنا أخوالي ثلاث مرات فقط خلال 31 سنة هي عمر زواج أمي بأبي
وزارتهم هي 4 أو خمس مرات على الأكثر
لم تكن تطالب بزيارتهم، ولم يكن أبي يرحب بغيابها عن المنزل للسفر إليهم في كل الأحوال

في عام 1993، كنت في الصف الثالث الإبتدائي وأبلغ من العمر ثماني سنوات
قررت أمي للمرة الأولى أن تحملنا جميعاً إلى عدن لزيارة أهلها
قضينا عندهم أسبوعين حاول فيها جدي وجدتي أن يدللوننا قدر الإمكان
وكانوا ينادوننا "الخليجيين"
وكان أخوالي وأبناؤهم يغضبون من تحدثنا باللهجة الإماراتية،
ويطالبوننا بالتحدث باليمنية لأنهم يعرفون بأننا نجيدها
لكننا لم نكن نجيد التحدث مثلهم، كانت طريقتهم مختلفة عن طريقتنا
بعد فترة، تعودنا على طريقتهم في الكلام، واكتسبنا ألفاظاً جديدة
ألفاظ نبهتنا أمي ألاّ نلفظها أمام أبي لأنها سوقية، وغير راقية أبداً...



[/size]

فقـد 04-15-2014 06:35 AM

زواج أمي من أبي غير حياتها كثيراً
بطرق مختلفة عن الأشياء التي تتغير في الحياة عند الزواج
زواج أمي من أبي جعلها تكتشف كم هي إنسانة خاضعة، ومطيعة وطيبة

كانت حياة أمي مختلفة تماماً عن حياة أخوات أبي
كل واحدة من أخوات أبي إنسانة مستقلة تماماً
قويات، ذات آراء خاصة ومتعلمات لدرجات الماجستير والدكتوراة
كل هذه الأمور كانت غريبة على أمي التي جاءت من بيئة بسيطة ورجعية نوعاً ما
تعودت أمي على السمع والطاعة وعدم المجادلة واحترام الزوج وطاعته
وبذلك فرض أبي الذي كان في أوج شبابه، سلطته على أمي،
منع أبي أمي من زيارات الحريم التي كانت جدتي مداومة عليها،
ومن الماكياج لأنه لم يكن يحبه،
وأمرها منذ البداية بعدم مخالفة أوامره
تقول أمي بأنه كان عصبياً جداً معها، وعندما نسألها باستغراب: "كيف بقيت معه؟"
تقول: "جدتكم كانت طيبة، وأنا أحبه"

جدتي هي سيدة المنزل
الآمرة الناهية، لا يحدث أي شيء في البيت مهما كان صغيراً إلا بأمرها
متحكمة بكل أركان البيت والعائلة
جدتي امرأة قوية جداً، لا يمكن أن تكسرها الظروف
لكنها تنكسر أمام حبي جدي الكبير والعظيم لها
مازال جدي يحتفل بعيد زواجهما إلى اليوم، 25 شعبان، كل سنة
يتصل بأبنائه واحداً واحداً، وهو لا يتصل بأحد أبداً
يذكرهم بالتاريخ، يأمرهم بشراء الهدايا ويحتفل بجدتي التي تنخرط بالبكاء كل سنة
كل سنة، رغم أنها تعرف ما سيحدث، وتعرف جيداً أن جدي لن ينسى
ولكن لم يحتفل أي أحد بجدي، ولا مرة، لم نقم له حفلة أبداً ولا أعرف لماذا!

اكتسب أبي عادات جدي، ولفترة طويلة كان أبي يحتفل بجميع أعياد أمي
وكان يعطينا المال لكي نشتري لأمي الهدايا في عيد الأم، وعيد ميلادها، وعيد زواجها
وكانت أمي تبتسم ابتسامتها الغريبة التي تخفي فيها أسنانها،
والتي اعتادت عليها بسبب فقدها لسنيها الأماميين عندما كانت في الخامسة عشرة من عمرها
عندما تزوجت أبي، أخذها إلى طبيب أسنان ركب لها أسناناً صناعية
كان أسعد يوم في حياة أمي، قالت لنا بأنها شكرت أبي كثيراً وكل يوم
لكنها لم تستطع تغيير شكل ابتسامتها الغريب...

لم يكن أهل أبي ملتزمين دينياً لدرجة كبيرة، لذلك لم تجبر أمي على ارتداء الحجاب
لكنها تعلمت أصول الدين للمرة الأولى في حياتها
تعلمت الصلاة والصوم وقراءة القرآن، وهي إلى اليوم تدين لأهل أبي بتعليمها الدين
بعد فترة قصيرة، سنة أو سنتين، التزم أحد أعمامي دينياً
وأجبر الجميع على الالتزام بتشدد
حطم عمي كل التماثيل وطمس اللوحات الفنية التي كانت تحتفظ بها جدتي في المنزل
وأصبح كل أهلي ملتزمين دينياً فجأة

قصة التزام عمي هذا مازالت لغزاً لم يستطع أي أحد تفسيره إلى اليوم
فقد كان أكثر أعمامي شقاوة، كان لاعب كرة مشهور جداً، وانضم إلى صفوف المنتخب الوطني
حياة الشهرة التي عاشها جعلته يميل إلى حياة العربدة والنساء
كان جدي متعباً من تصرفاته الحمقاء، وكان يعاقبه كثيراً
ثم قرر فجأة أن يتجه للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية
وحصل على بعثة دراسية فعلاً
توقع الجميع ضياعه وفشله التام
وكانت أسوأ الاحتمالات هي عودته محملاً بمرض خبيث لا علاج له
تقول أمي بأن سفره كان مأساة حقيقية بالنسبة لجدتي التي لم تعرف كيف سيكون سلوكه هناك
المفاجأة أنه عاد ملتزماً دينياً، ومتشدداً أيضاً!
عمي هذا أدخل الالتزام إلى عائلتنا، وصار جميع أعمامي وعماتي مثله
أطالوا اللحي وقصروا الأثواب
بعد فترة، ستقل درجة الالتزام في العائلة، ستقل كثيراً وستصل إلى مستويات معتدلة ومنطقية

في ظل هذه الأجواء الدينية اكتشفت أمي أن الخمر حرام
ومباشرة أخبرت أمها أن الخمر من المنكرات وأن أبوها، جدي، سيدخل إلى النار دون حساب
خافت جدتي على جدي من غضب الله، وأقنعته بهجر الخمر
وفعلاً، خلال فترة قصيرة أقلع جدي عن الشرب، وارتاحت أمي،
واستغفرت الله كثيراً لأنها كانت تسقيه الخمر دون اعتراض
بعد سنوات عندما مات جدي أبو أمي، قالت أمي: "الحمدلله، أمهله الله، الحمدلله"

عندما حبلت أمي بي بعد سنتين من زواجها
كنت أنا الحفيدة الأولى للعائلة، وكان احتفالهم بي كبيراً
دللوني كثيراً
وكنت ابنة مزعجة، مزعجة لدرجة كبيرة
عشت في بيت جدي الكبير خمس سنوات قبل أن أنتقل إلى بيتنا
بعدها صارت تربيتنا قائمة بيد والدتي فقط
التي بذلت جهداً كبيراً في تحصين بناتها بالدراسة، بالاستقلالية، وبحرية التعبير عن الرأي
الشيء الذي دعمه أبي لكن دون حماس،
فضل أبي ترك هم التربية بين يديّ أمي ولم يتدخل في تربيتنا أبداً

الشيء الذي لم يفلح فيه والديّ هو أسلوب العقاب الغبي الذي اتبعوه معنا
خرج الإثنان من بيئة تؤمن بأن الضرب هو الوسيلة الأولى للتربية
واتبع أبي معنا الأسلوب نفسه
لكن في معظم المواقف التي انضربت عليها لم أفهم سبب الضرب
ولم أعرف لماذا انضربت أصلاً
والطريقة التي يضرب فيها أبي كانت مؤلمة
مؤلمة لأنك لا تفهم السبب
ومؤلمة لأن أبي يتحول لكائن قاسٍ جداً، يتعمد إيلامك، ويضرب بأسوأ الوسائل

أحد المواقف التي لا يمكن أن أنساها هي عندما كنت في المرحلة الإعدادية،
كنت في الرابعة عشرة من عمري وكنت قد "بلغت " قبل أسابيع قليلة
ذلك اليوم عدت من المدرسة وتلقيت اتصالاً من عمتي،
عمتي الكبرى التي كانت وكيلة في المدرسة التي أدرس فيها ذلك الوقت
قالت لأمي بأني أنزل من باص المدرسة، أذهب للدكان وأعود للباص مرة أخرى
وأن أهالي الطالبات اشتكوا بسبب تأخر بناتهن عن العودة للبيت،
وبأني وبعض زميلاتي السبب في ذلك وبأنها ستخبر أبي
الطريقة الغبية التي تكلمت فيها عمتي لم تكن منطقية أبداً بالنسبة لي
كانت في حالة عصبية غريبة، وكانت تهددني بأنها ستخبر والدي، تهدد!

استغربت وسألت والدتي عن الخطأ الذي وقعت فيه
لم أكن الوحيدة التي تنزل من الباص
ولم أكن ممنوعة من الذهاب للدكان، كنا نذهب للدكان كل يوم
لكني بدلاً من العودة للبيت والذهاب مشياً على الأقدام، كنت أفضل النزول من الحافلة
قالت أمي: أبوك بيقتلك!
- يا سلام! ليش؟!
استطاعت عمتي وأمي أن تشعراني بالذنب وبأني ارتكبت فعلة كبيرة، كبيرة جداً رغم إني لم أعرف ما هي
وانتظرت عودة أبي، انتظرت العيد بفارغ الصبر

عاد أبي،
وكان غاضباً طبعاً،
ناداني مباشرة إلى الغرفة، دخلت وأغلقت الباب خلفي
كان يمسك بعصا مكنسة كهربائية بين يديه
من المنظر، عرفت بأني سأنقتل من الضرب ...






فقـد 04-17-2014 11:25 AM

أشار لي أبي بأن أجلس على الأرض
كان جالساً فوق سرير أخي، وكانت عصا المكنسة الكهربائية بجانبه
نظرت إلى وجهه مباشرة...
قال: على أساس كبرت وصرت العاقلة
كان يشير بشكل واضح إلى حقيقة بلوغي قبل أسبوعين،
لم أكن أعتقد أنه يعرف، لذلك خجلت وأخفضت بصري لأسفل

"هل تعرفين لماذا ناديتك؟"
عندما يسألنا أبي هذا السؤال تكون كل إجابة ضدنا
لو أجبت نعم يعني أنا وقحة، أعرف الخطأ وأرتكبه
لو أجبت لا، سأكون غبية وحمقاء ولا أعرف الصح من الخطأ
لذلك قلت: نزلت من الحافلة إلى الدكان أشتري حلويات ورجعت...
قال: كم مرة؟
- لا أدري، كثير
انتهى الحوار

بعدها
أمسك أبي بعصا المكنسة، طلب مني أن أرفع يدي
وهوى بها على كفي بكل ما أوتي من قوة...
استمر أبي بضربي ذلك اليوم إلى أن فقدت قدرتي على البكاء
ضربني على ظهري، ومؤخرتي، وأكتافي، وأقدامي، وصفعني على وجهي عشرات المرات
لم يكلف نفسه ولا للحظة عناء آن يشرح لي السبب الذي ضربني من أجله
كنت أرجوه أن يستمع لي وأنا أكرر: طيب أنا أروح الدكان كل يوم، شو المشكلة، ليش...
وكان يغضب أكثر ويضربني أكثر
حاولت أمي أن توقف أبي لكن طبعاً لم تكن محاولاتها مؤثرة بأي شكل من الأشكال
عندما توقفت حفلة الضرب خرج من الغرفة
وكالعادة عندما يضربنا، قال لي قبل أن يذهب: "عندما تكبرين، ستشكريني"
وأمر أمي بأن تقطع مريولي، لأني محرومة من الذهاب للمدرسة... للأبد!

كنت جالسة على الأرض أتفحص جسدي وأبكي بصمت
نظرت إلى نفسي في المرآة المعلقة على خزانتي، لم تكن هناك كدمات على وجهي، تنهدت بارتياح
يدي اليمنى كانت متورمة وممتلئة بالكدمات
تعمد أبي أن يوجه ضرباته للجهة اليمنى من جسدي
ربما لأني عسراء، وقليلاً ما أستخدم يدي اليمين
عندما كنت طفلة حاول أهلي كثيراً أن يجبروني على الكتابة بيدي اليمنى
لكن باءت كل محاولاتهم بالفشل، بعدها علموني أن أمسك الملعقة بيدي اليمنى
ولذلك الشيء الوحيد الذي أستخدم فيه يدي اليمين اليوم، هو الأكل...

وقفت...
لاحظت أن ظفر أصبعي الكبير في قدمي انكسر، كان ينزف قليلاً
مسحته بطرف بيجامتي التي لن أرتديها بعد اليوم لأنها تحولت إلى خرق
حمدت الله لأنني لم أكن أرتدي بيجامتي المفضلة
كان والدي صامتاً كعادته بعد أن يضربنا،
جهزت له أمي كأس شاي بالحليب والهيل، شرب... ونام

كانت الساعة قد تجاوزت الثامنة والنصف مساءاً
دخلت أمي إلي واحتضنتني وهي تتفقد الكدمات على وجهي
قالت بأن سمعة عمتي صارت على المحك في المدرسة
وبأن مديرة المدرسة قالت لعمتي "باب النجار مخلوع"
قالت: "تعرفين شو يعني تقول لعمتك باب النجار مخلوع؟"
كان الحوار الداخلي الذي دار بيني وبين نفسي يحمّل عمتي مسؤولية كل ما حدث
في ذلك اليوم اكتشفت أن علاقتي فيها ستقتصر على المجاملات
وبأنها إنسانة تافهة... تافهة جداً
لم أكن أعرف بأنها في المستقبل ستتخذ موقفاً حقيراً آخر ضدي
وبأني سأكرهها أكثر مما كرهتها ذلك اليوم

بعد أن حُرمت من الذهاب إلى المدرسة لمدة ثلاثة أيام تقريباً
اتصلت بجدتي ورجوتها أن تطلب من أبي أن يسمح لي بالذهاب للمدرسة بعد عطلة نهاية الأسبوع
لم أكن مستعجلة على الذهاب، كنت أريد أن تختفي كل الكدمات في جسدي
تفاجأت جدتي من كل ما حدث وغضبت من أبي كثيراً
لا أعرف ما هو الحديث الذي دار بينها وبين أبي لكني يوم الأحد، كنت في المدرسة

في المدرسة، كانت عندي صديقة مصرية اسمها نور كاندي
اسم تركي مركب يعني ضوء الشموع
كانت صديقتي المقربة والوحيدة في الصف
كنا نتنافس أنا وإياها على إحراز الدرجات النهائية
كانت تتفوق علي في الرياضيات والعلوم، وكنت أتفوق عليها في مواد اللغات الإنجليزية والعربية
أثناء غيابي عن المدرسة اتصلت بي نور تسأل عني وعن أسباب غيابي
أخبرتها بما حدث، ويبدو أنها أيضاً شعرت بأني مخطئة لأنها أبعدت نفسها عني نهائياً
حقدت على عمتي أكثر

بعد أسبوعين من تلك الحادثة تقريباً
طلبت مني أمي أن أذهب للدكان لكي أحضر بعض لوازم المنزل
رفضت،
قلت: تحتاجين الدكان روحي لوحدك، أما تضربوني وبعدين تطلبون مني أروح إنسي
سبتني أمي ودعت عليّ مليون دعوة لأنها كانت محتاجة للحليب من أجل وجبة الفطور في الصباح
وأمام إصراري الكبير على عدم الذهاب
وعجزها عن استحضار سبب منطقي يبرر إمكانية ذهابي الآن، وسبب الضرب الكبير الذي تعرضت له
اضطرت لأن تذهب مع أخي الصغير لوحدها....

وضحت لي هذه الحادثة شكل حياتي في المستقبل
اكتشفت وقتها أن أبي على استعداد لأن يقتلني من أجل كلام الناس، حتى لو لم يكن الكلام منطقياً
وتيقنت من أني سأنضرب كثيراً
كثيراً جداً...

في المستقبل،
سأحارب من أجل أسخف حقوقي الإنسانية
وسأرسم مليون خطة لهروبي من المنزل
وسأشعر بعدم الإنتماء وبالضياع التام
وسأفقد الثقة في نفسي، وبآرائي وأفكاري
وسأتحول لإنسانة مهملة وتافهة
وسأبحث عن القبول في كل مكان
حتى إني سأصل
... لمرحلة الإلحاد التام

في تلك الليلة بعد أن ضربني أبي
مر على غرفتنا كعادته كل ليلة، تأكد من نومنا جميعاً
ثم صعد إلى سريري، تفقد الكدمات على جسدي
قبلني على رأسي
...وخرج










الساعة الآن 03:20 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.