قراءة لمجموعتي " سرداب التاجوري"
هذه قراءة نقدية لمجموعتي القصصية " سرداب التاجوري" . كتب القراءة د. محمود أبو فنَّة وهو رجل تربية وباحث ومحاضر، وعضو مجمع اللغة العربية في حيفا.
متخصص في: الأدب العربي والعالمي، النقد الأدبي (خاصة أدب الأطفال)،والمناهج الدراسية وأساليب التدريس والتقويم التربوي. نشر العديد من الكتب والدراسات والأبحاث والمقالات. رحلة البحث عن الانتماء والتواصل في "سرداب التاجوري" لمريم خليل الضاني بفضل الشبكة العنكبوتيّة والمنتديات الأدبيّة أتيح لي التعرّف على الأديبة مريم خليل الضاني من المملكة العربيّة السعوديّة، والحصول على كتابَيْن لها هما: - "سرداب التاجوريّ" – مجموعة قصصيّة. الرياض، 2007 - "أيّام العطش" – رواية. القاهرة، 2011 بعد قراءة الكتابين بمتعة فائقة ارتأيتُ أن أشرك القرّاء بما جال في فكري من ملاحظات وتبصّرات حولهما، وسأبدأ بكتاب "سرداب التاجوري"، وآمل أن أتطرّق لكتاب "أيّام العطش" في المستقبل. الأدب النسائيّ في السعوديّة أعترف أنّ اطّلاعي على الأدب في السعوديّة عامّة والأدب النسائيّ خاصّة محدود. لكن في الآونة الأخيرة تسنّى لي أن أقرأ - قبل قراءة أعمال الأديبة مريم خليل الضاني - روايتين لأديبات من المملكة العربيّة السعوديّة وهما: رواية "بنات الرياض" - للطبيبة الأديبة رجاء عبد الله الصانع. ورواية "ملامح" - للأديبة زينب حفني. لا أنكر أنّي فوجئتُ عند قراءة الروايتين المذكورتين؛ فلم أكن أتوقّع أن أجد مثل هذه الجرأة في التطرق لموضوعات كانت – ولا زالت إلى حدّ ما – تعتبر من التابوهات التي لا يعالجها الأدباء العرب في أعمالهم الأدبيّة إلّا نادرًا. هذه التابوهات تتمثّل في مثلث أضلاعه: الدين، السياسة والجنس. فرواية بنات الرياض تتحدّث عن شريحة اجتماعيّة من أربع فتيات يدرسن في الجامعة ويعتبرن من الأسر الغنيّة المخمليّة ومحاولتهن البحث عن الحبّ والاستقرار العاطفيّ والزواج! أمّا رواية "ملامح" فكانت أكثر جرأة في شخصيّاتها وأحداثها واقتحامها التابوهات المحظورة؛ فالكاتبة تطرقت للعلاقات العاطفيّة بين الجنسين في إطار الأسرة وخارجها، بل تجاوزت ذلك وتطرقت للعلاقة المثلية بين النساء (السحاق). وأعتقد أنّ الروايتين المذكورتين لا تمثّلان الاتجاه الغالب في الأدب النسائيّ في السعوديّة، وبالفعل بعد قراءتي لأعمال الأديبة مريم خليل الضاني تأكّدتُ أنّ هناك توجّها مغايرًا! مجموعة:"سرداب التاجوري" صدر هذا الكتاب عن "دار المفردات للنشر والتوزيع" ط1 الرياض 2007. عدد صفحات الكتاب 89 من القطع المتوسط، ويحتوي على 18 قصّة قصيرة. تعالج قصص هذه المجموعة قضايا اجتماعيّة وهمومًا فرديّة وجماعيّة مستمدّة من الواقع المعيش في محيطها، ويغلب على معظم القصص صور معاناة أبطالها المتمثّلة بصراعهم مع الفقر والبؤس والوحدة والاغتراب وانعدام التواصل والألفة بين الناس؛ - فنجد معاناة الزوجة من إهمال الزوج، أو خيانته أو ساديّته وعنفه (قصص: إسبرين، صديقتي التي، علاقة، اخرج يا سعيد..). - ونجد عقوق الأبناء وعدم العناية الكافية بالأمّهات مثل: (القصص: مثل ما أحبّ أمّي، على بابه..) - ونجد الفقر والبؤس وعمل الكبار والأطفال لكسب الرزق والقوت مثل: (القصص: ثلاث على الطريق، خارج المفكّرة، بائع الشراشيب..) - ونجد الانشغال باللهو والتسلية وعدم الاكتراث بمشاعر الآخرين ومصائبهم ومصائرهم مثل: (قصص: طرب وحرب وبرتقال، ضوء، خطوات ميّته، صناديق البكاء، انتظار..) - وهناك تطرّق لموضوعات حسّاسة مثل: الصراع بين عاطفة الحبّ وعاطفة الأمومة (قصّة: مارد)، وقضيّة عذريّة المرأة ليلة عرسها (قصّة: صباح الدم)، ومسألة الغربة والانتماء للوطن الأمّ أو للوطن المنشأ (قصص: سرداب التاجوري، عصفور على النافذة). تجدر الإشارة إلى أنّ القصّة الواحدة قد تعالج أكثر من موضوع، وقد تحمل أكثر من رسالة واحدة! قصّة: "عصفور على النافذة" 1. الحزن المُقيم والوحدة القاتلة تسيطر أجواء الحزن والغمّ على غالبيّة قصص المجموعة، ويمكن أن نعتبر ما ورد في قصّة: "على بابه" على لسان موظّفة البنك تخاطب العجوز المريضة: "لا بأس، هوّني عليك. إنّ الإنسان مُبتلى في هذه الدنيا، ولا أحد منّا بمنجاةٍ من الهموم". يمكن اعتبار هذا القول القاسم المشترك أو الخيط الذي يربط بين معظم قصص المجموعة. ولكن، تنفرد قصّة "عصفور على النافذة" بخاصيّة تميّزها بشكل جليّ؛ إنّ حزن البطلة/ الراوية في هذه القصّة حزن مزمن تعيشه منذ زمن طويل، ورغم ذلك لم تتبلّد حواسّها، بل على العكس، ازداد هذا الحزن وتضاعف! وفي استقراء النصّ نتعرّف على أسباب ذلك الحزن المقيم، وتلك الوحدة القاتلة: - إنّها تكرار التفاصيل اليوميّة الباهتة – عمل مملّ وحياة رتيبة في المنزل. - إنّها الأوضاع المعيشيّة المترديّة في شقّة صغيرة: دقّات الساعة الرتيبة، وماسورة مشروخة يتسرّب منها الماء في المطبخ ليصل إلى مطبخ الجارة، ولا قدرة على إصلاح العطب! - إنّها الأمّ البعيدة عن البطلة/الراوية التي ترسل لها الرسائل دون التواصل الفعلّي وجهًا لوجه! - إنّها العزلة والفراغ بعد الطلاق وبلا أبناء يصخبون ويضجّون. - إنّها الغربة والاغتراب وانعدام الألفة والتواصل مع الآخرين! 2. حاجة الإنسان إلى الانتماء والتواصل مع الآخرين يتحدّث العالِم والباحث في علم النفس ماسلو عن حاجات الإنسان فيصنّفها في سلّم أو بناء هرميّ لا يمكن التدرّج والصعود من الحاجات الأساسيّة - التي تشكّل القاعدة – إلى الحاجات العليا الموجودة في أعلى السلّم أو في قمّة الهرم إلّا بعد إشباع الحاجات الأساسيّة الأولى! وبهذا السياق نورد الترتيب الهرمي للحاجات كما بيّنه ماسلو، ففي قاعدة هذا السلّم/ الهرم نجد الحاجات الفسيولوجية من غذاء وتنفس. .، ثم تأتي الحاجات العليا الأخرى. أمّا درجات هذا السلّم فجاءت على النحو التالي: - الحاجات الفسيولوجية: وهي الحاجات اللازمة للحفاظ على الفرد كالتنفس والطعام والماءوالإخراج... - الحاجة إلى الأمان، فمن أنواعه: الأمان الماديّ والأمان النفسيّ. - الحاجة إلى الحب والانتماء. - الحاجة إلى التقدير. - الحاجة إلى تحقيق الذات. - والحاجة إلى المعرفة والفهم.. وفي هذه القصّة تعاني البطلة/الراوية من الحزن والألم والوحدة وتبحث عن إشباع حاجتها للانتماء والحبّ والتواصل مع الآخرين. 3. محاولات الخروج من المأزق والبحث عن التواصل يكشف استقراء النصّ عدّة محاولات قامت بها البطلة/الراوية للتحرّر من مشاعر الحزن والكآبة والوحدة الضاغطة وتحقيق التواصل مع الآخرين؛ المحاولة الأولى: الهروب من دوّامة الفراغ والحزن والوحدة إلى أحضان النوم ولكن رنين الهاتف ونغمته الحادّة تُودي بهذه المحاولة. المحاولة الثانية: سماع رنين الهاتف لمكالمة من بيت جارتها – ظنّت البطلة/الراوية أنّ جارتها اشتاقت لها وترغب في محادثتها، لكنها تتلقّى صفعة قاسية وخيبة أمل، فالجارة اتصلت لتوبّخها على الماء المتسرّب من ماسورة مطبخها المشروخة لمطبخ الجارة، والأقسى أنّ الجارة وضعت السماعة دون أن تسمع ردّها! المحاولة الثالثة: التسكّع في الشقّة وتأمّل شرخ الماسورة الآخذ في الاتساع، والوصول إلى بركة الماء الصغيرة بجوار البالوعة وذرف الدموع الغزيرة فيها! المحاولة الرابعة: العودة للسرير والهروب مجدّدًا إلى النوم واستشراف شواطئه الدافئة، لكنها لا تلبث أن تنهض. المحاولة الخامسة: سماعها وإصغاؤها لتغريد العصفور قرب النافذة وهي متكوّمة في فراشها، وكان هذا التغريد متنوّع الدلالات ولا يشبه تغريد العصافير الذي اعتادت سماعه في طريق عودتها من العمل! المحاولة السادسة: غلبها النوم من جديد بعد أن أثقل النعاس أجفانها. المحاولة السابعة: استيقاظها من النوم وبحثها عن العصفور لتجده يقف على سطح بعيد يغرّد ويتنقّل من محلّ لآخر.. فتشرع في محادثته وإشراكه في معاناتها وهمومها لأنّ بينهما الكثير من القواسم المشتركة مثل: الوحدة، الغربة، الحزن والبكاء، الخوف والخطر وانعدام الحماية، التشرّد، الحنين للوطن البعيد... المحاولة الأخيرة: ابتعاد العصفور وعودتها لمناجاة ذاتها الحزينة الفاقدة للكثير من الأحبّة، التشاغل عن الرغبة في البكاء بمراقبة عنكبوت يتجوّل عند باب غرفتها، دفن رأسها بالوسادة، ثمّ فجأة تسمع من جديد تغريد العصفور - لعلّها تحلم - وهو يقف على حافة النافذة يغرّد ويبتسم!! 4. الحيوان/ الطائر كبديل للإنسان ليس على الخبز وحده يحيا الإنسان، وإشباع الحاجات الفسيولوجية لا يعوّض عن الحاجات النفسيّة الأخرى، والإنسان السويّ يسعى جاهدًا للبحث عن قنوات للتواصل مع الآخرين، والتنفيس عن آلامه وهمومه، فإن ظفر بشريك من البشر فهذا مبتغاه، وإلّا بحث عن بدائل أخرى قد تكون من عالم الحيوان أو الطير! وهذا ما وجدناه في قصة الشقاء (أو الألم) للأديب الروسي تشيخوف؛ فبطل القصّة حوذيٌّ فقير فقَدَ ابنَه وحيدَه الذي كان محطّ آماله، فراح يبحث يائسًا عمّن يشاركه هذا الحزن العظيم بين المسافرين الذين اقلّهم في عربته التي تجرّها فرسه، لكن مع الأسف لم يجد من يشاطره حزنه رغم انتماء المسافرين لجميع الشرائح الاجتماعيّة، حتّى زميله الحوذيّ البائس لم يُصغ لحزنه، وأخيرًا وجد ضالته في الحيوان؛ في فرسه التي أحسّ أنّها تبادله الإحساس، فأخذ يحدّثها بحرارة عن مأساته – فقد ابنه – مما خفّف عليه مصابه الجلل ومحنته القاصمة! وهناك قصّة قصيرة رائعة لأديبنا الكبير الحائز على جائزة نوبل للآداب – نجيب محفوظ، القصّة بعنوان: "القهوة الخالية" التي تصوّر مأساة إنسان هرم فقد شريكة عمره ومات جميع أترابه وأصحابه، فحاول أن يجد السلوان في الذهاب إلى القهوة التي اعتاد ارتيادها مع أصحابه، لكنّه وجدها خالية من الأنس بعد فقدان الأصحاب وموتهم، فعاد حزينًا قانطًا إلى بيت ابنه الذي عجز عن منحه الانتماء والتواصل، فحاول خلق التواصل مع مخلوق بديل وكان ذلك قطّة هادئة!! 5. ملاحظة أخيرة لم أتطرّق إلى النواحي الفنيّة الجماليّة التي تتوفّر في قصص هذه المجموعة "سرداب التاجوري" والتي تجعلها قصصًا مشوّقة مبهرة مدهشة للمتلقّي. ولا شكّ أن توفّر الموهبة الفطريّة لدى الكاتبة والمدعومة بالدراسة والتعمّق والرعاية والصقل، بالإضافة إلى التزام المؤلفة بمعالجة قضايا اجتماعيّة وإنسانيّة مستمدّة من الواقع المعيش في السعوديّة، ومستوحاة من كونها فلسطينيّة الأصل تتجاذبها مشاعر الانتماء المزدوج للوطن الأم فلسطين وللوطن المنشأ المدينة المنوّرة، كلّ ذلك أعطى أعمالها الأدبيّة نكهة خاصّة تقرّبها وتحبّبها لمتذوّقي الأدب الرفيع! وأختتم هذه الدراسة المتواضعة باقتباس "مقاطع" من القصّة (عصفور على النافذة) يتجلّى فيها الأسلوب الشاعريّ التصويريّ الجميل: - " قرأت ذات مرة أن طول زمن التعايش مع الحزن يورث تبلد الحس، ولكنه أورثني أورث المزيد من الألم ! . ذاك الحزن المعتّق المترسب في أعماقي كجنين ميت يابس، من سيجتثه ؟" ! وهذا اقتباس آخر تحادث فيه البطلة/الراوية العصفور الواقف على نافذتها: - "اِصغِ إلي يا عصفور: هل تعيش وحيدا ! وهل أدماك صقيع الغربة عندما ينساك الآخرون ؟وعندما تدمن البكاء ، وحين تهبط كريشة في هاوية لا قرار لها ؟ . هل يستوطنك الإحساس بأنك غصن مقطوع تدحرجه الرياح إلى أراض بعيدة موحشة ؟ هل تبحث عن شيء تحتمي به عندما تسحقك عواصف الخوف فلا تجد إلا الفراغ ؟". |
ولنا الفخر يا مريم
أن يتم تناول مؤلفات بماهو متاح من القراءات التحليلية المفصلية النقدية لبوحك ألق وتفرد وتميز حق لد. محمود أبو فنَّة أن يقوم بما قام به تحياتي لك وتمنياتي بمواصلة الإبداع |
سلمت أخي عبد الإله . كم أنا ممتنة لك !. هذه هي القراءة الرابعة عشر لمجموعتي ولله الحمد والفضل وبقية القراءات مبثوثة في المنتديات الأدبية في النت وقد كتبها أدباء من دول عربية مختلفة : فهد المصبح وعبدالله الدحيلان وعبدالله آل ملحم وألق الماضي من السعودية . صبيحة شبر، ووجدان عبد العزيز من العراق، السعيد موفقي أحمد مكاوي من الجزائر ، محمود توفيق حسين من مصر، نور الجندلي من سوريا، سالم يوسف من الأردن ، د. سهام العمرين ود محمود أبو فنة من فلسطين وآخرين .
|
الساعة الآن 01:51 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.