منتديات أبعاد أدبية

منتديات أبعاد أدبية (http://www.ab33ad.com/vb/index.php)
-   أبعاد النثر الأدبي (http://www.ab33ad.com/vb/forumdisplay.php?f=5)
-   -   الجانب المظلم (http://www.ab33ad.com/vb/showthread.php?t=42217)

الطاهر حمزة 06-16-2020 12:58 PM

الجانب المظلم
 
يقف خلف المرآة في بذلة سوداء، وساعة سويسرية فاخرة. يرتب لحيته الكثة بمشط صغير ، يمرره ببطء وسلاسة؛ وهو يراقب انسلال أسنانه وانغماسها. يكاد أن يلصق وجهه على ظهر المرآة، منقّلاً بصره بين بؤبؤي عينيه السوداوين اللتين يضيقهما ويفتحهما في تركيز، عازماً على إيجاد الفرق بين قطريهما؛ كما أنه يقسم على أن يراهما في آن واحد. يتلمس القرنة بين حاجبيه لينزلق بسبابته على طرف حاجبه الأيمن وصولاً إلى الجرح الحديث الذي أحدثته شفرة الحلاقة على خده؛ سرعان ما يتبخر الدم السائل منه.
ينظر إلى الساعة في يده ليجد عقربيها متطابقين، فيحدث نفسه أن الوقت قد حان. يخطو خطوتين نحو الكرسي الوحيد الذي يتوسط الغرفة، ذات السقف الزجاجي، ويلقي بجسده عليه. يمد يده إلى الأرض ليلتقط القناع الأسود الملقى أسفل الكرسي، فيرى انعكاس قرنيه الضخمين على مقدمة حذائه اللامع. يسند ظهره إلى الخلف وهو يمسك القناع بكلتا يديه؛ يرفعه إلى وجهه، ثم يغطيه. يغرقُ القمرُ المطل عبر السقف الزجاجي الغرفةَ في ظلامٍ دامس؛ حتى أن حلقة الضوء المحيطة به قد تلاشت.
يغمض عينيه فيحل هدوء تام؛ دام لثوانٍ فقط قبل أن يصرع طرقٌ قوي باب الغرفة الضيقة، فيسقطه إلى الأرض مصدراً دويّاً عالياً. يقتحمُ الغرفة فتى ضعيف البنية، ورثّ الثياب، مستغيثاً طالباً الحماية؛ يرفع الباب سريعاً بيديه الداميتين كيدي قصاب، ليغلق الغرفة. يجري إلى الركن القصيّ من الغرفة بعد أن تأكد من إغلاق الباب. يتكور على نفسه على الأرضية كجنينٍ مُجهَض حديثاً، يلطخُ وجهَه الدم؛ وهو يبكي ويرتجف.
القمرُ المظلم ومخلوقاتٌ أخرى تظهر فوق السقف الزجاجي، جميعهم يجلسون الآن لمشاهدة هذا المسكين الذي يغطيه قرصُ ضوء، وهو ينتحب ويئن في الزاوية،بعينيه السوداوتين ولحيته الكثة، وحاجبيه السميكين؛ بينما يخفي الجالس على الكرسي وجوده جيداً على الجانب المظلم من الغرفة.

سيرين 06-17-2020 02:55 PM

كم من اقنعة سوداء تحاول اخفاء الجوانب المظلمة الغير قابلة للتحول
اسلوب جمع التشويق والغموض بما يتيح افق شاسع المدى للقاريء
سلمت يمناك كاتبنا المبدع \ الطاهر حمزة
مودتي والياسمين

\..:icon20:

نادرة عبدالحي 06-17-2020 10:28 PM



الكاتب الفاضل الطاهر حمزة بالفعل يمتلك الإنسان جوانب عدة في شخصيته واسلوب حباته

ويعود ذلك للظروف التي يمر بها ويواجها ،

مشهد مؤلم ومؤثر للحظة التي يتذكر فيها الحدث الذي لا يستطيع التخلص منه ،
اقتباس:

يتكور على نفسه على الأرضية كجنينٍ مُجهَض حديثاً، يلطخُ وجهَه الدم؛ وهو يبكي ويرتجف.
سلم البنان كاتبنا الفاضل ودامت محبرتكم عامرة بكل جديد وابداعي وجميل وهادف ،

الطاهر حمزة 06-19-2020 05:18 PM

الأقنعة تسترُ العيوب وتخفي تعابير الوجه التي تفضح مشاعر الإنسان؛ ففي بعض الأحيان السترُ واجب.
كل التقدير والإحترام. 🥀

الطاهر حمزة 06-19-2020 05:34 PM

ما قبل الوصول
 
عندما اخترقت الرؤوسُ المعدنيةُ المدببةُ صدري وحنجرتي وفرقت أضلعي؛ ابتلعتُ صوتي. كنتِ تشاهدينَ التلفازَ حينَها. لكم تمنّيتُ أن تعرضَ القناةُ جميعَ حلقاتِ مسلسلكِ المفضلِ حينها، ريثما يجد المسعفون طريقةً لاستئصالِ نصفي المقدّدِ من السُّور.
ما الذي دعاكِ للخروج إلى الشُّرفة؟ سمعتُ صراخِك القادم من الأعلى؛ لكنني لم أقوَ على الإلتفاتِ، فجسدي الآن مثبّتٌ إلى شوكةِ طعامٍ كبيرةٍ وصدئة؛ كما أنّ طعمَ المعدنِ أثقلَ لساني. على أيّ حالٍ كنتِ في طريقِك إليّ.
كان الدمُ ينسابُ دافئاً على ذراعِي إلى باطنِ يدِي، التي وحّدت تعرجاتُها مسارَهُ إلى سبّابتِي، فتساقطَت قطراتُه على البلاطةِ البيضاء المُتصدِّعة: قطرةً بعدَ قطرة؛ كصُنبورِ ماءٍ عطِش. جزيئاتُ قطراتِ الدمِ المتطايرةِ والمرتدة من اصطدامِها بالأرضِ، تبدَّتْ لي أبعادُها واضحةً جليّةً؛ عرفتُ أقطارَها وأحجامَها، ودرستُ تناثرَها وتشظِّيها إلى ذراتٍ أصغرَ فأصغر؛ لكن بلورتين غطّتا عينيّ، فأضحى المشهدُ ضبابيّاً.
اختلطت الأصواتُ بالأسفل وما زلتُ معلّقاً فوقَ جمعٍ من الفضوليين، الذين لم يفعلوا شيئاً لإنزالي بعد. لم يبدُ أنّ أحداً يهتم. اختفى المُسعفُون، وسيارةُ الإسعاف قد بح صوتُها؛ فآثرت السكوت.
لم تصِليني بعد يا أمّاه، والأصواتُ حولي بدأتْ تذوب وتتلاشى. كنت قد بدأتُ أشعر ببردٍ شديدٍ يسري عبرَ جسدِي الذي يرتعدُ بشدةٍ كمحركِ سيارةٍ خرِبة.
كقطرةٍ حبرٍ في كوبِ من الماء: بدا بين الجموعِ الضبابيّة شبحٌ أسود. اقتربَ حتى وقفَ على اللوحِ الأبيضِ الملطّخِ بالأحمر القاني، تحتَ رأسِي مباشرةً. لم تأخذ قطرةُ الدمِ الأخيرةِ هذه وقتاً، حتى أسمع صوتَ ارتطامِها الخافتِ، وجزيئاتها التي لم تتناثر هذه المرة؛ كأن الظلّ قد قام بامتصاصها.
ها قد أتى صوتُك بعيداً _يا عزيزتي_ كقطارٍ أخيرٍ؛ وها أنا الآن أغادرُكِ كمحطّةٍ مهجورةٍ بلا مُسافرِين. أغادرُك محمُولاً إلى الجانبِ الآخرِ من القمر؛ فلقد اتضح أن للظلّ جناحان، وقرنان أيضاً..

صفاء فؤاد 06-19-2020 08:12 PM

اعجبني جداً ماكتبت.. وكل سطر اقرأه كأنني اراه امامي..
تحية مني لك ولقلمك ..


الساعة الآن 03:19 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.