منتديات أبعاد أدبية

منتديات أبعاد أدبية (http://www.ab33ad.com/vb/index.php)
-   أبعاد النثر الأدبي (http://www.ab33ad.com/vb/forumdisplay.php?f=5)
-   -   لكنه وطن (http://www.ab33ad.com/vb/showthread.php?t=39857)

عمرو مصطفى 10-06-2018 03:30 PM

لكنه وطن
 
إهداء إلى السيد سليمان.

***

أشياء عديدة دفعتني دفعاً ؛لاتخاذ ذلك القرار الصعب ..
كلنا يعلم طبيعة عملنا الأمني وقواعده الصارمة ؛لابد أن تظهر خلاف ما تبطن،لابد أن تغلف مشاعرك بجبل من الجليد ..
لكن حتى جبل الجليد يمكنه أن يذوب إذا ثار البركان الذي بداخله ..
أنا أمر بتلك اللحظة حالياً ..
جبل الجليد الراسخ في سبيله للتخلي عن جموده وسرعان ما سيقذف بالحمم في كل صوب ..
ساعتها لا أحد يضمن النتائج ..
الرؤساء يعلمون جيداً تاريخي في الجهاز، والتشدق كلمة لا وجود لها في عملنا القائم على التفاني والكتمان ؛لذا لا سبيل لإساءة الظن بي ،وتفسير طلبي على غير المراد ..
لقد سقطت القشة التي قصمت ظهري يوم عدت مؤخراً من الخارج
بعد عملية الليل البهيم ،عدت للديار التي تفانيت في حفظها وحياطة
أمنها على مدار ربع قرن من الزمان،عدت كي أهنأ باستراحة محارب، يلتقط الأنفاس، من ثم يعود ليمتطي جواده وينطلق مرة أخرى إلى الميدان ،لا داعي ههنا لذكر مواقف أسرية وعاطفية لم نتعود على البوح بها في عملنا، المهم أنني بعد جلسة أسرية حميمة قررت أن، أجوب شوارع العاصمة ..
جولة حميمية أعانق فيها الشوارع والميادين ،أتأمل بني وطني
بتركيز كأنني أبحث في ملامحهم عن الأشياء التي نضحي في سبيلها بأرواحنا ذاتها ، وينتهي بي المطاف حيث مرسى النهر الخالد
لحظات من التأثر تدغدغ مشاعرك وتكاد تجرفك مع أمواج النهر
إلى حيث المصب لكنك تملك كبح جماح مشاعرك وراء جدار من الصلب ترسمه ملامحك باحتراف،لا أحد يتخيل ولا أحد يمكنه أن يستشف شيئاً من وراء قناعك البارد ..
جلست بأحد الكافيتريات التي تطل على الكورنيش وطلبت مشروباً شرقياً دافئاً ..
الأن أقترب أكثر من الناس البسطاء، أراهم وهم يحتسون
المشروبات الغازية !يتهامسون، يضحكون ،أشعر بالفخر والانتشاء وأجد أن ابتسامة طفل أمن في حضن أمه تستحق فعلاً ربع قرن من التضحيات ..

***

أسرة لطيفة كانت تجلس بجانبي مكونة من زوج وزوجة وطفل
لم يتجاوز الثلاث سنوات ، أسرة لطيفة شربت كميات مريعة من المشروبات الغازية القاتلة، لابد أن الحساب سيكون (على النوته).
هنا حدث أخر شيء يمكن توقعه ..
قام الزوج متثاقلاً واتجه للنادل وسأله عن الحمام ،وبعد أن غاب الزوج قامت الزوجة وحملت طفلها واتجهت ناحية باب الكافيتريا وتركت خلفها حقيبة يدها الجلدية ..
نظرة واحدة لحقيبة يدها أدركت أنها لن تعود لا هي ولا زوجها ..
كانت الحقيبة خاوية !..
الخديعة ضلع أساسي في عملنا الأمني لكننا نقوم بخداع الأعداء لا خداع بعضنا البعض ..
بعد قليل جائني النادل أحمر الأذنين وطلب مني الحساب، نظرت
إليه ففهمت أنه بدأ يشعر بالمقلب لكنه لا يريد أن يتسرع في الحكم على الأسرة السعيدة ، حتماً سيعودون ..
ـ لماذا تطلب الحساب الأن ؟..
ـ تبديل وردية ..
طبعاً هو يكذب، فقط هو لا يريد تكرار الخطأ مرتين، من يدريه أنني لن أذهب بدوري للحمام، أخرجت حافظتي وأنا أسأله في
هدوء :
ـ أريد ان أدفع حساب الزوجين ..
صاح في لهفة :
ـ هل تعرفهما ؟..
ـ أنا لا أعرفهما، فقط أعرف أنهم لن يعودا كما تأمل ..
بعد إلحاح شديد قبل أن يأخذ مني الحساب ، كان ممتناً وهو يردد الكثير من عبارات الشكر ، والكثير من اللعن على الزوجين معدومي الضمير لكنني كنت مهموماً بأمر أخر فصرفته برفق وعدت لتأملاتي، ربع قرن من الكفاح في سبيل أسرة تتهرب من دفع حساب المشروبات ..
بعد قليل دخل شاب وفتاة وجلسا في نفس الطاولة التي كان يجلس عليها زوجي النصابين ، لم يكونا من طراز المخطوبين لذا جلست اتوقع الأسوأ، والأسوأ جاء سريعاً مريعاً ..
شاب وفتاة في جلسة منحلة ، قد أقبل هذا في بلاد الأعداء وأنا مشمئز، لكن هنا ، في وطني !..
بعد دقيقتين كنت أغادر الكافيتريا ووجهي البارد محتقن من أثر المجهود الخرافي الذي أبذله في سبيل كتمان مشاعري الحانقة ..
غادرت فقط لأصطدم بمظاهرة لشباب حانق يصر على أن الإصلاح يبدأ بحرق السيارات والمنشئات العامة والتحلية برجال الشرطة ..
أين هؤلاء وأين نحن..؟
هل يعرف هؤلاء ما يحيق بهذا الوطن من المخاطر ..
هل لو علموا لظلوا على ما هم عليه ؟
هل ذهبت أعمارنا سدى ؟
في تلك اللحظة الفارقة اتخذت القرار الحاسم الذي من أجله قدمت
تلك المقدمة ، أنا لن استطيع أن أقف مرة أخرى في وجه الخطر
بظهر مكشوف ، لذا أرجوا من السادة الرؤساء تفهم طلبي والتكرم بقبول استقالتي ..
انتهيت من إلقاء خطبتي العصماء ، ووقفت هنيهة أتأمل وجهي الجامد في المرآة ..
لقد وقفت هذه الوقفة عشرات المرات على مدار ربع قرن وفي كل مرة لا يتجاوز قرار استقالتي حديثي لنفسي أمام المرآة ..
أنا أعرف نفسي جيداً، وأعرف أنني لم أضيع عمري في سبيل أسرة تتهرب من دفع الحساب، ولا من أجل شباب ماجن، ولا من أجل متظاهرين يخربون بيوتهم بأيديهم . كل هذه الصور المحزنة لم تفت في عضدي يوماً، ولم تثنيني أبداً عن أداء مهامي.

***
بلاد ألفناها على كل حالة ..
وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن ..
ونستعذب الأرض التي لا هواء بها ..
ولا مائها عذب ولكنها، وطن ..
***

القاهرة
الجمعة 20 جمادى الأول 1435 هـ
21 مارس 2014 مـ

نادرة عبدالحي 10-12-2018 06:48 PM

كثيرة هي المشاهد التي نحتاج ان نراها من خلال عيون وأفكار الأخرين سواء كانوا حماة الوطن

أو غيرهم . سواء كان مواطن بسيط لديه نظرة في خاصة في الجسم المفكك / المترابط لمجتمعه .

فنظرة الإنسان الأخر تجعلنا نرى أمورا لا نراها من خلال نظراتنا او مبادئنا ,

دامت محبرتكَ عامرة بالخيرات كاتبنا الفاضل .

إيمان محمد ديب طهماز 10-12-2018 07:26 PM

يوما ربما ليس بالبعيد
أتوقع أن أقرأ رواية ضخمة جدا للكاتب الرائع عمرو مصطفى

أنا معحبة جدا بهذا الإسلوب الذي تكتب به أخي عمرو
فقد قرأت روايات عالمية
و عربية
و أجد بإسلوبك سمة الكتّاب الكبار جداً
من حيث السرد و الحبكة
أجمل ما في كتاباتك أنك تمتلك قدرة هائلة
بجذب القارئ من أول النّص
و من ثم جعله يتابع القراءة بذات الرغبة دون ملل
الموضوع رائع و العنوان شامل و مبهر
بحقّ أتمنى من الله لك التوفيق
و النجاح بشقّ طريقك نحو العالمية
كلّ الوّد
سلمت الأنامل

عمرو مصطفى 10-13-2018 09:50 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نادرة عبدالحي (المشاركة 1084140)
كثيرة هي المشاهد التي نحتاج ان نراها من خلال عيون وأفكار الأخرين سواء كانوا حماة الوطن

أو غيرهم . سواء كان مواطن بسيط لديه نظرة في خاصة في الجسم المفكك / المترابط لمجتمعه .

فنظرة الإنسان الأخر تجعلنا نرى أمورا لا نراها من خلال نظراتنا او مبادئنا ,

دامت محبرتكَ عامرة بالخيرات كاتبنا الفاضل .

ودامت مشاركاتك القيمة أستاذة نادرة.
تقديري لحضرتك.

عمرو مصطفى 10-13-2018 10:22 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة إيمان محمد ديب طهماز (المشاركة 1084143)
يوما ربما ليس بالبعيد
أتوقع أن أقرأ رواية ضخمة جدا للكاتب الرائع عمرو مصطفى

أنا معحبة جدا بهذا الإسلوب الذي تكتب به أخي عمرو
فقد قرأت روايات عالمية
و عربية
و أجد بإسلوبك سمة الكتّاب الكبار جداً
من حيث السرد و الحبكة
أجمل ما في كتاباتك أنك تمتلك قدرة هائلة
بجذب القارئ من أول النّص
و من ثم جعله يتابع القراءة بذات الرغبة دون ملل
الموضوع رائع و العنوان شامل و مبهر
بحقّ أتمنى من الله لك التوفيق
و النجاح بشقّ طريقك نحو العالمية
كلّ الوّد
سلمت الأنامل

أحياناً كثيرة يكون التواضع نوع من الرياء المبطن؛ لذا أجدني الآن في حيرة من أمري.
لا أخفي سعادتي برأيك أستاذة إيمان ، وكذلك لا أخفي مدى رعبي، أنا من النوع الذي يصاب بالرعب حينما أمدح.
أشعر بالمسئولية والخجل خصوصاً مع هؤلاء الذين يتوسمون فيك خيراً ومستقبلاً واعداً، وأنت تعرف مسبقاً من دخيلة نفسك أن هذا قد لا يكون بالصورة التي يتوقعون.
بالرغم من ذلك أنا اعتبر نفسي محظوظاً، أكتب ما أريد وأجد الوقت والمكان المناسب والقارئ المناسب كذلك، مثل هذا لم يكن متاحاً في أجيال سابقة عانت ما عانت من أجل نشر كلمة في ذيل جريدة.
أما العالم والعالمية فهو بيد حفنة من بارونات المال والأعمال والسياسة، مالنا ولهم، لن يرضوا عنا، ولن نرضى عنهم؛
حتى تشرب الأرض الدم.
بوركت أختنا الفاضلة، وأشكر لك حسن ظنك بأخيك.

عَلاَمَ 10-18-2018 01:01 AM


لكنه وطن !
وهذا ما يُحار العاقل في أمره فلايدري ماينبغي فعله !
ويبقى المرء رُغماً عنه امام خيارين لاثالث لهما :
الرضى بالمُعلبات كوقود تقيه الجفاف الفكري الحاصل !
اوالسباحه بحثًا عن مورد نقي مع ضرورة تحمل التبعات ..
الأمر ليس بسهل , وغير مُستحيل .

استادي شكرا لك

عمرو مصطفى 10-21-2018 09:30 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عَلاَمَ (المشاركة 1085151)

لكنه وطن !
وهذا ما يُحار العاقل في أمره فلايدري ماينبغي فعله !
ويبقى المرء رُغماً عنه امام خيارين لاثالث لهما :
الرضى بالمُعلبات كوقود تقيه الجفاف الفكري الحاصل !
اوالسباحه بحثًا عن مورد نقي مع ضرورة تحمل التبعات ..
الأمر ليس بسهل , وغير مُستحيل .

استادي شكرا لك

الأمر سهل ممتنع..
بوركتم.

سيرين 10-21-2018 06:16 PM

لن استطيع أن أقف مرة أخرى في وجه الخطر
بظهر مكشوف


تعبير اختصر لحظة تمرد المحارب من اجل الوطن
وفي المقابل شراذم تنخر بداخله
لكن فرسان الوطن تظل على عهدها حتى الموت
سرد قصصي متقن الصوغ والسلاسة
سلمت يمناك مبدعنا الالق \ عمرو مصطفى
مودتي والياسمين


\..:34:


الساعة الآن 12:27 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.