![]() |
{| ثقافة الاختلاف |}
[] ثقافة الاختلاف [] " كُلٌّ يَتَّبِعُ ما صحَّ عِندَه ، و كُلٌّ على هُدًى ، و كلٌّ يُريدُ الله " مالك بن أنس التوسُّعُ المعرفيُّ قاضٍ باتِّساعِ وُجهاتِ النظرِ و اختلافِ الرأي ، و تلك الوُجهاتُ و الاختلافُ مِن مُوسِّعاتِ المعرفةِ و الثقافة ، و لولاها لبقيَت المعارفُ في ضِيْقٍ و حيِّزٍ محدودٍ ، و تلك سنةٌ من سُنن الله في الثقافات و المعارفِ . و ذلك الاختلافُ من نتائجِ إعمالِ العقولِ وظائفَ التفكيرِ ، فإن العقلَ في إعمالِهِ التفكيرَ في الواردِ عليه يختلفُ في التحليلِ له من عقلٍ إلى آخرَ ، في محالَّ يُجرى فيها ذلك ، بناءً على خلفياتٍ يعتمد عليها ، كالخلفيةِ الدينية بصورتها العامة ، و كالخلفية اللغوية ، و كالخلفية البيئية ، و مِن ثَمَّ يَحدُثُ تغايرُ الفهومِ للأشياءِ المُتَّحَدِ في النظر فيها و الإعمال العقلي فيها . حيثُ لا سلامةَ من الاختلافِ في البيئة البشرية ، إذْ هو من لوازمها و من عللِ إيجادهم ، كان الوقوف على تثقيفٍ لمقاصِد الاختلافِ من الأمورِ المُرْشِدة و المهامِّ المُنْجدة ، ليكون وجودُ الاختلافِ رحمةً كما رَمى إلى ذلك الأكابرُ ، و بلا تثقيفٍ لمقاصِدِه بل تفعيلٌ لدورِ صُوَرِهِ و مشاهده يَغدو _ كما هو الآن _ شراً لا خيرَ مرجواً منه . الثقافات و المعارفُ لا تخرجُ عن منطقتين فهومُ الناسِ فيهما ، و لا تعْزُبُ عن محلَّيْن ، شأنا ثابتاً فيهما : الأولى : منطقةُ الاتفاق . و هي منطقةٌ تجمَعُ مقاصِد العلم ، و تُعنى بمُجملاتِ أصولِهِ ، و أساسياتِ الثقافة ، مما لا يَسَعُ أحداً أن يُجريَ فهماً ليخرُجَ عنها بقصدٍ التغييرِ ، و هي منطقةٌ تجمعُ أربابَ الفنِّ الواحد تحتَ رايةِ الانتماءِ إليها ، دون تفريقٍ و إقصاءٍ إلا في حينِ خَرْقِ ذلك بمخالفةٍ ناقضةٍ للتآلُفِ و التواصُلِ ، كمنطقةِ الأديانِ انتساباً ، فلا ينتسبُ مسلمٌ لغيرِ الإسلامِ إلا بخرْقِ منطقةِ انتسابِهِ بمخالفتِهِ مقاصِد و أصولَ الدين ، و كمنطقةِ الفنونِ الثقافية فلا يُقْصَى أحدٌ عنْ فنٍّ منتمٍ إليهِ إلا عندما يأتي بمخالفةِ أصولِ الفنِّ و أُسُسِهِ فلا يكون منسوباً حينَئذٍ ، فالمخالفةُ هنا خِلافٌ منزوعةٌ منه تاءُ التأليفِ لكونه شراً مناقضاً مقاصد العلم و معاقِد الأصلِ . و هذه المنطقةُ لا يُخْرَجُ منها من أجرى فهمَه في : الثانية : منطقة الاختلاف . و هي منطقةُ إعمال العقولِ في درْكِ مقاصِد المنطقة الجامعة ، على حَسْبِ قُوةِ العقلِ إدراكاً و إعطاءً ، فكانت متباينة الفهومُ فيها مما أحدثَ أنواعاً منها ، كُلُّها تجتمعُ في تبيانٍ لِسَعةِ مقاصِد العلمِ ، و شُموليةِ أصول الثقافةِ ، و هذه المنطقةُ أوْرَثَتْ كثيراً من الفَتْحِ الثقافي المعرفي ، فباختلافِ الفهومِ تنويعٌ و توسيعٌ للمعارفِ ، حيثُ مبادلةٌ بين القبولِ و الردِّ ، و الأخذِ و الإعطاءِ ، و فيها فَتْقٌ لمنابعَ أُخَرَ في المعارفِ و العلوم ، لذا كانتْ عائدتها نفعاً ، و ليستْ هذه موصومةً بالعَيْبِ و النِّقْمةِ بل نُعِتَتْ بالخيرِ و الرحمةِ ، لأثرِها في السَّعةِ و التأليفِ . منطقةُ الاختلافِ تُحْدِثُها بواعثُ لا تخرُج عن ثلاثةٍ : الأولُ : العقليةُ البشرية . فليستْ عقولُ الناسِ على نَسَقٍ واحدٍ ، و لا نُسْخةً مكرورةً في كلِّ كائنٍ بشري ، بل هي متفاوتةٌ في الإدراكِ و الوعي ، و كان بذلك تفاوتٌ في الحكمِ و الفهمِ ، و اختلافُ العقليةِ البشريةِ قد يكون فِطرةً ليسَ للشخصِ يدٌ فيها ، كمن قلَّ فهمُه لِقِلَّةِ ذكائه و إدراكه ، و قد يكون اكتساباً في حالِ قَصْرِ العقلِ على فَهْمٍ موروثٍ ، أو حَصْرِهِ على مصدرٍ واحدٍ لا يُبتغى بِهِ بَدلا ، فمما لا بُدَّ منه حينها أن يكون هناك مخالفةٌ لذي رأيٍ آخرَ مخالفٍ . الثاني : الأدلةُ و البراهين . ففي كلِّ علمٍ دلائلُ مسائله ، و براهينُ علومه ، و تلك إما أن تكون جائية لا تحتملُ إلا معنًى واحداً ، فالخروجُ عنه مذمومٌ صاحبُه ، و إما أن تكون مما يحتملُ أوجُهاً ، أقلَّها وجهانِ و ربما زادت ، فتكون العقولُ في توظيفِ الفهمِ في تلك الاحتمالاتِ ، فيؤخَذُ باحتمالٍ من قومٍ ، و يؤخذ بآخرَ من آخرين ، و قد يكونُ بعْضٌ يَحملُ دليلاً على كونه قَطعيَّاً في الدلالةِ الحُكمية ، و غيرُه لا يرى في ذلك القطعيَّةَ الواردةَ عليه . و هذه الاحتمالاتُ قد تكون بسببِ تعدُّدِ الأدلةِ في أمرٍ واحدٍ مختلفةً في الحكمِ ، فقد يكون أحدهما ميَّالٌ إلى المنعِ و الآخرُ إلى عدمهِ . الثالث : اللغةُ . فللغةِ دورٌ كبيرٌ في تغييرِ فَهْمِ الأدلةِ و البراهين ، ففيها اختلافٌ في البناءِ الإعرابي ، و في التغيير الصَّرْفي ، و في المعاني المتعددةِ للفظةِ الواحدةِ ، وفيها اللهجاتُ البُلْدانيةُ القَبَلِيَّةُ ، و فيها التطوُّرُ الدِلاليُّ للكلمة ، و فيها الحقيقةُ و المجازُ ، و لدلائلِ اللغةِ أثراً كبيراً كدلائلِ الأفعالِ الأمْرِيَّةِ ، فهذا الاختلافُ اللغويُّ سببٌ في تبايُنِ الأفهامِ في دَرْكِ المُرادِ و تعيينه . و فيما مضى عذرٌ قائمٌ لكلِّ من أتى منه اختلافٌ في شيءٍ من جزئياتِ العلوم و المعارفِ ، فيُحافَظُ بمعرفتها على صِلَةِ الربطِ بمنقطة الاتفاقِ الجامعة ، و يُحظى بأثرِ التنويعِ المعرفي بمنطقةِ الاختلافِ الواسعة ، فيكون سلطانُ الرحمةِ جامعاً بالتأليفِ و التواصلِ الباني مناراتِ العلوم و المعارفِ ، و لا يبذلُ العذرَ إلا من أدركَ حظاً مِن السَّعةِ في العلوم و المعارفِ ، و كان طُلْعَةً في فنونٍ شتَّى ، و أما من كان قاصرَ الطَّرْفِ على جزءٍ من العارفِ و العلومِ فلن يكون عاذراً أحداً خالَفَه في شيءٍ سائغٍ . |
عبدالله العتيق
ـــــــــــ * * * أُرحْبُ بِفكركَ الوضّاء . : [ ثَقافَة الاخْتلافِ ] مَشْروْطَةٌ بِـ [ اخْتلافِ الثّقافَة ] ، إذِ الثّانيَةُ تُحِيلُ إلى الأوْلَى بِالضّروْرة لا بِالضّرَرْ . أذكُرُ لِيْ : الاخْتلافُ طَريْقٌ لا يُؤدّي إلاّ للْحَياةِ ، وَ لَو تَشَابَه الكَونُ لَفَسُد ، فَما بَالُنَا لا نَتْفقُ إلاّ مَعَ مَن شَابَهَنا ! هَبْ أنّكَ اسْتَمرّيْتَ بَالنّظرِ إلَى الْمِرآة وَ أنتَ تُشَاهدُ نَفْسَكَ ، فـ إمّا أنْ تَقذِفَك الْمِرآةُ ، وَ إمّا أنْ تُديرَ ظَهرَكَ لِتَرى غَيرَك .. لَنْ يَكونَ هُناكَ طَرِيقٌ لِجُمُودِكَ المُسْتمِرّ . أنْ نَخْتلفَ يَعْنيْ أنّنَا نَتّفقُ بَالفِكرِ لا بَالفِكْرَة ، فَالجَذْرُ وَاحِدٌ : [ الفِكْر ] وَ الأغْصَانُ تَتَعدّدُ : [ الأفْكَار ] ، عِندَهَا فَقَط تُجنَى الثّمَار ، لكِنّنَا حِينَما نَتَشَابهَ بَالفِكرِ وَ الفِكرَةِ ، فَإنّنا لَمْ نَدَع للثّمَارِ مِنْ مِقطَف . : الصّديق : عبدالله العتيق ، شُكراً كَعَظَمتكَ . |
اقتباس:
قايد الحربي ~~~ جميلٌ هو حرفُك هنا ، و لا مزيد عليه ، إلا أن أقف مُعجباً شكراً لك يا صديق |
أستاذ عبد الله العتيق أهلاً بكَ , الاختلافُ اتفّاقٌ بطريقةٌ أخرى , إذ أنَّ التّباينَ في طُرِقِ التّفكيرِ و التّحليلِ هو سببُ ذاك الاختلافِ و طريقهُ أيضاً إلى اتّفاقٍ على وجهةٍ واحدةٍ او على احترامٍ كلٌّ لوجهةِ الآخر , في حالةِ امكانيّةِ تعدّدِ الوجهاتِ طبعاً . إذاً فهوَ ظاهرةٌ صحيّة , تختلفُ حتماً عن الخلافِ و الجدالِ العقيمِ الّذي لا طائلَ منهُ إلّا اضاعةُ الوقتِ و التّفكير . مقالٌ رائعٌ و مضيءٌ جدّاً , كلُّ الشُّكرِ و التَّقدير . |
اقتباس:
أ. منال عبد الرحمن بين الاختلاف و الخلاف فرقٌ صُوريٌ جوهريٌ ، فهما سيَّان ، و لكنَّ لُبُّ المُتخالفِ فيه و أسلوبُ العرْضِ و النقضِ جعل بينهما فرقاً جوهرياً . مُضاءٌ الموضوعُ بوجودكِ ، فشكراً لكِ |
الإختلاف.. ظاهرة صحية لِتنوُّع الثقافة. دليلـٌ على تجديد هواء الفِكر..قد يتجهـ هذا التأثر صوبـَ الأفضل وقد يتجهـ صوبَ الأسوء..ومادامَ الفِكر يجول..فـ الخير وارِد والزيادة إفادة...والمُقارنة للرِضا تقود. " ما وددتُ قولهـ.. الإختلاف دليلُ على التوازي وليسَ ضرورةً على التفاضل. . العُتيِّق عبدالله.. القراءة لك ثراءٌ للفكر والعقل. |
اقتباس:
قيد من ورد ~~~ الاختلافُ صناعةُ الثقافة ، فلا بُدَّ أن يكون مُحْكَمَاً ، و إحكامه لا يتأتى إلا في حين أن نجعله متوازياً للتكاملِ لا متجاوزاً للتفاضل ، فالعقولُ و الفهوم تابعةٌ لقدْرِ المعلومِ ، و المعلوم ليس محدوداً . صيَّرَ مرورك الموضوعَ فاضلاً ، فشكراً |
الساعة الآن 04:12 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.