منتديات أبعاد أدبية

منتديات أبعاد أدبية (http://www.ab33ad.com/vb/index.php)
-   أبعاد القصة والرواية (http://www.ab33ad.com/vb/forumdisplay.php?f=33)
-   -   رحيل (http://www.ab33ad.com/vb/showthread.php?t=38827)

ريما بورجاس 01-28-2018 12:06 PM

رحيل
 
رحيل .

أتذكرها جالسةً ،شاردةَ الذهن ,في الغرفة الداخلية تفكر.
لم يقطع السكون الا ذلك الازيز
الصادر من السرير الحديدي كلما تحركت ومالت لتتكئ على حافته وتتنهد ,فترتعش مفاصله مع تأوهها.
يلتفت الجميع ليطمئن اذا ما كانت بخير.وهي صامتة لا تنطق بكلمة وقد بانت على محياها ظلال الخوف والقلق .
ناداها والدي الذي كان يراقب مدخل البيت بحذر,دون أن يلتفت وسألها:
-هل كل شيء على ما يرام يا خالتي "ام فارس" ؟؟
فتمتمت بصوت خافت:
_”لا ….يجب ان أعود الى منزلي,فقد تركت ابني بمفرده ليحرس البيت,وأخشى ان يهجم المسلحون عليه ويؤذونه وانا بعيدة" !! ..
تحركت وهي تردد بعض الصلوات ربما ذلك يشعرها بالهدوء والسكينة ويبعد عن "فارس" ابناء الشر .

رتبت الوشاح الذي كان يغطي رأسها ولملمت به كل شعرها الا بعض الخصل التي تدلت بحرية على اكتافها.
ثم تفقدت الكيس القماشي الصغير الذي كانت تحتفظ به دائما في جيب داخل ثوبها وتأهبت للرحيل.
سمعت أختي تهمس في أذن أخي بصوت خافت وهي تحدق بها
“انها مرتعبة جدا"
لم افهم يومها لم كانت خائفة الى هذا الحد.

كانت خالتي "أنيسة" في العقد السابع من عمرها لم يتغير وجهها المشرق,عيناها الملونتان ووجنتاها الموردتان فكل ذلك دليل عافية كما كانت تردد دائما..
كانت ترتدي دائما فستانا طويلا أسود اللون تفوح منه رائحة الياسمين من العطر الذي تحضره لها قريبتها من بيروت في زيارتها الى ضيعتنا..

أنيسة كانت قد فقدت زوجها وابنتها ولم يبق الا سندها الوحيد ابنها فارس الذي لم يتعلم ولم أعرف يوما ما هو نوع عمله فقد كان يقضي أغلب وقته ممددا على الأريكة أمام الدار يتسامر مع المارين بجانب بيتهم على الطريق المختصرة للوصول الى البيوت المجاورة
اما هي فقد كانت مهووسة بالنظافة وقلقة دائما حول فكرة الموت لذلك كانت تشتري كل مرة الغيارات الضرورية لتجهيز الموتى مع الفستان الأبيض المطرز وتحتفظ به في الخزانة وتقول:
-"لا يعرف الانسان اي وقت تحين الساعة."
وكلما زاد وزنها او تغير ذوقها بدَّلَتها من جديد.
وأتذكر حول روح الفكاهة لديهاأنها كانت تدعو جاراتها صباحا .
فتضحك والدتي وتقول اكيد أنها اشتاقت للهرج والضحك
فقد كانت تلبس الفستان الأبيض وتتمدد على الكنبة وتقول :هيا ما من نادبة لروح أم فارس !!!
ما من دمعة تذرف على صديقة العمر!!!! فيبدأن الواحدة تلوى الاخرى يتبارين حول من تمتلك الصوت والكلام الاكثر تأثيرا والذي يجعلهن يبكين ويضحكن بنفس الوقت.
وبعد ذلك يجلسن لشرب القهوة وهو التقليد الأساسي المصحوب بخبريات وثرثرات عن كل شاردة وواردة حصلت من قبل.

كان ذلك في العام 1976 وفي ذلك الوقت لم يكن عمري سوى بضعة أعوام ولكن تلك الأحداث تعود وتمرّ في ذاكرتي كشريط سجّل بدقة وحفظ لأتذكره بكل وضوح .
كان وضع البلد متوتراًوقد اندلعت نار الحرب الأهلية ولم يعد هناك قيمة للجار او اي
اهمية للمثل القائل :
-الجار قبل الدار"

في ذلك اليوم حين قررت ام فارس العودة الى المنزل كان قد حلّ المساء
وأهل الضيعة جميعهم قد لجأوا الى القبو في الكنيسة خوفا على عائلاتهم وبعد التفكير قرروا ان يهرب النساء والأطفال عبر الممر الجبليّ واللجوء الى الضيعة المجاورة للحماية

وبعد طول تفكير قال والدي:
_"يجب أن نرحل نحن أيضا لأن المسلحين كانوا قد عاثوا خرابا في البيوت المجاورة فأحرقوا بعضها وكسروا ما تبقى من المقتنيات وأخذوا ما تركه اهل المنزل من ذهب واموال وحتى السجاد وعلب الدخان .

عندما خرجنا من البيت كنت اتمسك بيد والدي وارتعش لا اعرف اذا كان من الخوف او البرد وما هي الا ثوان حتى سمعنا دوي انفجار قنبلة سقطت في البيت المجاور واضاءت المكان و رأيت النار وتمتد حارقة في امتدادها المكان من أثاث وأبواب .
فصرخت والدتي وقالت :
_”فلنعد الى بيتنا فالموت واحد
-”نموت في بيتنا أشرف لنا"
لأول مرة كنت انتظر الصباح بفارغ الصبر فقد اختبأنا في الغرفة الداخلية لنحتمي .
في اليوم التالي كان كل شيء هادئا حتى الطيور لم تزقزق يومها ولا من فلاح يمر ويلقي السلام قبل ان ينطلق الى العمل ولا صوت اطفال يلهون في الباحة الخلفية
وبعد قليل سمعت صوت والدي يعود الى البيت ,لقد كان يتفقد بيوت أعمامي وقد اخبر والدتي ان ام فارس قد استشهدت قتلها المسلحون لأنها لم تصغي الى مناداتهم بالتوقف فاردوها قتيلة برصاصة في ظهرها.

لم تلبس ام فارس فستانها الذي جهزته للرحيل،ولم يحضر دفنها او يندبها احد الا ولدها فارس ليلحق بعدها باللاجئين الى الجبل.

فاضل العباس 01-28-2018 02:21 PM

نص موجع سلم يراعك

ريما بورجاس 01-28-2018 03:02 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فاضل العباس (المشاركة 1037545)
نص موجع سلم يراعك

الف شكر لمرورك وتعليقك حضرة الكاتب تحياتي

سليمان عباس 01-28-2018 05:41 PM

القصه بحروفها تحولت لمشاهد مصورة إستطاعت أن تأخذنا لقلب الحدث
تحياتي للإبداع

نادرة عبدالحي 01-28-2018 11:50 PM

الكاتبة ريما بورجاس أهلا وسهلا بكِ في بيتكِ الأبعادي,
فعلا يشعر القارئ ويلمس الحدث عن قُرب وتعود هذه الميزة لاسلوب السرد المتميز الذي تملكهُ الكاتبة .
استخدام السرد الخارجي،الذي يعتمد على ربط مجموعةٍ من الأحداث الواقعية،و المألوفة عند القراء , الاعتماد على البساطة في السرد، صرفت النظر الكاتبة استخدام الكلمات، والأفكار المعقّدة، الشائكة في نقل المشاهد صور، واعتمدت على تحفيز الخيال؛ أي إنّ النمط السردي الذي يحرّك خيال القراء، وأفكاره فيجعله يتخيّل بعض الأحداث التي تحدث في النص، وكأنها شيءٌ واقعي.


ريما بورجاس 01-29-2018 08:41 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة سليمان عباس (المشاركة 1037556)
القصه بحروفها تحولت لمشاهد مصورة إستطاعت أن تأخذنا لقلب الحدث
تحياتي للإبداع

صباح الخير حضرة الشاعر الف شكر لمرورك وقراءتها شكرا

ريما بورجاس 01-29-2018 08:43 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نادرة عبدالحي (المشاركة 1037607)
الكاتبة ريما بورجاس أهلا وسهلا بكِ في بيتكِ الأبعادي,
فعلا يشعر القارئ ويلمس الحدث عن قُرب وتعود هذه الميزة لاسلوب السرد المتميز الذي تملكهُ الكاتبة .
استخدام السرد الخارجي،الذي يعتمد على ربط مجموعةٍ من الأحداث الواقعية،و المألوفة عند القراء , الاعتماد على البساطة في السرد، صرفت النظر الكاتبة استخدام الكلمات، والأفكار المعقّدة، الشائكة في نقل المشاهد صور، واعتمدت على تحفيز الخيال؛ أي إنّ النمط السردي الذي يحرّك خيال القراء، وأفكاره فيجعله يتخيّل بعض الأحداث التي تحدث في النص، وكأنها شيءٌ واقعي.


جزيل الشكر لما تفضلت وكتبته عن الرواية من تفاصيل اسعدني جدا. شكرا لاهتمامكم وسعيدة جدا بانضمامي لمجموعتكم الف شكر

رشا عرابي 01-29-2018 02:16 PM

إرهاصات الوقائع تجندلُ الحبر بـ كلّه
نسيجاً منضبطَ الإيقاع دقيق التفاصيل
حين يكون القائد لهذه الجوقة إلهامٌ ثرّ



قرأت ، وشاهدت ، ولملمتُ الصورة في حدقة لبٍّ
مشوقة لما بعد....

غنيّة أنت بالمفردة والطريقة الـ تجعل من الكَلِم
نسيجاً يتنفس

أهلا ثم أهلا بك تترا


الساعة الآن 02:44 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.