منتديات أبعاد أدبية

منتديات أبعاد أدبية (https://www.ab33ad.com/vb/index.php)
-   أبعاد القصة والرواية (https://www.ab33ad.com/vb/forumdisplay.php?f=33)
-   -   يوتوبيا الشياطين (رواية) (https://www.ab33ad.com/vb/showthread.php?t=39979)

عمرو مصطفى 10-31-2018 11:25 AM

يوتوبيا الشياطين (رواية)
 
" لا أريد منك أن تقبل الجانب الخارق من هذه القصة أو ترفضه..
فقط أريد منك أن تفكر في كل هذا الذي تعتقد.. هل رفاقك هم رفاقك فعلاً..
ربما كانوا مثلك ضحية للشيطان.. وربما كانوا هم الشيطان ذاته في جثامين إنس.."
***

http://www.ab33ad.info/up/uploads/im...75d5b857d8.jpg









1ـ شاب أخر

انفتح الباب ودخل منه ذلك الشاب..
ألقيت عليه نظرة طويلة فاحصة بينما وقف أمام مكتبي بانتظار أسئلتي.. كان وسيماً رغم الإرهاق والهالات
السوداء التي تحيط بعينيه وشعره المنكوش.. يرتدي حلة يبدو أنها كانت أنيقة ونظيفة قبل أن يحضروه إلينا..
فقضاء ليلة واحدة في زنزانة من أولئك كافية لتحويل عروس في ليلة زفافه إلى شحاذ من أولئك الذين يفترشون
الأرض أسفل الكباري..
نظرت في التقرير المعد أمامي عن نشاط الشاب الحزبي.. إنه عضو في حزب شيوعي في وقت أعلنت
فيه الدولة الحرب على اليساريين.. تلك الفترة التي أعقبت الوحدة مع سوريا..
شاب يساري وحزب شيوعي.. سألت نفسي: ألا يذكرك هذا بشيء؟..
بلى أذكر..
أذكر شاب أخر وصل لتلك الحالة المزرية بسبب سيره في نفس الطريق الذي أوصل هذا الشاب إلى هنا..
شاب أخر تم إنقاذه من بين براثن تلك الأفكار بما يشبه المعجزة..
والآن يعز علي أن أراه يروح ضحية لنفس تلك الأفكار..
أشرت له كي يجلس وسألته في هدوء لأخفف من اضطرابه:
ـ تشرب شيئاً ؟..
بدا الذعر في عينيه ففهمت أنه يظن عبارتي تلك شيفرة تعني المزيد من الضرب.. قال وهو يتحسس قفاه :
ـ لقد شربت بما فيه الكفاية..
ابتسمت برغمي وقلت له مشفقاً :
ـ لا تخف.. سأحضر لك عصيراً..
لم يصدق نفسه حينما وجد نفس المخبر الذي كان ينفخه
بالأمس يقدم له اليوم كوب من العصير المنعش.. قلت وأنا أراقبه وهو يرشف العصير متشككاً :
ـ هل أنت فعلاً شيوعي؟..
كنت أريد أن أتأكد أولاً قبل أن أبدأ معه حديثي.. لا أريد أن أضيع وقتي مع واحد أخر أجبره كرم المخبرين الزائد
على الاعتراف بأنه جيفارا نفسه..
وضع كوب العصير الفارغ على الطاولة ثم أجاب :
ـ لقد اعترفت بهذا للسادة الظرفاء بالخارج..
ـ أنا لا أريد ذلك الاعتراف.. أريد الحقيقة..
نظر لي بعينيه المنهكتين وقال في حيرة :
ـ الحقيقة! أنا أتمنى أن أصل للحقيقة..
كلهم يقولون نفس الشيء.. نريد الوصول للحقيقة.. وهي طريقة مناسبة للهروب من الحقيقة أحياناً..
ـ هل الأفكار اليسارية ستوصلك للحقيقة؟..
ـ الأفكار اليسارية أو الشيطان ذاته المهم أن أصل للحقيقة..
نعم.. أو الشيطان ذاته.. تلك الكلمات تمس مشارعي بشدة.. الآن تأكدت أن الشاب معتنق للأفكار الشيوعية فعلاً..
إنه زبون جيد إذن.. قلت له بنبرة أخوية لا تخلو من حزم :
ـ الشيطان لن يوصلك للحقيقة.. كما أنك كشيوعي يفترض فيك ألا تؤمن بالشيطان أصلاً..
ابتسم بركن فمه ولم يعلق.. لسان حاله يقول أنني اتعلق بمثل هذه الهنات التي تصدر من أمثاله على سبيل المبالغة..
أو العادة.. أو السهو.. معظم الملاحدة تجدهم يحلفون بالله سهواً.. هنا قررت أن أفاجئه فقلت له :
ـ تعرف أنا كنت شيوعياً مثلك..
ارتفع حاجبيه قليلاً ثم عاد ينخفضان دون تعليق..
ـ وأنت تذكرني بنفسي حينما كنت معتنقاً لتلك الأفكار الخائبة.. وكدت أروح ضحية لها..
لولا أن قدر الله لي النجاة في أخر لحظة..
نظر لي بمعنى : هل أتكلم ولي الأمان فنظرت له بمعنى : تكلم عليك الأمان.. قال بحذر :
ـ أنا لا أعتقد أن الشيوعية فكرة خائبة إنها دعوة لبناء مجتمع كامل متساوي خالي من المشاكل.. إنها... إنها...
وبدا كأنه يبحث عن وصف مناسب فقررت أن أكمل له عبارته لأريحه:
ـ اليوتوبيا..
قال كمن وجد ضالته :
ـ هي كذلك..
ابتسمت قائلاً :
ـ هل تعتقد أنني بحاجة لتلك المحاضرة عن مزايا الشيوعية.. لقد ذكرتني بالذي مضى..
عموماً يمكنني أن أثبت لك العكس فقط لو أنصت إلي جيداً..
كانت جفونه متثاقلة بسبب قلة النوم والجهد والخدمة الخمس نجوم التي نالها هنا..
ترى هل سيتحمل سماع حكايتي الغريبة؟..
إن لدي قصة أعجب من العجب مع الأفكار اليسارية.. ظننت أنني لن أحكيها لأحد من فرط غرابتها..
لكن يبدو أنها كانت مدخرة لوقت معلوم..
ولماذا أحكي له؟..
هذا الشاب على وشك فقدان مستقبله بسبب تهمة الانتماء للشيوعية..
هذا الأحمق سيقضي وقتاً طويلاً بالسجن قبل أن يفهم..
أن مجتمعنا المسلم لا مكان فيه للشيوعية أصلاً إلا تحت السلم كما يقولون..
ربما يصل أحدهم لمنصب في جريدة هنا أو مصلحة هناك.. لكنه سيظل يتعامل مع المجتمع على طريقة المنافقين..
همز ولمز للمعتقدات والثوابت من بعيد كلما لاحت فرصة وعندما يكشر المجتمع عن أنيابه..
يحيص حيصة الحمر..
لو أمكن معالجة هذا الشاب الأن وهنا.. من يدري ربما تغير مستقبله تماماً..
طلبت له كوب من القهوة المركزة ولاحظت تبرم المخبر الذي تحول لساعي خاص بذلك المعتقل الشاب..
لكنني تعمدت إزلاله كنوع من الانتقام لهذا الشاب اليافع البريء..
لماذا أرى أنه بريء؟..
الحقيقة أن البراءة هي السمة الغالبة على معظم هؤلاء الشباب المساكين..
الشاب يقلب بصره بيني وبين كوب القهوة الساخن في عدم فهم.. ثم يقول في حذر:
ـ حضرتك مختلف تماماً عن بقية الضباط هنا..
ـ ليس تماماً.. فقط أنا مررت بنفس تجربتك لذا أشعر بك أكثر منهم..
هم يرونك مجرم زنيم ومصدر تهديد وإزعاج للسلطات.. وأنا أراك مجرد ضحية لتيار فكري هدام..
نظر لي طويلاً ثم هز رأسه في حيرة متسائلاً :
ـ هل هذا يعني أنكم ستفرجون عني؟..
ـ هذا يتوقف على مدى استجابتك..
لاحت على وجهه ابتسامة عليلة وهو يسألني :
ـ ستجعلني أحلف على مصحف أنني طلقت الشيوعية بالثلاثة قبل أن تفرج عني؟..
قلت وأنا أبادله الابتسام :
ـ لا طبعاً.. سأحكي لك تجربتي الشخصية أولاً وسأترك لك الحكم في النهاية.. اعتبرها نوع من الدردشة..
وأشرت للقهوة الساخنة مردفاً :
ـ لكن اشرب قهوتك أولاً لأني أريدك يقظاً..
وأخذت نفساً عميقاً.. ثم بدأت أحكي..
***

سيرين 11-01-2018 02:27 AM

يوتوبيا الشياطين ومدنهم الفاضلة
لا هسيس للعدل
ولا يقظة للحياة
دروب طوت عتمتها زمرة سراب دأبها الظلم والخيلاء
وحتى إشعار آخر ثمة ضوء تتكأ على همهمة ضمير
سرد قصصي متقن ويشي عن قلم مبدع وفكر يبهرنا بإتساع أفقه ورحابة ضوئه
باقات الود والامتنان كاتبنا المبدع \ عمرو مصطفى
دام غيثك هطول لا يفل

\..:icon20:

عمرو مصطفى 11-03-2018 09:49 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة سيرين (المشاركة 1087555)
يوتوبيا الشياطين ومدنهم الفاضلة
لا هسيس للعدل
ولا يقظة للحياة
دروب طوت عتمتها زمرة سراب دأبها الظلم والخيلاء
وحتى إشعار آخر ثمة ضوء تتكأ على همهمة ضمير
سرد قصصي متقن ويشي عن قلم مبدع وفكر يبهرنا بإتساع أفقه ورحابة ضوئه
باقات الود والامتنان كاتبنا المبدع \ عمرو مصطفى
دام غيثك هطول لا يفل

\..:icon20:

مع كل تلك التعبيرات الراقية التي يصعب علي أمثالي فهمها بسهولة .. لا أملك إلا أن أقول لك:
جزاكم الله خيراً .. وأتمنى أن تظل الرواية عند حسن ظنكم لنهايتها..

عمرو مصطفى 11-03-2018 10:02 AM

2ـ الرفاق

قلت للشاب:
ـ كنت في تلك الفترة التي تلت ثورة يوليو شاباً مفعماً بالأفكار اليسارية والثورية مثلك تماماً..
كنت واثقاً في أن المستقبل لليسار.. اتخيل الكرة الأرضية نفسها وهي تدور حول نفسها أنها تدور باتجاه اليسار.. ..
العالم ما هو إلا كوكباً من القرود بحاجة إلى ترويض وأنا ومن هم على شاكلتي
الأدميون على الحقيقة، والمروضون الفعليون لهذا الكوكب البائس.. وحلمت بالعالم المثالي
الذي فيه الناس ما هم إلا آلات .. بل تروس في ألة عملاقة.. الكل يعمل من أجل الكل..
الملكيات متساوية.. إنها الشيوعية يا صاحبي في خضم مجدها وإن قلمت أظافرها
هنا وإن شئت قل مخالبها لتصير اشتراكية...
لأن بلادنا التي مازالت تحتفظ بتراثها القديم لم تكن لتقبل الشيوعية في صورتها الفجة لكنهم
شربوا الاشتراكية حتى النخاع حتى صاروا يعتقدونها دينا..
بالرغم من كوني ضابط شرطة عمله ينحصر في ضبط الأمن ومطاردة الجريمة إلا أنني كنت
أعتقد أننا نتبع الأسلوب الخاطئ.. هناك جريمة لأن هناك تفاوت ..هناك جريمة لأنه لا توجد مساواة بين البشر..
وحينما تطبق الشيوعية البحتة لن تكون هناك جريمة ولن نحتاج لشرطي أصلاً...
مازال مجتمعنا تفصله مفاوز وقفار حتى يصل إلى اليوتوبيا الكاملة..
المدينة الفاضلة كما يطلقون عليها من باب التمويه على العوام المتدينين لكنني أعرف كغيري
ممن تتلمذوا على أفكار اليسار حقيقة اليوتوبيا.. جنة اليساريين على الأرض..
وكنت أحيا من أجلها.. ما أجمل الحياة من أجل هدف ..حتى وإن كان في نظر البعض تجديف وإلحاد ..
قصتي بدأت في منتصف الخمسينيات لم أكن وقتها قد انتقلت للعمل في الجهاز المرعب الحالي..
كنت قد كلفت بالخدمة كضابط في قرية كفور الصوالح إحدى قرى الوجه البحري..
كان هذا التكليف بالنسبة إلي نفياً زمانياً أكثر منه نفياً مكانيا... لأن القرى في ذلك الوقت
كانت بكراً لم تفض بكارتها معاول الحضارة بعد.. ولا تندهش إن صارحتك أنني كنت سعيداً
بهذا النفي لأسباب عائلية بحتة لكنني وقتها كنت أتظاهر بالعكس تماماً ..
وقتها قلت لرئيسي المباشر وأنا أحاول كتمان مشاعري الحقيقية :
ـ أتمنى أن أكون مفيداً هناك أكثر من طائر أبو قردان ..
شاعت على ثغر الرئيس شبح ابتسامة مقيته وهو يقول :
ـ لا تغتر بالريف يا مجدي.. من يدري ما الذي قد تواجهه هناك...
ـ لصوص الماشية والدجاج .. إن لم تخني الذاكرة ....
ـ قد يكون هذا ترف مبالغ فيه ..
ووقع لي على جواب تحويلي ثم رفع بصره إلى وقال :
ـ لا تنس إبلاغ سلامي إلى والدك..
والدي محمد سليمان ضابط شرطة متقاعد له تاريخه الحافل في سجل الشرطة
ورئيسي كان يوماً من تلامذته..
ومن يدري ربما أرسله والدي الموقر يوماً ما إلى نفس تلك القرية التي سأرحل إليها
وهو اليوم يرد الجميل لوالدي ..شكرته على النفي بحرارة أدهشته.. لكن وقت الادعاء
قد فات وحصلت على توقيعه وصرت أنتمي إلى هناك ..وقمت لألملم أوراقي وانصرفت
دون تحية لأنني لم أكن ارتدي الزي الرسمي.. لكن من الغد سأعود للزي الرسمي..
وليس أي زي رسمي.. إنه زي الأقاليم الكاكي الذي يذكرني بكاسترو..
***
كعادة من يفارقون الدنيا ـ وكنت على وشك مفارقة الدنيا التي أعرفها ـ قررت أن أجلس جلسة وداع مع الرفاق..
ـ ستسافر يا مجدي..
ـ سنفتقدك أيها الرفيق الغالي..
إن الرفاق مجموعة متباينة الأعمار لكنها متحدة الأفكار.. في عقل كل واحد من هؤلاء يوتوبيا
يحلم بتحقيقها على أرض الواقع.. أنا الوحيد الذي قرر أن يرحل بفكرته بعيداً بعيداً إلى قرية
كفور الصوالح لأبذر هناك نواة عالمي الجديد...
قال لي الرفيق سيف وهو محامي في الخمسينات :
ـ أرجوا ألا تعود من هناك محملاً ببراغيث الأرياف..
ابتسمت قائلاً :
ـ هذا أفضل من ألا أعود أصلاً..
تكلم الرفيق مراد مضيفنا الطبيب النفسي الذي يقوم بدور فرويد في جلساتنا تلك فقال:
ـ الرفيق سيف لا يقصد المعنى الحرفي.. هو فقط يخشى عليك..
التفت للرفيق سيف فرأيته يبتسم في غموض :
ـ الريف مازال بكراً.. والبراغيث التي أخشاها عليك.. هي براغيث الرجعية والتخلف بالطبع..
هؤلاء ماديون لدرجة تثير الهلع.. حتى في نفس إنسان مادي مثلي.. لن يتفهموا سر ذهابي للريف..
وستنقلب السهرة علي.. سأكون مادة للضحك والسخرية.. قلت في رزانة :
ـ هذا المكان البكر هو خير مكان أبدأ منه مشروعي..
سعل الرفيق صدقي وهو يحاول إشعال غليونه للمرة الألف منذ جلس حتى بدأ يثير أعصابي
بهذه المدخنة التي لا تفارق شفتيه.. إنه أكبرنا سناً هنا وأكثرنا كآبة لسبب ستعرفونه بعد قليل..
وقد قرر أخيراً أن يدلي بدلوه في الحديث بعد أن فرغ من تسليك مدخنته الخاصة.. قال :
ـ أنت شاب يا مجدي والشباب لهم مزية مهمة لم يعد يدرك جدواها كثيراً من الحضور..
أعني من تخطوا الخمسين والستين.. هذه المزية هي الحماس.. أنت متحمس لأنك شاب..
تنحنح سيف قائلاً :
ـ لكننا أكثر خبرة.. لا تنكر هذا..
نظر له الرفيق صدقي بعينين حمراوين من أثر السعال وقال بنبرة لا تخلوا من رنة حزن :
ـ إننا كذلك الأكثر قرباً من الموت.. الموت ذلك اللغز المحير بما وراءه..
تأفف سيف وتراجع في مقعده ولسان حاله يقول: تباً لا تعد لتلك الاسطوانة المشروخة أرجوك..
كان هناك بعض الشباب غيري مثل الرفيق حسام والرفيقة سلمى..
وكانا ينظران لصدقي في سخرية لكن بلا تعليق.. إنها نفس نظرة الشاب المقبل على
الحياة لشيخ فان يقترب من الموت ولا يدري السبب..
حسام وأنا نمثل الدم الجديد في المجموعة وسلمى مهمتها تجديد الدماء في عروقنا جميعاً..
إنها رفيقة من النوع الحميم.. فنحن هنا لا نعترف بالعلاقات الإنسانية ذات البعد الديني..
خصوصاً تلك التي تقيد الملكيات..
طبعاً لو تسرب شيء مما يدور بيننا هنا للجيران فسيكون مصير مجموعتنا هو شرطة الآداب..
للأسف لن يفكر أحد في كوننا مجموعة لها فلسلفتها الخاصة في الحياة..
وتحاول كذلك جاهدة أن تجد تفسيراً مقنعاً لحقيقة ما بعد الحياة..
الحقيقة التي تخيف الرفيق صدقي ويتحاشى الخوض فيها أترابه ويسخر منها أترابي..
لكنها تزعجني بحق.. أنا شاب اليوم.. لكن غداً سأجلس لأدخن الغليون متأملاً عبر
حلقات الدخان أيامي الغابرة.. وأنتظر اللحظة التي أكف فيها عن التأمل وعن التدخين كذلك..
لقد فجر الرفيق صدقي السؤال الملح الذي نخشاه جميعاً.. ونتحاشى البحث له عن إجابة..
الموت.. ماذا بعد الموت؟..
قال مراد وهو يصب بعض الشراب في كأسه التي ترتجف بين أنامله وبيده الأخرى يداعب رأس كلبه الأسود الكئيب:
ـ لا شيء.. خواء.. بعد الموت راحة أبدية.. سنصير غباراً تذروه الرياح.. إنها متعة لا تتصورنها.. لكنها الحقيقة..
وكأنما يشارك سيده حكمته أطلق كلبه عواء خافتاً مؤيداً!..
قال الرفيق سيف متفلسفاً :
ـ يتحدث الهندوس والبوذيون وحتى الصوفية عن الفناء.. هل هذا ما تقصد؟..
ـ كلامهم فيه بعض الحكمة لا تنكر ذلك..
قلت له بدهشة :
ـ أراك تتجه إلى الإيمان بشيء ما وراء ذلك العالم..
أفرغ مراد كأسه دفعة واحدة ثم وضعه على المنضدة أمامنا خاوياً.. إننا نشبه هذا الكأس
الفارغ حينما تنضب منا الحياة.. قال الرفيق مراد وهو يضع ساقاً على ساق :
ـ أنا على العهد يا رفاق.. فقط أحياناً أجد في كلامهم بعض الحكمة والراحة.. وليس معنى
هذا موافقتي على وجود صانع وحياة أخرى..
قال صدقي وهو يخرج الدخان من منخريه كوحوش الأساطير:
ـ أنا لا أحب تخيل نفسي وقد صرت غباراً تسحقه قدم قاسية.. هؤلاء الهندوس لا يتحدثون
عن المادة يا رفيق مراد.. عليك أن تؤمن تماماً بهم لتشعر بكامل الاطمئنان الذي تتحدث به الأن..
قال الرفيق سيف :
ـ الموت مجرد مرض لم يكتشف له علاج بعد.. عليك فقط أن تحيا على أمل اكتشاف هذا العلاج..
نظر له صدقي في غل وهو ينفخ المزيد من الدخان تعبيراً عن البركان الذي يغلي بداخله.. ثم قال :
ـ إنها رحلة البحث عن الخلود.. دأب البشر الحمقى منذ أيام جلجامش..
اقترب الرفيق الشاب حسام منه ورتب على كتفه قائلاً بنبرة ساخرة :
ـ ربما اكتشفوا يوماً ما حلاً للموت.. لكنك ستكون قد مت طبعاً..
تناثرت الضحكات من حول الرفيق صدقي فبدا كمن بوغت.. لقد تحولت مأساته إلى طرفة في
غمضة عين بسبب شاب من أولئك..
إنه ينظر لحسام بغل لا يخلو من حسد.. فهو ما يزال شاباً ينتظره الكثير والكثير قبل أن
يجلس جلسته تلك.. تلاقت أعيننا فقلت له محاولاً جلب بعض الجدية لجلستنا :
ـ لا تقل لي أن الحل في الإيمان بالحياة الأخرى..
صمت قليلاً وهو يطرق للأرض.. ثم رفع طرفه وهز رأسه في حيرة قائلاً :
ـ لا أدري..
اقتربت منه سلمى وهي تقول بحنو :
ـ أنت ترهق نفسك في تساؤلات لا طائل من وراءها.. الكل سيموت وساعتها الكل سيعرف الإجابة الصحيحة..
رائعة سلمى هذه.. لكن ليس في الفلسفة كما لكم أن تتخيلوا..
قال لها صدقي في سأم:
ـ سنعرف الإجابة لكن بعد فوات الأوان..
مسحت بيدها على ما تبقى من شعره لكنه أبعدها عنه بحدة كأنها حشرة ضارة قائلاً :
ـ لا تضيعي وقتك معي يا فتاة.. لقد اكتفيت من كل شيء في هذه الحياة فعلاً..
ثم نظر لنا كأنه يرمق مجموعة من المتطفلين وأردف :
ـ ربما لن أنتظر حتى يأتيني الجواب بغتة..
ثم أشار لي بغليونه :
ـ اذهب أي بني إلى كفور الصوالح.. أو حتى إلى الجحيم.. عسى أن تعود يوماً بإجابة تريحك..
كان وداعي للرفاق كئيباً كما ترى..
قمت بمصافحتهم وتمنيت لهم ليلة طيبة مع صدقي وتركتهم كي أعود لداري مبكراً..
دلفت إلى سيارتي الغافية وأدرت محركها فأطلقت زئيراً معترضاً.. هذا أنا يا عزيزتي..
ألقيت نظرة وداع على شقة الرفيق مراد وقبل أن أتحرك لمحت في المرآة ذلك الشخص الجالس باسترخاء في المقعد الخلفي.
***
دائماً ما يظهر في عالمي بغتة..
رغم ملامحه الغريبة بشعره ولحيته الطويلة التي غزاها الشيب وزيه الذي يعود للقرن
الماضي إلا أن رؤيته قبل أن أرحل كانت تعني لي الكثير..
فهو رفيق دربي منذ زمن طويل.. و هذه هي المرة الأولى التي اتحرك فيها دون الرجوع إليه..
أدرت محرك السيارة قائلاً له في ضيق مصطنع :
ـ أنا منقول للخدمة في الأرياف.. تصور!
قال بصوته العميق :
ـ هذا التكليف في الوقت والمكان الغير مناسبين..
حاولت أن أتظاهر بأن الأمر أكبر مني.. لكنه قال لي ببرود:
ـ أنا لست رئيسك المباشر..
هذه هي مشكلتي الأبدية معه.. أنا مكشوف تماماً أمامه مثل كتاب مفتوح.. قلت له مستسلماً :
ـ أنا أرى أن التغيير لابد أن يبدأ من الريف البكر ..
ـ هذا الكلام ربما يقنع رفاقك..
أطلقت زفرة حارة ثم قررت أن أفصح :
ـ حسناً.. أنت تعرف ضغوط العائلة من أجل مسألة الزواج إياها.. إمي تكرس وقتها كله في شيئين..
الطبيخ والبحث عن زوجة لي من بنات العائلات الذين لا ينتهون من عالمها أبداً.. لابد أن أهرب بعيداً لبعض الوقت..
ـ كنت أتمنى أن تواجه بدلاً من أن تهرب..
هززت رأسي نافياً وقلت:
ـ لا أستطيع..
لم يبد مرحباً بصراحتي هذه المرة.. إنه غير راض عن الرباط الأسري الذي يقيدني.. وكان
المفترض منه أن يفرح لخبر ابتعادي عن نطاق الأسرة الصارم الذي يبغضه..
قال لي :
ـ أرى أنك تستغيث من الرمضاء بالنار..
ابتسمت برغمي لكونه يستعمل أمثال عربية قحة.. قلت :
ـ تنسى أنني مكلف.. صحيح أن هذا التكليف وافق هوايا.. لكن أنا لا حول لي ولا قوة..
سكت ولم يعلق فسألته بلهفة :
ـ طبعاً سترحل معي إلى كفور الصوالح؟..
سعل مرتين ثم ضرب على صدره قائلاً :
ـ يبدو أن جو العاصمة لم يعد يناسب صحتي المتداعية..
هتفت في فرحة غامرة :
ـ سترحل معي يا رفيق...
وضع سبابته على فيه ليصمتني وقال في ضيق :
ـ قلت لك لا تلفت الانتباه إليك وأنت معي.. سيتهمونك بالخبال رسمياً.. وستكون نهايتك الفصل من العمل..
تراجعت معتذراً :
ـ لا تؤاخذني فقد خشيت أن تتركني أخوض التجربة وحدي
ـ كارل لا يخذل أبنائه..
غمرني شعور بالفخر والانتشاء جعلني أضغط على البنزين أكثر وأكثر.. هاهو
ذا يعتبرني من جملة أبنائه.. وأنا أعتبر نفسي من خواص أبنائه..
قال وهو يتطلع إلى الطريق بعين شاردة :
ـ لكن عليك أن تعدني أولاً أنك ستتبع إشاراتي ولا تتصرف من تلقاء نفسك.
ـ هذا أمر مفروغ منه يا رفيق..
كنت أكذب طبعاً.. فأنا أكثر شخص متمرد قابلته في حياتي.. لكنني كنت بحاجة إليه بجانبي..
المرء لا ينعم بصداقة من هذا النوع بسهولة في هذه الأزمان..
وإنني لأعتبر نفسي محظوظاً كي أنال شرف صداقة كارل ماركس شخصياً!..
***
حكيت له في الطريق ما دار بيني وبين الرفاق فقال معلقاً :
ـ دعك من تشاؤم الشيوخ هذا.. اليوتوبيا هي الخلاص الحقيقي للأرواح المعذبة..
نظرت له في مرآة السيارة وابتسمت..
ـ يعجبني فيك تفاؤلك رغم كونك شيخاً..
مال للأمام قائلاً:
ـ لا تضيع زهرة شبابك في البحث عن إجابة لسؤال عبثي.. حتى رفيقك صدقي نفسه لم يضيع
لحظة من شبابه في الاستماع لترهات الشيوخ الذين اقتربوا من الموت..
ـ ربما أراد الرفيق صدقي أن ينكد علينا لا أكثر..
ـ إنه لم يتشبع بمبادئي كما تعتقد.. لذا هو حائر..
ـ هو كذلك يا رفيق.. لكن..
ـ لكن ماذا؟..
سكت هنيهة ثم قررت أن أفصح..
ـ أنا أخشى فعلاً مما يخشاه صدقي.. أنا لا أريد أن ينتهي بي الأمر إلى تراب تذروه الرياح..
ما فائدة المجد الذي نسعى إليه إن كان كل شيء سيفنى ويبيد..
رأيته ينظر لي بثبات وابتسامة ماكرة تتلاعب على شفتيه التي لا تكاد ترى وسط دغل الشعر الأبيض الكثيف..
ـ تريد الخلود؟..
قلت وأنا أهز رأسي نافياً :
ـ لا يوجد خلود يا رفيق..
ـ من أدراك؟..
قلت له في بساطة :
ـ الواقع يؤكد ذلك..
قال ماركس وهو يبتسم في غموض:
ـ بل الواقع ينفيه..
نظرت له في غباء :
ـ أنا لا أفهمك..
ـ يمكنك أن تكون خالداً لكن ليس بجسدك المادي؟..
قلت له في دهشة :
ـ تقصد كروح؟..
قال بنفس الغموض :
ـ بل كفكرة.. أنا فكرة خالدة في ذهنك.. ويوماً ما ستكون أنت فكرة خالدة في ذهن شاب أخر..
إنها حياة ممتعة وممتدة بلا نهاية.. المهم هنا.. ما الذي صنعته كي تستحق هذا الخلود..
قلت بانبهار :
ـ ربما كان هذا جواب ممتاز على سؤال صدقي الأحمق..
قال لي ببرود صارم :
ـ ربما.. لكنه لا يستحقه..
إذن هناك خلود.. وماركس هو الدليل العملي على ذلك..
إنه لم يمت كما يدعون.. إنه زعيم خالد في وعي وعقل كل المنتسبين إليه..
الحياة الحقيقية هي حياة الأفكار يا سادة..
شكراً ماركس..
***
مالم أعرفه في وقتها أن الرفيق صدقي قرر أن يعرف إجابة سؤاله المحير بمحض إرادته الحرة..
وجدوه قد قام بعمل مشنقة بربطة عنقه الأثيرة وتدلى عبرها وهو يرمق الكون من عل في فتور..
الأحمق أثبت فعلياً انه لا يستحق الخلود..
***
حينما حان الوقت حملت حقيبة السفر ووقفت على باب المنزل استعداداً للخروج من عالم المدنية
ومستقبلاً ذلك العالم الجديد البكر الغامض الملوث بروث الماشية ورائحة الحقول..
جاءت أمي لتطبع قبلة على خدي الأيمن ولتلقنني أدعية السفر..
وأغلق والدي المصحف الذي يقرأ منه ونظر إلي نظرة فاحصة.. كم أخشي تلك النظرة البوليسية
المتهمة التي لم تفارقه حتى بعد الخروج على المعاش ..يقولون انني ورثت نفس تلك النظرة ..
وهذا كان مما يثير رعبي أكثر ...
ـ قبل أن ترحل سأعطيك شيئاً ..
أغمضت عيني متوقعاً العطية التقليدية في مثل تلك المناسبات .. وسرعان ما دس أبي
المصحف المزركش في يدي التي مددتها له مصافحاً وعانقني في قوة كعادته كأنما يصارعني وهمس في أذني:
ـ حاول أن تثبت أنك أبني حقا ..
ـ ألم تثبت هذا في شهادة ميلادي ..؟
ابتسم لدعابتي وهو يداعب وجنتي بأنامله الخشنة وقال محاولاً أن يداري مشاعره :
ـ أنت تذكرني بنفسي حينما خدمت لأول مرة في الصعيد ..كانت أيام.. لكنك أفضل حظاً من والدك ..
اكتفوا بنقلك لقرية من قرى الوجه البحري ..
ـ الحقيقة لا اجد فارقاً ..ربما الفارق الوحيد في المسافة ..لكن كل القرى تتشابه .
هنا تذكرت والدتي موضوعها الأثير الذي لا تجيد الحديث في غيره وذكرتني
بواحدة أخرى من أولئك الفتيات المنتقيات بعناية لتتناسب مع شخص مثقف مثلي ..
ربما كان اسمها سوزان أو سوسن لم أعد أذكر جيداً من كثرة الأسماء .. المهم انني
وعدتها حينما أخذ أول أجازة أن أذهب معها للقاء ثريا هذه ....هنا صاحت مستنكرة :
ـ أسمها كاميليا ..
قلت لها في دهشة مصطنعة :
ـ كاميليا ..!! ولماذا لم تحدثيني عنها من قبل ؟
اتسعت عيناها في دهشة وقد صدقت كلامي كالعادة ..لابد أنها الآن تلوم نفسها ألف مرة ..
قلت لها :
ـ على العموم إن شاء الله حينما أعود مع أول إجازة سنذهب سوياً إلى فانيليا تلك..
ـ كاميليا ...
ـ سأردد الاسم طوال الطريق حتى لا أنساه .. المهم أن توافق هي على العيش معي في كفور الصوالح..
رفعت سبابتها في وجهي محذرة وقالت محتدة :
ـ لا تتحدث معها عن كفور الصوالح أرجوك.. أنت لن تقضي عمرك كله هناك..
ما هي إلا مرحلة وستمضي وستعود للقاهرة ثانية..
هنا تدخل والدي قائلاً في جدية :
ـ دعيه حتى لا يتأخر على ميعاد القطار ..
هنا وكأن والدي قد ضغط على زراً خفياً في نفسها.. بدأ صوت أمي يتهدج منذرا
بهطول الأمطار الساخنة ..وكان على أن أنصرف لأن هذه العائلة تذكرني بأنني
ما زلت أملك قلباً قد يرق أحياناً وعين قد تزرف العبرات..
الكل ترس في ألة اليوتوبيا العملاقة.. الكل يعمل من أجل الكل ..لا أسر لا روابط..
هكذا كانت تدوي في أذني التعاليم التي تشربتها من كتب اليسار..
دسست المصحف في حقيبة السفر وأسترخيت في مقعدي بالقطار.. كان يمكنني التخلص منه
بشتى الطرق لكن شيئاً ما وقف حاجزاً بيني وبينه.. ولم أحاول كثيراً أن أفسر ذلك الحاجز ..
وقلت هو ربما ذلك الرهاب الذي زرعوه فينا منذ الصغر.. أو لكونه شيئاً من رائحة والدي كما يقولون.. ربما..
وهكذا هدرت محركات القطار وعلا الضجيج.. بشر.. بشر.. تروس عديدة تمر
بجوار نافذة القطار ..تروس تتكلم ..تروس تشتكي.. تروس تتشاجر وتتبادل السباب ..
أغمضت عيني ورحت في نوم عميق ..تخللته أحلام عن عالم ملئ بالحقول والمحاريث والروث وأبراج الحمام.
***
يتبع

عمرو مصطفى 11-06-2018 09:04 AM

3ـ تلك القرية

النقلة الحضارية كانت مذهلة بحق..
لقد عدت للوراء عدة قرون .. لا عشرات الكيلومترات..
تشممت الهواء النقي الذي يدغدغ رئتي متأملاً عالمي الجديد من نافذة سيارة المركز
التي تنهب الأرض مثيرة خلفها عاصفة من الأتربة، القرية المصرية الأصيلة كما يقول الكتاب،
الحقول والقنوات التي تغذيها كالأوردة والفلاحين محني الظهور يقلبون الأرض بالفؤوس القصيرة،
البيوت الطينية المتناثرة هنا وهناك، الأطفال الملوثين بالأوحال والخولي العتيد الذي يركب الحمار
ويرتدي طربوش على منديل قماش أصفر ينسدل على كتفيه يتقي به حر الشمس وهو يزعق في
هذا وينهر هذا.. والكل حينما يرى سيارة المركز ينظر لها بنوع من الرهبة والتوقير..
مع رفع الأكف بالتحية العسكرية بطريقة مضحكة..
وصلنا النقطة..
خرج لنا شويش أعطاني التحية وقال أن اسمه ديريني.. كان طويلاً نحيلاً له شارب
ضخم يقف عليه طائر الرخ.. وحينما يتكلم يهتز ذلك الشارب مع كلماته بصورة مضحكة
تذكرني بكلب البحر:
ـ نورت كفور الصوالح يا فندم ..
أومأت له برأسي في غير اكتراث وسألته وأنا أرمق مبنى النقطة:
ـ هل هناك غيرك في النقطة ..؟
ـ الشويش عبد الرحيم يا فندم ..لكنه في إجازة..
نقطة قوتها مكونة من ثلاثة أفراد .. مهمتها حماية كفور الصوالح كلها.. تذكرت
العمدة وجيش الخفر إياه.. طبعاً هؤلاء منافسينا الطبيعيين هنا فبالرغم من كونهم يمثلون الحكومة
إلا أنني لا أثق في من يرتدي بلطو على جلباب أبداً..
ربما كان وضع نقط شرطة في تلك القرى النائية نوع من الترف المبالغ فيه..
أو هو بداية لعهد جديد يلوح في الأفق من بعيد..
جرى ديريني ليحضر حقائبي على حين وقفت واضعاً كفيا في خاصرتي أتأمل نقطة كفور الصوالح..
مقر عملي ومقر إقامتي كذلك ..مبنى حكومي بائس مدهون بالجير وهو في الأصل مكون
من طابق واحد.. لكن تم عمل غرفة استراحة علوية للضباط القادمين من محافظات أخرى مثلي..
وجاء دريني مهرولاً بحقائبي ليبدأ سلسلة من التعارف بيني وبين النقطة..
ديريني لا يكف عن الثرثرة بعبارات الترحيب التي يجيدها القرويون والتي لا أدري من أين يأتون بها ..
لكل كلمة رد مناسب ومنمق.. إنني بحاجة لمفكرة لأدون فيها مصطلحات الرفيق ديريني فقد أحتاج
إليها يوماً ما في تعاملاتي مع أهل القرية.. كنت منهكاً من الرحلة فأمرته أن يضع حقائبي وينصرف لحاله..
تأملت الاستراحة. فراش عليه ملاءة مليئة بالرقاع والبقع البنية والصفراء وخزانة ثياب تشبه توابيت مصاص
الدماء بجوارها ستارة يبدو أنها تداري وراءها مطبخ أو جثة متعفنة لعلها سبب تلك الرائحة الخبيثة..
هناك نافذة تشبه نوافذ الزنازين تطل على الحقول الممتدة إلى مالا نهاية.. الرائحة كانت تدير
رأسي حتى أنني بحثت عن الدلو العتيد الذي يضعونه للمساجين لقضاء حاجتهم فلم أجد
فتنفست الصعداء .. لم يصل الأمر لهذا الحد بعد ..لكن ..إذا لم يكن هناك دلو فأين الحمام إذن..؟
نظرت في ذعر للبقع الصفراء التي تلطخ ملاءة السرير .. وهززت رأسي مستبعداً الفكرة المقززة ..
جلست على مقعد مجاور للفراش إنه بلا مساند فيمكن استعماله كمنضدة.. أي!.. هناك ناموس أيضاً
سيشاركني استراحتي.. ترى متى سيظهر أول فأر متحمس.. يقولون أن فئران الحقول في حجم
القطط وأنت بحاجة لمعجزة كي تتمكن من إمساكها.. هذا لو بقيت لك أطراف سليمة من العض
لتتمكن من الإمساك بها..
تأملت الستارة التي تغطي شيء ما وراءها ..ترى هل هذا هو المطبخ أم؟.. قمت ومددت يدي
إلى الستارة وأزحتها بعنف.. هنا لم أتمالك نفسي فأطلقت شهقة فرح عارمة ..
لقد وجدت الحمام يا سادة! ...

***

ولقد جاء هذا الكشف في وقته تماماً... والكشف التالي كان بعد عدة أيام وجاء صادماً ..
الأيام في كفور الصوالح تشبه بعضها بعضاً كحبات الخرز في مسبحة ولعلك بحاجة إلى
قطعة من الطباشير كي تميز بها بين الأيام التي تترا .. كل شيء يتكرر بحماس منقطع النظير ..
حتى المشاكل التي قد تدخل في نطاق عملك .. نفس المشاكل ونفس الوجوه ونفس الادعاءات ونفس النهايات ..
في النهاية يتعانق الفلاحان المتشاجران وهما يلعنان الشيطان الذي أوقع بينهما .. وتجد نفسك
مضطراً لتمزيق المحضر بدلاً من تمزيقهما وأنت تردد من بين أسنانك : الأيام في كفور الصوالح
تشبه بعضها بعضاً كحبات الخرز في مسبحة ..
وتسأل نفسك هل كان الأمر يستحق كل هذا العناء..
هل فررت من سجن الزواج كي أسجن هنا في كفور الصوالح؟..
هنا لا يوجد سينما أو مسرح.. إلا مسرح البهائم طبعاً..
يقدمون عرضاً رائعاً كل صباح بجوار الترعة.. وبمناسبة الترعة هناك أيضاً بالية بحيرة البجع الخاص
بكفور الصوالح.. لكنهم استبدلوا البجع هنا بالبط البلدي.. لا يوجد راديو تسمع منه الإذاعة لأنه
لا يوجد كهرباء أصلاً..
لكن يوجد هناك تلك الولائم التي يقيمها العمدة. هذه للتعارف وتلك لتوثيق أواصر المودة وهذه
لأن ولد العمدة ختم القرآن.. وهكذا دواليك..
وتجد نفسك وجهاً لوجه مع مائدة الطعام المليئة بأصناف الطعام الريفي الدسم الذي يعطيك
نفس إحساس البنج.. وتتساءل كيف يستطيع هؤلاء الحركة بعد كل هذا الدسم ..
أما العمدة نفسه فكان عبارة عن خمسة عمد تم حشرهم في جبة وقفطان.. ومع ذلك كان خفيف
الحركة والروح كذلك. وهو كسائر أهل القرية طيب القلب لكنهم يهابونه هنا بشدة ويتحاشون النظر إليه..
كذلك لمست من خلال عباراته أنه من بقايا الإقطاع القديم.. لكنه يحاول أن يبدو على العكس..
لكن تفلت منه كلمة من ههنا أو نظرة من هناك فتنفضح حقيقة بغضه للنظام الثوري ولعبد الناصر..
ذلك الشاب القادم من الصعيد الذي سوى بين السادة والعبيد..
واليوم يرسلون له ضابط شاب أخر من القاهرة هذه المرة لينازعه في سلطانه وسلطان أبائه..
فكان لابد لي من أن أحتال عليه كي يستسلم لي ويرفع الراية البيضاء..
وقد وجدت تلك الحيلة التي ستكون كذلك هي المدخل لقلوب أهل تلك القرية كلهم.. ستمكنني
من النفاذ إلى حبات قلوبهم لأبذر هنالك بذرة اليوتوبيا.
قلت لهم في بعض الجلسات بحضور العمدة أنني سأذيع لهم سراً.. وهو أنني قادم من مصر
من طرف الزعيم عبد الناصر شخصياً..
قلت لهم أن الرئيس يريد بناء مصر قوية وحديثة.. لقد نزع الأرض من يد البشاوات ووضعها
في أيديكم أنتم الفلاحين أبناء البلد من أجل أن تنهض بكم.. والبلد لن تنهض ونحن غارقين
في الماضي الذي عفى عليه الزمن.. وقلت أنني سأرفع تقرير بشأنكم للرئيس.. فهو يتابع
بنفسه أخباركم ويعرفكم بأسمائكم ..ويهمه أن تكون قرية كفور الصوالح في مقدمة القرى
التي تسعى للتطور والحداثة..
وصاح العمدة وهو يضرب على فخذه وقد نسي في غمرة الفرح جذوره الإقطاعية:
ـ وصلنا للرياسة يا بلد..
وارتفع التكبير والتهليل ووثب بعضهم ناحيتي فتحسست جراب مسدسي عفوياً لكنهم انهالوا
علي سلاماً وتقبيلا وهم يستحلفونني أن أوصل سلامهم وقبلاتهم المليئة باللعاب إلى الرئيس نيابة عنهم..
لقد كان عبد الناصر محظوظاً..

***

في الأيام التي لا يوجد فيها تسلية من أي نوع لا ولائم ولا سرقات دجاج ولا حتى باليه ترعة
البجع أكتشف أن لدي هنا راديو بشري اسمه ديريني..
وهو مسل جداً خصوصاً حينما يحل المساء..
ففي الليالي المقمرة كنا نطفئ السرج ونكتفي بنار (الراكية) التي يغلي عليها أبريق الشاي الصدئ..
وأجلس متربعاً لأنصت على ضوء القمر إلى حكايات الديريني المنحولة من أساطير الريف
وهو يصب لي الشاي الأسود القاتل.. إنها تبدو كحكاية واحدة تتم روايتها في كل مرة بشكل
مختلف وهي في غالبها تتراوح بين حكايات (النداهة) التي جعلت خاله يجن ويلقي بنفسه
في الرياح .. وعن خاله مرة أخرى الذي قابل جنية يوما عند الرياح وهو عائد من الحقل ..
و لعله بدا لها في ذلك اليوم فاتناً وهو عائد من الحقل ملطخاً بالطين لأنها عرضت عليه
الزواج واخذته معها إلى أهلها من الجان..
قلت له وأنا أرشف رشفة قوية من الشاي :
ـ خالك جن بسبب (النداهة) ؟ أم عرضت عليه الجنية الزواج...؟
ـ لا لا يا فندم ..خالي الذي جن غير خالي الذي عرضت عليه الجنية الزواج ..أنا لي أربعة أخوال ..
ـ وكلهم حمقى ..؟
نظر لي مفكراً في بلاهة كأنما يجري عملية حسابية لعدد الحمقى في عائلته ثم قرر أخيراً أن
ينفجر ضاحكاً على دعابتي بافتعال لا شك فيه وهو يثني على خفة دمي التي لم يعهدها مع
الضباط السابقين الذين خدموا في القرية ..ثم عاد ليذكر لي حكاية عمه الذي مات ثلاثة أيام
ثم عاد للحياة من قبره ..
وهكذا يأتي الديريني على كل أقاربه فلم يبق منهم أحداً لم تخطفه جنية الرياح أو جن بسبب
(النداهة) أو اشتعل به الحمام لأنه قرر شرب الدخان وإلقاء عقب السيجارة في الحمام فوقع
على قفا أحد الجان الغافين..
هذه الحكاية بالذات جعلتني أخشى حمام غرفتي وأفكر جدياً في استعمال الدلو كبديل مؤقت ..
تباً لذوق القرويين ..
قلت له في غيظ :
ـ الجن والشياطين هي شماعة ممتازة نعلق عليها فشلنا وتقصيرنا يا ديريني..
ـ لكن الجن مذكور في القرءان يا بك..
ازدرت لعابي وقلت له بحذر :
ـ وهل يعني هذا أنهم السبب وراء مأساة عائلتك؟..
هنا أقسم لي أغلظ الأيمان أنه صادق فيما حكى فهدأته قائلاً :
ـ أنت صادق فيما سمعت.. لكن هل رأيت؟..
رأيت حاجبيه ينعقدان وشاربه ينتفش، وانتفاش الشارب هنا له عدة معان فقد يدل على الفخر
وقد يدل على الغضب وأحياناً يدل على الخطر.. وقد تكلم ديريني بصوت كالفحيح ليدل على المعنى الأخير:
ـ لقد رأيت يا بك..
إذن فهو يعاني من هلاوس بصيرة أيضاً.. ملت عليه مصطنعاً الإحساس بالخطورة:
ـ ماذا رأيت؟..
تلفت حوله كانه يخشى متجسس مجهول ثم عاد ليقول:
ـ هنا في الاستراحة.. هذه الاستراحة ليست على ما يرام يا بك.. لقد سمعت هذا من ضباط جاءوا
هنا قبلك.. ولم أصدق إلا لما رأيت بعيني..
ديريني الغارق في قصص الجنيات والعفاريت صار فجأة وعلى حين غرة من المتحرين المدققين..
لا يصدق إلا لو رأى بعينه!
ـ هل رأيت تلك البقع الصفراء التي تلوث الملاءة؟..
ـ لا.. رأيت بسم الله الرحمن الرحيم..
لماذا أشعر بتلك القشعريرة تسري في بدني.. هذا إحساس لا يليق بمن هو مثلي.. يا للعار..
أي تسلية تلك في ليل الحقول التي تترامى أمامك بلا نهاية حيث تلعب الظلال لعبتها الأبدية ..
لم أكن أومن بتلك الأشياء لكنني لم اتخلص بعد من موروثات الخوف الطبعي الأولي الذي ورثناه
عبر القرون ..
الخوف.. الخوف من المجهول.. ذلك الإحساس الذي لا مفهوم له يتحرك تحت جلدك محدثاً
القشعريرة الشهيرة ويتحول جلدك لجلد أوزة .. وينتصب الشعر في مؤخرة رأسك .. تباً لك يا ديريني الكلب...
ذهب لينام ملء جفنيه وترك لي الخوف ينهش في أعصابي..
هنا خطرت لي فكرة غريبة.. ربما لو نجحت لطالبت ببراءة اختراع..
أخذت أذرع غرفتي جيئاً وذهاباً وأنا أقرأ في أحد الكتب اليسارية بصوت مسموع ..لعلي أول
من استعمل تلك الكتب في طرد الجن والأرواح الشريرة..
جن وأرواح !!
لكنني لا أومن إلا بالمادة التي لها وزن وكثافة ..
ماذا دهاني؟..
ـ هل جئت ههنا لتغير أم لتتغير؟ ..
طار الكتاب من يدي وكاد قلبي أن يطير بالإضافة للوثبة الرائعة التي وثبتها في وجل..
ثم تبينت أنه الرفيق ماركس..
أخيراً عاد إلي صوابي وانحنيت لألتقط الكتاب مع أنفاسي.. ثم رفعت إليه طرفي في خجل :
ـ كيف أتغلب على مخاوفي تلك..
أشار بتعالي عبر النافذة.. إلى الحقول المترامية وقال في حزم :
ـ تحدى الخوف ..
وتسمرت عيناي على النافذة المطلة على الحقول الممتدة إلى ما لا نهاية ..
نعم.. ولم لا ..

***
من الذي يخشى الحقول في الليل؟
من قال أن الحقول تخيف في الليل؟ ها أنا ذا أسير وسط الحقول الممتدة إلى ما لا نهاية..
أنا لا أخشى شيئاً ..مجدي سليمان لا يخشى أساطيركم يا أهل كفور الصوالح .. صوت صرصور
الغيط ونقيق ضفادع القنوات كأن لسان حالها يتساءل عن ذلك الأحمق الذي يظن نفسه ليس كذلك ..
القمر يشرف على المشهد ويضفى عليه لمسة ساحرة .. فلولاه لصارت الرؤية مستحيلة ههنا ..
لا شيء سوى صوت صرصور الغيط ونقيق الضفادع ..
تجاوزت مساحة الحقول ووقفت عند مساحة خالية من الزراعات..
أطراف القرية النائية جزء كبير منها مخصص للقبور..
من بعيد في وسط الشواهد يقف ذلك الكوخ الذي يبدو مهجوراً.. لا أحد عاقل يمكنه السكنى هنا..
لكن هل هذا هو كل ما لديك يا كفور الصوالح؟ صراصير وضفادع وشواهد قبور..
أين شياطينك ونداهتك وعنقائك إن كنت تعرفين شيئا كهذا ..؟
أين ذلك الأحمق ديريني ليرى أن...
أعووووووووووووووووو ..
ازدرت لعابي متحسساً مسدسي الميري القابع تحت إبطي ونظرت للكوخ ممتقعاً..
ذئاب !
هذا هو التجديد الحق يا كفور الصوالح ..حقول ممتدة ومقابر بدون ذئاب.. هذا معيب لو أردتم رأيي..
هنا سمعت صوت حفيف من ورائي.. سحبت سلاحي واستدرت وقلبي يدق بعنف..
مشكلة هي تلك الكلاب السوداء التي تبرز لك من بين الحقول فجأة.. مشكلة حينما تظهر
ومشكلة حقيقية حينما تختفي كأنها لم تكن هنالك .. عقلي عجز عن التفسير لكن فيما بعد
رجحت أنه خداع بصري ناتج عن الخوف الطبعي ..لكن قل لي هل جربت الهرولة في الليالي
المقمرة وسط الحقول ؟
إذن فاتك الكثير يا رفيق .. أنا جربت ..جربت جداً وشعرت أنني سأصاب بالذبحة الصدرية
لو لم أتوقف عن الجري.. لابد أن أتوقف.. المشكلة في كيفية إقناع ساقيا بالتوقف؟
مرت دقائق كأنها ساعات وأيام وسنوات لعل الشيب انتشر في شعري وأنا أعدو كالمجانين ..
أخيراً قررت ساقيا الاستجابة والتوقف.. هنا لمحته قادماً من الاتجاه المقابل.. إنه الشويش ديريني
ومعه كلوب في يده اليمنى و بندقيته معلقة على كتفه وعلى وجهه أثار النوم.. وحينما شاهدني
واقفاً ألهث صاح في جزع :
ـ خير يا فندم ..لقد لمحتك وأنت تتجه بمفردك للحقول ..هل حدث لك مكروه ..؟
قلت له بأنفاس متلاحقة :
ـ لا شيء يا ديريني .. كنت أقوم بدورية ليلية..
ـ بمفردك يا فندم ..هذا خطر جداً ..
قلت في شمم :
ـ أنت لم تعرفني بعد يا ديريني..
ثم تحركت في تؤدة متجهاً جهة اليسار فصاح بي ديريني :
ـ الطريق من هنا يا فندم ..
قلت له في شمم :
ـ هذا تمويه يا غبي ..!
قال لي ونحن نسير باتجاه النقطة الصحيح :
ـ يا فندم الحقول في الليل تكون مأوى للذئاب الشاردة..
تذكرت الكلب الأسود الذي ظهر لي وشعرت بقشعريرة تسري في أطرافي.. طبعاً لن أحكي لديريني
كي لا يعلن لي منتصراً بأنه بسم الله الرحمن الرحيم.. لكنني سألته عن ذلك الكوخ المهجور
وسط المقابر هل يسكنه أحد..
هنا رأيت وجهه يتغير.. ثم قال باقتضاب :
ـ لقد ابتعدت أكثر مما ينبغي يا فندم..
قلت باستخفاف :
ـ لا تقل لي أن هذا الكوخ هو مسكن النداهة التي خطفت خالك..
قال وهو يهز رأسه متحسراً :
ـ النداهة نفسها لا تجرؤ على الذهاب لهناك في مثل هذا الوقت يا فندم..
حسناً كانت تلك، كما ترون، ليلة استثنائية من ليالي كفور الصوالح.

***
يتبع

عمرو مصطفى 11-07-2018 09:26 AM

4 ـ تلك الفتاة

لقد عاد الشويش الأخر عبد الرحيم من إجازته، الحقيقة لا أجد فارقاً كبيراً بينه وبين
ديريني، إنه نحيل وله شارب ينافس شارب الأول، فالشارب هنا مهم جداً وبه تقاس رجولتك..
لذا فشاربي المتواضع بالنسبة لشاربيهما يجعلني أبدو لهما كالمراهقين..
عبد الرحيم كذلك يسكن في بلدة مجاورة لكفور الصوالح وهو يتناوب الراحات مع ديريني
الذي يسكن معه في نفس بلدته لعل اسمها طانطور أو حنطور ..لا أذكر حقيقة ..
المهم أنه حينما عاد برهن على أن له زوجة محترفة تجيد صنع الفطير (المشلتت)إياه الذي يبض بالسمن البلدي..
وكالعادة أتوقف بعد اللقمة الثالثة أو الرابعة ولا استطيع تحمل كل هذا الدسم ..
هذه مشكلتي مع الفطير بالسمن .. لا أستطيع أن أشبع منه أبداً من فرط الدسم ..
سمعت ديريني يسأل رفيقه عن البط المحمر.. فأجابه بفم ملئ بالفطير والبيض:
ـ الزيارة القادمة إن شاء الله..
..إذن موعدنا مع البط سيكون بعد حين.. لا فرصة لديك لتناول طعام بيتي ههنا إلا
مع نزول أحد الرجلين للراحة.. أو حينما يدعوك العمدة على الغداء.. أو أن تأخذ
أجازة كبقية الخلق وتعود لأهلك.
لكنني لا أستطيع طلب إجازة بهذه السرعة ولا أريد حقيقة.. رغماً عن اشتياقي
لطعام السيدة الوالدة ونظرات والدي البوليسية المرعبة .. لن أفكر في إجازة حتى
أتأكد أن كل الفتيات التي تعرفهم أمي قد تزوجن أو متن..
لابد أن أنفض عن رأسي كل تلك المشاعر الأسرية السخيفة التي لا تقدم ولا تؤخر..

وقفت أتأمل قوة النقطة المهيبة فخر الجندية وهما يفتكان بالفطير بالسمن والجبن
الفلاحي بكل رضا عن النفس.. أنت بحاجة لعشرة فكوك حتى يمكنك ملاحقة فكي
ديريني وعبد الرحيم وهما يأكلان.. لم يكن الشارب الضخم بعائق لهما عن
القضم والمضغ والبلع.. ماذا لو كان هناك بط في الموضوع أيها الوحوش..
هنا تذكرت!
إذا لم يكن هناك بط.. فعليك أن تجد واحدة..
إن معي بندقية صيد قد أتيت بها من القاهرة.. لكنني نسيتها وانشغلت
عنها بصيد حشرات الليل الزاحفة والطائرة..
قد حان الوقت للخروج في رحلة صيد حقيقية عند أطراف القرية.. بالقرب
من تلك البقعة التي أرعبتني يوماً ما في الليل.. هناك تنشط الطيور البرية..
هناك هواء الريف العليل يقوم بعملية مسح وتنظيف لبقايا عوادم المدينة العالقة بصدري..
لمحت في جهة الأفق الشرقي سرب من الطيور يحلق فصوبت البندقية وكتمت أنفاسي..
لكن حينما دوت الطلقة سمعت صرخة أنثوية حادة لا علاقة لها بالطيور التي واصلت التحليق بسلام..
هذه الصرخة الأنثوية الهستيرية تأتي من على الأرض..
وفهمت على الفور أنني ارتكبت خطئاً صغيراً!!..
لقد كدت أفقا عين فلاحة من الفلاحات برصاصة طائشة.. ولا تسألني كيف أخطأت
سرب الطيور في السماء وكدت أصيب تلك الفلاحة على الأرض هذه أشياء تحدث ..صدقني ..
كان صدى الطلقة يتردد في نفس الوقت الذي كانت الفتاة تصرخ وتولول وتلطم خديها
معتقدة أن الطلقة أصابتها في مقتل.. صبراً يا حمقاء لقد كدت تقتليني رعباً ..
- أهدئي يا ..... الطلقة لم تصبك ..
تحسست جسدها بحركة هستيرية سريعة ثم فوجئت بها تتغير مائة وثمانون درجة ..
الهرة الخائفة تحولت لنمرة شرسة ..كانت تتوعدني بالويل والثبور وعظائم الأمور
وأنني لو مسستها فلن أجد مكان في القرية يحول بيني وبين انتقام أهلها ..كان
يمكنني إسكاتها بمجرد الإعلان عن هويتي لكنني لسبب ما كنت مستمتعاً بشراستها..
قلت لها بتهذيب :
ـ دعيني أصحح خطئي ..
ـ كيف ..؟
ـ سأتزوجك ..
بالطبع صدمتها عبارتي الساخرة و تورد خداها خجلاً وهي تلوح بكفها في وجهي متهمة
إياي بقلة الحياء .. وأن أهلها سيحولونني إلى (كفتة) لو علموا بفعلتي ..
ـ أنت لا تعرف من أكون.. أنا فاطمة بنت جابر الصوالحي.
طبعاً كانت تعتبر مجرد ذكر اسم أبيها كافياً كي أنهار وأطلب الصفح..
سألتها في بساطة متجاهلاً ثورتها :
ـ ما الذي أتى بك إلى هنا يا فاطمة؟.. المكان هنا نائي وخطر بالنسبة لفتاة مثلك ..
ـ لا شأن لك بي ..
قالتها في غل وعيناها تقدحان الشرر.. ثم أدركت أنها قد أطالت معي الحديث
أكثر من اللازم فاستدارت مبتعدة لا تلوى على شيء.. هرة ساذجة كانت..
ـ انتظري حتى أوصلك ..؟
ـ لا شأن لك بي ..
ووقفت وحدي أردد أسم فاطمة بنت الحاج جابر الصوالحي كأني أتذوقه..
المسكينة لم تنتبه إلى أنها أخبرتني باسمها كاملاً ..المسكينة لم تنتبه إلى
أنني رامي بارع وأنني لا أخطئ هدفي أبدا ..
لقد أصبت هدفي و بمهارة ..
هنا لمحت تلك اللفافة التي سقطت منها فيما يبدو، وانحنيت على الأرض لألتقطها..
قلبتها في يدي بحيرة، ثم خمنت أنها نوع من البهارات أو التوابل.. وقررت الاحتفاظ بها كتذكار لهذا اليوم..
وهكذا دسستها في جيبي وعدت أدراجي إلى نقطة الشرطة قانعاً بصيد اليوم..
وجدت ديريني يغسل بعض الثياب في طست وعبد الرحيم يعد بعض الشاي..
حينما رآني الأول تساءل في دهشة :
ـ أين البط يا فندم؟..
لوحت ببندقية الصيد قائلاً في جذل :
ـ لقد اصطدت بطة.. لكن ليس كأي بطة..
قال في فرح وهو يعصر الثياب بحرفية نسائية يحسد عليها :
ـ الله أكبر.. لكن أين هي يا فندم؟..
أرحت البندقية على عاتقي وتوجهت للسلم الموصل للاستراحة قائلاً :
ـ هذه البطة ليست للأكل أيها الوحوش..

***

مشروع اليوتوبيا يمر بمنعطف تاريخي..
كنت جالساً في النقطة أرمق القرية الساكنة من النافذة المجاورة لمكتبي..
لا شيء سوى صوت الناموس الخارق للدروع ومجموعة هناك من البط تسبح
بانسيابية في ترعة القرية.. باليه بحيرة البجع كما يحلو لي أن أسميه!
فاطمة بنت جابر الصوالحي.
لم أنس الاسم ولا صاحبته منذ عدت من رحلة الصيد..
جابر الصوالحي دعني أهنئك على تلك اللوحة الفنية المبهجة التي رسمتها هرموناتك..
أنت فنان ضل طريقه إلى الطين والزرع.. اتمنى لو قابلتك لأشد على يديك..
تباً أنا بحاجة للثرثرة مع أحدهم..
وتذكرت الرفاق في القاهرة وشعرت بالحنين إلى تلك الجلسات الدافئة..
لم يكن لي هنا سوى ديريني وعبد الرحيم..
وطبعاً علاقتي بهما لا تسمح بمثل تلك الفضفضة.. هنا تذكرت اللفافة.. الشيء
الوحيد هنا من رائحة فاطمة.. لقد تركته في سترتي الأخرى.. غادرت مكتبي
مزمعاً الصعود للاستراحة حيث تركت السترة لكن ارتطمت عيناي بحبل الغسيل
الذي صنعه ديريني قبالة الباب وأدركت أنني قد تأخرت جداً..
كانت السترة معلقة على الحبل والماء يقطر منها.. أولجت يدي في الجيب
بسرعة فعثرت يدي على اللفافة وقد تحولت إلى عجين..
عصرتها في غل كأني أعصر عنق ديريني نفسه ثم تركتها وعدت خائباً
إلى مكتبي وإلى تأملاتي الشاعرية..
ماركس ترى ماذا سيكون رد فعلك على ما أنا فيه الآن؟.. طبعاً لم أكد
أتذكره حتى وجدته يتمطى في المقعد المقابل للمكتب..
ـ هل أيقظتك؟..
نظر لي بوجه مغتم وقال متجاهلاً سؤالي:
ـ هل جئت لكفور الصوالح من أجل أن تقع في حب فتاة قروية؟..
هذه هي روعة ماركس.. أنه ليس بحاجة لمقدمات.. قلت بترفع:
ـ ليس حبا.. لقد قابلتها لتوي..
أغمض عيناً وفتح الأخرى فيما معناه : ألعب غيرها..
فعدت أقول بتؤدة :
ـ إن تلك القرية أرض بكر وخصبة.. فما الذي يضير لو قطفت من تلك
الأرض زهرة برية يانعة.. أنت تفهمني أليس كذلك؟..
عقد ساعديه أمام صدره وهو يرمقني بنظرة شك مزعجة.. ذكرني بمدرس
اللغة العربية حينما كنت أتحجج أمامه بحجج واهية كي أفلت من العقاب.. سألني متبرماً :
ـ وكيف ستقطف تلك الزهرة يا ترى؟..
أجبته بتلقائية :
ـ سأتزوجها طبعاً..

***

رأيت حاجبي ماركس ينعقدان بشدة وصوته يزداد تجهماً وعمقاً :
ـ زواج أيضاً!..
قلت له ببساطة :
ـ لماذا تعارض فكرة الزواج لهذا الحد.. هل أنت معقد لهذه الدرجة؟..
نظر لي بامتعاض.. ثم قال كأنما يخاطب طفلاً:
ـ قاموس اليوتوبيا يا عزيزي لا يحتوى على لفظة زواج..
قلت له مؤمناً :
ـ أعرف يا رفيق.. لكن لو فكرت هنا في طريقة أخرى فستطير رقبتي..
لابد أن أتزوج كما يتزوجون وإلا فسوف أتحول لراهب.. وهذا هو مالم نتفق عليه ..
وضع كفه على عاتقي بحنو أبوي كنت مفتقده وبشدة.. وقال:
ـ بل أنت الذي مازالت متأثراً بضوابط مجتمعك المتخلف..
قلت له في ضيق :
ـ لا تقل هذا يا رفيق؟..
نظر لي بعينيه العميقتين اللتان تسبران غوري دائماً وهمس:
ـ يمكنك أن ترتبط بأي أنثى تريد.. لكن لماذا تلك الفتاة القروية بالذات؟..
شعرت بصدري يزداد ضيقاً وبالدماء تحتشد في أذني..
ـ أنت تحبها يا رفيق؟..
قلت بشيء من الحدة :
ـ أنت لا تفهمني.. أنا لا أعرف دوراً للقلب الذي أملكه سوى أنه مجرد مضخة تضخ الدماء..
فاطمة بالنسبة إلي مجرد جزء صغيرمن مشروعي.. فهمت الأن لماذا أبعدت حينما أقحمت
القلب في الموضوع.. المسألة مسألة زواج فقط يا صاحبي ..نواة لمجتمع اليوتوبيا الذي أحلم به..
لم أصرح له أنني كنت بحاجة إلى أن .. أحم .. ألبي نداء الطبيعة لو جاز لي التعبير..
ولا سبيل لذلك في مجتمعنا سوى بالزواج .. ولما لم يكن من الزواج بد ..
فلتكن رفيقتي إذن فتاة قروية من وراء الجاموسة كما يقولون..
أريد تلك الفتاة ..تلك الأرض البكر التي لم تحرث بعد .. هذه هي فتاة أحلامي يا سادة..
لو صح التعبير فـأنا لم أكن يوماً حالماً لكنني أحاول التقريب ..
لست على استعداد للزواج من سوزان أو سوسن .. فلا أريد لزوجتي أن تكون قريبة
مني في ثقافتها ..أريد أن يكون بيني وبينها مفاوز وقفار .. أريدها ان تنظر
لي دائماً من أسفل لأعلى نظرة انبهار ..
قال ماركس وهو ينفخ :
ـ إنها ليست من مستواك الاجتماعي..
نظرت له مصدوماً..
ـ لماذا تتكلم بهذه النبرة الطبقية يا رفيق؟.. أنت الذي علمني أن الناس مستوون كأسنان المشط .
ـ هو كذلك يا رفيق.. لكن لا ينبغي أن تصادم مجتمعك بهذه الفجاجة..
قلت له وقد فشلت في ابتلاع كل تلك المتناقضات :
ـ و نسف مبدأ الزواج.. أليس هذا يصادم أسس المجتمع؟..
سكت ماركس برهة وهو ينظر لي في برود مفاجئ.. ثم قال ضاغطاً على حروف كلماته :
ـ هذا القرار يهدد اليوتوبيا..
قلت في تصميم :
ـ أنا أفعل هذا من أجل اليوتوبيا نفسها..
هنا انفجر ماركس في ثورة :
ـ أنت أناني لا تفكر إلا في نزواتك الحقيرة..
طبعاً غلى الدم في عروقي وشعرت أنني على وشك ارتكاب
جريمة.. لقد تجاوز ماركس كل الحدود معي ولم أكن لأسمح له بالمزيد..
ـ أنت لست وصياً علي..
أشار لي بسبابته محذراً أو مهدداً :
ـ ستندم على هذا..
ـ أنا نادم فعلاً لكن ليس على قراري..
ـ لقد أنذرتك..
وفي لحظة تلاشى ماركس ووقفت وحدي أحدق في الفراغ الذي كان يحتله منذ لحظات..
الغرفة خالية..
هل كنت أحدث نفسي منذ البداية؟..
اخترعت شخصية ماركس وتبادلت معها الحوارات ولا وجود لها إلا في ذهني..
هل هذا هو الجنون الذي يتحدثون عنه.. ربما..
لكنه ليس من النوع الخطر.. ليس من النوع الذي يعيق عن الزواج على الأقل..
سأطلب يد فاطمة من أبيها ولتزأر العاصفة ..

***

حينما جن الليل توجهت لمنزل جابر الصوالحي أو دواره كما يطلقون عليه ههنا..
كان لا يختلف كثيراً عن سائر الدور ..فقط هو انظف قليلاً لأن حظيرة المواشي
منفصلة عنه .. ولا يختلف كثيراً من حيث الأثاث ..كنت أجلس في حجرة الضيوف
حيث الدكة العتيدة التي تعاقبت عليها أجيال وربما مات عليها العشرات من
أجداد جابر الصوالحي .. الكليم الرمادي والطست والأبريق النحاسي ..
ذكر البط الذي يرمقك في شك وفضول ..قبل أن يعلن عن رأيه فيك
وبصراحة : كوااااااك... من ثم تكشر له أنت عن أنيابك فيفر، مرفرفاً بجناحية وقد تأكد أنك مجنون تماماً ..
لا أحد عاقل يفعل هذا مع ذكر بط أبداً ..!!
ثم يظهر أخيراً رب الدار..
ها هو الحاج جابر يمد إلي كفه الناعمة مصافحاً ..هذه كف كفت عن الشقاء..
لكن لماذا أرى ركن فمه يختلج وهو يرحب بي..
ـ الدار نورت يا حضرة الضابط
ابتلعت ريقي محاولاً تذكر ما جئت من أجله على حين صفق الحاج جابر بكفيه طالباً واجب الضيافة..
وعاد ينظر إلي نظرة زائغة ..الرجل منزعج جداً من زيارتي ولا يرحب بي البته لكنه مضطر لمراسم
الاستقبال والضيافة كما يقتضي الدين والعرف وإلا ..فهو يعتبر زيارة ضابط النقطة
عمل مشين يهدد سمعته خصوصاً حينما يأتيه بالزي الرسمي ..
ـ خيراً يا حضرة الضابط .. ؟
فتحت فمي لأتكلم لكن خرتيتاً أدمياً اقتحم الحجرة حاملاً صفحة عليها كوبي شاي ..
علمت فيما بعد أن هذا الخرتيت أحد ابناء الحاج جابر يدعى مداح ..
ـ اتفضل شاي ...
قالها الخرتيت وهو يضع الصفحة أمامي فتناولت كوباً وأنا ألعنه في سري ..
لقد بعثر الوغد ما قضيت الليل في نسجه من كلمات ..
لكن لا بأس ..لنرتجل .. رشفت رشفة من كوب الشاي ..وانسلت من بين شفتي كلمة :
ـ جئت بخصوص ابنتك فاطمة ..
كان الحاج جابر يتناول كوب الشاي لكنه لسبب ما قرر التخلي عنه في اللحظة الأخيرة
ليسقط على الكليم وينتثر الشاي على الأرض.. ورأيته يقف في حدة وهو يردد في جزع:
ـ فاطمة ...
نظرت له مستغرباً ردة فعله! على حين نهض الخرتيت محاولاً إصلاح ما أفسده أبوه لكن هيهات ..
أكملت في بساطة متجاهلاً الخرتيت العاكف على تنظيف الكليم والذي صار لونه بنياً – أعني الكليم طبعاً - :
ـ نعم يا حاج جابر.. فاطمة.. جئت أطلب منك يدها ...
هنا برك الحاج جابر على مقعده واضعا كفه على جبهته متنفساً الصعداء ولعله
أطلق سبة أو ما شابه لكن لا أستطيع الجزم حقيقة..
كما أن عندي من الأسباب ما يجعلني اتجاهل ردود أفعاله الأن ..
وتوقف ولده عن التنظيف وصاح في بلاهة :
ـ يد فاطمة أختي ..!!
ابتسمت له في مقت متحاشياً ركله ثم التفت إلى الحاج جابر منتظراً رده ..
أخيراً استجمع الحاج جابر شتات نفسه.. وتحول فرقه إلى فرحة عارمة بالخبر السعيد..
لقد جاء لابنته العريس الذي كان ينتظره..
فقط هو كان مضطرباً لأن زيارتي كانت بمظاهر رسمية وليست بمظاهر عائلية ودية..
ثم إنه بدأ يتكلم عن أشياء فاجأتني حقيقة.. لا أحد يتقدم لخطبة فتاة هكذا دون وجود
للأهل في الموضوع.. وأسقط في يدي حقيقة.. لقد نسيت أمر الوالد والوالدة تماماً !!..
الأخيرة ستصاب بفالج حينما تعرف أن ولدها فضل قروية على كاميليا ..
كان لابد من إقصاء أبواي من الصورة حتى يتسنى لي اتمام تلك الزيجة ..
وهكذا صرحت للحاج جابر أنني مقطوع من شجرة كما يقولون..
لكنك يا حاج جابر ستناسب رجلاً.. وليس الرجل من قال هذا أبي ولكن الرجل هو
من سيقف إلى جانبك لو فكر ضباط ثورة يوليو في التعرض لأملاكك .. ولم يكن الحاج جابر ليقاوم ..
لو كنا في اليوتوبيا الحقة لكان طلب الزواج شيئاً مشيناً ..
أيها الرفيق جابر أنا بحاجة لرفقة أبنتك فاطمة لنكون نواة لليوتوبيا .
تفضل يا ولدي وهل أجد لابنتي رفيق خير منك ..
هذا هو العشم يا رفيق جابر لن أؤخرها عليك ..لا عليك يا بني ..
لا يوجد رفاق كثر اليوم يمكنك أن تردها وقتما تشاء ..وهكذا تمضي الأمور دون تعقيدات مجتمعنا الرجعي !!..
لكن ما باليد حيلة ..
ـ علينا أن نأخذ رأي البنت أولاً ..
قلت له:
ـ بلا شك يا حاج جابر ..تفضل.. تفضل..
وابتسمت في خبث .. كنت أحاول تخيل ردة فعلها حينما تكتشف حقيقة عريس المستقبل ..
لكن ما حدث بعد أدهشني..
جاءت على استحياء ودون أن ترفع طرفها عن الأرض قالت الكلمة التي سحرتني :
ـ الذي يراه والدي يكون ..
وغداً ..ستقولين ما يراه زوجي يكون .. هذه هي فتاتي ..
إنها مثل سائر الفتيات ..لا يرفضن عريساً تقريباً.. حتى وإن كان يعاكسها في الصباح..
وفكرت كم أنا محظوظ كوني في الوجه البحري حيث يسهل قبول عريس قاهري مثلي
لو كنت في الصعيد الأن لما خرجت حياً تقريباً من دار الحاج جابر ..لم تكن المسافة
فقط هي الفارق الوحيد بين الصعيد والوجه البحري كما كنت أتصور .. صدقت يا والدي العزيز ..
بالفعل أنا الأسعد حظاً منك ..والأيام التالية ستؤكد ذلك..

***

عمرو مصطفى 11-08-2018 09:40 PM

5ـ ذلك الدجال

تم تحديد موعد الزفاف بعد الاتفاق على مقر السكن، والذي سيكون في شقة قمت باستئجارها
في البندر الذي تتبعه القرية .. وهذا طبعاً بعد جدال طويل حيث يعتبر هنا السفر للبندر تغريبة
كتغريبة بني هلال.
وأخيراً انتهت المفاوضات .. واندلعت الزغاريد التي تشبه أصوات أجهزة الإنذار من
كل شق في بيت الحاج جابر ..
الأيام التالية سيكون على أن أمارس دور الخاطب الولهان الذي يهرول كل يوم جمعة إلى منزل
خطيبته حاملاً كيس الفاكهة المعطوبة أو علبة الشيكولاتة الحجرية في يد وباقة من الورد في
الكف الأخرى.. طبعاً لغة الورود هنا غير رائجة وكذلك الشيكولاتة فسأكتفي إذن بكيس الفاكهة
لحين إشعار أخر ..من يدري ربما أدخل عليهم يوماً بقفص طيور !! المهم كان كل شيء يمضي
بسهولة ويسر وإيجابية وشعرت أن أيامي صار لها مذاق خاص مرهف ..وعبير مميز .. كل شيء
صار مصبوغاً باللون الوردي حتى أني نسيت هدفي الأسمى، باختصار ..كانت هناك مصيبة في
الطريق تتجه أنت إليها كالأبله أو تتجه هي إليك كالعمياء..

***

إن موعد الزفاف يقترب ...
لكن مع اقترابه لاحظت أن أهل فاطمة يضطربون..
من الطبيعي أن تضطرب فاطمة الفتاة البكر المقبلة على الزواج لكن لماذا يضطرب أبوها؟
ما سر ذلك القلق ؟ وهل هناك سر ما يخفونه عني ؟..
أذكر جيداً كيف جاء الحاج جابر وولده مداح وجلسا إلى جواري في إحدى ليالي الجمع،
وكيف قامت فاطمة وأخلت لنا حجرة الضيافة، قلت لنفسي :المصيبة قادمة إذن لا محالة.
بعد دقائق من الإقبال والأدبار تكلم الحاج جابر :
ـ هناك شيء لابد منه قبل الزفاف يا بني...
ابتلعت ريقي منتظراً المصيبة التي سيتحفني بها حماي، قلت له من بين اسناني :
ـ أعتقد أننا اتفقنا على كل شيء...
ـ بقي شيء مهم حتى يتم الزفاف بسلام..
بدأ صبري ينفذ.. لست مستعداً لبذل المزيد من المال، سيفتضح أمري أمام أسرتي في
القاهرة لو طلبت منهم المزيد..
ـ هل قصرت في شيء ..؟
ـ حاشا لله ..إنه مجرد عرف في قريتنا دأبنا عليه من قديم..
عرف! هذا العرف لابد أنه سيكون سعره فلكياً، هذا واضح في لهجتهم معي.
وتنهد الحاج جابر قبل أن يقرر إفراغ ما لديه دفعة واحدة :
ـ بصراحة لابد أن تذهب للشيخ علوش قبل الزفاف ..
في البداية شككت فيما سمعته أذناي؟.. قلت له في غباء :
ـ الشيخ علوش هذا هو المأذون هنا..
تبادل الحاج جابر النظرات مع ولده مداح ثم قرر أن يوضح ..
ـ إنه شيخ القرية يا بني...
شيخ القرية هذه تحتمل شيئين، إما أن يكون شيخ مسجدها أو...
ـ هذا أمر لا بد منه.. لقد دأبنا عليه منذ ظهر الشيخ علوش في قريتنا..
حينما يقدم أي واحد من أهل كفور الصوالح على الزواج لابد أن يذهب للشيخ علوش
ويعطيه (الحلوان) كي تتم الزيجه على خير..
حاولت أن أتمالك أعصابي قائلاً :
ـ لكنني لست من أهل القرية..
ـ لكنك على أرضها و ستتزوج بنت من بنات القرية..
ـ إنها إتاوة إذن..
قلتها ونبرة الغضب تعلو تدريجياً في صوتي.. لاحظ الحاج جابر ذلك فابتلع ريقه قائلاً :
ـ إنها أعرافنا..
ـ هل ذهبت إليه؟..
أطرق الحاج برهة ثم رفع طرفه وقال :
ـ لقد ذهبنا.. والدور دورك..
استندت بكفي اليسرى على فخذي متسائلاً :
ـ وإذا لم أذهب؟..
أحمر وجه الحاج جابر ولم يستطع النظر في عيني، ولم أفهم السبب،
ـ الزواج لن يتم بدون إرضائه.. إنه يقوم بربط المقبلين على الزواج..
قالها جابر وهو يعصر فخذه بكفه في عصبية، سألته في غباء متوقع :
ـ يربطهم أين بالضبط؟..
نظر لي في دهشة ثم فهم أنني أجهل من دابة فبدأ يشرح لي معنى الربط هنا..
علوش هذا يقوم بما يشبه الإخصاء الذي كانوا يصنعونه للعبيد قديماً.. لكنه هنا بدون جراحة..
إنه عن طريق السحر الأسود كما يدعون..
الآن أفهم لما لم يسمحوا لفاطمة بالجلوس معنا..
قلت لجابر بامتنان مصطنع :
ـ الحقيقة أنك أفدتني كثيراً يا حاج جابر..
قال لي متلهفاً :
ـ ستذهب إليه يا ولدي؟
نهضت مكشراً عن أنيابي ..
لابد أنني بدوت له كالمسوخ بسبب نظرة الرعب التي تجسدت في عيني الحاج جابر..
ـ سأذهب إليه، لكن ليس لدفع الإتاوة بالطبع.. بل للقبض عليه بتهمة ممارسة الدجل والشعوذة..
نهض الحاج جابر محاولاً تهدئتي :
ـ لا تكبر الموضوع يا ولدي..
ـ لقد كبر.
ـ نحن لا نريد له أن يؤذيك..
ـ يؤذيني!!
قلتها متقززاً كأني أتقيأ وكل خلجة من خلجاتي تنتفض غضباً.. لا داعي للإفساد الزيجة الآن،
سأنصرف قبل أن أرتكب جريمة.
مررت بفاطمة عند باب الدار فرأيت نظراتها تقول لي الكثير ..
نظرت لها بمعنى : اطمئني سألقن هذا الدجال درساً وأعود إليك، تباً لماذا تشيعيني بنظراتك
الملتاعة كأنني لن أعود..
صبراً أيها الدجال... صبراً يا كفور الصوالح..
في الطريق فكرت، هذا الوغد يسيطر على عقول القرويين هنا بالإيهام، الإيهام وحده كان
الحل المنطقي الذي توصلت إليه.. وطبعاً لن ينجح ذلك المأفون معي لأنني لن أسمح
للإيهام بالتسرب إلى روحي..
إنني أشعر بالإهانة، مجرد أن يطلب مني أبو فاطمة هذا الطلب يعد إهانة..
وصلت إلى النقطة فجمعت ديريني وعبد الرحيم وسألتهما عن مكان علوش هذا..
رأيتهما يتبادلان النظرات الجانبية وقد فهما ما وراء سؤالي..
هما يعرفان معنى إقدامي على الزواج في كفور الصوالح، وربما كانا يتوقعان سؤالي هذا بل ينتظرانه..
هنا أخبرني ديريني أنه يسكن في ذلك البيت الطيني الخرب وسط المقابر .. توقفت قليلاً
وتحسست عنقي لا إرادياً وقد تذكرت تلك الليلة المرعبة التي قضيتها هناك وما قاله لي ديريني يوم عدت..
" النداهة نفسها لا تجرؤ على الذهاب لهناك في مثل هذا الوقت يا فندم.. "
صحت في صرامة :
ـ رجل واحد يخيف قرية بأكملها.. كيف؟..
قال عبد الرحيم وقد قرر أن يدلي بدلوه :
ـ إنه ليس بمفرده يا فندم..
ـ لديه تشكيل عصابي إذن..
ابتلع ريقه قبل أن يردف بصوت مبحوح :
ـ لا يا فندم.. إنه (مخاوي)..معه بسم الله الرحمن الرحيم.
قلت لهما بلهجة آمرة :
ـ هذا الدجل لابد أن ينتهي من كفور الصوالح..
قال ديريني :
ـ يا فندم أنت لا تعرف ما حصل للضباط الذين سبقوك هنا في النقطة مع الشيخ علوش..
هناك تاريخ أسود إذن مع هذا العلوش.. لكن لماذا لم يحك لي ديريني قصص هؤلاء
الضباط السابقين بدلاً من قصص أخواله المعاتيه؟
الأمر واضح، علوش هو تابو القرية، لذا هم يكتفون بالتلميح دون التصريح قدر الإمكان.
قال ديريني:
ـ لقد احتك ضباط كثر بالشيخ علوش.. خالد بك وعلي بك وإسماعيل بك.. أذكر خالد بك
كيف زاره أحدهم في الحلم وأملى عليه طلب النقل إملاءً.. في الصباح نهض ليكتب طلب
النقل وهو يرتجف كالمحموم..
وطقطق عبد الرحيم بلسانه وهو يقول متذكراً :
ـ و علي بك الذي استيقظ يوماً ليجد النار قد شبت في ثيابه دون سابق إنذار..
ولم يستطع الخروج من النقطة وكلما أحضرنا له ثياب جديدة تعود النيران لتشتعل فيها..
وتتحول إلى رماد.. وفي النهاية استسلم الضابط وأعلن التوبة عما بدر منه تجاه الشيخ علوش..
وسكت عبد الرحيم ليكمل ديريني بقية المآسي قائلاً :
ـ أما إسماعيل بك.. فقد تفاجأ الناس به وهو يدخل على الشيخ علوش بيته وسط مريديه
عاري كيوم ولدته أمه ..وكالمنوم جثي على ركبتيه مقبلاً قدم الشيخ وهو يهذي كالمحموم ..
طبعاً بعدها لم يعد يصلح لشيء.. لقد ترك كفور الصوالح والخدمة كلها ...
كنت استمع لهما عاقداً ساعدي أمام صدري ودمي يغلي..
" لا تغتر بالريف يا مجدي.. من يدري ما الذي قد تواجهه هناك..."
هل كان نقلي لكفور الصوالح بعينها صدفة، لابد أن سمعة القرية وصلت للقاهرة وصار
الكل يهرب من الخدمة هنا، طبعاً فيما عدا واحداً كان يسعى حثيثاً بحماقة منقطعة النظير
للفرار إلى الريف..
الرسالة التي وصلتني واضحة تماماً.. لن يجرؤ أحد على مواجهة علوش هنا..
حتى ممثلي السلطة..
طبعاً لم أصدق حرفاً مما سمعت.. غاية ما هنالك أن الرجل يملك نوع من التأثير في الأخرين..
جو المقابر الذي يحيا فيه وادعائه أنه على صلة بالشياطين يكفيان في بيئة تقتات
على الخرافة كي يصير وثناً يعبد..
أين أنت يا ماركس الآن؟.. أتمنى الآن لو كنت حقيقة وليس مجرد وهم وخيال في
عقلي لترشدني الطريق..
لكن علي أن أهدأ بالاً.. لقد بني الشيخ علوش هذا جداراً صلباً من الخوف بينه وبين الناس..
ولن يكون هدمه سهلاً .. لكنه ليس مستحيلاً.. لابد من هدم أسطورة هذا العلوش في قلوب
أهل القرية أولاً.. لابد من استغلال موضوع زواجي كفرصة لهدم تلك الخرافة..
سأذهب إليه وحدي..

***

شواهد القبور..
مشهد لا يتناسب مع شاب مقبل على الزواج مثلي، لكنني مقبل على ما هو أسوأ من
مشهد القبور هذا، مقبل على لقاء علوش.
توقفت وجذبت نفس عميق وأنا أنظر للكوخ إياه..
أمام الدار يجلس رجل نحيل يشبه الفأر المذعور عرفت فيما بعد أنه مساعد
علوش ويدعى عطوة، يقوم هنا بدور مساعد الشيطان .. يتناول عطوة العطايا
من الزوار ويدخل بها الدار ثم يعود بعد قليل ليسمح لصاحبها بالدخول على حضرة
الشيخ علوش .. تجاهلت نظرات مريدي علوش من أهل القرية التي أعرف فحواها:
لقد جاء البيه الضابط بنفسه صاغراً للشيخ علوش قبل الزواج..
الشيخ علوش سره باتع ..بركاتك يا شيخ علوش.. حتى الحكومة لا يمكنها مقاومته!
وابتسم مساعده الوغد ابتسامة منتصرة حينما رآني قبل أن يستدير ليعلم سيده بخبر
الموسم لكنني استوقفته وقلت ضاغطاً على حروف كلماتي :
ـ أخبره أنني انتظره هنا ..
ثم استطردت في اشمئزاز حقيقي :
ـ لن أتقدم أكثر فالرائحة لا تطاق ..
هنا تجمد الحاجب ولم يعلق ولا أدري هل صدم من الإهانة أم لكوني أجد المكان كريه الرائحة فعلاً..
ـ لكن..
قاطعته في صرامة :
ـ سأقابله هنا أمام الناس..
هرش في فوديه متردداً للحظات ثم حسم أمره واستدار ليغيب داخل الدار..
نظرت لمريدي علوش فرأيت عيونهم تقول الكثير ..
إصراري على مقابلة علوش أمامهم حيرتهم.. وأشعرتهم أن القادم لن يكون كما يتوقعون..
قلت لهم باشمئزاز :
ـ كيف تتحملون تلك الرائحة ؟..
انتفض الجلوس وهم بعضهم بالقيام لكنني أشرت لهم في صرامة أن اجلسوا ..
العرض لم يبدأ بعد يا سادة..
ولم ألبس قليلاً حتى انفتح الباب مصدراً زئيراً مرعباً كبيوت الرعب وشممت
رائحة مجرور عفن أدارت رأسي..
في البداية تصورت أن علوش هذا يربي قرداً في داره ثم تبين لي أن القرود
لا يلبسونها ثياب الريف.. إنه علوش ذاته..
عجوز متغضن الوجه عينه اليمنى عوراء.. واليسرى تلتمع كقرص شمس
صغير يشع شراً وشرراً.. وتذكرت أساطيرنا التي تتحدث عن الأعور الدجال..
هذا الرجل هو نموذج مجسد لتلك الأسطورة..
عينه السليمة ترمقني بحقد رهيب.. هذا الرجل يكرهني بشدة..
سألني بطريقته متأففة :
ـ خيراً يا بك؟..
ـ سيكون خير بلا شك .. فلعلك تعلم أنني مقبل على الزواج وبما أنك مهم جداً
لأهل القرية فيمكننا اعتبارك من أعيانها.. لذا جئت كي أدعوك لحفل زفافي ؟
تبادل العجوز النظرات مع ذيله ثم عاد ليقول لي بنفس الطريقة الباردة الخالية من أي مشاعر :
ـ هذا واجب يا حضرة الضابط ..
لوحت له بكفي صائحاً :
ـ سأنتظرك يا شيخ علوش ..
قال مؤمناً وهو يشير إلى عينه العوراء :
ـ (عيني) ..
ثم أخرج من بين طيات ثيابه لفافة مريبة لوح بها لي في بطء مستطرداً :
ـ وهذا حجاب مجاني إكراماً للحكومة ..
نظرت إليه وقلبي يغلي حقداً.. لابد أن أنهى تلك المهزلة لصالحي قبل أن أصير أضحوكة القرية..
قبضت على يده الممسكة بالحجاب المزعوم وقلت له ضاغطاً على حروف كلماتي :
ـ شيخ علوش.. سأعطيك مهلة كي تبحث لك عن عمل محترم غير الدجل.. وإلا...
ـ يا حضرة الضابط أنا لا أوذي أحداً..
ـ هذا لأنك لا تفهم معنى الإيذاء أصلاً .. ماذا تسمي استغلال حاجة الناس وإرهابك لهم بأمور
الدجل والشعوذة تلك؟
ـ هل اشتكى لك أحدهم مني؟
ـ وهل يجرؤ أحدهم على شكايتك؟
ثم لوحت له بسبابتي مهدداً..
ـ لديك مهلة حتى أعود من أجازة الزواج..
ثم التفت إلى القوم الجلوس الذين تجمدوا في أماكنهم فبدو لي أقرب للأنعام منهم للبشر..
ربما هم يستحقون ما يفعل بهم حقاً..
ـ متخلفين..
قلتها ثم تركتهم وانصرفت..
رباه كيف كان يرمقني الشيخ علوش في تلك اللحظة وقد أوليته ظهري .. لقد اهنته وتحديته
امام أهل القرية وليصنع أقصى ما عنده .. وليركب أعتى ما لديه من خيل دجله وشعوذته
ولنرى ما يصنع..
هذا ما كنت أفكر فيه في تلك اللحظات ولم أكن أعرف ما تخبئه لي الأيام وقتها..
لكنني أراني الأن عائداً إلى النقطة مختالاً كالطاووس الأحمق الذي استفز لتوه غولاً جائعاً لا يرحم ...

***

الحقل والظلام وصوت العواء إياه..
كنت أعدو فراراً من شيء ما يطاردني وهو يلهث والزبد يتطاير من شدقيه..
كيان أسود أشبه بكلب.. ولم يكن له ظل ..كيف أدركت هذا في الحلم وأنا أجري أمامه ؟..
لا ادري لكن هذا هو ما بثه الحلم في عقلي..
ولم تدم المطاردة طويلاً ..سرعان ما لاحت لي شواهد القبور ثم ذلك البيت الطيني الخرب..
وشممت الرائحة الخبيثة إياها ..منزل علوش في الحلم يبدو كالكابوس داخل كابوس ..
ولا مناص إلا بالدخول فراراً من الكلب الأسود الذي لا ظل له ..
وبالفعل دفعت الباب ودخلت ..
كان هناك يبتسم بعينه الواحدة ويشير لي أن هلم.. كأنه يدعوني لوليمة..
ما سر هذا الترحيب الغير معتاد؟
حاولت أن اقول شيئاً لكن صوتي لم يغادر حنجرتي ..
هناك مائدة خشبية عليها ساعة رملية غريبة الشكل .. في أعلاها سائل أحمر
كالدم ينساب ببطء للجزء السفلي ..ما معنى هذا .. صرخت ..
وكالعادة لم يخرج صوتي للفضاء .. كررت الصراخ .. حتى تحررت صرخة مدوية
ادركت على إثرها انني تحررت من ذلك الكابوس وعدت إلى عالمي حيث حجرة
الاستراحة القابعة فوق النقطة ..
ما معنى هذا الكابوس ؟ ومن قال أن للكوابيس معنى أصلاً؟ هذا تجده عند العوام أما
عندي فلم يكن هذا سوى نتيجة حتمية للقائي بعلوش
وتأثر عقلي الباطن بذلك، وهكذا عدت أغوص في فراشي من جديد،
وما زاد في ثقتي أنني استيقظت في اليوم التالي نشطاً فلم يحدث لي شيء كما توقع
لي أهل تلك القرية وعلى رأسهم فاطمة وأهلها، لكن لسان حالهم كان يقول : ا
لانتقام موعده يوم الدخلة، حينها سيقرر الشيخ علوش أن يسلب الضابط القادم
من مصر فحولته وسيخرج في اليوم التالي مثل الطائر المنكس منتوف الريش ..
وكنت أنا أقابل كل ذلك بابتسامة هادئة غير مهتمة.. يا حمقى أنتم لا تفهمون، هذا أخر
شيء يمكن أن يشغل بالي، أنتم لا تعرفون مجدي سليمان..
وابتسمت أكثر..

***

عمرو مصطفى 11-10-2018 09:49 AM

6ـ عش اليوتوبيا

الزغاريد والأعيرة النارية تدوي من دوار الحاج جابر، ذلك المزيج الذي يجعل قلبك يرجف من الفرحة
و الخوف كذلك، ماذا لو أصابني الآن عيار طائش كما يقولون؟ لن أستطيع اتهام علوش بالطبع،
كما أننا لم نتفق على هذا، طريقة الانتقام تحددت سلفاً، فلا داعي للمزاح الثقيل ههنا.
نظرت لوجوه المدعوين التي تتأملني بنظرات تتقلب بين الفضول و الحسرة وابتسمت بثقة بلهاء
كأني مقبل على فتح عكا. الكل هنا في دوار جابر الصوالحي من العمدة عظيم الكرش وحتى
عوضين مجذوب القرية، لكنني ظللت أبحث بعيني بين الوجوه المتفرقةعن وجه واحد بعينه،
نعم لقد وعدني أنه سيأتي، ترى هل يفي الدجاجلة بوعودهم ؟..
لكن دعوني أصارحكم: كنت أراه بزاوية بصري في كل ركن من الأركان، يرمقني بعينه المتبقية
بنظرة خاوية ..
وحينما ألتفت لا أجد شيئاً.. تكرر هذا عدة مرات ثم قررت أن أنفض الفكرة عن رأسي حتى
لا أبدو معتوها أمام العيون التي تتربص بي، سيقولون أنني جننت في ليلة زفافي لأنني
تحديت علوش، وهكذا تنضم قصتي إلى سائر قصص ضحايا علوش من ضباط سابقين،
ويضيع جهدي في دحض دعواهم سدى.
لكنني بالرغم من ذلك أشعر بوجوده معي في العرس، الوغد قد عبق المكان بروحه الثقيلة
الخبيثة .
ويمضي الزفاف كأي زفاف تقليدي.. قطار بطيء يمر على أعصابك ذاتها ..
متى سأجد نفسي وحيدا مع شريكتي الجديدة في مشروع اليوتوبيا؟
مازال أمامنا طريق ليس باليسير حتى نصل لعش الزوجية في البندر.. وهذه في
الحقيقة كانت حجتي حتى آخذ فتاتي وأنطلق بعيداً بعيداً عن كل ذلك الصخب والأعراف
الغريبة وعبارات المجاملات المنمقة التي لا أدري كيف يحفظونها.
أخيراً جاءت السيارة المستأجرة لتنقلنا إلى يوتوبيا الزوجية.
فاطمة سعيدة وأنا سعيد، وحتى الأشجار التي تتهادى على جانبي الطريق تبدو سعيدة،
وحينما انغلق الباب علينا التفت لفاطمة فوجدت وجهها أحمراً مثل ثمرة الطماطم، ولم
يكن هذا بفعل الزينة المبهرجة ولكن وجهها كان على وشك الانفجار بدماء الحياء.
ـ هل تذكرين يوم تقابلنا لأول مرة ..؟
ـ مممم ...
ـ هل كنت تتصورين أن ينتهي بنا المطاف للزواج حقاً؟
ـ مممم ...
ـ هل أنت جائعة؟
ـ مممم...
ـ إجاباتك بليغة للغاية .
وحينما اقتربت منها رفعت كفها في إشارة تحذيرية واضحة..
ـ ماذا بك ..؟
ـ لا تقترب..
ـ نعم !!
ابتلعت ريقها كأنما تبحث عن كلام مناسب يعبر عما تريده، ثم كان ما قالته
بعدها عبقريا :
ـ اليوم ... لا... لأن ... لا يصلح .. لأنه .. اليوم .. و.. أأ...كح..كح..
فككت ربطة عنقي وخلعت سترتي وشمرت عن ساعدي وظللت لساعة أحاول
توصيل كلماتها المتقاطعة كي أفهم ماذا تريد قوله بالضبط..
ثم أخيراً فهمت ..
الفتاة قررت ممارسة نشاطها الفسيولوجي المعتاد قبل الأوان بسبب التوتر، وهكذا
تركتها وخرجت لأقفت وحدي في شرفة الشقة أرقب النجوم الساهرة مردداً في حسرة :
ـ فقط لو كنا في اليوتوبيا، لما كان هذا عائقا ..
***
لكنني قررت استثمار الوقت بنشاط بديل..
سأقوم بمحاولة شرح النظرية اليوتيوبية لزوجتي المبجلة! ولما لا؟! فلا يوجد
لدينا الأن سوى الثرثرة لحين إشعار أخر..
سألتها :
ـ هل سمعت من قبل عن المدينة الفاضلة؟..
أجابت وهي تبتسم في فهم :
ـ إنها إحدى مدن ألف ليلة..
أغمضت عيني مصدوماً ثم عدت ففتحتهما وقلت في صبر :
ـ ألف ليلة خرافة، أما المدينة الفاضلة فهي حلم الباحثين عن الكمال الأرضي..
ضيقت عينيها في محاولة لفهم كلماتي، فعدت أقول لها بعبارات أبسط:
ـ مثل الجنة يا فاطمة.. مدينة كاملة مكملة.. ليس فيها بغض ولا جريمة.. ليس
فيها غني وفقير.. الكل سواء مثل أسنان الحما... أقصد المشط!
ـ ليس فيها غني ولا فقير.. يعني الكل مستور الحال.
قلت مبتسما لتعبيراتها :
ـ الكل سواء يا فاطمة.. لن ينظر أحد لما عند الأخر ولن يطمع أحد فيما عند الأخر..
سكتت قليلاً كأنها تحاول هضم كلامي، ثم سألتني فجأة :
ـ ولن يحتاج أحد لأحد؟..
قلت لها في تلقائية:
ـ اليوتوبيا ليس فيها احتياج..
ـ إذن فكيف ستستمر الحياة في تلك المدينة.. من دون حاجة الأخ لأخيه وأمه وأبيه وجاره..
داعبت شاربي مفكراً فيما تقول، ثم قلت لها بلهجة لا تخلو من ضيق :
ـ نحن نحتاج لبعضنا البعض لأن بيننا تفاوت..
ـ هكذا خلقنا الله.. مختلفين.. فقراء وأغنياء.. ضعفاء وأقوياء.
قلت بامتعاض :
ـ مختلفين أو متخلفين.. لا فرق..
لاحظت الضيق في وجهي فأشاحت بوجهها قليلاً وقالت :
ـ أنا أحاول فهمك على قدري.. فأنا بالكاد أفك الخط..
شعرت بشيء من الشفقة تتسلل إلى صدري تجاهها، يبدو أنني جرحتها بشدة، لكن تباً،
ما سر تلك الرقة الرقيقة التي هبطت علي فجأة؟..
إنه الزواج يا مجدي، أنت ما زلت عريساً جديداً يا رجل..
قلت لها متلطفاً :
ـ دعك من هذا وتعالي أصحبك معي في رحلة ممتعة بين صفحات الكتب..
وأخذتها إلى مكتبتي الخاصة التي ألحقت بها كل الكتب التي جئت بها من القاهرة،
وبدأت أحدثها أحياناً وأقرأ لها أحياناً مع الشرح ومحاولة تقريب المكتوب إلى فهمها، وكانت
فاطمة تنظر إلي في انبهار طوال الوقت، لقد ظفرت بزوج متنور بحسب تعبيرها، يا لها
من فتاة ساذجة ومثيرة للشفقة، لم أشعر يوماً ما بالمسئولية كما شعرت بها اليوم
بالرغم من كوني رجل شرطة مسئول، لكن هذه الفتاة الطيبة كيف سيمكنها السير
بدوني خطوتين دون أن تتعثر ويدق عنقها؟..
ـ لماذا تنظر إلي هكذا ..؟
انتزعتني عبارتها الخجول من تأملاتي فتنحنحت، ثم تذكرت أنها زوجتي فقلت لها بسرعة :
ـ ولما لا أفعل؟!..
ـ أشعر بالحرج من نظرات الأخرين..
ـ أنا لست كالأخرين .. أنا زوجك ...
أطرقت إلى الأرض وهي تتمتم :
ـ ما زلت لا أصدق أنني صرت زوجة ..
حككت أنفي قائلاً :
ـ عملياً نعم ..
ثم قررت أن أوجه دفة الحديث بعيداً فقلت لها مداعباً :
ـ لقد مر يومان حتى الأن ولم يحدث لي شيء ..هل فقد الشيخ علوش قدراته أم ماذا .. ؟
رفعت طرفها إلي وبدت كأنها مترددة في الإفصاح عن شيء ما، ثم قررت أن تتكلم :
ـ الشيخ علوش ليس شريراً كما تتصور..
ابتسمت بركن فمي قائلاً :
ـ ربما أكثر مما أتصور ..
ـ هل .. هل ستظل تكرهه لو علمت أنه السبب في زواجنا ..
شعرت برجفة تسري في عروقي، وقبضت على ساعدها لا شعورياً قائلاً :
ـ ماذا تعنين ..؟
ابتلعت ريقها بصوت مسموع وساعدها يرتجف في قبضتي فأرخيت قبضتي معتذراً لها، لكنني
كنت بحاجة إلى أن تكمل، وبسرعة، ساعتها طلبت مني حفظ ذلك السر بيننا.. فوعدتها
مغتاظاً وقلبي يدق بعنف..
ـ هل تذكر يوم تقابلنا أول مرة.. كنت عائدة من عند الشيخ علوش ومعي عملين، واحد
لأخي مداح ليصلح من شأنه ويهديه وأخر لي ليرزقني الله بالزوج الصالح.
طبعاً لم تتخيل أن علوش هذا سره باتع كما يقولون، إلا حينما وجدتني أدق باب دارهم.
قلت لها شاعراً بشلل وشيك :
ـ وهل تذكرين أين ذهب ذلك العمل ؟
قالت ببراءة :
ـ للأسف ضاع مني.
ـ لم يضع للأسف.. لقد وقع منك والتقطه أنا كتذكار ووضعته في جيبي، لقد تحول لعجين
بعد أن غسله الشويش ديريني ، لكن يبدو أن هذا لم يبطل مفعوله!
ـ سبحان الله!
قاومت رغبة ملحة في خنقها، على الأقل ليس ونحن في شهر العسل.
قلت لها :
ـ تعرفين أن علوش الطيب هذا لا يسمح لأحد بالزواج في قريتك قبل أن يعطيه إتاوة..
قالت في دهشة :
ـ إتاوة.. أظنه حلوان كي يصنع له حجاب يحفظه من العين..
ـ ليس حلواناً يا فاطمة.. لقد حكى لي والدك كل شيء.. لكن يبدو أنهم لم يخبروك..
طبعاً لم يخبروها..
الأن يتوجب علي أن ألقنها المزيد من الدروس المكثفة..
أعرف أن هذا لن يكون سهلاً، لكنه ليس مستحيلا، سأستغل أيام حيضتها في غسيل
دماغها من كل الأدران التي علقت بها، سأفرغ عليها كل ما تعلمته من فكر تقدمي
شمولي. أنت أول براعمي يا فتاة الريف الساذجة، ويبدو أن شيئاً غريباً قد بدأ يتخلخل
جدار الصلب الذي يضخ الدم إلى رأسي، ذلك الشيء يعرفه أبناء البيئات المحافظة
بالميل ويعرفه الشاعريون بالحب، وأعرفه أنا بالمغناطيس الجاذب لنقيضه..
وهكذا تمضى بنا طبائع الأشياء..
***
أين أنت يا ماركس الآن لتراني في عش اليوتوبيا الصغير؟..
إنني أمضي بنجاح في مشروعي بدونك..
جاءت لي فاطمة بكوب من القهوة ووضعته بجانبي، لفت انتباهي أنها ترتدي ثياب
محتشمة أكثر من اللازم فسألتها :
ـ هل ستغادرين؟..
ضربت بيدها على صدرها كمن تلقت إهانة وصاحت :
ـ أخرج وأنا ما زلت عروس!.. هذا عيب!..
نسيت أن هذه عادة سمجة لدى المتزوجين، لو قرر العروسين مغادرة عش الزوجية
قبل أسبوعين على الأقل فالويل لهما، سألتها :
ـ لماذا ترتدين كل هذه الأشياء؟.. لا تقولي لي أنك تتحشمين أمامي..
ابتسمت قائلة :
ـ لا طبعاً.. فقط سأصلي..
فاطمة تصلي! لاحظت دهشتي فقالت باستغراب :
ـ ألا تصلي أنت أيضاً؟..
تناولت كوب القهوة شاعراً بالحرج، ماذا أقول لها؟ زوجتي أنا تصلي، يا لخيبة أملي
فيك يا فاطمة، يا شماتة ماركس في. قلت لها متحذلقاً:
ـ الحقيقة أن الصلاة شيء جيد.. رياضة رائعة تساعد على تنشيط الجسد..
أشارت لي قائلة بابتهاج :
ـ إذن فلنصلي سوياً..
امتقع وجهي وشعرت أن القهوة تحولت في حلقي إلى رماد حار. قلت لها بصوت مبحوح :
ـ شكراً.. أنا أمارس الرياضة يومياً..
بدا عليها عدم الفهم، فحاولت أن أشرح لها بتلك الطريقة المتعالية التي تشعرها بمدى
جهلها، يمكنني بهذه الطريقة أن أقنعها بوجود أسد تحت فراشها وستصدق، هذه حقيقة
علمية لا تقبل النقاش هل ستعرفين أفضل مني أنا؟!. قلت لها:
ـ الصلاة رياضة للبدن يا عزيزتي.. وأنا رجل رياضي.. إذن أنا أصلي أفضل منك..
ـ يا سلام!..
قالتها ذاهلة..
ستصدق البلهاء وربما تركت الصلاة بسببي، تركتها تذهب وجلست أحتسي القهوة
باستمتاع، لقد أفلت هذه المرة و... تباً.
إنها تصلي!!..
وثبت قائماً، وصحت بها :
ـ فاطمة.. انتظري.. لماذا لم تخبريني أنك.. أنك..
وتوقفت عن مواصلة الكلام ملوحاً لها بكفي لعلها تفهم الباقي فالتفتت إلي بنصف وجهها،
لا أدري لماذا بدا لي لحظتها كالبدر التمام وهي تقول بحياء :
ـ قلت أنك ستفهم حينما تراني أصلي..
أسقط في يدي فتراجعت قائلاً :
ـ لا تؤاخذيني الكلام عن الرياضة أخذنا بعيداً عن.. عن..
ثم قطعت عبارتي وأشرت لها قائلاً في ضراعة :
ـ هلا انتهيت من الصلاة سريعاً..
ـ لما؟
ـ سنواصل الحديث عن اليوتوبيا.. وهل لدينا شيء أخر لا سمح الله!
***
أخيراً وبعد طول انتظار عدنا إلى حيث بدأنا في ليلة الزفاف.. ابتسمت لها في إشراق
فأطرقت في خجل، ساعتها شعرت أنني قادر على رفع جبل المقطم، على الطيران بلا أجنحة
وملامسة النجوم و... لكنها رفعت وجهها وقالت لي كلمة واحدة بحزم مقتضب:
ـ ليس بعد..
***


الساعة الآن 02:10 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.