منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - ][ جَــــ ـ ـ ـلالـَــــــــة الم ـــلكَــــة ][
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-28-2018, 01:18 AM   #1
فهد سارح القرني
( كاتب )

افتراضي ][ جَــــ ـ ـ ـلالـَــــــــة الم ـــلكَــــة ][


][ جَــــ ـ ـ ـلالـَــــــــة الم ـــلكَــــة ][



أشياء مزعجة تهاجم القلب، و الرأس معًا، مشهدٌ يطفح من دائرة سوداء سحيقة، رجالٌ صامتون يرتدون سترات
ثقيلة، نساء طاعنات في السن بوجوه تنهار شيئًا فشيئًا يتشبثن ببقايا طفل، بعائلة مشتتة، بمصباح، بآخر رغيف
من الخبز، و ساعات جدارية لها مظهر حزين في كل منزل تسير للأمام دون إحساس بالوقت، إثرَ خطب عظيم
تنعكس غيومه الرمادية على خُوذ رجال الإطفاء الكاشفة.
الظل، و الضوء لوهلة منشغلان هناك لخلط ( بعض الأسرار ) المكشوفة، تحالفات شتَّى تمرغت بالجنون، و
اغتسلت بالفضائح حتى أخمص قدميها، إنهالوا على السكون بالضوضاء، أحرقوا بزة الإحتشام كاملة، جاعلين
من مدائن المطر ( ثكنات عسكرية )، تحت وطأة النار، و إنهمار القنابل، في متسع للذبح و السحل، و التعذيب،
و التنكيل، و حفر القبور، بلا رحمة، أو شفقة، أو حياء، في أقصى مراحل جفاف القلب على نحو سوفييتي
وضيع، يهب نفسه للخروج من البورصة، و ( إنحراف الوتيرة ) ، و إزهاق الأرواح و تقديمها قرابينًا لسلالة من
الأسهم، و السندات، و الكمبيالات الشمعية بلون القهوة.
و بين كل هذا و ذاك ناجٍ يتقدم هربًا ببطء شديد يائس، بخطوات ثقيلة، باردة كالحجر،يحتضن غطاء سرير،
و كأس زجاجية، و كنزًا في داخله من [ شذا وطني مندثر ]، باحثًا عن مكان آخر يلوذ إليه بعد أن هجر بيته
في عيون الصنوبر، نحو مكان يحمل صفاء أكثر، في غلاف قرمزي لخيارٍ بين وجعين أحلاهما بالغ المرارة، و
الملوحة، في جائحة عظمى تفرض ( الهبوط الإضطراري ) على أراضٍ أخرى بعيدة عن الوطن كخيارٍ أخف وطأة
من المكوث تحت خطوط النار، في حالة من محاولة إغلاق الحواس و إطلاقها بالإتجاه الآخر، و منحها حياة
أخرى، و إن كانت قمصان الدهشة لم تجف بعد.
المتهورون،الهادئون،الفوضويون،المحطمون، كلٌ اليوم سواء وديعون كالثوم المهروس، يدلفون إلى البهو ذاته
سقوطًا، كأجربة الرمل، كرزمٍ مختلفة، كل رزمة لها ( هيئة إنسان ) يكابدون الحياة ببؤسها المدقع، تناسلوا في
خصر مدينة أخرى غرباء، بين الليالي المظلمة، و السعال الخافت داخل الأكواخ المتسلخة كأياديهم تحت ما يُطلق
عليه [ ظرف اللجوء ] .
من سيكفكف دمع سوريَّة، تلك المرضعة الرقيقة التي ما إن تضع أبنائها على شراشف أسرتهم حتى تغطيهم، و
تشعل لهم ألف نجم،و التماعة قمر، من تلك الكوكبة التي تحشو بها جبينها زهوًا، و بهاء، سوريَّة عناوين الذاكرة،
فورة الصحو، و مزمار حبٍ، و موعظة، و بحرٌ عظيم من الفنار، سوريَّة تلك المدللة التي تلعب الدحل، و تقتعد
الأماكن الخضراء، الآن ينفر عنقها للخارج تائقًا إلى السكين، أن أكملوا ذبحي من الشمال إلى الجنوب، من الشرق
إلى الغرب، من الوريد إلى الوريد، اجعلوا الرأس يطير ليلهو شعري المتموج هذه الليلة التأريخية على وسائد غريبة،
بعد أن ضربني الوالي أمام الناس على قفاي كالجارية و مزق أجزاء أبنائي و باعها في سوق التجزئة بأثمان
بخسة ياردة كالوحل.
لا أعلم ما هي أحوال لوحة البورتريه لغارثيا لوركا المعلقة في منزلي بدمشق، هل ما زالت التلال الأندلسية
متعرشة على وجنتيه؟، و هل ما زال ذاك الوادي المرتجف يستوطن فمه؟، هل ما زال يحتفظ بذات البريق في
عينيه؟، أم أن ستارة محدودبة واسعة من العالم الآخر أسدلت على المنزل بأكلمه فأصبحت جبهته تتحرك يمنة،
و يسرة، و اختنق الأكسجين في ديماس أنفه الأنيق ؟!، أحاطته سنابل الدماء حمراء متصالبة تصطخب كإشارات
المرور، أو لائحات منع التدخين.
آه يا سوريَّة كم اعتصرني ألم / وجم عظيم حين سمعت شيخًا يتحدَّث عن عجزه بلكنة سورية أصيلة قائلًا : ( يا
ابني شو بيطلع بالإيد ؟
)، بعد أن كان أبناء سوريا ينامون قريري الأعين، أيديهم على صدورهم، مرتاحي البال، و
أقدامهم في دلابيث الماء، أصبحت المجازر تنموا بينهم بإقتدار و تتفاقم كالفطريات، حتى أضحت دمشق و بناتها
شاحبات، يسبحن في الغثاء الطري الأحمر، و شعب عظيم يتوهج في ضلوع الخسران، بأحلام يدجنها الجفاف،
حيث لم يعد لها مأوى سوى في شغب الغروب، نعم في سوريَّة استحقت الصخور، و المشانق، و ساحات الرجم،
و المقاصل، و سياط التعذيب ( وسام الأسرة المثالية )، حيث أظهرت تماسكًا، و حضورًا رهيبًا يستحق التكريم.
سترافقكِ دعواتنا حتى و أنتِ تحت الأنقاظ، أتمنى مصافحتكِ مرة أخرى، فلم أكتفِ منكِ بعد، حتى و إن كانت يدكِ
قاتمة دبغتها الظروف، شاحبة كأيدي الموتى، سأصافحها و كأني أتلمس قطعة حرير فريدة، و سأتنفس غباركِ،
عطرًا هباريسيًا ثائرًا ، حتى نجتمع من جديد تحت الشمس العظيمة المتوهجة كالأتون، المثقلة بالحب، و
يضعكِ الكون من جديد على عنقه ياقوتة بنفسجية لطحة حبٍ، و ترحاب .
حتى يضيء شجر القيقب الليل كالفسفور، و يرطب المطر أفواه المصلين، و تردين التحايا بصوتكِ الخشبي
الأجش أترك مساحة شاسعة من الشوق / الألم.

 

فهد سارح القرني غير متصل   رد مع اقتباس