منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - صبّح صباح الخير*
عرض مشاركة واحدة
قديم 07-22-2007, 06:40 AM   #7
أحمد الحربي
( كاتب )

Exclamation


للصباح في القرية طعم وشكلٌ ثاني (كصباح الخير من شفايف مريم نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة ) ...!

ولكن في هذه القصة القصيرة ... تظهر صورة أخرى ...!


تفاصيل صغيرة للغبار
في القرى الصغيرة حيث البيوت المتناثرة ذات الطابق الواحد، يهبط الصباح مبكرًا ويتسلل عبر النوافذ وفتحات الأبواب.

كان مستيقظاً حين طرقت عليه أمه الباب تأمره أن يصلي الفجر، وأن يأخذ كيس القمامة معه إذا خرج، ليلة رطبة تلك التي تقلب فيها على سريره بعدما قُطع التيار الكهربائي ثلاث مرات.

جاء فيها نومه متقطعًا، حتى في الدقائق التي تعود فيها الكهرباء لم تفلح المروحة الآيلة للسقوط في تهيئة جو مناسب للنوم، وعلى الرغم من حرارة الغرفة فلم يهرب إلى السطح كما يفعل دائمًا، استوى جالسًا على طرف سريره متأملاً تفاصيل غرفته المملة.. سرير حديدي عالٍ.. دولاب عتيق بدرفتين.. نافذة بطلاء أخضر باهت.. وسقف من خشب، نهض وصداع شديد يشق رأسه إلى نصفين، توضأ من الحنفية ثم عاد وارتدى ثوبًا أشبه، بالقمصان الإغريقية القديمة.

وكعمل معتاد حمل القمامة وخرج، أحدث (باب الشارع) صريرًا مزعجًا في هدأة الفجر، مضى دون أن يقفل الباب.. ففي هذه القرية لا أحد يقفل بابه، وفي الشوارع الخلفية حيث تتكدس البراميل الصدئة وأوراق الصحف والعلب الفارغة.. هناك رمى القمامة ومضى.

ومن بين النفايات المتعفنة خرجت قطة سوداء رمقته بعينين لا تقولان شيئًا ثم استدارت لتلعق ظهرها بلسانها استمرارًا لعادة الصقل اليومي.


***

بخطوات نائمة قطع الطريق إلى المسجد الوحيد في القرية.. أضواء مصابيح الشارع الواهنة تعكس على الطريق الترابي عشرات الحفر الوهمية.. والتي أصبحت مبررًا لتجعله يسير بحذر شديد. في فجر يمتلئ ببقايا الليل، ورائحة الكلاب والماشية.

حيث لا صوت مباح في هذا الوقت سوى صياح الديكة المتقطع وهدير الشاحنات على الطرق البعيدة.

وحين عاد كانت رائح القهوة تصافحه مع نسمات الصباح الباردة.. دخل ليجد أمه تقف خلف (التنور)، تتوسط المطبخ القديم الذي اسودت جدرانه.. بدت فيه كقطعة حطب محترقة، خمسون عامًا وهي تقف خلف (التنور) دونما كلل.

بعدما غابت عنها روح المرح وتخللت فترات صمتها الطويل شكاوى من غسالة الثياب.

جلس في الغرفة.

ودون أن تلتفت إليه جاءت ووضعت القهوة أمامه ومضت تكمل عمل ما في المطبخ ثم عادت، كان ساهمًا ومنطفئًا.. ولم تكن هي ترغب في الكلام عن أي شيء.


***

رشف القهوة بسرعة وبنهم لا حد له مما أحدث صوتًا مزعجًا.. أرسلت له نظرة سريعة بينما ابتسم معتذرًا.

قبل أن تقوم لتنظف زوايا الحوش المتربة سألته إن كان يريد شيئًا.

هز كتفيه بالنفي.. ليطلق بعدها بصره في الغرفة.. جدران محبطة بعدما تحول دهانها من البيج إلى لون ترابي، قطع الأثاث بألوان متنافرة لارابط بينها.. نوافذ حديدية مغلقة دائمًا فليس هناك ماتطل عليه سوى الرمال الشاسعة..

سجاد قديم بخيوط زرقاء وخضراء وحمراء.. وتنويعات هندسية متكررة تصيبه بالغثيان.. وكم ألحت عليه والدته بتغيير هذا الأثاث الذي لم يعد صالحًا، ولكن الدنيا التي تضيق عليه.. وتضيق حتى تصبح أضيق من زنزانة لا تمنحه حتى فرصة الحلم بتغيير الأثاث.

***

الساعة العاشرة صباحًا حين خرج من البيت يتسكع في الشوارع، لم يكن يحمل ساعة في يده ولكنه عرف ذلك من ارتفاع الشمس ومن الرمال الصفراء التي أصبحت ساخنة.

لم يعد يجوب المدن المجاورة حاملاً ملفه الأخضر فالبحث عن عمل بات جهدًا عبثيًا مرهقًا.

ست سنوات ظل فيها يلبس ويأكل ويشرب من راتب والده المتقاعد، وباتت الوظيفة ضربًا من التفاؤل الأبله، ليس أمامه سوى أن يمضي بقية اليوم متسكعًا في شوارع القرية، بينما تبقى أمه خلف (ماكينة الخياطة) حتى يحين موعد تجهيز الغداء.

وأول ما يقع بصره عليه ككل يوم هو الطابور الطويل من العصافير الواقفة بملل على أسلاك الكهرباء، والأرض المجاورة للمسجد التي تصطخب بأولاد يلعبون الكرة.. مازال المكان ذاته منذ عشرات السنين ملعب القرية، كان هنا يومًا يلعب.. ويضحك.. ويصرخ.. ويرتدي فردة حذاء واحدة في قدمه اليمنى، وحده المرمى بقي كما هو يتجالد في الرمال.

هنا حيث الغبار الذي يخنق الشوارع والبيوت والأثاث والناس.. الغبار الذي يذر البؤس في عيونهم.

في قرية يرتدي أفرادها معاطف من الغبار ويمشون حفاة الأقدام وسط حظيرة الأغنام..

ما من شيء جديد سوى رمال تمتد إلى لا نهاية وتظل تزحف على جوانب القرية يومًا بعد يوم حتى الطريق العام المسفلت طمست معالمه.


***

صوت أغنية صاخبة تنهض من مسجل السيارة الواقفة أمام البيت.. أبدًا ما مر إلا ووجد هذا المراهق في سيارة والده يستمع إلى أغنية تعسة.

على الشارع المؤدي للسوق آثار أقدام كثيرة.. أقدام ضخمة لرجال، أقدام صغيرة لأطفال، وأقدام تمس التراب بنعومة لنساء مررن من هنا باتجاه السوق.

وبعد ما عبر الشوارع الفرعية لاح له على رأس الشارع (المقهى القديم)، (مطبخ المندي)، (محل تعبئة أنابيب الغاز) عالم مقرف من الروائح المزعجة، تلثم بغترته وتجاوز المكان بسرعة.

فالهواء أمام هذه الأماكن مغمس بروائح الشواء.. وأنفاس السجائر.. وكثير من كآبة الظهيرة والذباب الأزرق.


***

في المقهى..

زملاء مرحلة الثانوية.. جلسوا هناك بلا هدف في معاقرة للشيشة والورق مع حكايات قديمة لتبرير تعاستهم. ومضت صورة سريعة ثم انطفأت لطفلٍ صغير تحمل له أمه حقيبته.. وتسير بجواره حتى يصل إلى باب المدرسة ثم تدس في يده شيئًا شبيهًا بالريال.. مضى وفي أعماقه انهيارات متلاحقة.


***

قطع الشارع باتجاه السوق الذي رقد تحت ســـــــطوة الغبار في هيئة لا تشجع على التسوق.

وقف على باب المحل الصغير دون أن يلقي التحية، جال بنظرة ساخرة في أرجاء المحل، كان البائع مشغولاً يضع للمشتري شيئًا ما في كيس بلاستيكي.. ويدس في درجه بضعة ريالات هامدة لكثرة ما تداولتها الأيدي.

اجتاحه حنق على البائع وأراد أن يسأله كيف يبيع في هذه الغرفة الصغيرة.. الملابس.. والأحذية.. والساعات.. وأدوات العطارة.. وحتى المواد الغذائية.

ولكنه عدل عن سؤاله ما إن التفت إليه البائع مستفسرًا.. وخرج بعد أن امتلأت ثيابه برائحة الحناء.


***

جلس على الرصيف والشمس الحارة تضفي على ياقة ثوبه خطاً دقيقًا من العرق الذي بدأ يضايقه. وعلى بعد أمتار نقطة تفتيش قديمة لا يوجد بها أحد.

أخذ يتأمل تفاصيل المكان من حوله.. التلال الرملية تتقارب يومًا بعد يوم.. سيأتي اليوم الذي تدفن هذه القرية أهلها دون أن يرثي لهم أحد.

رمال.. رمال.. رمال حتى السماء أصبحت بلون رملي باهت وكأنما سقف غرفته الخشبي امتد معه من الأفق إلى الأفق وأهل القرية لاهون بشؤونهم الصغيرة، يبيعون.. يشترون.. يتحدثون.. يضحكون وقد بلغت بهم التعاسة حد الرضاء.

ولا يعرفون أن خلف هذه الرمال مدن صاخبة من الزجاج البّراق والأضواء الملونة. هناك أشخاص يركبون السيارات الفارهة بزجاجها المظلل.. ويسكنون القصور الفخمة.. وتعاف قططهم المرفهة أكل هؤلاء الناس.


***

في المساء أغلقت المحلات أبوابها وأشعلت المصابيح الواهنة وهدأت حركة الغبار وفرغ السوق من الزحام، في قرية تنام بعد صلاة العشاء.

عاد هو إلى غرفته وإلى سريره الحديدي، وإلى سقف من خشب.. ونافذة بطلاء أخضر باهت.. وهو يحلم ككل مرة أن يأتي صباح الغد بشيء مختلف عن خبز التنور وغبار الأزقة الضيقة.ِ

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

لـ نورة ضحيّان العتيبي
المصدر المجلة العربية العدد 326 ربيع الأول 1425هـ مايو 2004م

 

التوقيع





..., يَاربَّ فَاطِمَة.


التعديل الأخير تم بواسطة أحمد الحربي ; 07-22-2007 الساعة 06:45 AM.

أحمد الحربي غير متصل   رد مع اقتباس