منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - يوتوبيا الشياطين (رواية)
عرض مشاركة واحدة
قديم 11-03-2018, 10:02 AM   #4
عمرو مصطفى
( كاتب )

الصورة الرمزية عمرو مصطفى

 







 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 2618

عمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعةعمرو مصطفى لديها سمعة وراء السمعة

افتراضي


2ـ الرفاق

قلت للشاب:
ـ كنت في تلك الفترة التي تلت ثورة يوليو شاباً مفعماً بالأفكار اليسارية والثورية مثلك تماماً..
كنت واثقاً في أن المستقبل لليسار.. اتخيل الكرة الأرضية نفسها وهي تدور حول نفسها أنها تدور باتجاه اليسار.. ..
العالم ما هو إلا كوكباً من القرود بحاجة إلى ترويض وأنا ومن هم على شاكلتي
الأدميون على الحقيقة، والمروضون الفعليون لهذا الكوكب البائس.. وحلمت بالعالم المثالي
الذي فيه الناس ما هم إلا آلات .. بل تروس في ألة عملاقة.. الكل يعمل من أجل الكل..
الملكيات متساوية.. إنها الشيوعية يا صاحبي في خضم مجدها وإن قلمت أظافرها
هنا وإن شئت قل مخالبها لتصير اشتراكية...
لأن بلادنا التي مازالت تحتفظ بتراثها القديم لم تكن لتقبل الشيوعية في صورتها الفجة لكنهم
شربوا الاشتراكية حتى النخاع حتى صاروا يعتقدونها دينا..
بالرغم من كوني ضابط شرطة عمله ينحصر في ضبط الأمن ومطاردة الجريمة إلا أنني كنت
أعتقد أننا نتبع الأسلوب الخاطئ.. هناك جريمة لأن هناك تفاوت ..هناك جريمة لأنه لا توجد مساواة بين البشر..
وحينما تطبق الشيوعية البحتة لن تكون هناك جريمة ولن نحتاج لشرطي أصلاً...
مازال مجتمعنا تفصله مفاوز وقفار حتى يصل إلى اليوتوبيا الكاملة..
المدينة الفاضلة كما يطلقون عليها من باب التمويه على العوام المتدينين لكنني أعرف كغيري
ممن تتلمذوا على أفكار اليسار حقيقة اليوتوبيا.. جنة اليساريين على الأرض..
وكنت أحيا من أجلها.. ما أجمل الحياة من أجل هدف ..حتى وإن كان في نظر البعض تجديف وإلحاد ..
قصتي بدأت في منتصف الخمسينيات لم أكن وقتها قد انتقلت للعمل في الجهاز المرعب الحالي..
كنت قد كلفت بالخدمة كضابط في قرية كفور الصوالح إحدى قرى الوجه البحري..
كان هذا التكليف بالنسبة إلي نفياً زمانياً أكثر منه نفياً مكانيا... لأن القرى في ذلك الوقت
كانت بكراً لم تفض بكارتها معاول الحضارة بعد.. ولا تندهش إن صارحتك أنني كنت سعيداً
بهذا النفي لأسباب عائلية بحتة لكنني وقتها كنت أتظاهر بالعكس تماماً ..
وقتها قلت لرئيسي المباشر وأنا أحاول كتمان مشاعري الحقيقية :
ـ أتمنى أن أكون مفيداً هناك أكثر من طائر أبو قردان ..
شاعت على ثغر الرئيس شبح ابتسامة مقيته وهو يقول :
ـ لا تغتر بالريف يا مجدي.. من يدري ما الذي قد تواجهه هناك...
ـ لصوص الماشية والدجاج .. إن لم تخني الذاكرة ....
ـ قد يكون هذا ترف مبالغ فيه ..
ووقع لي على جواب تحويلي ثم رفع بصره إلى وقال :
ـ لا تنس إبلاغ سلامي إلى والدك..
والدي محمد سليمان ضابط شرطة متقاعد له تاريخه الحافل في سجل الشرطة
ورئيسي كان يوماً من تلامذته..
ومن يدري ربما أرسله والدي الموقر يوماً ما إلى نفس تلك القرية التي سأرحل إليها
وهو اليوم يرد الجميل لوالدي ..شكرته على النفي بحرارة أدهشته.. لكن وقت الادعاء
قد فات وحصلت على توقيعه وصرت أنتمي إلى هناك ..وقمت لألملم أوراقي وانصرفت
دون تحية لأنني لم أكن ارتدي الزي الرسمي.. لكن من الغد سأعود للزي الرسمي..
وليس أي زي رسمي.. إنه زي الأقاليم الكاكي الذي يذكرني بكاسترو..
***
كعادة من يفارقون الدنيا ـ وكنت على وشك مفارقة الدنيا التي أعرفها ـ قررت أن أجلس جلسة وداع مع الرفاق..
ـ ستسافر يا مجدي..
ـ سنفتقدك أيها الرفيق الغالي..
إن الرفاق مجموعة متباينة الأعمار لكنها متحدة الأفكار.. في عقل كل واحد من هؤلاء يوتوبيا
يحلم بتحقيقها على أرض الواقع.. أنا الوحيد الذي قرر أن يرحل بفكرته بعيداً بعيداً إلى قرية
كفور الصوالح لأبذر هناك نواة عالمي الجديد...
قال لي الرفيق سيف وهو محامي في الخمسينات :
ـ أرجوا ألا تعود من هناك محملاً ببراغيث الأرياف..
ابتسمت قائلاً :
ـ هذا أفضل من ألا أعود أصلاً..
تكلم الرفيق مراد مضيفنا الطبيب النفسي الذي يقوم بدور فرويد في جلساتنا تلك فقال:
ـ الرفيق سيف لا يقصد المعنى الحرفي.. هو فقط يخشى عليك..
التفت للرفيق سيف فرأيته يبتسم في غموض :
ـ الريف مازال بكراً.. والبراغيث التي أخشاها عليك.. هي براغيث الرجعية والتخلف بالطبع..
هؤلاء ماديون لدرجة تثير الهلع.. حتى في نفس إنسان مادي مثلي.. لن يتفهموا سر ذهابي للريف..
وستنقلب السهرة علي.. سأكون مادة للضحك والسخرية.. قلت في رزانة :
ـ هذا المكان البكر هو خير مكان أبدأ منه مشروعي..
سعل الرفيق صدقي وهو يحاول إشعال غليونه للمرة الألف منذ جلس حتى بدأ يثير أعصابي
بهذه المدخنة التي لا تفارق شفتيه.. إنه أكبرنا سناً هنا وأكثرنا كآبة لسبب ستعرفونه بعد قليل..
وقد قرر أخيراً أن يدلي بدلوه في الحديث بعد أن فرغ من تسليك مدخنته الخاصة.. قال :
ـ أنت شاب يا مجدي والشباب لهم مزية مهمة لم يعد يدرك جدواها كثيراً من الحضور..
أعني من تخطوا الخمسين والستين.. هذه المزية هي الحماس.. أنت متحمس لأنك شاب..
تنحنح سيف قائلاً :
ـ لكننا أكثر خبرة.. لا تنكر هذا..
نظر له الرفيق صدقي بعينين حمراوين من أثر السعال وقال بنبرة لا تخلوا من رنة حزن :
ـ إننا كذلك الأكثر قرباً من الموت.. الموت ذلك اللغز المحير بما وراءه..
تأفف سيف وتراجع في مقعده ولسان حاله يقول: تباً لا تعد لتلك الاسطوانة المشروخة أرجوك..
كان هناك بعض الشباب غيري مثل الرفيق حسام والرفيقة سلمى..
وكانا ينظران لصدقي في سخرية لكن بلا تعليق.. إنها نفس نظرة الشاب المقبل على
الحياة لشيخ فان يقترب من الموت ولا يدري السبب..
حسام وأنا نمثل الدم الجديد في المجموعة وسلمى مهمتها تجديد الدماء في عروقنا جميعاً..
إنها رفيقة من النوع الحميم.. فنحن هنا لا نعترف بالعلاقات الإنسانية ذات البعد الديني..
خصوصاً تلك التي تقيد الملكيات..
طبعاً لو تسرب شيء مما يدور بيننا هنا للجيران فسيكون مصير مجموعتنا هو شرطة الآداب..
للأسف لن يفكر أحد في كوننا مجموعة لها فلسلفتها الخاصة في الحياة..
وتحاول كذلك جاهدة أن تجد تفسيراً مقنعاً لحقيقة ما بعد الحياة..
الحقيقة التي تخيف الرفيق صدقي ويتحاشى الخوض فيها أترابه ويسخر منها أترابي..
لكنها تزعجني بحق.. أنا شاب اليوم.. لكن غداً سأجلس لأدخن الغليون متأملاً عبر
حلقات الدخان أيامي الغابرة.. وأنتظر اللحظة التي أكف فيها عن التأمل وعن التدخين كذلك..
لقد فجر الرفيق صدقي السؤال الملح الذي نخشاه جميعاً.. ونتحاشى البحث له عن إجابة..
الموت.. ماذا بعد الموت؟..
قال مراد وهو يصب بعض الشراب في كأسه التي ترتجف بين أنامله وبيده الأخرى يداعب رأس كلبه الأسود الكئيب:
ـ لا شيء.. خواء.. بعد الموت راحة أبدية.. سنصير غباراً تذروه الرياح.. إنها متعة لا تتصورنها.. لكنها الحقيقة..
وكأنما يشارك سيده حكمته أطلق كلبه عواء خافتاً مؤيداً!..
قال الرفيق سيف متفلسفاً :
ـ يتحدث الهندوس والبوذيون وحتى الصوفية عن الفناء.. هل هذا ما تقصد؟..
ـ كلامهم فيه بعض الحكمة لا تنكر ذلك..
قلت له بدهشة :
ـ أراك تتجه إلى الإيمان بشيء ما وراء ذلك العالم..
أفرغ مراد كأسه دفعة واحدة ثم وضعه على المنضدة أمامنا خاوياً.. إننا نشبه هذا الكأس
الفارغ حينما تنضب منا الحياة.. قال الرفيق مراد وهو يضع ساقاً على ساق :
ـ أنا على العهد يا رفاق.. فقط أحياناً أجد في كلامهم بعض الحكمة والراحة.. وليس معنى
هذا موافقتي على وجود صانع وحياة أخرى..
قال صدقي وهو يخرج الدخان من منخريه كوحوش الأساطير:
ـ أنا لا أحب تخيل نفسي وقد صرت غباراً تسحقه قدم قاسية.. هؤلاء الهندوس لا يتحدثون
عن المادة يا رفيق مراد.. عليك أن تؤمن تماماً بهم لتشعر بكامل الاطمئنان الذي تتحدث به الأن..
قال الرفيق سيف :
ـ الموت مجرد مرض لم يكتشف له علاج بعد.. عليك فقط أن تحيا على أمل اكتشاف هذا العلاج..
نظر له صدقي في غل وهو ينفخ المزيد من الدخان تعبيراً عن البركان الذي يغلي بداخله.. ثم قال :
ـ إنها رحلة البحث عن الخلود.. دأب البشر الحمقى منذ أيام جلجامش..
اقترب الرفيق الشاب حسام منه ورتب على كتفه قائلاً بنبرة ساخرة :
ـ ربما اكتشفوا يوماً ما حلاً للموت.. لكنك ستكون قد مت طبعاً..
تناثرت الضحكات من حول الرفيق صدقي فبدا كمن بوغت.. لقد تحولت مأساته إلى طرفة في
غمضة عين بسبب شاب من أولئك..
إنه ينظر لحسام بغل لا يخلو من حسد.. فهو ما يزال شاباً ينتظره الكثير والكثير قبل أن
يجلس جلسته تلك.. تلاقت أعيننا فقلت له محاولاً جلب بعض الجدية لجلستنا :
ـ لا تقل لي أن الحل في الإيمان بالحياة الأخرى..
صمت قليلاً وهو يطرق للأرض.. ثم رفع طرفه وهز رأسه في حيرة قائلاً :
ـ لا أدري..
اقتربت منه سلمى وهي تقول بحنو :
ـ أنت ترهق نفسك في تساؤلات لا طائل من وراءها.. الكل سيموت وساعتها الكل سيعرف الإجابة الصحيحة..
رائعة سلمى هذه.. لكن ليس في الفلسفة كما لكم أن تتخيلوا..
قال لها صدقي في سأم:
ـ سنعرف الإجابة لكن بعد فوات الأوان..
مسحت بيدها على ما تبقى من شعره لكنه أبعدها عنه بحدة كأنها حشرة ضارة قائلاً :
ـ لا تضيعي وقتك معي يا فتاة.. لقد اكتفيت من كل شيء في هذه الحياة فعلاً..
ثم نظر لنا كأنه يرمق مجموعة من المتطفلين وأردف :
ـ ربما لن أنتظر حتى يأتيني الجواب بغتة..
ثم أشار لي بغليونه :
ـ اذهب أي بني إلى كفور الصوالح.. أو حتى إلى الجحيم.. عسى أن تعود يوماً بإجابة تريحك..
كان وداعي للرفاق كئيباً كما ترى..
قمت بمصافحتهم وتمنيت لهم ليلة طيبة مع صدقي وتركتهم كي أعود لداري مبكراً..
دلفت إلى سيارتي الغافية وأدرت محركها فأطلقت زئيراً معترضاً.. هذا أنا يا عزيزتي..
ألقيت نظرة وداع على شقة الرفيق مراد وقبل أن أتحرك لمحت في المرآة ذلك الشخص الجالس باسترخاء في المقعد الخلفي.
***
دائماً ما يظهر في عالمي بغتة..
رغم ملامحه الغريبة بشعره ولحيته الطويلة التي غزاها الشيب وزيه الذي يعود للقرن
الماضي إلا أن رؤيته قبل أن أرحل كانت تعني لي الكثير..
فهو رفيق دربي منذ زمن طويل.. و هذه هي المرة الأولى التي اتحرك فيها دون الرجوع إليه..
أدرت محرك السيارة قائلاً له في ضيق مصطنع :
ـ أنا منقول للخدمة في الأرياف.. تصور!
قال بصوته العميق :
ـ هذا التكليف في الوقت والمكان الغير مناسبين..
حاولت أن أتظاهر بأن الأمر أكبر مني.. لكنه قال لي ببرود:
ـ أنا لست رئيسك المباشر..
هذه هي مشكلتي الأبدية معه.. أنا مكشوف تماماً أمامه مثل كتاب مفتوح.. قلت له مستسلماً :
ـ أنا أرى أن التغيير لابد أن يبدأ من الريف البكر ..
ـ هذا الكلام ربما يقنع رفاقك..
أطلقت زفرة حارة ثم قررت أن أفصح :
ـ حسناً.. أنت تعرف ضغوط العائلة من أجل مسألة الزواج إياها.. إمي تكرس وقتها كله في شيئين..
الطبيخ والبحث عن زوجة لي من بنات العائلات الذين لا ينتهون من عالمها أبداً.. لابد أن أهرب بعيداً لبعض الوقت..
ـ كنت أتمنى أن تواجه بدلاً من أن تهرب..
هززت رأسي نافياً وقلت:
ـ لا أستطيع..
لم يبد مرحباً بصراحتي هذه المرة.. إنه غير راض عن الرباط الأسري الذي يقيدني.. وكان
المفترض منه أن يفرح لخبر ابتعادي عن نطاق الأسرة الصارم الذي يبغضه..
قال لي :
ـ أرى أنك تستغيث من الرمضاء بالنار..
ابتسمت برغمي لكونه يستعمل أمثال عربية قحة.. قلت :
ـ تنسى أنني مكلف.. صحيح أن هذا التكليف وافق هوايا.. لكن أنا لا حول لي ولا قوة..
سكت ولم يعلق فسألته بلهفة :
ـ طبعاً سترحل معي إلى كفور الصوالح؟..
سعل مرتين ثم ضرب على صدره قائلاً :
ـ يبدو أن جو العاصمة لم يعد يناسب صحتي المتداعية..
هتفت في فرحة غامرة :
ـ سترحل معي يا رفيق...
وضع سبابته على فيه ليصمتني وقال في ضيق :
ـ قلت لك لا تلفت الانتباه إليك وأنت معي.. سيتهمونك بالخبال رسمياً.. وستكون نهايتك الفصل من العمل..
تراجعت معتذراً :
ـ لا تؤاخذني فقد خشيت أن تتركني أخوض التجربة وحدي
ـ كارل لا يخذل أبنائه..
غمرني شعور بالفخر والانتشاء جعلني أضغط على البنزين أكثر وأكثر.. هاهو
ذا يعتبرني من جملة أبنائه.. وأنا أعتبر نفسي من خواص أبنائه..
قال وهو يتطلع إلى الطريق بعين شاردة :
ـ لكن عليك أن تعدني أولاً أنك ستتبع إشاراتي ولا تتصرف من تلقاء نفسك.
ـ هذا أمر مفروغ منه يا رفيق..
كنت أكذب طبعاً.. فأنا أكثر شخص متمرد قابلته في حياتي.. لكنني كنت بحاجة إليه بجانبي..
المرء لا ينعم بصداقة من هذا النوع بسهولة في هذه الأزمان..
وإنني لأعتبر نفسي محظوظاً كي أنال شرف صداقة كارل ماركس شخصياً!..
***
حكيت له في الطريق ما دار بيني وبين الرفاق فقال معلقاً :
ـ دعك من تشاؤم الشيوخ هذا.. اليوتوبيا هي الخلاص الحقيقي للأرواح المعذبة..
نظرت له في مرآة السيارة وابتسمت..
ـ يعجبني فيك تفاؤلك رغم كونك شيخاً..
مال للأمام قائلاً:
ـ لا تضيع زهرة شبابك في البحث عن إجابة لسؤال عبثي.. حتى رفيقك صدقي نفسه لم يضيع
لحظة من شبابه في الاستماع لترهات الشيوخ الذين اقتربوا من الموت..
ـ ربما أراد الرفيق صدقي أن ينكد علينا لا أكثر..
ـ إنه لم يتشبع بمبادئي كما تعتقد.. لذا هو حائر..
ـ هو كذلك يا رفيق.. لكن..
ـ لكن ماذا؟..
سكت هنيهة ثم قررت أن أفصح..
ـ أنا أخشى فعلاً مما يخشاه صدقي.. أنا لا أريد أن ينتهي بي الأمر إلى تراب تذروه الرياح..
ما فائدة المجد الذي نسعى إليه إن كان كل شيء سيفنى ويبيد..
رأيته ينظر لي بثبات وابتسامة ماكرة تتلاعب على شفتيه التي لا تكاد ترى وسط دغل الشعر الأبيض الكثيف..
ـ تريد الخلود؟..
قلت وأنا أهز رأسي نافياً :
ـ لا يوجد خلود يا رفيق..
ـ من أدراك؟..
قلت له في بساطة :
ـ الواقع يؤكد ذلك..
قال ماركس وهو يبتسم في غموض:
ـ بل الواقع ينفيه..
نظرت له في غباء :
ـ أنا لا أفهمك..
ـ يمكنك أن تكون خالداً لكن ليس بجسدك المادي؟..
قلت له في دهشة :
ـ تقصد كروح؟..
قال بنفس الغموض :
ـ بل كفكرة.. أنا فكرة خالدة في ذهنك.. ويوماً ما ستكون أنت فكرة خالدة في ذهن شاب أخر..
إنها حياة ممتعة وممتدة بلا نهاية.. المهم هنا.. ما الذي صنعته كي تستحق هذا الخلود..
قلت بانبهار :
ـ ربما كان هذا جواب ممتاز على سؤال صدقي الأحمق..
قال لي ببرود صارم :
ـ ربما.. لكنه لا يستحقه..
إذن هناك خلود.. وماركس هو الدليل العملي على ذلك..
إنه لم يمت كما يدعون.. إنه زعيم خالد في وعي وعقل كل المنتسبين إليه..
الحياة الحقيقية هي حياة الأفكار يا سادة..
شكراً ماركس..
***
مالم أعرفه في وقتها أن الرفيق صدقي قرر أن يعرف إجابة سؤاله المحير بمحض إرادته الحرة..
وجدوه قد قام بعمل مشنقة بربطة عنقه الأثيرة وتدلى عبرها وهو يرمق الكون من عل في فتور..
الأحمق أثبت فعلياً انه لا يستحق الخلود..
***
حينما حان الوقت حملت حقيبة السفر ووقفت على باب المنزل استعداداً للخروج من عالم المدنية
ومستقبلاً ذلك العالم الجديد البكر الغامض الملوث بروث الماشية ورائحة الحقول..
جاءت أمي لتطبع قبلة على خدي الأيمن ولتلقنني أدعية السفر..
وأغلق والدي المصحف الذي يقرأ منه ونظر إلي نظرة فاحصة.. كم أخشي تلك النظرة البوليسية
المتهمة التي لم تفارقه حتى بعد الخروج على المعاش ..يقولون انني ورثت نفس تلك النظرة ..
وهذا كان مما يثير رعبي أكثر ...
ـ قبل أن ترحل سأعطيك شيئاً ..
أغمضت عيني متوقعاً العطية التقليدية في مثل تلك المناسبات .. وسرعان ما دس أبي
المصحف المزركش في يدي التي مددتها له مصافحاً وعانقني في قوة كعادته كأنما يصارعني وهمس في أذني:
ـ حاول أن تثبت أنك أبني حقا ..
ـ ألم تثبت هذا في شهادة ميلادي ..؟
ابتسم لدعابتي وهو يداعب وجنتي بأنامله الخشنة وقال محاولاً أن يداري مشاعره :
ـ أنت تذكرني بنفسي حينما خدمت لأول مرة في الصعيد ..كانت أيام.. لكنك أفضل حظاً من والدك ..
اكتفوا بنقلك لقرية من قرى الوجه البحري ..
ـ الحقيقة لا اجد فارقاً ..ربما الفارق الوحيد في المسافة ..لكن كل القرى تتشابه .
هنا تذكرت والدتي موضوعها الأثير الذي لا تجيد الحديث في غيره وذكرتني
بواحدة أخرى من أولئك الفتيات المنتقيات بعناية لتتناسب مع شخص مثقف مثلي ..
ربما كان اسمها سوزان أو سوسن لم أعد أذكر جيداً من كثرة الأسماء .. المهم انني
وعدتها حينما أخذ أول أجازة أن أذهب معها للقاء ثريا هذه ....هنا صاحت مستنكرة :
ـ أسمها كاميليا ..
قلت لها في دهشة مصطنعة :
ـ كاميليا ..!! ولماذا لم تحدثيني عنها من قبل ؟
اتسعت عيناها في دهشة وقد صدقت كلامي كالعادة ..لابد أنها الآن تلوم نفسها ألف مرة ..
قلت لها :
ـ على العموم إن شاء الله حينما أعود مع أول إجازة سنذهب سوياً إلى فانيليا تلك..
ـ كاميليا ...
ـ سأردد الاسم طوال الطريق حتى لا أنساه .. المهم أن توافق هي على العيش معي في كفور الصوالح..
رفعت سبابتها في وجهي محذرة وقالت محتدة :
ـ لا تتحدث معها عن كفور الصوالح أرجوك.. أنت لن تقضي عمرك كله هناك..
ما هي إلا مرحلة وستمضي وستعود للقاهرة ثانية..
هنا تدخل والدي قائلاً في جدية :
ـ دعيه حتى لا يتأخر على ميعاد القطار ..
هنا وكأن والدي قد ضغط على زراً خفياً في نفسها.. بدأ صوت أمي يتهدج منذرا
بهطول الأمطار الساخنة ..وكان على أن أنصرف لأن هذه العائلة تذكرني بأنني
ما زلت أملك قلباً قد يرق أحياناً وعين قد تزرف العبرات..
الكل ترس في ألة اليوتوبيا العملاقة.. الكل يعمل من أجل الكل ..لا أسر لا روابط..
هكذا كانت تدوي في أذني التعاليم التي تشربتها من كتب اليسار..
دسست المصحف في حقيبة السفر وأسترخيت في مقعدي بالقطار.. كان يمكنني التخلص منه
بشتى الطرق لكن شيئاً ما وقف حاجزاً بيني وبينه.. ولم أحاول كثيراً أن أفسر ذلك الحاجز ..
وقلت هو ربما ذلك الرهاب الذي زرعوه فينا منذ الصغر.. أو لكونه شيئاً من رائحة والدي كما يقولون.. ربما..
وهكذا هدرت محركات القطار وعلا الضجيج.. بشر.. بشر.. تروس عديدة تمر
بجوار نافذة القطار ..تروس تتكلم ..تروس تشتكي.. تروس تتشاجر وتتبادل السباب ..
أغمضت عيني ورحت في نوم عميق ..تخللته أحلام عن عالم ملئ بالحقول والمحاريث والروث وأبراج الحمام.
***
يتبع

 

التوقيع

" تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَة ..
تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!"

( أمل دنقل)

عمرو مصطفى غير متصل   رد مع اقتباس