… .&& ليته احترق منذ سبع سنوات &&… .
أم أحمد أرملة منذ عشرين عاماً ، تكاد تتجاوز العقد السادس من عمرها ، تتعطر برائحة الأرض وعرق جبينها ، مرسومة على كفيها مواسم الزيتون ، وبيادر الحنطة ، منهمكة اليوم بأعمال غير اعتيادية .
فغداً عيد الأمّ ، هكذا سمعت من جاراتها ، لذلك قرّرت أن تزور ابنها أحمد في المدينة ،
الذي أصبح مديراً عاماً لإحدى الشركات الحكوميّة ، وهي لم تره منذ سبع سنوات ، غير أنّه إن صادف أحد رجال قريته يسأل عنها ويرسل لها سلاماً حاراً ، وقد يرسل بعض النقود الخجولة .
أم أحمد وهي ترتّب البيض الذي وفرتّه من قوتها اليومي في السلة ، تقول في سرّها : ابني يحبّ الرمّان ، وهذه السنة كان الموسم سيئاً ، سأجلب له من عند جارتي بعض ثمارها ، أحمد يحبّ أيضاً الزبدة العربية ، آه والشنكليش ، والبقدونس البلدي ، وورق البصل الأخضر .
وضعت كلّ هذه الحاجيات بصرّة قماشية ،
وانتظرت الصّباح ، لم تنم تلك الليلة ، وهي تضحك بسرّها غداً أشم رائحة أحمد وأطعمه بيدي حتماً هو مشتاق لطعامي .
عند الصّباح أسرعت إلى الحافلة وجلست في المقعد الأمامي ، تنتظر قدوم بقية الرّكّاب ،
صباح الخير حجة أم أحمد : (سائق الحافلة ).
إلى أين إن شاء الله ؟
تجيب :
والابتسامة تسبقها ، لعند الأستاذ أحمد .
سائق الحافلة ، ما شاء الله الذي( خلّف ما مات ) .
هو مدير عام ، وله سمعة حسنة بالمحافظة ، يا حجّة( الله يطوّل عمرك تحكيلنا معه) ، ليساعدنا في تزفيت الطريق للقرية ، وياريت يوظّف ابني لديه فقد تخرّج من الجامعة منذ سنوات ، وانهالت عليها الطّلبات ، وهي تردّد بافتخار واعتزاز بابنها ، سيكون هذا .
حاولت أن تدفع تذكرة الرّكوب أبى السّائق (خيركم سابق يا أم أحمد ) .
أحمد أيضاً مشغول جداً هذا اليوم ، قد اتّفق مع زوجته مريم على زيارة أمّها بمناسبة عيد الأم .
مريم :
ﻻ تنسى يا أحمد أنّ أمّي هي سبب كلّ هذا العزّ الذي أنت به ، هي من سعت لتتبوأ هذا المنصب ، وهي كانت سبب معرفتك بفلان… وفلان… و… .
ويكفي أنّها منحتك أجمل امرأة ، كثيرون كانوا وما زالوا يحلمون بنظرة منها ،
ولا تنسى غداً ترسل لي سائقك الخاص
ليس لائقاً زوجة المدير العام تقود السّيارة ، وسأشتري بعض الحاجيات سيحملهم نيابة عني .
أم أحمد تخاطب نفسها :
لن أذهب إلى بيت أحمد ، فأنا ﻻ أستدلّ البيت ، سأذهب إلى مكان عمله .
تسأل سائق التكسي هل تستطيع أن توصلني للشركة (………… .)
أجل أعرفها جيداً :
(هذه هي الشركة يا حجّة ) : وهذا هو المدخل الرئيسي .
تنبهر بالبناء الشّاهق والسيراميك المزخرف ، فتقرّر الجلوس على الدّرج لعلّها ترى ابنها خارجاً أو داخلاً .
كلّما حاولت أن تسأل أحد المراجعين ، أو الموظّفين .
ينظرون إليها بازدراء ويمضون .
إلى أن تقدّم منها رجل أنيق الّلباس فيرمي لها بقطعة نقود ذات فئة الخمسين ، فتصرخ غاضبة :
أنا لست متسوّلة :
أنا والدة الأستاذ أحمد المدير العام :
أنتظر مروره من هنا .
يندهش الشّاب جداً ، ويعتذر عفواً مدام : هو بالمكتب تفضّلي أوصلك إليه .
تجيب :
ﻻ… ﻻ يا بني دعني أنتظره هنا لن أعطّله عن عمله
يصعد الشّاب مسرعاً إلى مكتب المدير العام ، وينتظر كي ينهي حديثه .
حبيبتي :
أوصيت على قالب كاتو كبير ، وشموع ملوّنة
وأفخر الحلويات ، وأصناف متعدّدة من الفواكه ، و مشروبات متنوّعة ، تليق بهذه المناسبة ، وبابتسامة عريضة ، طبعاً هناك هديّة لن أذكرها ستكون مفاجئة تذهل الحاضرين ،
أنتِ تعلمين كم السّيدة الوالدة غالية عليّ (هذه ستّ الكل ).
تجيبه بصوت ناعم مليء بالأنوثة :
أعلم أنّك حنون ، ورجل المواقف ، لذلك اخترتك من بين الجميع لن يخيب ظنــّي
بك .
وهذا هو السّائق سيوصلك
يضّطر أن يقاطعه:
( معلم…. معلم… )
هناك امرأة ريفيّة على مدخل الشّركة تحمل بقجة قماش ( صرّة) وسلّة بيض ووعاء من الّلبن ، تقول :
إنّها والدتكم… ...
والدتي… .!
ماذا تقول : !
كيف ولماذا أتت !؟
بالّلاشعور رمى السّيكار المشتعل (بجيب جاكيته )، كما كان يفعل عندما كان يافعاً ، كي ﻻ تراه أمّه يدخّن .
ويسرع هبوطاً إليها ، ينتبه الموظّفون لذلك فيهرولون و وزوجته وراءه .
تراه الأمّ قادماً إليها ، تسرع باتجاهه لتحتضنه .
ودون أن تدري تعثرت بحاجياتها ( الّلبن والبيض… ..و…… و… . )
وتصرخ :
أجل.. أجل هذه ريحة (طيوبك )
،كم اشتقت إليها ، أعرفها من بين كلّ النّاس .
أحمد : لمَ أتيت؟
ولمَ لم تصعدي إلى مكتبي… ؟
خفت يا بني أن يتّسخ الدّرج من أقدامي:
تلتفت الأم إلى الوراء ، (وقد ساح الّلبن على الدّرج وبقيّة الأشياء) .
فتحاول تنظيفه( بجلبابها )
يحاول أحمد منعها من ذلك ، فتنزلق قدماه ويسقط فوق هذه الفوضى .
فتصرخ مريم :
يا للهول قد اتّسخت ثيابي ، كيف أخرج بها ،
فقد اشتريتها خصّيصاً لهذا اليوم .
يحاول أحمد الوقوف ، لن يستطع بسبب كسر في قدمه .
فجأةً يتصاعد الدخان من (جيب جاكيته )
ويتصاعد لهب النّار ويزداد ، ليهرع الجميع ويبتعد .
وهو يصرخ ( أمّي… . أمّاااااه… النّاااار… أحترق…. )
تسرع الأمّ بيديّها تطفئ ابنها ، دون أن تشعر بألم الحرارة على كفّيّها .… .
وهي تصرخ (ولدي… ضناي… مهجة روحي… .)
فيبكي أحمد كثيراً… .. ويقبّل يدَيْ أمّه التي
نالت الحروق منها .
ويقول :
بصوت متحشرج… مخنوق
سامحيني… . سامحيني
ليت هذه الثّياب احترقت منذ سبع سنين .
بقلمي : زكــريا أحمــد عليــو
ســوريا ــــ اللاذقيــة
٢٠١٩/٣/٩