مَنْ أنتِ يا هناء؟
سألتها يوماً، فقالت:
أنا حمامةُ الأَيْكِ، نشوةُ الحبِّ، أنشودةُ المطر..
بل غصّةُ العُمْرِ أنتِ.
غصّةٌ حملتُها معيَ الزمانَ كلَّه..
بوجلٍ فعلتُ ذلك،
احتراماً لقدسيّة الإِثْمِ الذي ارتكبنا ذاتَ وقتٍ بعيد
حين بقينا متسكعيْن في الطرقات حتى الصباح..
بصمتٍ حملتُ قرحة قلبي
في الليل والنهار
في الحِلِّ والترحال
والصحو والسُّكْرِ
والنوم واليقظة
والصحة والمرض
والزواج والطلاق
والوحدة والرفقة
وما تذمّرتُ يوماً
ولا أبديتُ
(الذي لم أكنْ أُبدي )
فهذا الجرحُ جرحي
والقلبُ المقروحُ قلبي
فلا إثمَ على الآخرين
ولا ذنبَ فيه لهم..
إذن، فلأحتفظ بالألم لنفسي..
قرحةٌ نازفة
أعيش معها في وئام
أُداريها
أُنظّفُها
أُلمّعُها
من أجل أن تكون لائقةً بقُبلة الندمِ..
قُبلةٌ حكمتْ حياتي..
رسمتْ مصيريَ الذي كم حاولتُ التمرد عليه!
وكم رجعتُ إليه صاغراً!
فكم من النساءِ أحببتُ من بعدِ هناء
وكم من النساء وقع معي في الغرام
ثم كم تخلّيْنَ عنّي
وكم تخلّيْتُ عنهنّ!!
وحدَها هناءُ تأبى أنْ تفارقني..
يزورني طيفُها في النومِ مِنْ حينٍ إلى حينِ..
يعاتبني على تخلّفي عن موافاتها إلى حيثُ السكينةُ والسلام ..
يا أيتها النفسُ المطمئنة..
يأتيني الطّيفُ بلا إذنِ
يسلبني هناءةَ البالِ
ويرتحلُ
يمضي إلى صاحبته المقيمة بسلامٍ في قبرها النائي
ويترك قلبي نازفاً من قرحته الناشطة..
زارني الطّيفُ هذا الصباحَ أيضا
جاء يطالبني بحصّتهِ من “ الندم ”..
فتحتُ عينيّ المجهدتين بعد سهرٍ طويل
ألقيت نظرةً على الساعة فوق سطح الكومدينو في جواري
تمام السابعة والربع
لم أكن قد أغفيتُ إلّا قبلَ نصف ساعة..
فإلى متى يا ربي؟!
عقلي مشوش
دخّنتُ سيجارتين على الريق وأنا في الفراش بعد..
نهضت إلى النافذة
وألقيت على المدينة نظرة
باحةُ المدرسة التي تواجهني فارغةٌ من الأولاد وصخبهم
فلا مدارسَ في يوم السبت
صباحٌ هادىء
العصافير تزقزق
لا تفرُّ كعادتها مذعورةً من دويِّ المدافع..
تركتُالنافذة إلى أوراق مسلسل ( الندم ) المفروشة على سطح الطاولة..
هذا الندم ليس على حياةٍ عابرة
بل إنه على بلادٍ عاثرة،
فدعي يا هناءُ هذا الوجعَ لي..
أما أنتِ
حسناً
إليكِ ما قد جرى:
كلُّ إنسانٍ يشبهُ ألمَه
ولكنَّ هذا الألمَ لا يشبهني
فأنا لا شأنَ لي برابعةَ العدويةِ وابنِ الفارضِ والحبِّ الإلهي
أنا رجلٌ لا يليق بالسماء
لأنني مغروسٌ في وحلِ الأرض ..
فأيُّ مصيرٍ هذا الذي كان ثمناً لقُبلةٍ غابرة؟!!
عقلي مشوشٌ يا هناء
عقلي مشوشٌ يا حبيبتي
أريد أن أنام ..
فإلى اللقاءِ
إلى اللقاء!
وأعود إلى الفراش
إلى نفسي ..
قرحةٌ في القلب
وذمةٌ في الروح
هذا ما تركتْه ليَ المرأةُ الصغيرةُ بعد رحيلها عني،
ثم بعد رحيلها عن الحياة
ولكنها تركتْ لي قبلَ الرحيل عن البلد رسالةً مع صديقةٍ مشتركة..
لم أعثر في تلك الرسالة على كلمةٍ واحدة منها حول وقائع ما قد حصل..
كلُّ الذي في تلك الرسالة كان أربعةَ أبياتٍ من شِعر ابن حزمٍ القُرطُبي:
أغارُ عليكَ من إدراكِ طَرفي - وأُشْفِقُ أن يُذيبكَ لمسُ كفّي
فأمتنعُ اللِقاءَ حِذارَ هذا - وأعتمدُ التلاقي حين أَغفي
فروحيَ إنْ أنمْ بكَ ذو انفراد ٍ - من الأعضاءِ مُستترٍ ومَخفي
ووصلُ الروحِ ألطفُ فيكَ وقعاً - من الجِسْمِ المُواصِلِ ألْفَ ضِعفِ
| حسن سامي يوسف - مؤلف مسلسل الندم |