منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - جِدُّو كريشنامورتي .. (1895-1986)
عرض مشاركة واحدة
قديم 08-31-2006, 07:50 PM   #2
نور الفيصل
( كاتبة )

الصورة الرمزية نور الفيصل

 






 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 435

نور الفيصل لديها سمعة وراء السمعةنور الفيصل لديها سمعة وراء السمعةنور الفيصل لديها سمعة وراء السمعةنور الفيصل لديها سمعة وراء السمعةنور الفيصل لديها سمعة وراء السمعةنور الفيصل لديها سمعة وراء السمعةنور الفيصل لديها سمعة وراء السمعةنور الفيصل لديها سمعة وراء السمعةنور الفيصل لديها سمعة وراء السمعةنور الفيصل لديها سمعة وراء السمعةنور الفيصل لديها سمعة وراء السمعة

افتراضي



***
ليس كريشنامورتي "فيلسوفًا" بالمعنى المألوف للكلمة. فغالبية الفلاسفة يقومون، انطلاقًا من مسلَّمات يأخذون بها وتشكِّل نواة فلسفاتهم، ببناء صرح نظري يبحثون له عن تطبيقات في النشاطات البشرية المختلفة وفي العالم. أما "فكر" كريشنامورتي فهو يقوم على أسُس نفسانية يمكن التحقق منها "تجريبيًّا" – شريطة أن يتحلَّى المرء بالجرأة والشجاعة الكافيتين للإقدام على مثل هذه المغامرة – من شأنها أن تحث فيه، من دون أدنى عنف أو لجوء إلى سلطة فكرية خارجية، تحولاً غير متوقَّع يشمل سائر جوانب حياته.

وإن التعمق في دراسة تعاليم كريشنامورتي ليكشف عن آفاق جديدة توطِّد دعائم فكر حرٍّ، نقيٍّ، متجدد، يتخطى كل الحدود والمقولات التي تفرضها علينا غالبيةُ المناهج والفلسفات والمذاهب التي لا تتسبَّب، في الأعم الأغلب، إلا في التجزئة والصراع والفوضى – الأمر الذي يمنح هذا الفكر أفقًا عالميًّا شاملاً بالغ الأهمية، وخاصة في عصرنا.

إن معضلة الإنسان الأساسية تعود، في نظر كريشنامورتي، إلى "سيرورة الأنا" the I-process: تلك السيرورة المتمثلة في الرغبة المنغرسة في الأنا إلى الاستزادة من الوقود الذي يكفل لها الاستمرار في التقوقع على نفسها؛ ذلك التقوقع الذي لا يتجلى في الأنانية الفردية والشواهد الاجتماعية والتاريخية على عنجهية الإنسان وقسوته وحسب، بل وفي المفاهيم الأخلاقية الاجتماعية السائدة، المشبعة بالإحساس بالتفوق وبالرضا الذاتي وبالغرور المقنَّع.

كريشنامورتي من القلة النادرة من الفلاسفة التي عملت على إقامة صلة وثيقة مباشرة بين التعقيد الحاذق واللامنطقي للنفس البشرية، بكل إحباطاتها، من جهة، وبين شعلة المحبة المتقدة في الكيان الإنساني، من جهة ثانية. فهو، بإزالته المسافة الوهمية الفاصلة بين أنا الإنسان وبين ما هو حقيقي فيه، أي بين الإنسان كعَرَض والإنسان كجوهر، يحرِّر النفس البشرية من فصام لازَمَها طويلاً. كل ما ليس حقيقيًّا وآنيًّا ومباشرًا خاضعٌ للزمن، أي للصيرورة، أي لإشراطات الذاكرات النفسانية، ولا يقع، بالتالي، في حقل "الإبداع" الخالص، وهو "انسلاب ذاتي" auto-alienation، بمعنى قريب من مفهوم إريش فروم للانسلاب. إن كريشنامورتي يضع إصبعه مباشرة على موضع العلة التي لا يستطيع أي تحليل نفسي "اختزالي" أو أية تجربة "صوفية" عابرة أن تشفيها – ألا وهي اعتيادنا القاتل محاكمة نفسنا ومقارنتها بالآخرين وإدانتها، ووضع سلَّم قيم من ابتداعنا نحن ومن صُنْع إسقاطاتنا الخافيَّة (= اللاواعية)، بدلاً من أن نلزم الصمت، ونبقى فاعلين في العالم، حاضرين فيه، نحيا حياة هي فينا، بأن نكون، لا كما نرغب في أن نكون، بل كما نحن فعلاً.

لذا يقترح علينا كريشنامورتي – نحن الذين نلتقي بالمجهول في كلِّ لحظة، مزوَّدين بالذهن (وهو أفكارنا وذاكراتنا ومعلوماتنا المتراكمة) درعًا يدرأ عنَّا "خطر" ما نجهل – تجربة جريئة، قوامها تأمل نقدي عميق في النفس، مصحوب بشكٍّ وانتباه يقظ يتملص من قبضة الذاكرات والتلقائية الآلية المترسبة فينا عبر الماضي كلِّه، وتتفتح فيه زهرةُ كل لحظة جديدة بذبول زهرة اللحظة التي سبقتْها، وتتوِّجه يقظةٌ نهائية شافية على مستويات النفس البشرية كافة.

تلكم ثورة كلِّية جذرية، "نفنى فيها عن نفسنا"، بالتعبير الصوفي، وعن ذاكراتنا الماضية، فتتفتح فينا "بصيرة"، وحدها قادرة على الإفصاح لنا عن الواقع، واقع "ما هو موجود" what is – الآن. أما مقاربة الواقع بالذهن وحده – وهو الماضي كلُّه – فهي "أشبه بضخِّ الدم في جثة ميت"، بحسب تعبير أحد المفكرين.

لا يركن كريشنامورتي إلى كل فعل آلي وإلى كل تكرار وإلى كل رتابة واعتياد في حياتنا النفسية. ففي الفهم أيضًا، كما في المادة، نزوع طبيعي إلى الاعتياد وإلى التكرار وإلى العطالة؛ وهو نزوع ما لم نتداركه في الوقت المناسب ونفهم سياقه بالكامل، لكفيل بأن يستفحل ويتحول إلى هاجس يستحوذ على حياتنا النفسية برمَّتها. من هنا يميِّز كريشنامورتي تمييزًا دقيقًا بين "ذاكرات الوقائع" (وهي الذاكرات الطبيعية التي لا غنى لنا عنها) وبين "الذاكرات النفسانية" التي تنجم عن مُواحدة identification "أنا" الفرد مع ذاكرات الوقائع. فهذه المُواحدة الذاتية التي تقوم بها "الأنا" الخاضعة لشهوة الديمومة، خوفًا من التلاشي والاضمحلال، هي المسؤولة عن استنزاف حياتنا الداخلية وعن إحباط كافة مساعينا إلى المعرفة الحق للنفس وللعالم.

"الأنا"، إذن، عبارة عن مجرد حزمة من أنماط السلوك أو العادات التي يضعها كريشنامورتي في نطاق "المعلوم". و"العادات"، هاهنا، لا يعني بها كريشنامورتي الحركاتِ اليوميةَ البسيطةَ التي يتعذر من دونها استمرارُ الفنون والصنائع والعلاقات بين البشر – لا بل تتعذر الحياة الإنسانية نفسها، – بل يعني بها تلك المسالك "الاعتيادية" التي من شأنها دومًا إدامة ردود الفعل الدفاعية التي تحرضها أحداثٌ رضِّية مؤلمة في الماضي. إنها الجروح النفسية أو الندوب المتشكلة في النقاط التي تأذَّت فيها الأنا، بقايا الأفعال الناقصة التي – لسبب أو لآخر – لم نعشها في كلِّيتها، وبالتالي، لم نفهمها، الأحداث الرضِّية الذي لم يتم استيعاؤها أو هضمها.

العالم في حركة دائبة، في صيرورة أبدية، والأنا، بكلِّ ثوابتها ومكابداتها الناجمة عن رغبتها في ديمومة سكونية، إنما هي مقاوِمة لهذه الصيرورة. الأنا، بنظر كريشنامورتي، هي الماضي المحفوظ في ذاكرة ليست مجرد ذاكرة توثيقية أو وظيفية، بل ذاكرة – كونها ما تزال مشحونة بالانفعال الموجِع الناجم عن الفعل الرضِّي – موجِّهة لسلوكنا كلِّه، وتنحو إلى فَرْضِ مجرى محدَّد على حياتنا كلِّها وعلى مصيرنا برمَّته. هي ذاكرة، على الرغم من تجدد الحياة الدائم، ترمي بنا، مع صباح كلِّ يوم جديد، في أزقة مساعينا القديمة، وتفرض علينا غَصْبًا عَقْد ميثاق متجدد، لا مع الحياة، بل مع طموحات ماضينا العقيمة، التي تستطيع بذلك، من جراء "الالتزام" بهذا الميثاق غير المَوْعيِّ، أن تتظاهر بالحياة وتتلقى دفعًا جديدًا.

إن استمرارية الأنا ما هي إلا استمرارية هذه الذاكرة، وديمومة الأنا إنما هي ديمومة الماضي – ماضٍ ليس إلا جملة تشنجات وأوجاع وقروح ومقاومة متعنتة لكلِّ خروج عليه أو حياد عنه، لكلِّ صيرورة عفوية، أصيلة، مبدعة.

بذلك فإن صراع الأنا مع الحاضر يُختزَل إلى صراع الماضي مع الحاضر، كما يقول رونيه فويريه. وهذا الصراع يخلق المفهوم النفسي للماضي. أي أن مقاومة الصيرورة التي تكوَّنت لدى وقوع الأحداث الماضية تخلق فينا معنى الماضي. ومن جهة أخرى، فإن عدم إشباع الرغبات هو الذي يخلق فينا مفهومَ المستقبل – لا المستقبل الحقيقي الذي سوف يعاش فعلاً وحتمًا، بل مستقبل مفتعَل، ليس في حقيقته إلا ماضيًا، لأنه – عمليًّا – مكوَّن، في حاضر منقوص، من ذكريات هذا الماضي. ليس ثمة جديد حقيقي في هذا المستقبل المزيف لأنه ليس غير صورة معكوسة للماضي في مرآة الأنا. أما المستقبل الحقيقي، الفعلي، فلا يمكن اختباره إلا كحاضر حي.

عندما تتلاشى مركزية الأنا، مع جحافل التناقضات التي تولِّدها في النفس، يعي المرء أن ما كان يتوسَّم فيه ذاته، ما كان يراه من نفسه ويحسب أنه هو، لم يكن في حقيقة الأمر إلا صورة ممسوخة من ذاته الحق وقد أضفى عليها صفة الإطلاق – حزمة من الأفكار والانفعالات والرضوض التي تختزل روعة الحياة، بتجلياتها اللانهائية، إلى قانون يتوهم أنه سيجد بتطبيقه السعادة التي ينشد، وتحُول، بالتالي، دون تفتحه الحقيقي والكشف عن إمكاناته الأصيلة.


.
.

يتبع

 

التوقيع

ولو شئت أن أبكي دما لبكيته ,,, عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
،،

نور الفيصل غير متصل   رد مع اقتباس