( 4 )
وقفت أمام الأفق ،،
أشاهد عناقه للسماء المتجردة من السحب في صفاء اللازورد ،،
وكل القلب صلوات ،، وكل النفس أحزان ،،
فتمنيت أن تمطر ،، شربة واحدة تطفئ الظمأ إلى الأبد ،،
أنا لا أهذي ،،
ولكن حنيني اليوم شديد الوقع ،، نقرات على شغاف القلب تئن لشكاتها الأضلاع ،،
قال لي : حياتك جديرة أن تعيشها ،، بل وأن تبخل بها على الموت ،،
فأجبته : حتى حكمتك تجنح تحت ظلال الموت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في الموعد جئت بدقة فلكية تعكس معاناة عاشق ،،
لم أر من الوجود إلا كوكبه الساطع ،،
وثملت بالنشوة ،، ليس هنا إلا بروق الوعود السعيدة المحتدمة ،،
ولا مكان بها للعواقب ،،
وروعت دنياي بجسد طليق ،،
خلقته الفتنة ،، وادعاه الحسن لقدوته وفنه ،،
قلت : كأني بالزمان ولا عمل له إلا السمو بحسنك الفاتن ،،
ابتسمت وقالت : لكم اشتقت إليك ،،
وباح البحر بسره مرة ثم أخفاه ،،
ولم يعد ،،
حتى اليوم لم يعد ،،
ولم يعثر له على أثر ،،
وحتى الساعة لم يتوقف البحث عنه ،،
لذلك أقول بأنه سر ،،
وقد رآه رجل ذات يوم ولكن لم يصدقه أحد ،،
ولكن غير بعيد أن يتجلى ذات ليلة ،، كهذه الليله
* * * *
في مثل هذا اليوم يا عزيزتي تسجل الحياة أحد انتصاراتها ،،
إن الجمال ومضة سماوية تشع من عينيك وتدور في وجداني فيصرخ لها رأسي بالجنون ،،
ليتني أستطيع ،، ولكني أجد فيك ما يجد المقرور في المدفأة ،،
إنه سحر الأقدار المسيطر على المصائر ،،
قالت : حتى متى تتركني في مقام الأمل ؟!،،
قلت : إني في مقام الحيرة ،،
قالت : لا آت إليك إلا إذا دفعتني رغبة لا تقاوم ،،
ثابرت على محادثتي وحلت بشاشة الأنس في القلب محل تجاعيد الشقاء ،،
فأحببت الحياة كما أحب الجنون ،،
سألتها فجأة باهتمام : هل حظيت يوما ً بالسعادة ؟! ،،
تقطع ضحكها حتى سكن تماما ،،
ونظرتي الثابتة جعلتها توقن بجدية سؤالي ،،
قالت بحذر : أحيانا ،،
قلت : ألا يفسد الماضي أو المستقبل عليك سعادتك أحيانا ؟! ،،
ابتسمت وقالت : هل أنت بخير ؟! ،، ما هذه الغرابة ؟! ،، ألم تكن جزءا ً من ذلك الماضي ،، أما المستقبل ياعزيزي ،،
فقاطعتها : أخبرتني بأن لقاءنا تدفعه أشواق ،، فلماذا ؟! ،، أعني ،، مهلا ها أنا أحادثك ولم تجيبي على سؤالي !!،،
قالت بغموض : ربما سلسلة من تعاسات ولكني لم أرتكب ما أندم عليه ،،
قلت : أي لا تندمين على شئ ولا تعيدين التفكير في شئ ،،
قالت بحيرة : ربما ،،
وفي تلك اللحظة انطلقت أغنية فريدة من جهاز التسجيل الدائر بلا مبالاة منا ،،
فقلت : فلنستمع إلى هذه الأغنية ،،
ولم أبال بنظرتها الحائرة ،،
* * *
قالت : تارة تكون أرق من الحرير وتارة تكون كالشيطان ،،
قلت : هل رأيت الشيطان ؟! ،،
قالت : لا تسخر مني ما هو إلا شعور ،،
ابتسمت وأنا أمسح ذقني ،،
فقالت بحنان : الأمل موجود ،،
قلت : لكنه ضمن أدوات الدهر التي يصنع بها الشقاء أو يمحق السعادة ،،
قالت بحدة : ماذا تريد ؟! ،،
فرق بيننا صمت ،، أرحت رأسي بالنظر إلى الشارع ،،
تلقيت دفقة من انفعالات طارئة ،، ورحت أخاطب نفسي ،
يا للذكرى ،، هاهي نفحة من الماضي تهب كأنما تهب من البحر ،،
تلك هي المحبوبة ،، تهب السعادة مع أنفاسها ،،
قالت : تعلم بأني أحبك
فقلت : ما أعلمه هو أني أحبك
قالت بمودة : لكل منا قلب آخر والسعيد منا من يكتشفه ،،
لا أهون من مشقة الطريق بمعسول الكلام ،،
فنور الأمان ثمرة مضنون بها على غير أهلها ،،
والزمان يتقبل ما دون ذلك ،،
ولكل على قدر همته ،،
تلقيت على يديك محبة لا تزول آثارها ،،
ولكني آثرت البقاء على الفناء ،،
إذا كان سروري بغيرك فسروري يورث الهموم ،،
وإذا لم يكن أنسي في رحابك فأنسي يورث الوحشة ،،
* * *
في مثل هذا الوقت ،، أجل عند هدوء حركة السيارات في الخارج ،،
وقد جذبتنا الحقيقة نحو بؤرة خانقة ،،
وغابت الأعين فلم يبق إلا التاريخ ،،
انقبض قلبي حيال الحيرة المقتحمة ،،
كدت أتصور أن الوجود قد مات لولا تصاعد الأصوات المكتومة ،،
وقال نحيبها كل شئ ،، ولكنها لم تعرف السر بعد ،،
من أين لها أن تعلم أن الأشياء تنحدر إليها من عهد سابق على التاريخ !!،،
من أين أن تتصور مدى الجنون !!،،
لم أكترث ،، كانت مجرد دهشة فقط ،،
وحتى الدهشة تبعتها ابتسامة
قالت بسخرية عميقة : ألن نحتفل بنجاحي ؟! ،،
قلت : ما الذي يدور برأسك ؟! ،،
قالت : أردت أن أشكرك على الهدية بآخر رسوماتي ،،
وأزاحت خرقة بيضاء تغطي لوحة لم أتبينها من قبل ،،
علق بصري بلوحة لم أتميز من أشيائها إلا تفاحة استقرت في مكان غمازتها عين بشرية هالعة تسيل منها دودة للأرض كأنها دمعه ،،
على حين اكتنفتها خطوط وألوان فاقعة وأجزاء متناثرة من أعضاء إنسانية وعظمة حيوان منقرض ،،
وبصفة عامة خيل إلي أنني أرى ركن غرفة - كانت مأهولة بأشياء- أثر زلزال عنيف مدمر ،،
وقاومت النفور المستقر في شعوري رغم محاولاتي القوية في مغالبته بالأحلام الخيالية المتألقة كالماس ،،
أغمضت عيني وأنا أقول : أصحاب العقول في راحة ،،
قالت : هل أعجبتك ؟! ،،
قلت بصراحة : يقشعر منها البدن ،،
فقالت ضاحكة : جيد ،، فهذا المقصود منها
* * * *
الوقت يمضي لا يرحم ،، النور يرحل ،،
واليأس يومض في الظلام ،،
لا أثر لشئ ،، لا أثر لحياة ،،
وهم أو كابوس ،،
أما اليأس فحقيقة ،، ودبيب الزمن يتلاحق لحتفه ،،
بصقه الأمل وعلاه الألم ،،
وكسا الحزن وجهه بطبقة من القطر المذاب ،،
لماذا خلق الشهد والخمر ؟!،،
وتمر بي هواتف متلاحقة ولكني دائر الرأس في مقام الحيرة ،،
فضوء الشمس ثابت لا يتغير ،،
ولكن ظله يتغير بالأشياء التي تعكسه ،،
معها أشعر بطيب الحياة وبهجة الدنيا وأفراح النفس ،،
ولو أني تركت لعواطفي لما وسعتني الدنيا هذيانا ً وجنونا ،،
كيف يستطيع الصمت أن يقضي على آمال ضاقت عنها الدنيا بأسرها ،،
قضى علي الدهر بالهوان وأهوى بي من سامق المجد والسعادة إلى زوايا النسيان والشقاء ،،
الوداع أيتها الحياة التي تستأدينا فوق ما تستحق ،،
إن القلب يغلي ويفور وينثر الشظايا المحرقة فتملأ الجو حمما ،،
تبادلنا كلمات رقيقة في جو كئيب ،،
الدبيب الزاحف في تقديرها للجنون يعزف ألحان الفوز المرتقب ،،
تناغمت الألوان في الصورة ولم يبق إلا إطارا ً يزينها
قالت : إنك صائر إلى موت محقق
فقلت : كلنا صائرون إلى الموت
قالت : ثمة موت يدركك وأنت حي
قلت : إن ما أبنيه في دهر تهدمينه أنت في ثانية واحده
أنصت قليلا فانحدرت من عينيها قطرة كأنها لؤلؤة تنساب على أديم عاج ،،
ما أحلى ارتباكها إذا ارتبكت ،،
ما أجمل نظرتها وهي تستهديني المعونة والثقة فأهدي إليها قلبي ومستقبلي
* * *
عندما رأيت الأفق يتهادى اجتاح جوفي فراغ مخيف تمادى حتى لفظني في العدم ،،
تطلعت بشغف نحو أشياء ظلت دهرا ً طويلا ً متقوقعة ،،
حتى ثارت ثورتها فحطمت القشرة الصلبة التي حبست فيما وراء التاريخ ،،
استسلمت لأنامل ناعمة ،، لنعاس مهدهد ،،
وانتشرت أمامي عذوبة الحواس الطاغية ،،
دخلت منطقة الظل الحنون ،،
منطقة شفافة يمتزج في نسيجها الحريري وشى الحلم بعذوبة الواقع
إن ما بقلبي ثورة جامحة ،، أود لو أدمر بها الحاضر والماضي والمستقبل ،،
وأفر خالص إلى آفاق غامضة مجهولة ،،
فكيف أجد الراحة ؟!،،
إني أحلم بحالة تبطل فيها الشكوى ،،
ولكني برم بكل شئ ،،
إن حبي عنيد مثابر ،، شديد التغلغل ،، وحشي الغرام ،،
ولكن المآسي تتبعه كظله وتحوم حوله كالخواطر فلوثت حياتي بالآلام ،،
وها أنا معلق في الهواء ،، غائص في الظلام ،،
كأنما أعيش في الزمن الذي لم تكن الأعين قد خلقت فيه بعد ،،
استلقيت على الفراغ وأنا في نهاية من الإعياء ،،
كأني جريت شوطا ً قطع مني الأنفاس أو خضت معركة مزقت الأوصال ،،
حتى الخوف باخ تحت وطأة التلبد الذي خلفه الوهن
* * *
لا شئ ،، وإذا وجد شئ تمخض عن لا شئ ،،
أجل لقد انطفأت الشعلة وانسحقت الرغبة في الخلق وحل محلها فتور أبدي وتقزز لكل شئ بالوجود ،،
ما كانت الأحلام إلا رمزا ً للتخلص من متاعب راهنة في الحب والمحبوب ،،
وإذا تطلبت تأملا ً كتم أنفاسها الجفاف والخمود ،،
إنه الموت ،، الموت كما يتبدى لحي ،،
إني أراه وألمسه وأشمه وأعاشره ،،
انخرطت في سباق مميت ولكن الجفاف استفحل حتى صرت جسدا ً بلا روح ،،
وتسلل إلي صوت الفناء الساخر ينذر بالنهاية ،،
* * *
استوى جسمها الناضج في هالة من الإثارة والجاذبية ،،
نظرت إلى لون عينيها الناعس في شهد رائق ،،
وسألتها وقد ثملت تماما ً بحضور الأنوثة الفواح : ربما !! ،،
رنت إليّ بنظرة موحية باليقين وتحركت ببطء ورشاقة نحو الباب ،،
فهمست على رغمي : أعني ،،،،
لكنها ابتسمت في ارتياح ظافر ومضت وهي تقول : إلى اللقاء