منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله
عرض مشاركة واحدة
قديم 09-28-2006, 01:14 PM   #8
خالد صالح الحربي

شاعر و كاتب

مؤسس

عضو مجلس الإدارة

الصورة الرمزية خالد صالح الحربي

 







 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 51634

خالد صالح الحربي لديها سمعة وراء السمعةخالد صالح الحربي لديها سمعة وراء السمعةخالد صالح الحربي لديها سمعة وراء السمعةخالد صالح الحربي لديها سمعة وراء السمعةخالد صالح الحربي لديها سمعة وراء السمعةخالد صالح الحربي لديها سمعة وراء السمعةخالد صالح الحربي لديها سمعة وراء السمعةخالد صالح الحربي لديها سمعة وراء السمعةخالد صالح الحربي لديها سمعة وراء السمعةخالد صالح الحربي لديها سمعة وراء السمعةخالد صالح الحربي لديها سمعة وراء السمعة

افتراضي


.
.

كان الشيخ في الثمانين ولكنه كان متين البناء شديد الأسر،
أحاط شبابه بالعفاف والتقى ، فأحاط العفاف شيخوخته بالصحة والقوة ،
وكان فارع الطول عريض الأكتاف ، لم يشكُ في حياته ضعفا ،
ولم يسرف على نفسه في طعام ولا شراب ولا لذة ،
ولم يحد عن الخطة التي اختطها لنفسه منذ أدرك .
فهو يفيق سحرا والدنيا تتخطر في ثوب الفتنة الخشعة والخشوع الفاتن،
والعالم ساكن لا يمشي في جوانبه إلا صوت المؤذن وهو يكبر الله في السحر
يتحدر أعلى المنارة فيخالط النفوس المؤمنة فيهزها ويشجيها ،
يمازحه خرير الماء المتصل من نافورة الدار يكبر (هو الآخر)
ربه ويسبح بحمده ، {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} ،
فيقف الشيخ متذوقا حلاوة الإيمان ،
ثم ينطق لسانه ب(لا إله إلا الله) تخرج من قرارة فؤاده المترع باليقين،
ثم ينزع ثيابه وينغمس في البركة يغتسل بالماء البارد ما ترك ذلك قط طوال حياته،
لا يبالي برد الشتاء ولا رطوبة الليل .
وكثيرا ما كان يعمد إلى قرص الجليد الذي يغطي البركة فيكسره بيده
و يغطس في الماء ثم يلبس ثيابه ويصلي ما شاء الله أن يصلي،
ثم يمشي إلى المسجد فيصلي الصبح مع الجماعة
في مجلس له وراء الإمام ما بدله يوما واحدا ، ويبقى مكانه يذكر الله حتى تطلع
الشمس وترتفع فيركع الركعتين المأثورتين بعد هذه الجلسة،
ويرجع إلى داره فيجد الفطور معدا والأسرة منتظرة فيأكل معهم اللبن الحليب
والشاي والجبن أو الزبدة والزيتون والمكدوس،
ثم يغدو إلى دكانه فيجدها مفتوحة قد سبقه ابنه الأكبر إليها ففتحا ورتبها .
والدكان في سوق البزازين أمام قبر البطل الخالد نور الدين زنكي.
وهي عالية قد فرشت أرضها بالسجاد وصف أثواب البز أمام الجدران،
ووضعت للشيخ وسادة يجلس عليها في صدر الدكان ويباشر أبناؤه البيع والشراء
بسمعه وبصره ، ويدفعون إليه الثمن ، فإذا ركد السوق تلا الشيخ ما تيسر من
القران أو قرأ في (دلائل الخيرات ) أو تحدث إلى جار له مسن حديث التجارة،
أما السياسة فلم يكن في دمشق من يفكر فيها أو يحفلها،
وإنما تركها الناس للوالي والدفتردار والقاضي والخمسة أو الستة
من أهل الحل و العقد ، وكان هؤلاء هم الحكومة (كلها…)
وكان الشيخ مهيبا في السوق كهيبته في المنزل،
تحاشى النسوة المستهترات الوقف عليه، وإذا تجرأت امرأة فكشفت وجهها أمامه
لترى البضاعة ، كما تكشف كل مستهترة ، صاح فيها فأرعبها وأمرها أن تتستر
وأن تلزم أبدا حدود الدين والشرف
وكانت تبلغ به الهيبة أن يعقد الشباب بينهم رهانا، أيهم يقرع عليه بابه ،
ويجعلون الرهان ريالا مجيدا أبيض ، فلا يفوز أحد منهم.
وكان الشيخ قائما بحق أهله لا يرد لهم طلبا، ولا يمنعهم حاجة يقدر عليها،
ولكنه لا يلين لهم حتى يجرؤوا عليه ، ولا يقصر في تأديب المسيء منهم ،
ولا يدفع إليهم الفلوس أصلا. وما لهم والفلوس وما في نسائه وأولاده من يخرج
من الدار ليشتري شيئا ؟ ومالهم ولها وكل طعام أو شراب أو كسوة أو حلية بين
أيديهم ، وما اشتهوا منه يأتيهم ؟ ولماذا تخرج المرأة من دارها،
إذا كانت دارها جنة من الجنان بجمالها وحسنها،
ثم فيها كل ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين ؟
يلبث الشيخ في دكانه مشرفا على البيع والشراء حتى يقول الظهر: (الله أكبر)،
فينهض إلى الجامع الأموي وهو متوضئ منذ الصباح ،
لأن الوضوء سلاح المؤمن ، فيصلي فيه مع الجماعة الأولى،
ثم يأخذ طريقه إلى المنزل، أو يتأخر قليلا ليكون في المنزل
عندما تكون الساعة في الثامنة. أما العصر فيصليه في مسجد الحي ،
ثم يجلس عند (برو العطار) فيتذاكر مع شيوخ الحي فيما دقّ وجل من شؤونه..
اختلف أبو عبده مع شريكه فبجب أن تألف جمعية لحل الخلاف…
والشيخ عبد الصمد في حاجة إلى قرض عشر ليرات فلتهيأ له…

أي أن هذه الجماعة محكمة ، ومجلس ، بلدي ، وجمعية خيرية إصلاحية
تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. وكان (برو العطار) مخبر اللجنة ووكيلها
الذي يعرف أهل الحي جميعاً برجالهم ونسائهم، فإذا رأى رجلاً غريباً عن الحي
حول أحد المنازل سأله من هو؟ وماذا يريد ؟
وإذا رأى رجلاً يماشي امرأة نظر لعلها ليست زوجته ولا أخته،
ولم يكن في دمشق صاحب مروءة يماشي امرأة في طريق فتعرف به
حيثما سارت ، بل يتقدمها أو تتقدمه ويكون بينهما بعد بعيد،
وإذا بنى رجل غرفة يشرف منها إلى نساء جاره
أنبأ الشيخ وأصحابه فألزموه حده. وإن فتح امرؤ شباكا على الجادة سدّوه،
لأن القوم كانوا يحرصون على التستر ويكرهون التشبه بالإفرنج،
فالبيوت تبدو من الطريق كأنها مخازن للقمح لا نافذة ولا شباك،
ولكنها من داخل الفراديس والجنان. فكان الحي كله بفضل الشيخ وصحبه
نقيا من الفواحش صيناً، أهل كأهل الدار الواحدة لا يضن أحد منهم على الآخر
بجاهه ولا بماله ، وإذا أقام أحدهم وليمة ، أو كان عنده عرس أو ختان،
فكل ما في الحي من طباق و(صوان) وكؤوس تحت يده وملك يمينه .
* * *
مر دهر والحياة في هذه الدار سائرة في طريقها لا تتغير ولا تتبدل ولا تقف.
مطردة اطراد القوانين الكونية ، حتى جاء ذلك اليوم …
ودقت الساعة دقاتها الثمان ، وتهيأ أهل الدار على عادتهم لاستقبال الشيخ
لكن العجوز الطيبة والزوجة المخلصة لم تكن بينهم،
وإنما لبثت مضطجعة على الأريكة تشكو ألماً شديدا لم يفارقها منذ الصباح.
وأدار الشيخ مفتاحه ودخل فلم يرها وهي التي عودته الانتظار عند الباب،
ولم تحد هذه العادة مدة ستين سنة إلا أيام الوضع
ويوم ذهبت لتودع أباها قبل وفاته ،
فسأل الشيخ عنها بكلمة واحدة أكملها بإشارة من يده،
فخبرته ابنته وهي تتعثر بالكلمات هيبة له وشفقة على أمها، أنها مريضة.
فهز رأسه ودخل ، فلما وقع بصره عليها لم تتمالك نفسها
فنهضت على غير شعور منها تقبل يده ،
فلا مست أصابعه أحس كأنما لمسته جمرة ملتهبة،
وكان الشيخ على ما يبدو من شدته وحزمه وحبه للنظام، قوي العاطفة،
محبا لزوجته مخلصا لها ، فرجع من فوره ولم يأكل،
ولم يدر أحد في المنزل لماذا رجع ولم يجرؤ على سؤاله
واكتفوا بتبادل الآراء لتعليل هذا الحادث الغريب،
الذي يشبه في أنظارهم خروج القمر عن مداره .
ومضت على ذلك ساعة أو نحوها ، فدخل الشيخ وصاح روحوا من الطريق)،
فاختبأ النسوة ليدخل الضيف ، غير أنهن نظرن من شق الباب _ على عادة نساء
البلد _ فأبصرن الطبيب وكن يعرفنه لتردده على المنزل
كلما تردد عليه المرض …وكان الطبيب شيخا وكانت بينه وبين العجوز قرابة،
ومع ذلك أمر الشيخ العجوز بلبس ملاءتها وألا تظهر منها
إلا ما لابد من إظهاره ، ثم أدخله عليها ، فجس نبضها ، وقاس حرارتها،
ورأى لسانها . وكان هذا منتهى الدقة في الفحص في تلك الأيام ،
ثم خرج مع الشيخ يساره حتى بلغا الباب ، فودعه الشيخ وعاد ،
فأمر بأن تبقى العجوز في غرفتها وأن تلزم الحمية
وأن تتناول العلاج الذي يأتيها به …
* * *
مرت أيام طويلة والعجوز لم تفارق الفراش ، وكان المرض يشتد عليها
حتى تذهل عن نفسها ، وتغلبها الحمى فتهذي …(( صارت الساعة الثامنة…
يلاّ يا بنت ، حضري الخوان … والقبقاب؟ هل هو في مكانه …)) ،
وتهم أحيانا بالنهوض لتستقبل زوجها،
وكانت بنتاها وكنتها يمرضانها ويقمن في خدمتها
فإذا أفاقت حدثتهن وسألتهن عن الشيخ هل هو مستريح؟ ألم يزعجه شيء؟
والدار؟ هل هي كعادتها أم اضطربت أحوالها؟
ذلك همها في مرضها وفي صحتها ، لا هم لها سواه .
وحل موسم المعقود وهي مريضة فلم تطق على البقاء صبراً ،
وكيف تتركه وهي التي لم تتركه سنة واحدة من هذه السنين الستين التي عاشتها
في كنف زوجها ، بل كانت تعقد المشمش والجانرك والباذنجان والسفرجل،
منه ما تعقده بالسكر ومنه ما تعقد بالدبس، وكانت تعمل مربى الكباد واليقطين،
فيجتمع لها كم أنواع المعقودات والمربيات والمخللات (الطرشي)
ومن أنواع الزيتون الأسود والأخضر والمفقش والجلط
وأشكال المكدوس معمل أمقار(كونسروة) صغير تقوم به هذه الزوجة المخلصة وحدها صامته،
ولا يعيقها ذلك عن تربية الأولاد ولا عن إدارة منزلها وتنظيفه
ولا عن خياطة أثوابها وأثواب زوجها وبنيها، بل تصنع مع هذا كله البرغل،
وتغسل القمح تعجن العجين .
حل الموسم فكيف تصنع العجوز المريضة…؟
لقد آلمها وحز في كبدها ، وبلغ منها أكثر مما بلغ المرض بشدته و هوله،
فلم يكن من ابنتها وكنتها الوفية إلا أن جاءتا بالمشمش فوضعتاه أمام فراشها
وطفقتا تعقدانه أمامها ، وتعملان برأيها فكان ذلك أجمل ما تتمنى العجوز.
واشتدت العلة بالمرأة وانطلقت تصيح حتى اجتمع حولها أهل الدار جميعاً،
ووقفوا ووقف الأطفال صامتين وحبهم لهذه العجوز الطيبة
التي عاشت عمرها كلها لزوجها وبنيها يطفر من عيونهم دمعا حارا مدراراً،
وهم لا يدرون ماذا يعملون ، يودون لو تفتدى بنفوسهم ليفدونها. ثم هدأ صياحها،
وجعل صوتها يتخافت حتى انقطع، فتسلل بعض النسوة من الغرفة،
ووقف من وفق حائراً يبكي .
ولكن العجوز عادت تنطق بعد ما ظنوها قضت، فاستبشروا وفرحوا،
وسمعوها تتكلم عن راحة الشيخ وعن المائدة والساعة الثامنة والبابوج والقبقاب..
بيد أنها كانت يقظة الموت، ثم أعقبها الصمت الأبدي. وذهبت هذه المرأة الطيبة،
وكان آخر ما فكرت فيه عند موتها،
وأول ما كانت تفكر فيه في حياتها : زوجها ودارها …
ارتفع الكابوس عن صدور الأطفال حين اختل نظام الفلك ولم يبق لهذا الموعد
المقدس في الساعة الثامنة روعته ولا جلاله،
ولم يعد يحفل أحد بالشيخ لأنه لم يعد هو يحفل بشيء .
لقد فقد قرينه ووليفه وصديق ستين سنة فخلت حياته من الحياة،
وعادت كلمة لا معنى لها ، وانصرف عن الطعام وأهمل النظام،
فعبثت الأيدي بعلبه وأكياسه ، وامتدت إلى(الخرستان) السرية التي أصبح بابها
مفتوحاً ، فلم تبق فيها تحفاً ولا مالاً،
وهو لا يأسى على شيء ضاع عد ما أضاع شقيقة نفسه .
وتهافت هذا البناء الشامخ ، وعاد ابن الثمانين إلى الثمانين،
فانحنى ظهره وارتجفت يداه ووهنت ركبتاه، ولم يكن إلا قليل
حتى طويت هذه الصفحة، فختم بها سفر من أسفار الحياة الاجتماعية في دمشق
كله طهر وتضحية ونبل..

 

التوقيع

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

خالد صالح الحربي متصل الآن   رد مع اقتباس