مِنْ الْمقَالاتِ الْمنْشورةِ هذا الْيوم في الْوَطن :
مقال لـِ الْكَاتِب وَ الروائي: محمد حسن علوان يَتَحَدَثُ فيهِ عَنْ الايميلات الدَعَائيّة وَ الدَعَويّة ..
التداوي بالبريد الإلكتروني
إذا أردت أن تفقد الطبيب أعصابه، فابعث له برسالة على الإيميل من نوع "(اكتشاف علاج عربي للسرطان اسمه عقار الرحمة)" أو "(شفاء الأمراض باستخدام طاقة الريكي الكونية)". ولا تتوقع أبداً أن يكون رده لطيفاً ولاسيما إذا كانت الرسالة خالية من المصادر، وممعنة في السذاجة. وبالتأكيد أن الكثير من العقلاء يتحسرون على انتشار مثل هذه الترهات الإلكترونية بين العوام، إلا أن الأطباء لا يكتفون بالتحسر مثلنا بل يتجاوزون ذلك إلى حنق كبير. هم الذين يعرفون معنى الانحباس عدة سنوات في معمل أبحاث من أجل تجربة واحدة، والانخراط في العمل اليومي لأشهر طويلة من أجل ورقة بحث صغيرة. ويعرفون أيضاً أن إثبات جدوى عقار بسيط يتطلب مذبحة من فئران التجارب، وأطناناً من الجدل الأكاديمي، وعشرات من المؤتمرات الدولية، وشعرات بيضاء كثيرة تنبت في أصداغهم.
أحد الأطباء السعوديين وصله الإيميل أعلاه، والذي يحمل مقالاً منشوراً في مجلة عادية (غير علمية) يتحدث عن كتاب جديد تزعم مؤلفته أنها تمكنت من شفاء خمسة أشخاص من السرطان باستخدام (طاقة الريكي الكونية). فانتابته رغبة شديدة في إهمال الإيميل والاكتفاء بالحوقلة، والعودة إلى أبحاثه وعمله، إلا أنه قرر أن يكون أكثر إيجابية ويسهم بشكل بسيط في إيقاظ الوعي الاجتماعي لدى باعث الإيميل وبقية الموجودين في القائمة البريدية. لم يحاول الطبيب أن يرهقهم بتفاصيل طبية وعلمية، بل سعى إلى التعريف بثقافة بسيطة اسمها التحقق من صحة الخبر/المقال قبل إطلاقه في متاهة الإنترنت، فيضلّ به الناس، وتشوه به المعرفة، وينتشر الوهم بين الغافلين والغافلات. فكتب إلى صاحب الإيميل رسالة وهو في فورة الغضب الطبي هذا جزء من نصها: "(أين الدليل؟ خمس حالات تشفى من السرطان ليس دليلاً، فلو عالجت أنا مئة مريض بالسرطان باستخدام "بول الضفدع!" فسيشفى منهم خمسة بالتأكيد، ولكني لن أنشر كتاباً يتحدث عن هذا الكشف العظيم، فهؤلاء الخمسة لم يشفوا بسبب بول الضفدع، بل لأن نسبة الشفاء التلقائي في السرطان أصلاً هي 5 بالمئة)". انتهى كلام الطبيب، ولم ينته غضبه.
إن انتشار المعرفة الخاطئة عبر الإنترنت ظاهرة متوقعة، وبإمكاننا بسهولة إدراجها ضمن ملف اساءة استخدام التقنية والسلام، إلا أن الأمر يبدو أبعد من ذلك، ويغري بالتعمق في (سيكولوجية البثّ) هذه. البثّ الذي صار ميسراً لكل من يملك إيميلاً بعد سنوات من ممارسة (الاستقبال) الممل فقط. وذلك باعتبار أن سيكولوجية البث توفر حافزاً سلوكياً لا يمكن إغفاله. امتلاكك قدرة التأثير في مجتمع ما، ولو كان مجتمع الأصدقاء المحدود، يجعل من تمرير الفكرة (أياً كانت) إغراءً لا يمكن مقاومته ولاسيما إذا حملت الفكرة في طياتها خيريّة ما (تحذيراً من منتج، تنويهاً عن دواء جديد، دعوة إلى ممارسة أيديولوجية... إلخ). إن (الباثّ) بذلك لا يمرر فكرته فقط، بل يروّج معها لصورته السلوكية الحميدة (حسب رأيه طبعاً). وتلك ممارسة تواصلية مزدوجة يحلم بها كل كائن اجتماعي بالطبع.
وسط هذه الحوافز الكبيرة يصبح من الصعب إيصال صوت التوعية الضعيف، ولابد من الإتيان بثقافة مضادة تحمل في داخلها فعل إعابة لا يمكن تفاديه، مسلطاً على كل من ينشر ما لا يحمل قيمة كافية تؤهله للانتشار. هذه الثقافة المطلوبة مثالية إلى الحد الذي يجعلها شبه مستحيلة. فالذي يمارس البث التلقائي عبر الإيميل ليس كائناً منفرد الفكرة. هناك آخرون يستقبلون بثّه برضا، ويمنحونه العائد المعنوي التواصلي الذي كان يهدف إليه. وهذه يمنح الدورة كل عوامل الاستمرار إلى مالانهاية. قد تكون هذه الصورة شبيهة بالمجتمع الجزئي الذي يتقاسم الاهتمامات وبالتالي تعشش بينهم أفكار متشابهة، إلا أن الفعل الإلكتروني هنا يتجاوز حدود المجتمع الجزئي، ويسافر إلى أبعاد هائلة دون استحقاق. ولذلك كانت الظاهرة جديرة بالاهتمام وتسليط الضوء.
لنفترض أن الإيميلات التي تحمل أخطاء معرفية هي شأنٌ بسيط، وسرعان ما يثبت بطلانها بقليل من البحث والتقصي والاستفسار. وعواقب الخطأ المعرفي لا تعدو بضعة ضحايا سيطلق سقوطهم إنذاراً كافياً للآخرين ويؤدي إلى تصحيح الخطأ. ولكن ماذا عن الشؤون الفكرية الجدلية؟ الإيميل المشحون بفلسفة موجهة ضد الآخر، أو فعل ثقافي لا يمكن إثبات خطئه بسهولة. الخبر التحريضي الذي يأتي بلا مصدر، والمقال المليء بالمغالطات التاريخية المتعمدة. كيف يمكن أن نمنع الفكرة الفاسدة من التمتع بانتشار لم تحلم به من قبل لفرط فسادها؟ وكيف نستطيع أن نبتكر آلية (سريعة) لمحاكمة هذه الأفكار أثناء انتقالها بسرعة الضوء بين كيابل الإنترنت؟
سرعة تأثير هذه الأفكار الطائرة في المجتمع تتناسب مع سرعة انتشارها. على سبيل المثال: لدينا افتراض قائم أن الإيميل والنشر الإلكتروني عموماً ساهما في توتير العلاقة الطائفية داخل بلدٍ ما، ولدينا افتراض معارض أنهما ساهما في تعريف الطرفين ببعضهما إلى الحد الذي استطاعا معه التواصل باعتدال. لا يوجد لدينا أرقامٌ واضحة، ولكن تربُّع القضايا الطائفية على رأس قائمة الجدل العربي مؤخراً تزامن مع تصاعد استخدام الإنترنت بين عامة الناس وخاصتهم، ولهذا فإن العلاقة السببية بينهما ممكنة ومنطقية. ولكن كيف يمكننا التأكد من أن هذه العلاقة ما زالت في منطقة الأمان، ولم تشر بعد إلى خطر متصاعد خارج السيطرة؟
بالتأكيد، عندما يتم طرح هذه الأسئلة ينزع كثيرون إلى اقتراح حلول رقابية. ورغم السمعة السيئة لكل آليات الرقابة الفكرية في العالم إلى أنها ما زالت فاعلة في الغرب والشرق، لأن تعريف الحرية أصبح محاصراً باعتبارات كثيرة مؤخراً إلى حد أنها، الحرية، أصبحت ممارسة إنسانية معقدة فعلاً! الفكرة الأيديولجية مثلاً لا تتمتع بنفس الحرية التي تتمتع بها أي فكرة أخرى، فلسفية كانت أو معرفية أو ثقافية أو روحية، لأن ظروف العالم المتصارع أيديولوجياً جعلت منها أفكاراً مشبوهة تشبه أعواد الكبريت. ولذلك تم تقييدها بشبهات لها أسماء كثيرة: التحريض على الكراهية، معاداة السامية/الإسلام، إثارة الفتن وغيرها. ولهذه الحقائق تناقضات غريبة. ففي العالم العربي، قد تُعتَقل إذا نشرت إيميلاً ينتقد السلطة، وليس إذا نشرت إيميلاً طائفياً يشنّع بطائفة دينية تقاسمك الوطن. بينما في الغرب تنعكس الآية تماماً، فيتم اعتقالك على الثانية، وليس على الأولى. فعلُ الاعتقال قائم في الحالتين، ولكل بلد مبرراته (إذا كان من البلدان التي تبرر أصلاً). كيف يمكننا العودة إلى التأصيل الفكري لمفهوم حرية الفكر في الحالتين وسط مئات المبررات المنطقية التي تضعها في طريقك السلطات المختلفة؟ كيف نستطيع منع (البث) الإلكتروني من التخريب دون أن نحرم أفراد المجتمع من هذه اللعبة المثيرة؟
طبيبنا الأبوقراطي الغاضب ربما وجد عزاءً عند طرح مثل هذه الأسئلة، حتى يعلم أن كل المجالات العلمية معرضة للخطل وأذى التطاول، ولكنها تجاوزات مؤقتة آيلة للزوال سريعاً، لأن قطار العلم يعرف طريقه جيداً، وتتفق على اتجاهاته كل الأطراف تقريباً، ولكن قطار الفكر بلا قضبان، والجميع يقترح اتجاهاته المفضلة. وبالتالي فإن إمكانية التضليل أكبر، ودوافعها أدعى.
*كاتب سعودي