" طفلٌ قروي "
القرية . . نظامٌ حياة مقيد بقيود بسيطة أكثر من حياة البادية . .
في بداية انتقالي للقرية كانت الدهشة والتعجب هما الصفتان الملازمة لي على الأقل
في أول موسم مر علي منذ انتقالنا . .
كلُ شيء مختلف جداً . .
طريقة العيش ، التعامل ، التواصل ، الغذاء ، العمل . .
من حياة بدوية حرة لايقيدها أي نظام سوى نظام الشيمة وفقط الشيمة
إلى حياة قروية مقيدة بـ بيوت ، وحقوق الآخرين ، ونظام بسيط لاأرى فيه الآن أختلاف
كبير عن ماكنت عليه في البادية !
ولكن وقتها كان كل شيء يشعرني بالاشمئزاز . .
الناس تسكن بيوتاً وتغلق عليها أبوابها . .
هذه حدود أملاك فلان لاتتعدى عليها !
هذا يخص فلان احذر أن يراك تقترب منه !
هذا ممنوع وهذا مسموح
و . . و . . و
الأغنام في حظائر ، الأبل قلةٌ هم من يمتلكونها في القرية ومن يمتلكها يستخدمها في
ري المزارع !
لازلت أتذكر خروجي في أول يومين للعب مع أطفال القرية وكيف استنكروني وعاملوني
كأني غريب !
زاد حنقي وقتها على أبي وعلى الأطفال . . وكرهتهم جميعاً حينها . .
وأذكر سماعي لأول مرة صوت المولدات الكهربائية / مكائن الكهرباء قبيل آذان المغرب
وملامح الرعب التي ارتسمت على وجهي حينها ويد والدتي تربت على كتفي
وتطمئنني . .
كنت أتعجب كيف يعمل هذا المولد ويضيء ثلث بيوت القرية حينها ؟
وفهمت فيما بعد أن أهل القرية جمعوا مبلغاً من المال اشتروا به ثلاثة مولدات كهربائية
يتناوبون على صيانتها وتشغيلها في نظام انخرطت فيه مع مرور الوقت . .
كانت تعمل فقط لخمس ساعات أو أقل أحياناً . .
فالجميع ينام مبكراً . . ويصحو مبكراً
لايوجد في القرية أي ملامح تقنية حينها . .
لا كهرباء ، لاتلفزيون ، لاهاتف ، وسائل النقل / السيارات تُعد على أصابع الكفين . .
كل شيءٌ هناك بالفطرة . .
أذكر مذياع أبي . . وإذاعة لندن . .
لم نكن نسمع به سوى آخر الأخبار التي لم أكن أفقه منها شيء . .
كان محرماً علينا أن نقترب منه لا أن نلمسه . .
كان ثميناً جداً . .
فهمت لاحقاً أنه كان وسيلة التواصل الوحيدة آنذاك مع العالم الخارجي . .
الذي لاأعرفه وقتها . .
براءة كانت تلك الطفولة جداً . .
القرية . . بأزقتها ، ببيوتها ، بـ مزارعها ، بأُناسها كانت عالمٌ جديد . .
كلُ شيءٍ فيها كان يدعو للعجب حينها . .
كيف تمكنوا من بناء هذه البيوت والقلاع ؟!
من بناها ؟
كم عمرها ؟
من حفر كل تلك الآبار ؟
من سوّر تلك المزارع ؟
من أخترع نظام الري ؟
اسئلة كثيرة كانت تدور في خلدي حينها . . استفهامات بريئة . .
كل هذا . . ولازال في صدري حسرة كبيرة على حياة الـ حرية / البادية . .
كنتُ اسأل أبي متى سنعود لـ بيت الشعر ؟
فـ يزجرني بنبرة صوته الحادة :
( لن نعود )
أصمت خوفاً وحزناً . . وأحاول أن استوعب هذه الحياة الجديدة وأفهمها جيداً
كي أتأقلم . .
( احترامات . . طفولية )
سعـد