منتديات أبعاد أدبية - عرض مشاركة واحدة - خيمتي الرمضانية بعض حنين وذكريات ..
عرض مشاركة واحدة
قديم 09-23-2008, 09:13 AM   #25
عبدالله العامري
( كاتب )

الصورة الرمزية عبدالله العامري

 






 

 مواضيع العضو

معدل تقييم المستوى: 0

عبدالله العامري غير متواجد حاليا

افتراضي



10

يبدو أنني اليوم مختنق ، والكتابة في جو يسوده الصمت والحزن ، تشيء بحروف حزينة ، وكلمات تنتحب ، وعبارات يلفها الأسى والألم !!

أن تتذكر مناسبات الفرح [ الحياتية ] أو السعادة في رمضان ، خير لك من أن تتذكر مناسبات الألم والحزن ، لكن من أين لنا أن نفرح في رمضان !! ونخرج بالحياتية فرح الصائم بفطره وفرحه بلقاء ربه !!

الفرح ضيف خفيف في رمضان ، فلا مناسبات زواج ولا خطوبة في شهر رمضان ، وكأن الشياطين تصفد ، فتصفد معها شياطين الدفوف والأعراس !!

لكن الحزن لا يعترف بخصوصية الشهر ، ولا يقيم له وزنا ، لابد أن يزورنا دون استئذان ، دون مراعاة لقداسة الشهر ، أو طمأنينيته !!

العام 1421 هـ
الموعد مساء آخر أيام شهر شعبان المبارك ...
بيان مجلس القضاء الأعلى يعلن ثبوت دخول الشهر !!

يخطر على بالي أن أقلد الناس ، أهنئ الجميع بشهر رمضان ، برسائل الجوال المكررة ، أو بالاتصال عليهم ، أول من جاء على البال الوالد والوالدة ،حفظهما الله ، ثم أخوتي وأخواتي ، ثم جدي لأمي رحمه الله ، ثم خالي وأعمامي !!

لا أدري لماذا قدمت خالي على أعمامي ، هل لأننا في الغالب نميل أكثر لأقارب الوالدة ونحبهم أكثر ، أم لأنه الخال الوحيد لنا في هذه الدنيا !!

هنأت خالي باركت له بالشهر دعوت له ودعا لي ، وكعادته الكرمية الحاتمية ، أول سؤال سألنيه [ متى تفطرون عندنا ؟ ] . ومعها الكثير من الإصرار بتحديد الموعد لتناول وجبة الإفطار .. حاولت التفلت والتنصل وتأجيل الموعد ذلك أني أعرف ظروفه الأسرية ، مع قلة ذات اليد ، أسرة من أحد عشر فردا ، وتحمل مصاريفهم خاصة أنهم جميعا في مقاعد الدراسة مثقل لكاهل رجل لا يتقاضى تقاعديا إلا [ 1500 ريال ] .. حددت له الموعد ... ثالث أيام رمضان إن شاء الله نفطر عندك !!

ودعته ولسانه يلهج لي بالدعاء بالتوفيق ...

عندما اتصلت أهنئ الوالدة برمضان ، أخبرتني أن [ الشغالة ] ستصل في الغد في التاسعة والنصف صباحا ، ولا بد أن أكون على رأس كبار مستقبليها ، وكيف أستطيع أن أوفق بين وصول سعادتها وبداية الدوام في المدارس ؟ خاصة وأنني مسؤول في المدرسة وقد نبهت على الجميع بضرورة الحضور المبكر وعدم التعذر برمضان كمدخل للتأخر والدعة والتكاسل !!

انهيت إجراءاتها ،،، وذهبت بها للوالدة ، وبينما أنا كذلك حتى رأيت من بعيد جموعا تحتشد ، زحام عظيم وسيارات مختلطة ، اقتربت أكثر ، فإذا بسيارة نوع ديهاتسو محملة بإسطوانات غاز ، مصطدمة وجها لوجه بصهريج مياه ...

هنا أحد شباب القرية ، سألته : [ خير إن شاء الله ]
قال يا أخي هذا [ خالك محمد ] وأبشرك أنه بخير نقلوه للمستشفى !!

بدت علي علامات الحزن ، تغيرت ملامح الوجه ، تصاعدت أنفاسي ، ضاق بي الفضاء الواسع ، السيارة لا توحي بنجاة راكبها ، اختلط الحديد بعضه ببعض ، حتى وكأنه قد عجن عجنا !!

استعجلت الذهاب للقرية ، لوالدتي ، لجدي !!
جئت للقرية فإذا بجدي يجلس أمام بيته ، كأنه ينتظر خبرا ، كأنه ينتظر قدرا يأتيه بخبر فلذة كبده ، ابنه البالغ من العمر سبعين عاما ، أخبرت والدتي وطمأنتها بأنه بخير ، تعالت أنفاسها ، وتحشرج صوتها ، وانهمرت دموعها ، كنت أتمنى أن أنزع منها كل ألم ، وأن أمسح من خدها كل دمعة ، لكني لا ألومها ، وكيف ألومها وهو أخوها الوحيد !!

جئت عند جدي ، مائة وعشرون عاما مرت ، هل رأيت يا جد حزنا ، هل أصابتك مصيبة ، هل مر بك شقاء ، هل عرفت لوعة فراق قبل ؟

كل هذه الأسئلة تبادرت لذهني وأنا أنحني أقبل رأسه ، اقتربت منه ، يبدو أنه لن يسمعني ، إني أخشى عليه ، أخاف أن يسقط بين يدي ، أقتربت أكثر ، وكأنه ينتظر مني خبرا ، قلبه الذي ينبض بين ضلوعه يخفق خفقان الوجل ، وينبض نبض الموجوع بألم الفراق ... جدي : خالي عمل حادث بسيط ونقلوه للمستشفى ، أبشرك انه بخير !! هيا يا جد أوصلك له !!

قال : هاااااااه !!
كأنه لم يسمع ، وهي والله قد استقرت بقلبه ، وعبرت فهمه ، لكن عساه أن يكون حلما ، أو لعله كابوس ... لكنها الحقيقة ، أخذت يده أساعده على النهوض ، أحمله على القيام ، فكأنما أناخته هذه المصيبة ، وكأن المائة وعشرين عاما لم تهد قواه ، ولم تضعف قوته ، بمثل ما فعل به هذا الخبر ! أخذته إلى السيارة وانطلقنا !!


في الطريق لم يهدأ البكاء ، أشعر بنحيب يشج صدر جدي ، ونياح يلجلج في صدر أمي ، وأنا أحاول التهدئة ، دعواتكم دعواتكم ، إن شاء الله أنه بخير ، وبعد مرورنا بالسيارة ورأتها أمي أيقنت أنه كان لها أخ ، كان لها سند ، كان لها عزوة ، رأت بقاياها متناثرة مع بعض دماء خالي المتناثرة على الإسفلت !!

وصلنا للمستشفى ، جميع أقاربنا قد وصلوا هناك ، العيون تمتلئ بالدموع ، والوجوه شاحبة ، والصدور ملتهبة حزنا وألما !!

قبل أن تقف السيارة وجدي يصيح [ محمد ، محمد ، محمد .. بشروني عن محمد ] وتعالت أصوات البكاء ، وزاد الصراخ رحمة بهذا الشيخ العجوز !!

أحدهم يقترب من جدي يمسك بيده ، يذكره بالله ، ويطمئنه أن المؤمن مبتلى ، ثم يطلب منه أن يترحم على ابنه محمد !!


يصيح جدي صيحة أقسم أنها هزت كيان كل من حضر الموقف ، ثم تشنج في أعلى سقف السيارة ، وأخذ يصيح وينادي ابنه محمد ، يطلب منه ألا يتركه ، يطلب منه أن يعود إليه ، يطلب منه أن يعينه ، أن يكون بصره الذي يبصر به بعد أن فقد البصر ، ويكون سمعه الذي يسمع به بعد أن فقد السمع ، وأن يكون قوته التي تعينه بعد أن هد الكبر قواه !!

وما كانت أمي بأحسن حال من جدي ، بكاء ونحيب وصياح ونياح ، تمنيت وقتها أنني لم آخذهما للمستشفى ، تمنيت أنني اختصرت كل مسافات الحزن ، ومساحات الوجع ، ولم أر مشهد جدي وهو يتشنج في سقف السيارة !!

وكان رمضان ، وجئت يا أيها الرجل الكريم ، كي أحقق طلبك ، كي أتناول طعام الإفطار في بيتك ، في منزل كرمك .. ولكن !! بدونك !!

وذهب رمضان من بعد رمضان ، ولا زال أول يوم من رمضان ذكرى مؤلمة في قلب جدي ووالدتي ، لا زال جدي يجر الآهة بعد الآهة ، يتحشرج الألم في صدره ، فيظهر في صورة دموع يخفيها لكنها تفضحه عندما تبلل لحيته .
ولا أظن أن قلبي جدي وأمي قد عرفا فرحا بعد هذا الفقد ... ورحم الله خالي الطيب جدا !!


يتبع بإذن الله

 

التوقيع

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


التعديل الأخير تم بواسطة عبدالله العامري ; 09-23-2008 الساعة 09:21 AM.

عبدالله العامري غير متصل   رد مع اقتباس